طلوكة بالحقل وولادة عالجرّار وكوابيس التابعة: كيف تلد النساء في الريف العراقي؟
28 كانون الثاني 2025
على ظهر جرّار قد تلد المرأة في الريف العراقي، وقد يأتيها المخاض وهي وسط الحقل، وقد لا تجد سوى قابلة لتساعدها على إنجاب طفلها "المعرض".. عن نساء في الريف عليهن الولادة وهن محاطات بالشكوك والمعتقدات والواجبات..
“جتني الطلوكة واني احوي بالحقل”.
كانت وزيرة (25 عاماً)، تعمل في الحقل حينما باغتها ألم الولادة، فما كان لها إلا أن تنجب طفلها هناك بمساعدة نساء كنّ يعملنّ معها.
قصص كهذه نسمعها من جداتنا بالعادة، معتقدين أن هذه كانت حال نساء في حقب سابقة. بيد أن وزيرة عاملة في الفلاحة، من منطقة السعد في قضاء أبو غريب، وغيرها الكثيرات من النساء الساكنات في الريف العراقي يعملن يومياً في الحقول لساعات طويلة.
عادة ما يبدأ يوم هؤلاء النسوة مع بزوغ الفجر في الخامسة أو السادسة صباحاً متوجهات إلى الحقل، حيث يقضين ساعات طويلة في العمل الزراعي -بمعدل ثماني ساعات على الأقل- ليعدن عند التاسعة مساءً ويواصلن مهام العمل الرعائي المنزلي من طبخ وتنظيف ورعاية العائلة لغاية ساعات الليل المتأخرة.
تمثل العاملات في الريف حوالي 30 بالمئة من مجمل العاملات في الزراعة في العراق ويتحملن 85 بالمئة من العبء الزراعي مقارنة بالرجل، الذي يتحمل 15 بالمئة فقط، وفق دراسة تناولت دور المرأة الريفية العاملة في تنمية الإنتاج الزراعي العراقي.
مقابل هذا الجهد الجسدي في تنمية الإنتاج الزراعي، تتراجع تنمية وصحة المرأة العاملة في الأرياف نتيجة الإرهاق الشديد وفقر الدم والنقص الحاد في الفيتامينات، كما تصف لنا الدكتورة بتول المشرف، طبيبة نسائية في أبو غريب، حال مريضاتها، اللواتي تقول إنهن ورغم نصائحها المتكررة بالراحة والتغذية، لا يلتزمن عادة بالعلاج بشكل كامل، مما يفاقم حالتهن الصحية.
وكما هو حال وزيرة، فأغلبهن يعدن إلى العمل بعد الولادة.
بيد أن المعاناة لا تنتهي بعد الولادة، إذ تشعر المرأة بآلام قوية تشبه آلام الدورة الشهرية، قد تستمر لثلاثة أيام أو أسبوع، تسميها النساء في الريف بـ”الحاس”، ويفسرنها بفلسفة خاصة بهن؛ فبعد أن احتضن الرحم الطفل لتسعة أشهر، يفتقده الآن ويبحث عنه، وحركة هذا البحث تجعل الألم لا يُطاق، ولإسكاته تضع الأم سكيناً تحت رأسها، وكلما شعرت بألم وخزت مكانه بالسكين.
تذكر أم عمر (42 عاماً) من هكتريا وشعار في أبو غريب، أن أكثر آلام “الحاس” كانت تأتيها في الليل أو مع بزوغ الفجر، فتستيقظ متلهفة للبحث عن السكين لتوخز مكان الألم. تقول، “ما طوّل الوجع، ظل ثلاثة أيام بس، وبعدين راح. وراها رجعت اتحرك واشتغل عادي”.
الحمل بين الـ”جنّةً” والحماة
“ماكو استراحة، الجسم لازم يشتغل، وإذا عليّ شغل، إلا أخلصه”، تقول وزيرة، العمل لا ينتهي حتى لو كانت المرأة حاملاً وتحتاج إلى الراحة والعناية.
بينما يكافحن التعب الجسدي الناجم عن تحولات الحمل، تضطر الكثير من النساء الريفيات للعمل في الحقول، حيث يسود معتقد بأن العمل واجب على المرأة، بحسب الحاجة طِلبة، وهي امرأة مسنة في عقدها السابع تقريباً من قرية إبراهيم بن علي التابعة إدارياً للأنبار، مضيفة “چنايني يحوَن ويحصدن وما صار بيهن شي، الشغل ما يموّت”.
يذهب الجيل الأكبر من النساء الريفيات إلى المقارنة بين أيام شبابهن، لما كنّ “جنّاين” ويعملن دون هوادة، وبين النساء الحوامل اليوم، إذ يعتقدن أن الأخيرات يبالغن في طلب الراحة والاستقلالية، ويصفن بعضهن بـ”أمهات شيبس ليز”، كناية عن الرقة كرقائق البطاطا وطلبهن لراحة زائدة.
بينما تواجه وزيرة ونساء أخريات ضغوطات العمل رغم الحمل، تعيش أخريات في الأرياف وضعاً مغايراً يعكس التحول التدريجي في بعض العائلات الريفية نحو تعزيز دور المرأة كأم وزوجة، ومراعاة التغيُّرات التي يمر بها جسدها خلال فترة الحمل.
زينب (38 عاماً) من قرية طلبة، تعيش حياة مغايرة كامرأة قروية في عائلة كبيرة، فهي أم لأربع بنات وزوجة لرجل يحرص على راحتها، خاصةً فترة الحمل، إذ يمتنع عن تحميلها أعباء العمل في الزراعة أو المهام الشاقة، ويحصر مهامها بالأعمال المنزلية الخفيفة، ويشجعها على أخذ قسط من الراحة. ولا يتوقف عند ذلك، بل يرافقها وأمهُ شهرياً إلى الطبيبة للاطمئنان على صحتها وصحة الجنين، مما يعكس مستوى من الوعي والاهتمام بصحتها النفسية والجسدية، وهو أمر غير شائع في بيئة العائلة في الريف.
عناية زوجها بها لاقت استهجاناً من محيطهم الذي يحرضه ضد حقها في الراحة.
“رغم يقرون براسه أن يتزوج وحدة ثانية يگلوله خيرك هواي والله مفضّل عليك، ما يرد عليهم بس يگلي انت عندي بالدنيا كلها”. الدعم الذي تتلقاه زينب من زوجها وعائلته يعزز شعورها بالأمان والراحة، فيقلل من الضغوط الجسدية والنفسية التي قد تواجهها العديد من النساء أثناء الحمل، والتي من شأنها أن تؤثر سلباً على صحة الأم والجنين، ويزيد من ارتفاع مستويات هرمون الكورتيزول، مما يضاعف خطر الولادة المبكرة ومضاعفات أخرى مقارنة بالحوامل غير المجهدات، بحسب دراسة نشرت عام 2023، في موقع المكتبة الوطنية الأمريكية للطب.
تلجأ بعض النسوة لاستخدام وسائل منع الحمل سراً أمام الضغوط للاستمرار بالإنجاب، بالذات إنجاب الذكور، كما فعلت فليحة (35 عاماً) من خان ضاري في بغداد، إذ كانت تتناول حبوب منع الحمل بانتظام قدر الإمكان، إلا أنها باتت أمّاً لثمانية أطفال. ضاحكةً تقول “هاي كدامچ 8، وثنين طرحتهم”، في إشارة لمحاولاتها المستمرة في تنظيم النسل.
ليس الإجهاد الجسدي وحده ما تعانيه النساء في الريف، فالضغوط النفسية لها وقع موازٍ، فما زالت بعض النساء يواجهن ضغطاً من عائلاتهن وأزواجهن لـ”إنجاب الولد”، إذ يُنظر إليه كامتداد للعائلة واسمها. أما إنجاب البنات، فبالنسبة لبعض الأسر، يُعد غير كافٍ للمكانة أو التأثير الاجتماعي، مما يضع النساء أمام توقعاتٍ يصعب تحقيقها.
“إن شاء الله هاي البطن يجينا علاوي”، مع كل حمل كان زوج أسماء (33 عاماً) يكرر هذه الجملة، وهي أم لأربع بنات من منطقة السلاميات في الشعلة تعمل في رعي الأبقار وبيع مشتقات الحليب. منذ بداية زواجها، كانت تشعر بضغط زوجها لإنجاب ذكر، إلا أن هذا الضغط ازداد بعد إنجاب ابنتها الثالثة، فصار زوجها يعبر صراحة عن خيبة أمله، مما جعلها تشعر بإرهاق نفسي وبنفور تجاه بناتها وبتراجع حماسها تجاه الأمومة بسبب هذا التوتر المتواصل.
ورغم أن ضغط إنجاب الذكور لا يزال قائماً في بعض المناطق، لكن ثمة مناطق أخرى توفر للمرأة حماية ودعماً يتيح لها اختياراتٍ أوسع، فطيبة (28 عاماً) من اليوسفية، في قضاء المحمودية جنوب بغداد، وهي صانعة محتوى عن حياتها في الريف، ترى أن الوضع في الريف قد بدأ يتحسن، وإن ببطء، مشيرة إلى أن عائلتها متفهمة ولا تواجه النساء في منطقتها ضغوطاً اجتماعية مشابهة لتلك التي عاشتها فليحة، مؤكدة “لم نعد نشهد الضغط الاجتماعي لإنجاب الذكور كما في السابق”.
ولادة على الجرّار
واجهت كريمة (31 عاماً) مصاعب جمة عندما أوشكت على ولادة طفلها، لم تكن بسبب ضغوطات اجتماعية أو الإرهاق جراء العمل لساعات طويلة، بل بسبب غياب مشفى قريب من منطقة الرضوانية الغربية، غرب بغداد، حيث مسكن أمها التي انتقلت إليه مع اقتراب موعد الولادة، لتلقى دعماً أكبر من والدتها وزوجة أخيها الأكبر، وهي عادة سائدة في العراق كون غالبية الرجال تنقصهم المعرفة اللازمة للتعامل مع تحوّلات حمل زوجاتهم.
مع بدء المخاض المفاجئ استعانت والدتها بزيت الخروع وبعض الأقمشة، “حضاين” و”الصرة”، لإعانتها ريثما تصل إلى المشفى الذي يبعد ثلاث ساعات بالسيارة، إذ لا يوجد مركز صحي في الرضوانية الغربية، وفق الصحفي والناشط حسين الفايز. وكما توقعن، حدثت الولادة قبل الوصول إلى المشفى في منتصف الطريق، على متن الجرار الذي يقوده أحد أقاربهم، اشتدت آلام كريمة، وبفضل دعم والدتها وزوجة أخيها، وضعت مولودتها وسط ظروف شاقة لكنها انتهت بسلام.
“انطتني امي تلث خواشيك زيت خروع من صار عندي وجع، ما ينجرع طعمه، بس الحمدلله ربج سهّل”، تقول كريمة.
بسبب شحّ المرافق الطبية في المناطق الريفية، تلجأ الكثيرات من سكان الريف للطب الشعبي لانعدام الخدمات الصحية، وكثيراً ما تتكرر حالات مثل كريمة، إذ تضطر بعض النساء اللاتي يحتجن إلى تدخل طبي أن يلدن في الحقل أو في المنزل أو حتى على متن جرار الزراعة.
وتشابه معاناة النساء في قضاء الزبيدية مع ما تواجهه نظيراتهن في الرضوانية الغربية، حيث المسافات الطويلة وغياب المرافق الطبية.
تقول أمل (25 عاماً) من ريف الزبيدية لقضاء الكوت، “نروح لمركز الكوت لو العزيزية حتى نوصل لأقرب طبيب، الدرب ياخذ ساعة كاملة ومرة جنت مريضة واتأخرنا بالسيارة واتخربطت بسبب بُعد المسافة”، ومثل مرضى آخرين يؤدي هذا أحياناً لتدهور الحالة الصحية للمرضى بسبب المسافة والطريق غير المعبد بالكامل.
منذ أكثر من 12 عاماً، يناشد أهالي محافظة واسط الحكومة لتوفير مستشفيات محلية تلبي احتياجاتهم، حيث أعلنت وزارة الصحة في عام 2012 عن موافقات مبدئية لبناء مستشفى بسعة 100 سرير في الزبيدية وآخر بسعة 200 سرير في العزيزية. ومع ذلك، لا تزال هذه المشاريع قيد الانتظار.
وتحركات الحكومة في بناء مستشفيات في القضاءين أو أغلب قرى العراق، لا يتعدى كونه وعداً حبيس الأدراج مع مرور السنوات، وهذا ليس غريباً بالنظر إلى أن ثمة 57 مشروعاً صحياً متلكئاً في عموم العراق عام 2024، وفق تصريح للمتحدث باسم الوزارة الصحة الدكتور سيف البدر.
لذلك كله يصنف العراق بأدنى مراتب الرعاية الصحية في العالم -المكان الـ95 من أصل 97 دولة في 2025- وفق موقع “نومبيو” الذي يعنى بالمستوى المعيشي لدول العالم وجودة الرعاية الصحية.
كم من امرأة حملت آلاماً لا تُحتمل، بينما تنتظر الأمل في مستشفى لم يولد بعد؟ تلك المشاريع تبقى حبراً على ورق، لا تُحسن حال النساء اللواتي يعانين في صمت.
تأخير تنفيذ هذه المشاريع الصحية ليس مجرد إهمال، بل هو تقاعس عن تقديم حق طبيعي وأساسي من حقوق الإنسان. لكل امرأة في ريف العراق، حقها في رعاية صحية كريمة، توفر لها الأمان في أصعب لحظات حياتها، الحمل والولادة.
أيدٍ تلد الحياة وأخرى تهدّدها
فيما تغيب المؤسسات الصحية عن الريف، يأتي دور القابلة المحلية، والتي تشكو النساء في هذه المناطق من عدم توفر واحدة قريبة كذلك، مما يجبرهن على السفر إلى مناطق أخرى لطلب مساعدتها في حال احتجنها.
“أم محمد هي أمي الثانية، وأطفالي يحبوها. اتعسرت ولادتي ببنتي، هي مرة مبروكة، كالت ما تخلصين شهرج كله لأن الطفل على راسه”. مشيرة إلى وضع الجنين الذي كان رأسه متجهاً نحو الرحم وقدماه للأعلى.
وضعت القابلة ثلاثة من أصابعها من أعلى بطن إيمان، ثم بدأت تسير بها نحو الأسفل خطوةً بخطوة، تكرّر الحركة خمس مرات في كل مرة ثلاثة أصابع. وعند النهاية قالت لها بنبرة الواثق، “تجيبين بعد 15 أو 17 يوماً، فالطفل في وضع الولادة”. بهذه الطريقة، كانت حسابات أم محمد تتبع حدسها وخبرتها لتتنبأ بقرب لحظة الولادة.
كانت إيمان (27 عاماً) من ناحية الجزيرة في محافظة الأنبار، حاملاً في الأسبوع الثاني من شهرها الثامن. آخر مولودة وضعتها قبل سنتين، خاتمة للثلاث بطون التي أنجبتها قبلها.
تتابع إيمان طريقة القابلة، التي وضعت يدها وحاوطت بطنها، وهي تتلو سورة يس. تقول إيمان، “سبحان ربج الطفل صار يتحرك، يحس بكلام الله ويسمعه”.
بقيت القابلة مع إيمان من الساعة الثانية ظهراً وحتى السابعة ليلاً، حتى جاءها المخاض، ولم يسر مفعول زيت الخروع الذي أعطته القابلة لإيمان. وتضيف، “حيل تعبتني زهورة”، أم محمد صارت تصبّر بيه وتقرأ آيات، وآني أشهك من الوجع، تكلي مو زين مو زين، لأن الطفل يصعد. وبالدعاء وصبرها وجرة الخلگ الي عدها، جيبتني”.
لهذا كله أصبحت القابلة بالنسبة للكثير من النساء أكثر من مجرد مقدمة للرعاية الطبية؛ بل هي شريكة تقف إلى جانبهن في أكثر اللحظات حساسية وخصوصية، بدءاً من لحظات الحمل الأولى وحتى ساعة المخاض. ترافقهن ليس فقط كمسؤولة عن تيسير عملية الولادة، ولكن كأم مطمئنة تمنحهن الراحة النفسية والثقة في الأوقات التي قد تكون مرهقة أو مخيفة، فتشعر المرأة بأنها ليست وحدها في هذه الرحلة.
تقول أم طيبة (54 عاماً) وهي قابلة من بغداد كانت تعمل ممرضة فنية في مستشفى اليرموك، “أكثر ما يشغل بال النسوان الي يولدن يمي هو الخوف من الموت، “خاف أموت” أو “يموت الطفل”، ويبقى قلبي معها لحظة بلحظة. أظل أطمّنها وأقويها، وأقرأ سورة يس حتى تشعر بالسكينة”.
في المجتمعات التي لا تتوفر فيها خدمات طبية كافية، أو حيث تتعرض المرأة لضغوط اجتماعية تجعلها في حاجة إلى دعم معنوي آني، ترافق القابلة المرأة، تعلمها، تطمئنها، وفي كثير من الأحيان تستخدم أساليب تقليدية موروثة تسهم في تسهيل الأمور على المرأة. ودور القابلات المدربات مهم جداً، وفقاً لتقرير صادر عن صندوق الأمم المتحدة للسكان “UNPF” ومنظمة الصحة العالمية والاتحاد الدولي للقابلات عام 2021، لقدرتهن على تقليل أكثر من 80 بالمئة من وفيات الأمهات، والأطفال حديثي الولادة، وهن قادرات على تقديم ما يصل إلى 90 بالمئة من خدمات الصحة الإنجابية والجنسية، بالإضافة للدعم النفسي. ويوضح التقرير أن الاستثمار في تدريب القابلات ودمجهن في النظم الصحية يمكن أن يُحدث تأثيراً كبيراً لتحسين خدمات الصحة، خاصة في المناطق ذات الموارد المحدودة.
إلا أن القابلة قد تشكل أيضاً مصدر خطر قد يؤدي إلى مضاعفات صحية خطيرة، وقد تهدد حياة الأمهات وأطفالهن، أو حتى الموت، بغياب الرقابة والخبرة والمعرفة.
تروي رابعة (45 عاماً) من قرية الزيدان غرب بغداد وجنوب شرق مدينة الفلوجة، حرمانها من الولادة قبل عشر سنوات بسبب قابلة غير مرخصة، أوهمتها وعائلتها بأنها حاصلة على شهادة وترخيص، “نصحوني بيها وحمدوا بيها” تقول رابعة، ورغم شعبية القابلة في المنطقة، إلا أن جهلها وقلة خبرتها كاد أن يودي بحياة المرأة الحامل.
“بقّتني يمها 8 ساعات، بس أطلك وضربتني 3 أبر تسهيل الولادة، أول إبرة صارت عندي أوجاع قوية، وأهلي منتظرين كالتلهم هسه رح تجيب، وما فادت. ضربتني الثانية، ورجعت ضربتني الثالثة. طلعت على زوجي وقلت له: راح أموت، فأغمي عليه، وودوني للمستشفى”.
في مشفى الفلوجة، أسعف الأطباء رابعة بإجراء عملية قيصرية. “طلع الطفل مُعرض”، أي يستقر جنينها في رحمها بالعرض، وليس رأساً على عقب، مما يعني استحالة ولادتها بشكل طبيعي.
ظلت رابعة 15 يوماً في الإنعاش، وبعد أن استفاقت، أخبرها الأطباء أنها لن تتمكن من الإنجاب مجدداً، إذ تأثر بيت الرحم بهذه الحادثة نتيجة إبرة الطلق الاصطناعي التي أصرت القابلة على حقنها بها ثلاث مرات.
يرى جاسم العزاوي، نقيب الأطباء السابق، أن مثل هذه الحوادث المؤسفة تكشف جانباً خطيراً لنتيجة ممارسة القابلة غير المؤهلة، ويؤكد أن التعامل مع جسد المرأة الحامل يجب أن يخضع لضوابط صارمة، لأنه يتعلق بحياتين؛ الأم والجنين. والتدخلات الطبية التي تُمارَس من قبل قابلات غير مدربات، كإعطاء إبرة الطلق الاصطناعي أو استخدام أدوات السحب أو قص العِجان -شق جراحي لتوسيع فتحة المهبل أثناء الولادة- دون إشراف طبي مختص، تؤدي إلى كوارث قد تصل إلى الموت.
يؤكد العزاوي أن وزارة الصحة هي الجهة الوحيدة المخوّلة بتأهيل القابلات ومنحهن التراخيص القانونية التي تتيح لهن العمل، كما ويتزودن بالمعرفة الدقيقة لحدود مسؤولياتهن، إذ يقتصر دورهن على الولادات الطبيعية فقط. ويتطلب أي تعقيد تدخلاً طبياً مختصاً أو نقل الحالة إلى المستشفى فوراً. أما عن استخدام إبرة الطلق الاصطناعي، فيوضح العزاوي أنها ليست إجراءً بسيطاً يمكن استخدامه في أي حالة، بل هي مسؤولية طبية كبيرة لا يجوز للقابلة غير المؤهلة أن تتعامل معها. وهذه الإجراءات يجب أن تُترك لطبيب متخصص فقط، ذي خبرة في تقييم الحالة بشكل دقيق واتخاذ القرار المناسب.
كما يجب أن تُشرف طبيبة مختصة على تقييم حالة الولادة والتأكد من أنها ستكون ولادة طبيعية. وإذا شخصت أو توقعت الطبيبة وجود مضاعفات، مثل تشوهات لدى الجنين أو وضع غير طبيعي للولادة، كحالة رابعة، لا يجوز للقابلة التدخل.
لذا ينصح العزاوي بضرورة التحقق من أهلية القابلة وحيازتها شهادة قانونية وتدريباً معتمداً. كما أن رفع مستوى الوعي والتثقيف بالصحة الجنسية والإنجابية يمكن أن يحمي العائلات من مثل هذه المآسي، وهو ما يقع على عاتق المؤسسات الصحية.
“التابعة“
يُفاقم غياب دور المؤسسات الصحية، بما في ذلك المتعلقة بالصحة النفسية من معاناة النساء في الأرياف، إذ تنتشر ظاهرة ما يُعرف بـ”التابعة”، التي يُعتقد بأنها قوة غامضة تعيق الإنجاب وتسيطر على الأحلام، فتنتقل بعض النسوة بين الشيوخ والمشعوذين للتخلص منها.
أرهقت زمن (27 عاماً) من إحدى قرى محافظة ديالى، كوابيس طاردتها بعد إنجابها ابنها الأول. ومنذ ذلك الحين، بدأت تفقد جنينها بعد كل حمل، لتشعر بأن شيئاً خفياً يلاحقها. تحكي عن ليالٍ طويلة تستيقظ بفزع، وعرق بارد يتصبب على جبينها، بعد رؤيتها لعجوز غريبة “لابسة عباية” تقترب منها لتخنقها أو تهدد حياة جنينها. ويتبع كل مرة بعدما تصحو من هذه الكوابيس، نزيف حاد ينهي حملها في أيام قليلة، لتعود إلى دوامة الفقدان مجدداً.
تُظهر دراسة حديثة، نُشرت عام 2023 في المكتبة الوطنية الأمريكية للطب، أن الأطفال الذين تعرضت أمهاتهم لتوتر شديد أثناء الحمل قد ظهرت لديهم تغيّرات في بعض جيناتهم، قد تؤثر على صحة الدماغ والجهاز المناعي للأطفال.
زمن، مثل العديد من النساء في الريف اللاتي تعانين من التوتر المستمر بسبب معتقد “التابعة”، حيث يعشن توتراً عصبياً دائماً. تقول إحداهن، “ما أكدر أعيش يوم كامل طبيعي أضحك وأسولف لازم أنعقج”. وأضافت أخرى، “أحس جسمي مكسّر وعصبية على أتفه شي، ومرّات بس أبقى ساكتة ما احجي”.
مع كل هذا الخوف والقلق والتوتر المستمر الذي يؤثر سلباً على حالتهن النفسية والجسدية، تجد الكثيرات أنفسهن في حالة من البحث الدائم عن وسائل تخلصهن من كابوس يهدد حياتهن وأحلامهن بالأمومة.
ومع انتشار هذه المعتقدات في الأرياف -وحتى في المدن- تتزايد احتمالات استغلالهن من أشخاص يزعمون امتلاك حلول سحرية أو “علاج روحاني”، فتصبح المرأة مستعدة لدفع مبالغ طائلة في محاولة للحصول على طمأنينة مفقودة، ما يسهل على بعض المشعوذين استغلالها عبر وعود كاذبة بفك “الأعمال” و”إبعاد التابعة”.
يذكر رجل الدين محمد صنقور، على الموقع الرسمي لحوزة بنت الهدى للدراسات الإسلامية، إن الاعتقاد بوجود “تابعة” من الجن تُدعى “أم الصبيان” (اسم آخر للتابعة)، والتي تسبب إجهاض الجنين أو تؤثر على الأطفال مسببةً لهم الجنون أو الصرع عبر الظهور لهم بشكل مرعب، هو من الخرافات التي لا أصل لها في الشريعة الإسلامية.
والايمان بوجودها هو “فكرة قديمة من موروثات عرب الجاهلية”، على حدّ وصف العالم في مجال الفقه الإسلامي، حسام الدين عفانة، في فتوى له بأنها من الخرافات التي لا أساس لها. وقد أشار إلى أن الكهنة في زمن العرب كانوا يدّعون معرفة الغيب والاعتماد على “تابعة” من الجن لنقل الأخبار، وهو ما لا تعترف به الشريعة الإسلامية. ويضيف، “أن إجهاض الطفل له أسباب طبية عديدة معروفة للأطباء، تتعلق بصحة الأم والجنين”.
بحسب رجل دين من بغداد، أكد خلال حديثه أن لا وجود لما يُسمى بـ “التابعة”، وما يصيب المرأة هو نوع من المس، بحسب رأيه، وتسمية التابعة أطلقتها الأمهات والجدات من حقب سابقة.
يحكي رجل الدين عن امرأة في منتصف الثلاثينات لم تُرزق بالأطفال رغم سلامتها الطبية. نصحتها أمها وعماتها بزيارة شيخ معروف، فذهبت إليه وأخبرها بوجود “عمل” مدفون يستهدفها ويمنعها من الإنجاب. وقد استشهد بتفاصيل دقيقة عن حياتها، مما جعلها تصدق كلامه وتثق فيه. أخبرها بأن العمل مدفون في مكان معين، وطلب منها مبلغاً كبيراً لفكه. أعطاها حجاباً وأوصاها باستخدام ماء مخلوط بأعشاب، بالإضافة إلى خطوات غريبة مثل تبخير ضفدعة حتى تصبح فحمة.
“هؤلاء المحتالون يعرفون كيف يكسبون ثقة ضحاياهم، لكنهم في الحقيقة يستغلون مخاوفهن ويكذبون عليهن”، يصف كيف يتلاعبون بمشاعر النساء واحتياجهن للطمأنينة.
حتى اللحظة تستمر معاناة النساء في الريف، من نقص الخدمات والوعي المجتمعي وحتى كابوس الإيمان بـ”التابعة” الذي يعصف بأحلامهن وأجسادهن، محاطات بالشكوك والمعتقدات والواجبات التي تسيطر على حيواتهن.
أنتجت هذه المقالة ضمن سلسلة ملف “صحة المرأة“ الذي أطلقه جمّار
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً

"تكاليف النواب المليارية": كيف ارتفع سعر النائب على العراقيين بنسبة 50 بالمئة؟
11 فبراير 2025

"شريان الاقتصاد"... عن السياسة الأمريكية في تغيير آلية نافذة بيع العملة الأجنبية في العراق
09 فبراير 2025

مشاهدات فتاة عراقية في التعداد السكاني: مواقف عمو كريم، وحليمة، والسكران..
06 فبراير 2025

حرب المصطلحات: تجريم السلطات العراقية لكلمة "مثلية"
04 فبراير 2025
“جتني الطلوكة واني احوي بالحقل”.
كانت وزيرة (25 عاماً)، تعمل في الحقل حينما باغتها ألم الولادة، فما كان لها إلا أن تنجب طفلها هناك بمساعدة نساء كنّ يعملنّ معها.
قصص كهذه نسمعها من جداتنا بالعادة، معتقدين أن هذه كانت حال نساء في حقب سابقة. بيد أن وزيرة عاملة في الفلاحة، من منطقة السعد في قضاء أبو غريب، وغيرها الكثيرات من النساء الساكنات في الريف العراقي يعملن يومياً في الحقول لساعات طويلة.
عادة ما يبدأ يوم هؤلاء النسوة مع بزوغ الفجر في الخامسة أو السادسة صباحاً متوجهات إلى الحقل، حيث يقضين ساعات طويلة في العمل الزراعي -بمعدل ثماني ساعات على الأقل- ليعدن عند التاسعة مساءً ويواصلن مهام العمل الرعائي المنزلي من طبخ وتنظيف ورعاية العائلة لغاية ساعات الليل المتأخرة.
تمثل العاملات في الريف حوالي 30 بالمئة من مجمل العاملات في الزراعة في العراق ويتحملن 85 بالمئة من العبء الزراعي مقارنة بالرجل، الذي يتحمل 15 بالمئة فقط، وفق دراسة تناولت دور المرأة الريفية العاملة في تنمية الإنتاج الزراعي العراقي.
مقابل هذا الجهد الجسدي في تنمية الإنتاج الزراعي، تتراجع تنمية وصحة المرأة العاملة في الأرياف نتيجة الإرهاق الشديد وفقر الدم والنقص الحاد في الفيتامينات، كما تصف لنا الدكتورة بتول المشرف، طبيبة نسائية في أبو غريب، حال مريضاتها، اللواتي تقول إنهن ورغم نصائحها المتكررة بالراحة والتغذية، لا يلتزمن عادة بالعلاج بشكل كامل، مما يفاقم حالتهن الصحية.
وكما هو حال وزيرة، فأغلبهن يعدن إلى العمل بعد الولادة.
بيد أن المعاناة لا تنتهي بعد الولادة، إذ تشعر المرأة بآلام قوية تشبه آلام الدورة الشهرية، قد تستمر لثلاثة أيام أو أسبوع، تسميها النساء في الريف بـ”الحاس”، ويفسرنها بفلسفة خاصة بهن؛ فبعد أن احتضن الرحم الطفل لتسعة أشهر، يفتقده الآن ويبحث عنه، وحركة هذا البحث تجعل الألم لا يُطاق، ولإسكاته تضع الأم سكيناً تحت رأسها، وكلما شعرت بألم وخزت مكانه بالسكين.
تذكر أم عمر (42 عاماً) من هكتريا وشعار في أبو غريب، أن أكثر آلام “الحاس” كانت تأتيها في الليل أو مع بزوغ الفجر، فتستيقظ متلهفة للبحث عن السكين لتوخز مكان الألم. تقول، “ما طوّل الوجع، ظل ثلاثة أيام بس، وبعدين راح. وراها رجعت اتحرك واشتغل عادي”.
الحمل بين الـ”جنّةً” والحماة
“ماكو استراحة، الجسم لازم يشتغل، وإذا عليّ شغل، إلا أخلصه”، تقول وزيرة، العمل لا ينتهي حتى لو كانت المرأة حاملاً وتحتاج إلى الراحة والعناية.
بينما يكافحن التعب الجسدي الناجم عن تحولات الحمل، تضطر الكثير من النساء الريفيات للعمل في الحقول، حيث يسود معتقد بأن العمل واجب على المرأة، بحسب الحاجة طِلبة، وهي امرأة مسنة في عقدها السابع تقريباً من قرية إبراهيم بن علي التابعة إدارياً للأنبار، مضيفة “چنايني يحوَن ويحصدن وما صار بيهن شي، الشغل ما يموّت”.
يذهب الجيل الأكبر من النساء الريفيات إلى المقارنة بين أيام شبابهن، لما كنّ “جنّاين” ويعملن دون هوادة، وبين النساء الحوامل اليوم، إذ يعتقدن أن الأخيرات يبالغن في طلب الراحة والاستقلالية، ويصفن بعضهن بـ”أمهات شيبس ليز”، كناية عن الرقة كرقائق البطاطا وطلبهن لراحة زائدة.
بينما تواجه وزيرة ونساء أخريات ضغوطات العمل رغم الحمل، تعيش أخريات في الأرياف وضعاً مغايراً يعكس التحول التدريجي في بعض العائلات الريفية نحو تعزيز دور المرأة كأم وزوجة، ومراعاة التغيُّرات التي يمر بها جسدها خلال فترة الحمل.
زينب (38 عاماً) من قرية طلبة، تعيش حياة مغايرة كامرأة قروية في عائلة كبيرة، فهي أم لأربع بنات وزوجة لرجل يحرص على راحتها، خاصةً فترة الحمل، إذ يمتنع عن تحميلها أعباء العمل في الزراعة أو المهام الشاقة، ويحصر مهامها بالأعمال المنزلية الخفيفة، ويشجعها على أخذ قسط من الراحة. ولا يتوقف عند ذلك، بل يرافقها وأمهُ شهرياً إلى الطبيبة للاطمئنان على صحتها وصحة الجنين، مما يعكس مستوى من الوعي والاهتمام بصحتها النفسية والجسدية، وهو أمر غير شائع في بيئة العائلة في الريف.
عناية زوجها بها لاقت استهجاناً من محيطهم الذي يحرضه ضد حقها في الراحة.
“رغم يقرون براسه أن يتزوج وحدة ثانية يگلوله خيرك هواي والله مفضّل عليك، ما يرد عليهم بس يگلي انت عندي بالدنيا كلها”. الدعم الذي تتلقاه زينب من زوجها وعائلته يعزز شعورها بالأمان والراحة، فيقلل من الضغوط الجسدية والنفسية التي قد تواجهها العديد من النساء أثناء الحمل، والتي من شأنها أن تؤثر سلباً على صحة الأم والجنين، ويزيد من ارتفاع مستويات هرمون الكورتيزول، مما يضاعف خطر الولادة المبكرة ومضاعفات أخرى مقارنة بالحوامل غير المجهدات، بحسب دراسة نشرت عام 2023، في موقع المكتبة الوطنية الأمريكية للطب.
تلجأ بعض النسوة لاستخدام وسائل منع الحمل سراً أمام الضغوط للاستمرار بالإنجاب، بالذات إنجاب الذكور، كما فعلت فليحة (35 عاماً) من خان ضاري في بغداد، إذ كانت تتناول حبوب منع الحمل بانتظام قدر الإمكان، إلا أنها باتت أمّاً لثمانية أطفال. ضاحكةً تقول “هاي كدامچ 8، وثنين طرحتهم”، في إشارة لمحاولاتها المستمرة في تنظيم النسل.
ليس الإجهاد الجسدي وحده ما تعانيه النساء في الريف، فالضغوط النفسية لها وقع موازٍ، فما زالت بعض النساء يواجهن ضغطاً من عائلاتهن وأزواجهن لـ”إنجاب الولد”، إذ يُنظر إليه كامتداد للعائلة واسمها. أما إنجاب البنات، فبالنسبة لبعض الأسر، يُعد غير كافٍ للمكانة أو التأثير الاجتماعي، مما يضع النساء أمام توقعاتٍ يصعب تحقيقها.
“إن شاء الله هاي البطن يجينا علاوي”، مع كل حمل كان زوج أسماء (33 عاماً) يكرر هذه الجملة، وهي أم لأربع بنات من منطقة السلاميات في الشعلة تعمل في رعي الأبقار وبيع مشتقات الحليب. منذ بداية زواجها، كانت تشعر بضغط زوجها لإنجاب ذكر، إلا أن هذا الضغط ازداد بعد إنجاب ابنتها الثالثة، فصار زوجها يعبر صراحة عن خيبة أمله، مما جعلها تشعر بإرهاق نفسي وبنفور تجاه بناتها وبتراجع حماسها تجاه الأمومة بسبب هذا التوتر المتواصل.
ورغم أن ضغط إنجاب الذكور لا يزال قائماً في بعض المناطق، لكن ثمة مناطق أخرى توفر للمرأة حماية ودعماً يتيح لها اختياراتٍ أوسع، فطيبة (28 عاماً) من اليوسفية، في قضاء المحمودية جنوب بغداد، وهي صانعة محتوى عن حياتها في الريف، ترى أن الوضع في الريف قد بدأ يتحسن، وإن ببطء، مشيرة إلى أن عائلتها متفهمة ولا تواجه النساء في منطقتها ضغوطاً اجتماعية مشابهة لتلك التي عاشتها فليحة، مؤكدة “لم نعد نشهد الضغط الاجتماعي لإنجاب الذكور كما في السابق”.
ولادة على الجرّار
واجهت كريمة (31 عاماً) مصاعب جمة عندما أوشكت على ولادة طفلها، لم تكن بسبب ضغوطات اجتماعية أو الإرهاق جراء العمل لساعات طويلة، بل بسبب غياب مشفى قريب من منطقة الرضوانية الغربية، غرب بغداد، حيث مسكن أمها التي انتقلت إليه مع اقتراب موعد الولادة، لتلقى دعماً أكبر من والدتها وزوجة أخيها الأكبر، وهي عادة سائدة في العراق كون غالبية الرجال تنقصهم المعرفة اللازمة للتعامل مع تحوّلات حمل زوجاتهم.
مع بدء المخاض المفاجئ استعانت والدتها بزيت الخروع وبعض الأقمشة، “حضاين” و”الصرة”، لإعانتها ريثما تصل إلى المشفى الذي يبعد ثلاث ساعات بالسيارة، إذ لا يوجد مركز صحي في الرضوانية الغربية، وفق الصحفي والناشط حسين الفايز. وكما توقعن، حدثت الولادة قبل الوصول إلى المشفى في منتصف الطريق، على متن الجرار الذي يقوده أحد أقاربهم، اشتدت آلام كريمة، وبفضل دعم والدتها وزوجة أخيها، وضعت مولودتها وسط ظروف شاقة لكنها انتهت بسلام.
“انطتني امي تلث خواشيك زيت خروع من صار عندي وجع، ما ينجرع طعمه، بس الحمدلله ربج سهّل”، تقول كريمة.
بسبب شحّ المرافق الطبية في المناطق الريفية، تلجأ الكثيرات من سكان الريف للطب الشعبي لانعدام الخدمات الصحية، وكثيراً ما تتكرر حالات مثل كريمة، إذ تضطر بعض النساء اللاتي يحتجن إلى تدخل طبي أن يلدن في الحقل أو في المنزل أو حتى على متن جرار الزراعة.
وتشابه معاناة النساء في قضاء الزبيدية مع ما تواجهه نظيراتهن في الرضوانية الغربية، حيث المسافات الطويلة وغياب المرافق الطبية.
تقول أمل (25 عاماً) من ريف الزبيدية لقضاء الكوت، “نروح لمركز الكوت لو العزيزية حتى نوصل لأقرب طبيب، الدرب ياخذ ساعة كاملة ومرة جنت مريضة واتأخرنا بالسيارة واتخربطت بسبب بُعد المسافة”، ومثل مرضى آخرين يؤدي هذا أحياناً لتدهور الحالة الصحية للمرضى بسبب المسافة والطريق غير المعبد بالكامل.
منذ أكثر من 12 عاماً، يناشد أهالي محافظة واسط الحكومة لتوفير مستشفيات محلية تلبي احتياجاتهم، حيث أعلنت وزارة الصحة في عام 2012 عن موافقات مبدئية لبناء مستشفى بسعة 100 سرير في الزبيدية وآخر بسعة 200 سرير في العزيزية. ومع ذلك، لا تزال هذه المشاريع قيد الانتظار.
وتحركات الحكومة في بناء مستشفيات في القضاءين أو أغلب قرى العراق، لا يتعدى كونه وعداً حبيس الأدراج مع مرور السنوات، وهذا ليس غريباً بالنظر إلى أن ثمة 57 مشروعاً صحياً متلكئاً في عموم العراق عام 2024، وفق تصريح للمتحدث باسم الوزارة الصحة الدكتور سيف البدر.
لذلك كله يصنف العراق بأدنى مراتب الرعاية الصحية في العالم -المكان الـ95 من أصل 97 دولة في 2025- وفق موقع “نومبيو” الذي يعنى بالمستوى المعيشي لدول العالم وجودة الرعاية الصحية.
كم من امرأة حملت آلاماً لا تُحتمل، بينما تنتظر الأمل في مستشفى لم يولد بعد؟ تلك المشاريع تبقى حبراً على ورق، لا تُحسن حال النساء اللواتي يعانين في صمت.
تأخير تنفيذ هذه المشاريع الصحية ليس مجرد إهمال، بل هو تقاعس عن تقديم حق طبيعي وأساسي من حقوق الإنسان. لكل امرأة في ريف العراق، حقها في رعاية صحية كريمة، توفر لها الأمان في أصعب لحظات حياتها، الحمل والولادة.
أيدٍ تلد الحياة وأخرى تهدّدها
فيما تغيب المؤسسات الصحية عن الريف، يأتي دور القابلة المحلية، والتي تشكو النساء في هذه المناطق من عدم توفر واحدة قريبة كذلك، مما يجبرهن على السفر إلى مناطق أخرى لطلب مساعدتها في حال احتجنها.
“أم محمد هي أمي الثانية، وأطفالي يحبوها. اتعسرت ولادتي ببنتي، هي مرة مبروكة، كالت ما تخلصين شهرج كله لأن الطفل على راسه”. مشيرة إلى وضع الجنين الذي كان رأسه متجهاً نحو الرحم وقدماه للأعلى.
وضعت القابلة ثلاثة من أصابعها من أعلى بطن إيمان، ثم بدأت تسير بها نحو الأسفل خطوةً بخطوة، تكرّر الحركة خمس مرات في كل مرة ثلاثة أصابع. وعند النهاية قالت لها بنبرة الواثق، “تجيبين بعد 15 أو 17 يوماً، فالطفل في وضع الولادة”. بهذه الطريقة، كانت حسابات أم محمد تتبع حدسها وخبرتها لتتنبأ بقرب لحظة الولادة.
كانت إيمان (27 عاماً) من ناحية الجزيرة في محافظة الأنبار، حاملاً في الأسبوع الثاني من شهرها الثامن. آخر مولودة وضعتها قبل سنتين، خاتمة للثلاث بطون التي أنجبتها قبلها.
تتابع إيمان طريقة القابلة، التي وضعت يدها وحاوطت بطنها، وهي تتلو سورة يس. تقول إيمان، “سبحان ربج الطفل صار يتحرك، يحس بكلام الله ويسمعه”.
بقيت القابلة مع إيمان من الساعة الثانية ظهراً وحتى السابعة ليلاً، حتى جاءها المخاض، ولم يسر مفعول زيت الخروع الذي أعطته القابلة لإيمان. وتضيف، “حيل تعبتني زهورة”، أم محمد صارت تصبّر بيه وتقرأ آيات، وآني أشهك من الوجع، تكلي مو زين مو زين، لأن الطفل يصعد. وبالدعاء وصبرها وجرة الخلگ الي عدها، جيبتني”.
لهذا كله أصبحت القابلة بالنسبة للكثير من النساء أكثر من مجرد مقدمة للرعاية الطبية؛ بل هي شريكة تقف إلى جانبهن في أكثر اللحظات حساسية وخصوصية، بدءاً من لحظات الحمل الأولى وحتى ساعة المخاض. ترافقهن ليس فقط كمسؤولة عن تيسير عملية الولادة، ولكن كأم مطمئنة تمنحهن الراحة النفسية والثقة في الأوقات التي قد تكون مرهقة أو مخيفة، فتشعر المرأة بأنها ليست وحدها في هذه الرحلة.
تقول أم طيبة (54 عاماً) وهي قابلة من بغداد كانت تعمل ممرضة فنية في مستشفى اليرموك، “أكثر ما يشغل بال النسوان الي يولدن يمي هو الخوف من الموت، “خاف أموت” أو “يموت الطفل”، ويبقى قلبي معها لحظة بلحظة. أظل أطمّنها وأقويها، وأقرأ سورة يس حتى تشعر بالسكينة”.
في المجتمعات التي لا تتوفر فيها خدمات طبية كافية، أو حيث تتعرض المرأة لضغوط اجتماعية تجعلها في حاجة إلى دعم معنوي آني، ترافق القابلة المرأة، تعلمها، تطمئنها، وفي كثير من الأحيان تستخدم أساليب تقليدية موروثة تسهم في تسهيل الأمور على المرأة. ودور القابلات المدربات مهم جداً، وفقاً لتقرير صادر عن صندوق الأمم المتحدة للسكان “UNPF” ومنظمة الصحة العالمية والاتحاد الدولي للقابلات عام 2021، لقدرتهن على تقليل أكثر من 80 بالمئة من وفيات الأمهات، والأطفال حديثي الولادة، وهن قادرات على تقديم ما يصل إلى 90 بالمئة من خدمات الصحة الإنجابية والجنسية، بالإضافة للدعم النفسي. ويوضح التقرير أن الاستثمار في تدريب القابلات ودمجهن في النظم الصحية يمكن أن يُحدث تأثيراً كبيراً لتحسين خدمات الصحة، خاصة في المناطق ذات الموارد المحدودة.
إلا أن القابلة قد تشكل أيضاً مصدر خطر قد يؤدي إلى مضاعفات صحية خطيرة، وقد تهدد حياة الأمهات وأطفالهن، أو حتى الموت، بغياب الرقابة والخبرة والمعرفة.
تروي رابعة (45 عاماً) من قرية الزيدان غرب بغداد وجنوب شرق مدينة الفلوجة، حرمانها من الولادة قبل عشر سنوات بسبب قابلة غير مرخصة، أوهمتها وعائلتها بأنها حاصلة على شهادة وترخيص، “نصحوني بيها وحمدوا بيها” تقول رابعة، ورغم شعبية القابلة في المنطقة، إلا أن جهلها وقلة خبرتها كاد أن يودي بحياة المرأة الحامل.
“بقّتني يمها 8 ساعات، بس أطلك وضربتني 3 أبر تسهيل الولادة، أول إبرة صارت عندي أوجاع قوية، وأهلي منتظرين كالتلهم هسه رح تجيب، وما فادت. ضربتني الثانية، ورجعت ضربتني الثالثة. طلعت على زوجي وقلت له: راح أموت، فأغمي عليه، وودوني للمستشفى”.
في مشفى الفلوجة، أسعف الأطباء رابعة بإجراء عملية قيصرية. “طلع الطفل مُعرض”، أي يستقر جنينها في رحمها بالعرض، وليس رأساً على عقب، مما يعني استحالة ولادتها بشكل طبيعي.
ظلت رابعة 15 يوماً في الإنعاش، وبعد أن استفاقت، أخبرها الأطباء أنها لن تتمكن من الإنجاب مجدداً، إذ تأثر بيت الرحم بهذه الحادثة نتيجة إبرة الطلق الاصطناعي التي أصرت القابلة على حقنها بها ثلاث مرات.
يرى جاسم العزاوي، نقيب الأطباء السابق، أن مثل هذه الحوادث المؤسفة تكشف جانباً خطيراً لنتيجة ممارسة القابلة غير المؤهلة، ويؤكد أن التعامل مع جسد المرأة الحامل يجب أن يخضع لضوابط صارمة، لأنه يتعلق بحياتين؛ الأم والجنين. والتدخلات الطبية التي تُمارَس من قبل قابلات غير مدربات، كإعطاء إبرة الطلق الاصطناعي أو استخدام أدوات السحب أو قص العِجان -شق جراحي لتوسيع فتحة المهبل أثناء الولادة- دون إشراف طبي مختص، تؤدي إلى كوارث قد تصل إلى الموت.
يؤكد العزاوي أن وزارة الصحة هي الجهة الوحيدة المخوّلة بتأهيل القابلات ومنحهن التراخيص القانونية التي تتيح لهن العمل، كما ويتزودن بالمعرفة الدقيقة لحدود مسؤولياتهن، إذ يقتصر دورهن على الولادات الطبيعية فقط. ويتطلب أي تعقيد تدخلاً طبياً مختصاً أو نقل الحالة إلى المستشفى فوراً. أما عن استخدام إبرة الطلق الاصطناعي، فيوضح العزاوي أنها ليست إجراءً بسيطاً يمكن استخدامه في أي حالة، بل هي مسؤولية طبية كبيرة لا يجوز للقابلة غير المؤهلة أن تتعامل معها. وهذه الإجراءات يجب أن تُترك لطبيب متخصص فقط، ذي خبرة في تقييم الحالة بشكل دقيق واتخاذ القرار المناسب.
كما يجب أن تُشرف طبيبة مختصة على تقييم حالة الولادة والتأكد من أنها ستكون ولادة طبيعية. وإذا شخصت أو توقعت الطبيبة وجود مضاعفات، مثل تشوهات لدى الجنين أو وضع غير طبيعي للولادة، كحالة رابعة، لا يجوز للقابلة التدخل.
لذا ينصح العزاوي بضرورة التحقق من أهلية القابلة وحيازتها شهادة قانونية وتدريباً معتمداً. كما أن رفع مستوى الوعي والتثقيف بالصحة الجنسية والإنجابية يمكن أن يحمي العائلات من مثل هذه المآسي، وهو ما يقع على عاتق المؤسسات الصحية.
“التابعة“
يُفاقم غياب دور المؤسسات الصحية، بما في ذلك المتعلقة بالصحة النفسية من معاناة النساء في الأرياف، إذ تنتشر ظاهرة ما يُعرف بـ”التابعة”، التي يُعتقد بأنها قوة غامضة تعيق الإنجاب وتسيطر على الأحلام، فتنتقل بعض النسوة بين الشيوخ والمشعوذين للتخلص منها.
أرهقت زمن (27 عاماً) من إحدى قرى محافظة ديالى، كوابيس طاردتها بعد إنجابها ابنها الأول. ومنذ ذلك الحين، بدأت تفقد جنينها بعد كل حمل، لتشعر بأن شيئاً خفياً يلاحقها. تحكي عن ليالٍ طويلة تستيقظ بفزع، وعرق بارد يتصبب على جبينها، بعد رؤيتها لعجوز غريبة “لابسة عباية” تقترب منها لتخنقها أو تهدد حياة جنينها. ويتبع كل مرة بعدما تصحو من هذه الكوابيس، نزيف حاد ينهي حملها في أيام قليلة، لتعود إلى دوامة الفقدان مجدداً.
تُظهر دراسة حديثة، نُشرت عام 2023 في المكتبة الوطنية الأمريكية للطب، أن الأطفال الذين تعرضت أمهاتهم لتوتر شديد أثناء الحمل قد ظهرت لديهم تغيّرات في بعض جيناتهم، قد تؤثر على صحة الدماغ والجهاز المناعي للأطفال.
زمن، مثل العديد من النساء في الريف اللاتي تعانين من التوتر المستمر بسبب معتقد “التابعة”، حيث يعشن توتراً عصبياً دائماً. تقول إحداهن، “ما أكدر أعيش يوم كامل طبيعي أضحك وأسولف لازم أنعقج”. وأضافت أخرى، “أحس جسمي مكسّر وعصبية على أتفه شي، ومرّات بس أبقى ساكتة ما احجي”.
مع كل هذا الخوف والقلق والتوتر المستمر الذي يؤثر سلباً على حالتهن النفسية والجسدية، تجد الكثيرات أنفسهن في حالة من البحث الدائم عن وسائل تخلصهن من كابوس يهدد حياتهن وأحلامهن بالأمومة.
ومع انتشار هذه المعتقدات في الأرياف -وحتى في المدن- تتزايد احتمالات استغلالهن من أشخاص يزعمون امتلاك حلول سحرية أو “علاج روحاني”، فتصبح المرأة مستعدة لدفع مبالغ طائلة في محاولة للحصول على طمأنينة مفقودة، ما يسهل على بعض المشعوذين استغلالها عبر وعود كاذبة بفك “الأعمال” و”إبعاد التابعة”.
يذكر رجل الدين محمد صنقور، على الموقع الرسمي لحوزة بنت الهدى للدراسات الإسلامية، إن الاعتقاد بوجود “تابعة” من الجن تُدعى “أم الصبيان” (اسم آخر للتابعة)، والتي تسبب إجهاض الجنين أو تؤثر على الأطفال مسببةً لهم الجنون أو الصرع عبر الظهور لهم بشكل مرعب، هو من الخرافات التي لا أصل لها في الشريعة الإسلامية.
والايمان بوجودها هو “فكرة قديمة من موروثات عرب الجاهلية”، على حدّ وصف العالم في مجال الفقه الإسلامي، حسام الدين عفانة، في فتوى له بأنها من الخرافات التي لا أساس لها. وقد أشار إلى أن الكهنة في زمن العرب كانوا يدّعون معرفة الغيب والاعتماد على “تابعة” من الجن لنقل الأخبار، وهو ما لا تعترف به الشريعة الإسلامية. ويضيف، “أن إجهاض الطفل له أسباب طبية عديدة معروفة للأطباء، تتعلق بصحة الأم والجنين”.
بحسب رجل دين من بغداد، أكد خلال حديثه أن لا وجود لما يُسمى بـ “التابعة”، وما يصيب المرأة هو نوع من المس، بحسب رأيه، وتسمية التابعة أطلقتها الأمهات والجدات من حقب سابقة.
يحكي رجل الدين عن امرأة في منتصف الثلاثينات لم تُرزق بالأطفال رغم سلامتها الطبية. نصحتها أمها وعماتها بزيارة شيخ معروف، فذهبت إليه وأخبرها بوجود “عمل” مدفون يستهدفها ويمنعها من الإنجاب. وقد استشهد بتفاصيل دقيقة عن حياتها، مما جعلها تصدق كلامه وتثق فيه. أخبرها بأن العمل مدفون في مكان معين، وطلب منها مبلغاً كبيراً لفكه. أعطاها حجاباً وأوصاها باستخدام ماء مخلوط بأعشاب، بالإضافة إلى خطوات غريبة مثل تبخير ضفدعة حتى تصبح فحمة.
“هؤلاء المحتالون يعرفون كيف يكسبون ثقة ضحاياهم، لكنهم في الحقيقة يستغلون مخاوفهن ويكذبون عليهن”، يصف كيف يتلاعبون بمشاعر النساء واحتياجهن للطمأنينة.
حتى اللحظة تستمر معاناة النساء في الريف، من نقص الخدمات والوعي المجتمعي وحتى كابوس الإيمان بـ”التابعة” الذي يعصف بأحلامهن وأجسادهن، محاطات بالشكوك والمعتقدات والواجبات التي تسيطر على حيواتهن.
أنتجت هذه المقالة ضمن سلسلة ملف “صحة المرأة“ الذي أطلقه جمّار