"لو آني ولد".. عن علوياتٍ قُيّدن بسلطة النَسَب  

زهراء خالد

05 كانون الثاني 2025

أن تكوني علوية، يعني أن تخفي أوجاع جسدك، أن تخشي ملامحه حين تنضُج، أن تسكتي عن السؤال عنه، عن أمراضه، وصحته، حتى لو كان السؤال موجهاً لامرأةٍ مثلك، إذن كيف تعيش العلويات مع أجسادهن؟

كانت م. ج. في السادسة من عمرها، حين أطال والدها النظر إليها، ابتسم ثم اتجه إليها حاملاً بيديه قطعة من القماش (الستان) الأبيض، وضعها على رأسها. “بالطفولة قلت له، آني أريد اتحجب من أصير بالسادس ثانوي”، سرعان ما انطفأت الابتسامة وتجهَّم وجه أبيها، وصرخ “ماكو طلعة من البيت إلا وانتِ لابسة الحجاب”. تغيّر مصير م.ج منذ ذلك الوقت، وبدلاً من فستانها المطرز القصير، صارت تبحث عن ملابس فضفاضة “مستورة” تغطي بها جسدها الصغير، من دون درايةٍ لماذا عليها فعل ذلك. 

ليس فقط فرض الحجاب بعمر السادسة، ولكن تفاصيل أخرى حكمتها بإحكام في كل مرحلة عمرية من حياتها كأنثى، لم تفهم سببها إلا بعد سنوات؛ نسبها “العلوي” (أي الذي يرجع أصله إلى نسب الرسول وآل بيته).  

أبعدت م.ج. عن الشارع، وعن اللعب على ناصية الطريق مع أطفال آخرين “العلوية ما يصير تلعب، لازم تحافظ على وقار النسب الي تنتمي إله”.  

اضطرت لنبذ الملابس الملونة البراقة التي تحلم بها كل طفلة، وشرائط الشعر التي تضعها قريناتها، ليتحول منظرها وهي طفلة في السادسة إلى مظهر سيدة، فقط لأنها علوية. وهكذا جردها أقرانها الأطفال أيضاً من طفولتها، حين صاروا يعاملون “العلوية” التي صارت كقديسة، لم تولد لتلعب، أو تعبث، أو تعيش ما تعيشه بنات جيلها، بل لتكبر فوراً وتكتم صوتها “العورة”. 

ولما بدأت تبلغ ويتبدّل جسدها أمعنت في طمر معالم أنوثتها بثياب فضفاضة، “وكأننا نخفي خطيئة ما”، وأن “العلوية لا يجوز لها أن تعرِّض نفسها للتحرش، وإن تعرضت، يكفي أن تتغاضى عنه”. 

“كنت أسمع عمتي، أخت أبي، وهي تردد.. احنا مبتليات بنسبنه العلويات، أوف لو تدري زينب بحالنا”. 

ورثت م.ج مظهر عمتها الكبرى ومصيرها. 

ولا تستبعد أن ترث ابنتها لو تزوجت المصير ذاته، فالحياة التي تعيشها العلوية منذ الولادة حتى الممات هي نسخة مكررة بين جميع العلويات، “عمتي كبرت وما تزوجت، لأن كل الي كانوا يتقدمون الها كانوا مو سادة، عوام، وجدي وابوية وأعمامي رفضوا، فضلت عانس”. إذ أن زواج العلوية من رجلٍ ذي أصول غير علوية، يعد انتقاصاً منها.  

كيف يصوغ النسب العلوي مسار حياة الأنثى العلوية، من الطفولة وحتى الشيخوخة؟ 

جسد مسكوت عنه 

حينما بلغت م.ج. العاشرة أو الحادية عشرة من العمر لاحظت بقعاً بنية غامقة على سروالها الداخلي. لم تفهم ما الذي يحصل معها.  

وعلى مدار يومين واجهت مغصاً خفيفاً، دون أن تنقطع البقع عن ملابسها الداخلية. لم تكن تجرؤ أن تسأل أمها عمّا يحصل معها، فكل شيء يخص الجسد كان محظوراً في أحاديث الأسرة العلوية، حتى بين البنت وأمها. 

“ما اتذكر أمي جربت تهيئني نفسياً أنه اني دا اكبر ورح تصادفني أن تنزل الدورة شهرية، كنت بالسادس ابتدائي، حتى بدرس الأسرية ما كنا ماخذين موضوع الدورة؛ لأن كنا بعدنا بالابتدائي”.  

خوفٌ وقلق استمرا لثلاثة أيام دفعاها للذهاب إلى أمها، التي سرعان ما أحضرت كيس فوط صحية، وقالت لها محذرة “لا تكولين شي كدام أحد، روحي للحمام خلي بمكان اللباس، ولبسي الباسج، ووره خمس أيام بطلي تستخدميهن”. 

ومع كل تحول كان يشهده جسدها، كانت م.ج. تشعر أنها عاجزة عن التعامل معه مع غيابٍ تام لإرشاد الأم. 

“من صدري بلش يكبر، أمي ولا مرة قالت لي أشتريلج حمالة صدرية، ولا آني أعرف شنو أسوي، كنت أنحرج من أمشي”. 

الحل الوحيد الذي وجدته هو احتضان الوسادة في الوقت الذي يتواجد أبوها وأخوتها في المنزل، تحتضن وسادتها وتمضي للقيام بأعمال المنزل أو تلبية مطالبهم، “لحد ما آني قلت لأمي اشتريلي ستيان، واشترتلي”. 

“عود من تتزوجين” 

أشياء كثيرة تؤجل في حياة العلوية إلى الزواج؛ هذا إن وجدت زوجاً، فالكثيرات منّا لا يتزوجن إذا لم يحظين برجل علويّ (سيّد) هو الآخر. 

كانت م.ج. في مراهقتها مادة دسمة لتنمر الجدات، والقريبات من نساء عائلتها، وأقاربها، فهي “أم شوارب” كما يصفونها “الله ما مبارك بيج لأن مشعرة”، تمنت كثيراً لو تقول لهم “حفولي يمعودين إذا ربكم ما بارك بيه أنتو حلوها”. 

كان الشعر الغزير يغطي أنحاء جسد م.ج. ولكن والدتها منعتها من إزالته رغم إلحاحها الشديد، إذ بحسب رأيٍّ متوارث لا يجوز للفتاة إزالة شعر جسدها أو وجهها في سنّ المراهقة إلا إذا تزوجت، ويشيعُ هذا الرأي في أغلب البيئات الدينية المائلة للتشدد، فتمنع الفتاة عن إزالة شعر جسدها أو وجهها لحين الزواج، بينما يردد أفراد البيئة نفسها مقولة “الله يبارك بالمرأة الملساء”، لكنهم يحرّمون إزالة الشعر عن المشعرة من النساء، أو يُعدونه مكروهاً شرعاً. 

“كان لازم أنتظر لحد ما أدخل الجامعة، وبالجامعة حفيت بس شعر شواربي، وتركت حواجبي ووجهي، لأن حسب ما قالوا النا بالدين مكروه المرأة تحف إلا لزوجها”. 

وكلاهما، الزواج والجامعة، غير متاحين للكثيرات من العلويات. 

ز.م. بالكاد استطاعت إنهاء دراستها الجامعية بعد إصرار، واضطرت لدخول قسم دراسي ذي طابع ديني لتستطيع إقناع رجال الأسرة بالدراسة. درست ز.م في الشريعة والفقه الاسلامي بحسب توجيه اسرتها، ورغبتهم، لكنهم لم يتحكموا بمجال دراستها وحسب، بل حتى في مصير زواجها. 

فبعد أن تقدم زميلها في الجامعة لخطبتها، رفضته الأسرة لأنه لا ينتمي للنسب العلوي، رغم أنها كانت تجد فيه الشخص المناسب، إلا أنها تحفظت عن إبداء رأيها خوفاً من أن تطالها اتهامات لا طائل لها من رجال العائلة، واكتفت بترك اتخاذ القرار لأشقائها الرجال، حتى أجبرت على الزواج من آخر ينتمي للنسب العلوي. 

لو جنت ولد 

“لو جنت ولد، كان هناك مبرر لشاربي، وكانت النساء قالت لي لايق عليج.. مو ظلوا يتنمرن”. رددت م.ج. ذلك منذ طفولتها، حيث تعتقد أن حياة الذكور في عائلتها أسهل من حياة الإناث بكثير، على كل المستويات.  

أما ز.م. التي يرتبط اسمها بنسب علوي فتقول بأنها لمدة تتجاوز العقدين من عمرها كانت أسيرة المقارنات المجحفة، التي يقوم بها مجتمع أبوي يدفع أنثى ما لتكون شيئاً آخر لا ينسجم مع سجيّتها.  

طيلة هذه الأعوام تمنت أن تكون ذكراً وهي تشاهد المميزات الممنوحة لرجال العائلة، استنادا إلى الجندر الذي ينتمون إليه لا اعتماداً على الأحقية. هكذا وعلى الرغم من كونها البنت الكبرى في الأسرة، طالما تسلط شقيقها الأصغر عليها، وتمكن بموجب السلطات الأبوية الممنوحة له أن يمارس غطرسته على حياتها. لسنوات اضطرت للتعايش مع فكرة أن يكون هذا الطفل الصغير كظلها؛ يرافقها في كل المشاوير البعيدة والقريبة وأن يمنحها إذن ارتداء ثياب معينة، ولم تكن قادرة على قول “لا”  لرأي (السيد) الذي أشرفت على تربيته يوما ما،  حتى أنه سيطر على علاقاتها وصداقاتها التي تكوّنها.  

ولا ينتهي التسلط على المرأة العلوية ضمن أسرتها فقط، وإنما يطال صداقتها أيضاً، فهي لا تستطيع أن تصادق أياً كانت؛ اختيار الأصدقاء يتوجب أن يليق بتقاليد الأسرة، كي تحتاط دائماً بشبيهاتها اللواتي يحملن أفكاراً تليق بقدرها كعلوية. 

م.ج. كانت تُمنع دائماً من تكوين صداقات مع فتيات سافرات أو محجبات لأسباب مختلفة. 

“مرة رحت لبيت بنية وياية بالمدرسة آني وأمي، وكان بوقتها شهر محرم، والبنية كانت شيعية بس ما كانوا معلكين علم لأبي عبد الله في بيتهم، أمي انتقدتهم، ومن طلعنا من بيتهم وصتني، لا تغمجين وية هاي البنية، هاي شلون شيعية وما معلكة علم أبي عبد الله بمحرم!”.  

للرجل العلوي مساحة أكبر من الحرية في اختيار أصدقائه، هذا إن كانت عائلته تعرف شيئاً عنهم، وهو حرٌّ أكثر في الأماكن التي يتردد عليها، على عكس النساء العلويات. 

تعيش عمة م.ج.في بيت أخيها الكبير حالياً، لتربي أولاده مع زوجته، وتعدّ الأطعمة لهم، متنفسها الوحيد جلسات النميمة التي تعقدها النساء، وزيارة المساجد، ومراقد الأئمة والأولياء، كانت تتمنى أن تكون رجلاً حقاً، ولا بأس لو كانت في سلالة علوية، فالرجل إذا كان علوياً يستطيع الزواج بامرأة غير علوية. 

بينما قررت ز.م. أن تغيّر مصيرها تماماً، بعد أن خضعت لتجربة زواجٍ فاشلة، ناتجة عن إجبارها على القبول بالارتباط برجل علويّ النسب، اضطرت للانفصال عنه في ما بعد “كان شخصاً سيئاً، لا يختلف كثيراً عن أخواني، وأهلي، كان مجحفاً بحقي، ومستهزئاً بكل شيء أقوم به”. 

بعد الخامسة والثلاثين من عمرها فكرت ز.م. بتغيير حياتها بالكامل، خاصة بعد الطلاق، خلعت الحجاب، وراحت تعمل في مجال الكتابة الذي لطالما مثل لها كل شيء، اليوم وفي الـ45 من عمرها، تجد ز.م. أن ما هي عليه الآن هو ما كانت تطمح له منذ سنوات. 

  • هذه المادة من ضمن ملّف أعدّه جُمّار عن صحة المرأة في العراق. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

كانت م. ج. في السادسة من عمرها، حين أطال والدها النظر إليها، ابتسم ثم اتجه إليها حاملاً بيديه قطعة من القماش (الستان) الأبيض، وضعها على رأسها. “بالطفولة قلت له، آني أريد اتحجب من أصير بالسادس ثانوي”، سرعان ما انطفأت الابتسامة وتجهَّم وجه أبيها، وصرخ “ماكو طلعة من البيت إلا وانتِ لابسة الحجاب”. تغيّر مصير م.ج منذ ذلك الوقت، وبدلاً من فستانها المطرز القصير، صارت تبحث عن ملابس فضفاضة “مستورة” تغطي بها جسدها الصغير، من دون درايةٍ لماذا عليها فعل ذلك. 

ليس فقط فرض الحجاب بعمر السادسة، ولكن تفاصيل أخرى حكمتها بإحكام في كل مرحلة عمرية من حياتها كأنثى، لم تفهم سببها إلا بعد سنوات؛ نسبها “العلوي” (أي الذي يرجع أصله إلى نسب الرسول وآل بيته).  

أبعدت م.ج. عن الشارع، وعن اللعب على ناصية الطريق مع أطفال آخرين “العلوية ما يصير تلعب، لازم تحافظ على وقار النسب الي تنتمي إله”.  

اضطرت لنبذ الملابس الملونة البراقة التي تحلم بها كل طفلة، وشرائط الشعر التي تضعها قريناتها، ليتحول منظرها وهي طفلة في السادسة إلى مظهر سيدة، فقط لأنها علوية. وهكذا جردها أقرانها الأطفال أيضاً من طفولتها، حين صاروا يعاملون “العلوية” التي صارت كقديسة، لم تولد لتلعب، أو تعبث، أو تعيش ما تعيشه بنات جيلها، بل لتكبر فوراً وتكتم صوتها “العورة”. 

ولما بدأت تبلغ ويتبدّل جسدها أمعنت في طمر معالم أنوثتها بثياب فضفاضة، “وكأننا نخفي خطيئة ما”، وأن “العلوية لا يجوز لها أن تعرِّض نفسها للتحرش، وإن تعرضت، يكفي أن تتغاضى عنه”. 

“كنت أسمع عمتي، أخت أبي، وهي تردد.. احنا مبتليات بنسبنه العلويات، أوف لو تدري زينب بحالنا”. 

ورثت م.ج مظهر عمتها الكبرى ومصيرها. 

ولا تستبعد أن ترث ابنتها لو تزوجت المصير ذاته، فالحياة التي تعيشها العلوية منذ الولادة حتى الممات هي نسخة مكررة بين جميع العلويات، “عمتي كبرت وما تزوجت، لأن كل الي كانوا يتقدمون الها كانوا مو سادة، عوام، وجدي وابوية وأعمامي رفضوا، فضلت عانس”. إذ أن زواج العلوية من رجلٍ ذي أصول غير علوية، يعد انتقاصاً منها.  

كيف يصوغ النسب العلوي مسار حياة الأنثى العلوية، من الطفولة وحتى الشيخوخة؟ 

جسد مسكوت عنه 

حينما بلغت م.ج. العاشرة أو الحادية عشرة من العمر لاحظت بقعاً بنية غامقة على سروالها الداخلي. لم تفهم ما الذي يحصل معها.  

وعلى مدار يومين واجهت مغصاً خفيفاً، دون أن تنقطع البقع عن ملابسها الداخلية. لم تكن تجرؤ أن تسأل أمها عمّا يحصل معها، فكل شيء يخص الجسد كان محظوراً في أحاديث الأسرة العلوية، حتى بين البنت وأمها. 

“ما اتذكر أمي جربت تهيئني نفسياً أنه اني دا اكبر ورح تصادفني أن تنزل الدورة شهرية، كنت بالسادس ابتدائي، حتى بدرس الأسرية ما كنا ماخذين موضوع الدورة؛ لأن كنا بعدنا بالابتدائي”.  

خوفٌ وقلق استمرا لثلاثة أيام دفعاها للذهاب إلى أمها، التي سرعان ما أحضرت كيس فوط صحية، وقالت لها محذرة “لا تكولين شي كدام أحد، روحي للحمام خلي بمكان اللباس، ولبسي الباسج، ووره خمس أيام بطلي تستخدميهن”. 

ومع كل تحول كان يشهده جسدها، كانت م.ج. تشعر أنها عاجزة عن التعامل معه مع غيابٍ تام لإرشاد الأم. 

“من صدري بلش يكبر، أمي ولا مرة قالت لي أشتريلج حمالة صدرية، ولا آني أعرف شنو أسوي، كنت أنحرج من أمشي”. 

الحل الوحيد الذي وجدته هو احتضان الوسادة في الوقت الذي يتواجد أبوها وأخوتها في المنزل، تحتضن وسادتها وتمضي للقيام بأعمال المنزل أو تلبية مطالبهم، “لحد ما آني قلت لأمي اشتريلي ستيان، واشترتلي”. 

“عود من تتزوجين” 

أشياء كثيرة تؤجل في حياة العلوية إلى الزواج؛ هذا إن وجدت زوجاً، فالكثيرات منّا لا يتزوجن إذا لم يحظين برجل علويّ (سيّد) هو الآخر. 

كانت م.ج. في مراهقتها مادة دسمة لتنمر الجدات، والقريبات من نساء عائلتها، وأقاربها، فهي “أم شوارب” كما يصفونها “الله ما مبارك بيج لأن مشعرة”، تمنت كثيراً لو تقول لهم “حفولي يمعودين إذا ربكم ما بارك بيه أنتو حلوها”. 

كان الشعر الغزير يغطي أنحاء جسد م.ج. ولكن والدتها منعتها من إزالته رغم إلحاحها الشديد، إذ بحسب رأيٍّ متوارث لا يجوز للفتاة إزالة شعر جسدها أو وجهها في سنّ المراهقة إلا إذا تزوجت، ويشيعُ هذا الرأي في أغلب البيئات الدينية المائلة للتشدد، فتمنع الفتاة عن إزالة شعر جسدها أو وجهها لحين الزواج، بينما يردد أفراد البيئة نفسها مقولة “الله يبارك بالمرأة الملساء”، لكنهم يحرّمون إزالة الشعر عن المشعرة من النساء، أو يُعدونه مكروهاً شرعاً. 

“كان لازم أنتظر لحد ما أدخل الجامعة، وبالجامعة حفيت بس شعر شواربي، وتركت حواجبي ووجهي، لأن حسب ما قالوا النا بالدين مكروه المرأة تحف إلا لزوجها”. 

وكلاهما، الزواج والجامعة، غير متاحين للكثيرات من العلويات. 

ز.م. بالكاد استطاعت إنهاء دراستها الجامعية بعد إصرار، واضطرت لدخول قسم دراسي ذي طابع ديني لتستطيع إقناع رجال الأسرة بالدراسة. درست ز.م في الشريعة والفقه الاسلامي بحسب توجيه اسرتها، ورغبتهم، لكنهم لم يتحكموا بمجال دراستها وحسب، بل حتى في مصير زواجها. 

فبعد أن تقدم زميلها في الجامعة لخطبتها، رفضته الأسرة لأنه لا ينتمي للنسب العلوي، رغم أنها كانت تجد فيه الشخص المناسب، إلا أنها تحفظت عن إبداء رأيها خوفاً من أن تطالها اتهامات لا طائل لها من رجال العائلة، واكتفت بترك اتخاذ القرار لأشقائها الرجال، حتى أجبرت على الزواج من آخر ينتمي للنسب العلوي. 

لو جنت ولد 

“لو جنت ولد، كان هناك مبرر لشاربي، وكانت النساء قالت لي لايق عليج.. مو ظلوا يتنمرن”. رددت م.ج. ذلك منذ طفولتها، حيث تعتقد أن حياة الذكور في عائلتها أسهل من حياة الإناث بكثير، على كل المستويات.  

أما ز.م. التي يرتبط اسمها بنسب علوي فتقول بأنها لمدة تتجاوز العقدين من عمرها كانت أسيرة المقارنات المجحفة، التي يقوم بها مجتمع أبوي يدفع أنثى ما لتكون شيئاً آخر لا ينسجم مع سجيّتها.  

طيلة هذه الأعوام تمنت أن تكون ذكراً وهي تشاهد المميزات الممنوحة لرجال العائلة، استنادا إلى الجندر الذي ينتمون إليه لا اعتماداً على الأحقية. هكذا وعلى الرغم من كونها البنت الكبرى في الأسرة، طالما تسلط شقيقها الأصغر عليها، وتمكن بموجب السلطات الأبوية الممنوحة له أن يمارس غطرسته على حياتها. لسنوات اضطرت للتعايش مع فكرة أن يكون هذا الطفل الصغير كظلها؛ يرافقها في كل المشاوير البعيدة والقريبة وأن يمنحها إذن ارتداء ثياب معينة، ولم تكن قادرة على قول “لا”  لرأي (السيد) الذي أشرفت على تربيته يوما ما،  حتى أنه سيطر على علاقاتها وصداقاتها التي تكوّنها.  

ولا ينتهي التسلط على المرأة العلوية ضمن أسرتها فقط، وإنما يطال صداقتها أيضاً، فهي لا تستطيع أن تصادق أياً كانت؛ اختيار الأصدقاء يتوجب أن يليق بتقاليد الأسرة، كي تحتاط دائماً بشبيهاتها اللواتي يحملن أفكاراً تليق بقدرها كعلوية. 

م.ج. كانت تُمنع دائماً من تكوين صداقات مع فتيات سافرات أو محجبات لأسباب مختلفة. 

“مرة رحت لبيت بنية وياية بالمدرسة آني وأمي، وكان بوقتها شهر محرم، والبنية كانت شيعية بس ما كانوا معلكين علم لأبي عبد الله في بيتهم، أمي انتقدتهم، ومن طلعنا من بيتهم وصتني، لا تغمجين وية هاي البنية، هاي شلون شيعية وما معلكة علم أبي عبد الله بمحرم!”.  

للرجل العلوي مساحة أكبر من الحرية في اختيار أصدقائه، هذا إن كانت عائلته تعرف شيئاً عنهم، وهو حرٌّ أكثر في الأماكن التي يتردد عليها، على عكس النساء العلويات. 

تعيش عمة م.ج.في بيت أخيها الكبير حالياً، لتربي أولاده مع زوجته، وتعدّ الأطعمة لهم، متنفسها الوحيد جلسات النميمة التي تعقدها النساء، وزيارة المساجد، ومراقد الأئمة والأولياء، كانت تتمنى أن تكون رجلاً حقاً، ولا بأس لو كانت في سلالة علوية، فالرجل إذا كان علوياً يستطيع الزواج بامرأة غير علوية. 

بينما قررت ز.م. أن تغيّر مصيرها تماماً، بعد أن خضعت لتجربة زواجٍ فاشلة، ناتجة عن إجبارها على القبول بالارتباط برجل علويّ النسب، اضطرت للانفصال عنه في ما بعد “كان شخصاً سيئاً، لا يختلف كثيراً عن أخواني، وأهلي، كان مجحفاً بحقي، ومستهزئاً بكل شيء أقوم به”. 

بعد الخامسة والثلاثين من عمرها فكرت ز.م. بتغيير حياتها بالكامل، خاصة بعد الطلاق، خلعت الحجاب، وراحت تعمل في مجال الكتابة الذي لطالما مثل لها كل شيء، اليوم وفي الـ45 من عمرها، تجد ز.م. أن ما هي عليه الآن هو ما كانت تطمح له منذ سنوات. 

  • هذه المادة من ضمن ملّف أعدّه جُمّار عن صحة المرأة في العراق.