وفاة عند الحاجة: كيف تُستغَل السيدة الزهراء لقمع الحرّيات؟
26 كانون الأول 2024
القائمون على تلك المواكب ومن خلفهم الفصائل التي تدعمهم، يحوّلون بقدرة قادر وفاة السيدة فاطمة الزهراء على حسب مواعيد الحفلات الغنائية في بغداد أو البصرة، وتصبح بذلك المواعيد المقدسة بحسب الحاجة وعند الطلب!
في كل عام، بمناسبتي رأس السنة وعيد الحب، تختلط أصوات المفرقعات النارية للمحتفلين، بأصوات سماعات مواكب المُعزين بوفاة السيدة فاطمة الزهراء، في شارع الروان، بمحافظة النجف.
يصف بعضهم تلك الظاهرة بأنها من مظاهر التعايش السلمي والتسامح، إلا أن الأمر عكس ذلك، فهي مضايقات مقصودة، وتعدٍ على مساحة الآخرين. ففي الوقت الذي تمتلئ النجف بالمساجد والمؤسسات والأماكن الدينية، لا يجد المُعزّون بوفاة السيدة فاطمة الزهراء مكاناً لنصب مواكبهم سوى في شارع الروان، وهي حالة لا تحدث إلا مرتين فقط طوال العام، في رأس السنة وعيد الحب تحديداً، في مسعى للحدّ من حرية المحتفلين الذين تقتصر احتفالاتهم على التبضع من هذا الشارع التجاري، وإطلاق المفرقعات النارية والتجول محتفلين بالسيارات.
ولكن لهيئات المواكب والمتشددين رأياً آخر، إذ يتصورون أن هذه الاحتفالات هي مظاهر أجنبية دخيلة على المجتمع النجفي ويجب ردعها بالقوة إذا لزم الأمر، بينما لا يرون بشعائر لطم الصدور، واللطم بالزنجيل، والتطبير وغيرها، أساليبَ مستوردة من بلاد فارس وتركيا وغيرها؛ بالتالي فهم يأخذون ما يعجبهم من التقاليد والممارسات الأجنبية، ويشيطنون ما لا يعجبهم.
لا مشكلة لدى هيئات المواكب والجماعات المتشددة في شج رؤوس الأطفال سنوياً أثناء شعيرة التطبير، لكن الدنيا تقوم ولا تقعد عندما تخرج الأسر للتبضع، أو الاحتفال برأس السنة -على الرغم من أنه احتفال عالمي أُفرِغ من أبعاده الدينية، وبات تقليداً عالمياً بهيجاً تحتفل به الشعوب.
صراع الموامنة والأفندية في النجف
للجماعات الأصولية المتشددة صوتٌ مسموعٌ، وسطوة كبيرة على النجف منذ زمن بعيد.
يروي زهير الجزائري في كتابه “النجف الذاكرة والمدينة” الذي أرّخ فيه للحياة العامة والصراعات الاجتماعية والثقافية والسياسية في القرن العشرين، كيف أنّ “الموامنة” -كما كان العامة يسمونهم في إشارة لرجال الدين لا سيما خطباء المنابر منهم- كانوا في صراع محتدم مع طبقة الأفندية التي كانت ترتدي زياً مدنياً ويحرص أفرادها على تلميع أحذيتهم واقتناء الجرائد، وهم شيوعيون أو قوميون أو أصحاب فكر تقدمي، وكثيراً ما كان ذلك يزعج الموامنة.
لكن الصراع غير متوازن أو متكافئ في النجف، فالمتشددون كانوا وما يزالون لهم اليد العليا، بحكم استعمالهم للمقدس، والقدرة على أدلجة العامة، إضافة لامتلاكهم بلطجية وأتباعاً.
من الطرائف التي يرويها الجزائري، أن المتشددين كانوا ينظرون بريبة وامتعاض للمدارس الحكومية التقليدية عندما دخلت النجف للمرة الأولى، إذ كانوا يرونها كمنافس للمدارس الدينية. وليزداد الطين بلة، أمرت الدولة طلبة المدارس الحكومية بارتداء الزي الرسمي (بنطال وقميص)، فبدأ طلاب المدارس الحكومية بارتداء البناطيل بعدما كانوا يرتدون الدشاديش، فأثار هذا حفيظة “الموامنة”، مما دفعهم للاستعانة بأتباعهم من البلطجية وأبناء العشائر، وصاروا ينتظرون الطلبة عند أبواب المدارس لينهالوا عليهم بالشتائم والكلمات النابية وحتى الحجارة، فعمد الطلبة لحلٍ يرضي الطرفين، الدولة والموامنة، فلبسوا الدشاديش والبناطيل معاً، وقاموا بإدخال الطرف السفلي من الدشداشة في البنطال، لتبدو كقميص رسمي، وعند انتهاء الدوام المدرسي، يخرجون طرف الدشداشة من البنطال لتصبح دشداشة كاملة، مما جنبهم هجمات الموامنة وأتباعهم.
فضلاً عن ذلك، عارض المتشددون مدارس الفتيات، مما دفع الجواهري لمهاجمتهم بشدة في قصيدة “الرجعيون”:
غداً يُمنع الفتيان أن يتعلموا
كما اليوم ظلماً تُمنع الفتيات
وما الدين إلا آلة يشهرونها
إلى غرضٍ يقضونه وأداة
كان الموامنة المتشددون قد عيّنوا أنفسهم حراس فضيلة وأخلاق من تلقاء أنفسهم، مستخدمين بذلك مفهوم النهي عن المنكر الذي يعد أكبر ذريعة يستعملونها في انتهاك حريات الآخرين ومساحاتهم الشخصية.
كان هؤلاء، بحسب زهير الجزائري، يتجوّلون داخل الصحن العلوي وعيونهم تراقب الداخلين والخارجين، وتحديداً النساء، بحثاً عن صغائر الأشياء، مثل خصلة شعر برزت سهواً أو خاتم ذهبي خرج من كم العباءة، أو حذاء طفل انقلب مصادفة فصارت قاعدته باتجاه الحضرة، عندئذ ترتفع أصواتهم العالية بالصياح والزجر. وبطبيعة الحال لم يكلفهم أحد بهذه الوظيفة، إنما أخذوا على عاتقهم مضايقة الجميع بداعي الحفاظ على قدسية المدينة.
هيئات المواكب والفصائل المسلحة
هيئات المواكب هي تنظيمات غير رسمية أشبه بالنقابات، يرتبط بعضها بالعتبتين الحسينية والعباسية في كربلاء، وبعضها يرتبط بالحكومات المحلية ومكتب المحافظ، وبعضها مستقل، لكن بصورة عامة هي تشترك في وظيفة أساسية تتلخص بتنظيم عمل المواكب أثناء الشعائر والزيارات الموسمية مثل زيارتي الأربعينية ووفاة النبي محمد.
في السنوات القليلة الماضية، خرجت هيئات المواكب عن وظيفتها الأساسية وصارت أشبه بهيئات أمر بالمعروف، حيث بدأ الأمر بفرض تعليمات داخل نطاق الشعائر والعزاء، وكانت عبارة عن اجتهادات شخصية تختلف من منطقة لأخرى، مثل حظر لبس “البرمودا” على الشباب أثناء حضور الشعائر، ولو كان المكان في الشارع.
كذلك نُصحت النساء بالتزام الحشمة وعدم التبرج، ومراقبة الفصل بين الجنسين أثناء العزاء. وازداد حماسهم واتسع نشاطهم إلى خارج نطاق العزاء، حيث بدأوا بمضايقة الحفلات واحتفالات الأعياد، والمشاركة في النشاطات السياسية والانتخابات.
النائب هادي السلامي، المستقل، كان قد حصل على مناصرة وتأييد أصحاب المواكب في النجف في الانتخابات البرلمانية التي جرت عام 2021، وأول تصريح أدلى به بعد فوزه، كان التحريض على إغلاق قاعات الأعراس، ومنع الـ DJ في النجف، حفاظاً على قدسية المدينة، كما يزعم.
لم يدعم أصحاب المواكب السلامي فحسب، بل دعموا العديد من المرشحين المستقلين على شاكلته، أو المنتمين للتيار الشيعي المتشدد، سواء كانوا “إطاريين” من الإطار التنسيقي، أو من حزب “إشراقة كانون”.
ما سر استقواء هيئات المواكب؟
إضافة إلى السياسيين، لهيئات المواكب صلات وثيقة ببعض الفصائل المسلحة المقربة من إيران، حيث بدأت العلاقة بين الطرفين أيام الحرب على “داعش”، عندما كانت المواكب تقوم بدور لوجستي كبير بدعم مقاتلي الحشد الشعبي، عبر مدّ مقاتليهم على الجبهات بالتبرّعات المالية أو المواد غذائية.
واستمرت هذه العلاقة لما بعد الحرب، لتصبح علاقة تخادمية، إذ تستثمر الفصائل المسلحة المكانة الدينية والاجتماعية والغطاء الديني لهيئات المواكب، لتوجههم نحو إفشال بعض الحفلات والمناسبات.
في 17 كانون الأول 2021، شهدت مدينة “السندباد لاند” في بغداد تظاهرة كبيرة نظمها عدد من أصحاب المواكب، طالبوا فيها بمنع ما وصفوه بـ”حفلات المجون والفساد الأخلاقي”، وأقاموا صلاة جماعية عند أبواب المدينة، وعبّروا آنذاك عن استنكارهم الشديد لما اعتبروه انتهاكاً لحرمة الإسلام وأيام استشهاد السيدة فاطمة الزهراء.
دفع ذلك مجلس إدارة السندباد لاند إلى إصدار بيان أعلن فيه تأجيل جميع الحفلات الغنائية التي تتزامن مع المناسبات الدينية، وأكد العمل “على ترتيب جدول الحفلات بما يراعي إحياء المناسبات الدينية ولا يتعارض معها”.
الحال هذه، إن هذا النوع من التظاهرات ليس مسؤولاً عنه أصحاب المواكب فقط. فعلى الرغم من أن الهيئات تضم أشخاصاً متشددين، إلا أن هؤلاء لا يجرؤون على اتخاذ قرارات كبيرة وخطوات جريئة كهذه، من دون حماية ودعم الفصائل المسلحة المقربة من إيران.
ومن الملاحظ أن المتظاهرين يرتدون الزي الذي اعتاد أنصار الفصائل المسلحة التظاهر به، وهو القبعة والكمامة وحمل العصي (التوثية). وللتمييز بين تظاهرات هيئات المواكب منفردة، والتظاهرات التي تكون بأوامر ودعم الفصائل، سنأخذ المثالين التاليين، فنصب مواكب العزاء في شارع الروان في النجف، وإقامة المسيرات المناهضة لعيدي الحب ورأس السنة، ومثلها نصب المواكب في شارع السناتر في كربلاء، يمكن القول إنها بتخطيط أصحاب المواكب، دون تدخل من الفصائل؛ ذلك أنهم يرون أن مدينة النجف وكربلاء هما عقر دارهم ومساحتهم الخاصة، وإن أي فعاليات ذات جذور غربية، هي نوع من تهديد القيم التي ممكن أن تهدد سلطتهم مستقبلاً.
أما احتجاجات أخرى مثل محاولة اقتحام فندق كراند ميلينيوم في السادس من تشرين الثاني 2024، وسط البصرة، احتجاجاً على استضافته حفلاً بعيد الهالوين، ومطالبة ممثلي المواكب الحسينية بغلق الفندق واتخاذ إجراءات صارمة لمنع حفلات الغناء والرقص، حفاظاً على “قدسية المدينة”، فهذا النوع من الاحتجاجات يحدث بتخطيط وأوامر بعض الفصائل المسلحة، حيث اتخذت من هيئات المواكب والعشائر مجرد غطاء.
أما المشاركون، فمعظمهم عناصر في تلك الفصائل، يرتدون الزي المدني، وعند مقارنة ملابس المتظاهرين بملابس متظاهري الفصائل المسلحة في مناسبات سابقة، مثل تلك التي استهدفت القنوات الفضائية، يتبين بوضوح أن الملابس ذاتها، بنطال وتيشيرت أسود وقبعة سوداء وكمامة.
العلاقة التي تجمع بين الفصائل وبعض العشائر هي علاقة تخادمية أيضاً، فالفصائل تستفيد من العشائر في الانتخابات، وفي المواقف السياسية والإدانات والاستنكارات عند الحاجة، وبالمقابل، توظف أبناءهم في صفوفها كمقاتلين، وتغدق على شيوخهم بالمال والجاه، واستغلال العشائر في تنفيذ المنع والتهجم على الحفلات، وتذكر هذه الأفعال بما رواه زهير الجزائري في كتابه “النجف الذاكرة والمدينة”، عندما كان رجال الدين يستغلون أبناء العشائر في مهاجمة وسب طلبة المدارس، الذين يرتدون الزي الأفندي في المدارس الرسمية في النجف.
بالنسبة للمتشددين، فمن المهم لهم أن يلصقوا صفة القدسية في كل مدينة يحاولون السيطرة عليها، فعلى غرار النجف وكربلاء، حاولوا إلصاق القدسية بمدينة بابل بتحويل اسمها إلى مدينة الإمام الحسن عام 2016، لكن موجة سخرية واسعة واستنكار حالت دون تمرير ذلك المخطط.
كذلك حاولوا إلصاق القدسية ببغداد باعتبارها مدينة الإمام الكاظم، لكن مساعيهم فشلت لغاية الآن على الأقل.
والأمر نفسه ينطبق على البصرة، على الرغم من أنها لا تضم مرقداً مقدساً، والناس فيها “كيّافة” محبين للحياة والطرب، ولديهم حتى رقصاتهم الشعبية الخاصة؛ وبدلاً من ذلك، سمّى الأصوليون البصرة بمدينة الشهداء، كنوع من الاحتفاء بالموت وتقديسه، وكأن المدينة يجب أن تموت مرتين؛ موت شبابها في الحروب، ثم استغلال موتهم لمسخ مدينتهم.
وإذا كانت هيئات المواكب تمنع مظاهر الاحتفال لأسباب دينية متشددة محضة، فما هي مصلحة الفصائل بمنع مظاهر الاحتفال؟ تتخذ الفصائل من تظاهرات المنع وسيلة لابتزاز متعهدي الحفلات لجباية الأموال منهم كإتاوات، كذلك أن تلك الفصائل المقربة من إيران هي أكثر الفصائل راديكالية وولاء للولي الفقيه، وبالتالي لديهم أيديولوجياتهم الخاصة بمنع مظاهر الاحتفال والاختلاط والغناء.
وفاة فاطمة الزهراء حسب الحاجة
السيدة فاطمة الزهراء، التي تؤخذ حجّة لمنع الاحتفال، توفيت في السنة 11 هجرية، فقد روي أنّها عاشت بعد أبيها ستة أشهر. وقيل 95 يوماً. وقيل 75 يوماً، أو أقلّ من ذلك. وبالتالي هناك ثلاث روايات لوفاتها، في 8 ربيع الثاني، و13 جمادي الأولى، وجمادي الثانية.
ما يزيد التعقيد في تواريخ الوفاة هذه، هو أن التاريخ الهجري غير ثابت كما الميلادي، حيث تتقدم السنة الهجرية 11 يوماً كل عام، ولأن عامة الناس لا يستعملون التقويم الهجري لتعقيده وعدم ثباته واعتمادهم على التقويم الميلادي، اُستغِل هذا من قبل هيئات المواكب لتوفير غطاء شرعي ديني لمنع الاحتفالات.
في كل تظاهرة منع أو عند نصب المواكب في عيدي الحب ورأس السنة في شارعي الروان والسناتر في النجف وكربلاء، تكون تلك العزاءات لاستذكار وفاة السيدة فاطمة الزهراء! فعلى الرغم من أن السنة الهجرية تتقدم كل عام 11 يوماً ولا يمكن لمناسبة وفق التقويم الهجري أن تتزامن بثبات مع التقويم الميلادي، إلا أن وفاة السيدة فاطمة الزهراء باتت تتزامن كل عام مع عيدي الحب ورأس السنة!
القائمون على تلك المواكب ومن خلفهم الفصائل التي تدعمهم، يحوّلون بقدرة قادر وفاة السيدة فاطمة الزهراء على حسب مواعيد الحفلات الغنائية في بغداد أو البصرة، وتصبح بذلك المواعيد المقدسة بحسب الحاجة وعند الطلب!
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
في كل عام، بمناسبتي رأس السنة وعيد الحب، تختلط أصوات المفرقعات النارية للمحتفلين، بأصوات سماعات مواكب المُعزين بوفاة السيدة فاطمة الزهراء، في شارع الروان، بمحافظة النجف.
يصف بعضهم تلك الظاهرة بأنها من مظاهر التعايش السلمي والتسامح، إلا أن الأمر عكس ذلك، فهي مضايقات مقصودة، وتعدٍ على مساحة الآخرين. ففي الوقت الذي تمتلئ النجف بالمساجد والمؤسسات والأماكن الدينية، لا يجد المُعزّون بوفاة السيدة فاطمة الزهراء مكاناً لنصب مواكبهم سوى في شارع الروان، وهي حالة لا تحدث إلا مرتين فقط طوال العام، في رأس السنة وعيد الحب تحديداً، في مسعى للحدّ من حرية المحتفلين الذين تقتصر احتفالاتهم على التبضع من هذا الشارع التجاري، وإطلاق المفرقعات النارية والتجول محتفلين بالسيارات.
ولكن لهيئات المواكب والمتشددين رأياً آخر، إذ يتصورون أن هذه الاحتفالات هي مظاهر أجنبية دخيلة على المجتمع النجفي ويجب ردعها بالقوة إذا لزم الأمر، بينما لا يرون بشعائر لطم الصدور، واللطم بالزنجيل، والتطبير وغيرها، أساليبَ مستوردة من بلاد فارس وتركيا وغيرها؛ بالتالي فهم يأخذون ما يعجبهم من التقاليد والممارسات الأجنبية، ويشيطنون ما لا يعجبهم.
لا مشكلة لدى هيئات المواكب والجماعات المتشددة في شج رؤوس الأطفال سنوياً أثناء شعيرة التطبير، لكن الدنيا تقوم ولا تقعد عندما تخرج الأسر للتبضع، أو الاحتفال برأس السنة -على الرغم من أنه احتفال عالمي أُفرِغ من أبعاده الدينية، وبات تقليداً عالمياً بهيجاً تحتفل به الشعوب.
صراع الموامنة والأفندية في النجف
للجماعات الأصولية المتشددة صوتٌ مسموعٌ، وسطوة كبيرة على النجف منذ زمن بعيد.
يروي زهير الجزائري في كتابه “النجف الذاكرة والمدينة” الذي أرّخ فيه للحياة العامة والصراعات الاجتماعية والثقافية والسياسية في القرن العشرين، كيف أنّ “الموامنة” -كما كان العامة يسمونهم في إشارة لرجال الدين لا سيما خطباء المنابر منهم- كانوا في صراع محتدم مع طبقة الأفندية التي كانت ترتدي زياً مدنياً ويحرص أفرادها على تلميع أحذيتهم واقتناء الجرائد، وهم شيوعيون أو قوميون أو أصحاب فكر تقدمي، وكثيراً ما كان ذلك يزعج الموامنة.
لكن الصراع غير متوازن أو متكافئ في النجف، فالمتشددون كانوا وما يزالون لهم اليد العليا، بحكم استعمالهم للمقدس، والقدرة على أدلجة العامة، إضافة لامتلاكهم بلطجية وأتباعاً.
من الطرائف التي يرويها الجزائري، أن المتشددين كانوا ينظرون بريبة وامتعاض للمدارس الحكومية التقليدية عندما دخلت النجف للمرة الأولى، إذ كانوا يرونها كمنافس للمدارس الدينية. وليزداد الطين بلة، أمرت الدولة طلبة المدارس الحكومية بارتداء الزي الرسمي (بنطال وقميص)، فبدأ طلاب المدارس الحكومية بارتداء البناطيل بعدما كانوا يرتدون الدشاديش، فأثار هذا حفيظة “الموامنة”، مما دفعهم للاستعانة بأتباعهم من البلطجية وأبناء العشائر، وصاروا ينتظرون الطلبة عند أبواب المدارس لينهالوا عليهم بالشتائم والكلمات النابية وحتى الحجارة، فعمد الطلبة لحلٍ يرضي الطرفين، الدولة والموامنة، فلبسوا الدشاديش والبناطيل معاً، وقاموا بإدخال الطرف السفلي من الدشداشة في البنطال، لتبدو كقميص رسمي، وعند انتهاء الدوام المدرسي، يخرجون طرف الدشداشة من البنطال لتصبح دشداشة كاملة، مما جنبهم هجمات الموامنة وأتباعهم.
فضلاً عن ذلك، عارض المتشددون مدارس الفتيات، مما دفع الجواهري لمهاجمتهم بشدة في قصيدة “الرجعيون”:
غداً يُمنع الفتيان أن يتعلموا
كما اليوم ظلماً تُمنع الفتيات
وما الدين إلا آلة يشهرونها
إلى غرضٍ يقضونه وأداة
كان الموامنة المتشددون قد عيّنوا أنفسهم حراس فضيلة وأخلاق من تلقاء أنفسهم، مستخدمين بذلك مفهوم النهي عن المنكر الذي يعد أكبر ذريعة يستعملونها في انتهاك حريات الآخرين ومساحاتهم الشخصية.
كان هؤلاء، بحسب زهير الجزائري، يتجوّلون داخل الصحن العلوي وعيونهم تراقب الداخلين والخارجين، وتحديداً النساء، بحثاً عن صغائر الأشياء، مثل خصلة شعر برزت سهواً أو خاتم ذهبي خرج من كم العباءة، أو حذاء طفل انقلب مصادفة فصارت قاعدته باتجاه الحضرة، عندئذ ترتفع أصواتهم العالية بالصياح والزجر. وبطبيعة الحال لم يكلفهم أحد بهذه الوظيفة، إنما أخذوا على عاتقهم مضايقة الجميع بداعي الحفاظ على قدسية المدينة.
هيئات المواكب والفصائل المسلحة
هيئات المواكب هي تنظيمات غير رسمية أشبه بالنقابات، يرتبط بعضها بالعتبتين الحسينية والعباسية في كربلاء، وبعضها يرتبط بالحكومات المحلية ومكتب المحافظ، وبعضها مستقل، لكن بصورة عامة هي تشترك في وظيفة أساسية تتلخص بتنظيم عمل المواكب أثناء الشعائر والزيارات الموسمية مثل زيارتي الأربعينية ووفاة النبي محمد.
في السنوات القليلة الماضية، خرجت هيئات المواكب عن وظيفتها الأساسية وصارت أشبه بهيئات أمر بالمعروف، حيث بدأ الأمر بفرض تعليمات داخل نطاق الشعائر والعزاء، وكانت عبارة عن اجتهادات شخصية تختلف من منطقة لأخرى، مثل حظر لبس “البرمودا” على الشباب أثناء حضور الشعائر، ولو كان المكان في الشارع.
كذلك نُصحت النساء بالتزام الحشمة وعدم التبرج، ومراقبة الفصل بين الجنسين أثناء العزاء. وازداد حماسهم واتسع نشاطهم إلى خارج نطاق العزاء، حيث بدأوا بمضايقة الحفلات واحتفالات الأعياد، والمشاركة في النشاطات السياسية والانتخابات.
النائب هادي السلامي، المستقل، كان قد حصل على مناصرة وتأييد أصحاب المواكب في النجف في الانتخابات البرلمانية التي جرت عام 2021، وأول تصريح أدلى به بعد فوزه، كان التحريض على إغلاق قاعات الأعراس، ومنع الـ DJ في النجف، حفاظاً على قدسية المدينة، كما يزعم.
لم يدعم أصحاب المواكب السلامي فحسب، بل دعموا العديد من المرشحين المستقلين على شاكلته، أو المنتمين للتيار الشيعي المتشدد، سواء كانوا “إطاريين” من الإطار التنسيقي، أو من حزب “إشراقة كانون”.
ما سر استقواء هيئات المواكب؟
إضافة إلى السياسيين، لهيئات المواكب صلات وثيقة ببعض الفصائل المسلحة المقربة من إيران، حيث بدأت العلاقة بين الطرفين أيام الحرب على “داعش”، عندما كانت المواكب تقوم بدور لوجستي كبير بدعم مقاتلي الحشد الشعبي، عبر مدّ مقاتليهم على الجبهات بالتبرّعات المالية أو المواد غذائية.
واستمرت هذه العلاقة لما بعد الحرب، لتصبح علاقة تخادمية، إذ تستثمر الفصائل المسلحة المكانة الدينية والاجتماعية والغطاء الديني لهيئات المواكب، لتوجههم نحو إفشال بعض الحفلات والمناسبات.
في 17 كانون الأول 2021، شهدت مدينة “السندباد لاند” في بغداد تظاهرة كبيرة نظمها عدد من أصحاب المواكب، طالبوا فيها بمنع ما وصفوه بـ”حفلات المجون والفساد الأخلاقي”، وأقاموا صلاة جماعية عند أبواب المدينة، وعبّروا آنذاك عن استنكارهم الشديد لما اعتبروه انتهاكاً لحرمة الإسلام وأيام استشهاد السيدة فاطمة الزهراء.
دفع ذلك مجلس إدارة السندباد لاند إلى إصدار بيان أعلن فيه تأجيل جميع الحفلات الغنائية التي تتزامن مع المناسبات الدينية، وأكد العمل “على ترتيب جدول الحفلات بما يراعي إحياء المناسبات الدينية ولا يتعارض معها”.
الحال هذه، إن هذا النوع من التظاهرات ليس مسؤولاً عنه أصحاب المواكب فقط. فعلى الرغم من أن الهيئات تضم أشخاصاً متشددين، إلا أن هؤلاء لا يجرؤون على اتخاذ قرارات كبيرة وخطوات جريئة كهذه، من دون حماية ودعم الفصائل المسلحة المقربة من إيران.
ومن الملاحظ أن المتظاهرين يرتدون الزي الذي اعتاد أنصار الفصائل المسلحة التظاهر به، وهو القبعة والكمامة وحمل العصي (التوثية). وللتمييز بين تظاهرات هيئات المواكب منفردة، والتظاهرات التي تكون بأوامر ودعم الفصائل، سنأخذ المثالين التاليين، فنصب مواكب العزاء في شارع الروان في النجف، وإقامة المسيرات المناهضة لعيدي الحب ورأس السنة، ومثلها نصب المواكب في شارع السناتر في كربلاء، يمكن القول إنها بتخطيط أصحاب المواكب، دون تدخل من الفصائل؛ ذلك أنهم يرون أن مدينة النجف وكربلاء هما عقر دارهم ومساحتهم الخاصة، وإن أي فعاليات ذات جذور غربية، هي نوع من تهديد القيم التي ممكن أن تهدد سلطتهم مستقبلاً.
أما احتجاجات أخرى مثل محاولة اقتحام فندق كراند ميلينيوم في السادس من تشرين الثاني 2024، وسط البصرة، احتجاجاً على استضافته حفلاً بعيد الهالوين، ومطالبة ممثلي المواكب الحسينية بغلق الفندق واتخاذ إجراءات صارمة لمنع حفلات الغناء والرقص، حفاظاً على “قدسية المدينة”، فهذا النوع من الاحتجاجات يحدث بتخطيط وأوامر بعض الفصائل المسلحة، حيث اتخذت من هيئات المواكب والعشائر مجرد غطاء.
أما المشاركون، فمعظمهم عناصر في تلك الفصائل، يرتدون الزي المدني، وعند مقارنة ملابس المتظاهرين بملابس متظاهري الفصائل المسلحة في مناسبات سابقة، مثل تلك التي استهدفت القنوات الفضائية، يتبين بوضوح أن الملابس ذاتها، بنطال وتيشيرت أسود وقبعة سوداء وكمامة.
العلاقة التي تجمع بين الفصائل وبعض العشائر هي علاقة تخادمية أيضاً، فالفصائل تستفيد من العشائر في الانتخابات، وفي المواقف السياسية والإدانات والاستنكارات عند الحاجة، وبالمقابل، توظف أبناءهم في صفوفها كمقاتلين، وتغدق على شيوخهم بالمال والجاه، واستغلال العشائر في تنفيذ المنع والتهجم على الحفلات، وتذكر هذه الأفعال بما رواه زهير الجزائري في كتابه “النجف الذاكرة والمدينة”، عندما كان رجال الدين يستغلون أبناء العشائر في مهاجمة وسب طلبة المدارس، الذين يرتدون الزي الأفندي في المدارس الرسمية في النجف.
بالنسبة للمتشددين، فمن المهم لهم أن يلصقوا صفة القدسية في كل مدينة يحاولون السيطرة عليها، فعلى غرار النجف وكربلاء، حاولوا إلصاق القدسية بمدينة بابل بتحويل اسمها إلى مدينة الإمام الحسن عام 2016، لكن موجة سخرية واسعة واستنكار حالت دون تمرير ذلك المخطط.
كذلك حاولوا إلصاق القدسية ببغداد باعتبارها مدينة الإمام الكاظم، لكن مساعيهم فشلت لغاية الآن على الأقل.
والأمر نفسه ينطبق على البصرة، على الرغم من أنها لا تضم مرقداً مقدساً، والناس فيها “كيّافة” محبين للحياة والطرب، ولديهم حتى رقصاتهم الشعبية الخاصة؛ وبدلاً من ذلك، سمّى الأصوليون البصرة بمدينة الشهداء، كنوع من الاحتفاء بالموت وتقديسه، وكأن المدينة يجب أن تموت مرتين؛ موت شبابها في الحروب، ثم استغلال موتهم لمسخ مدينتهم.
وإذا كانت هيئات المواكب تمنع مظاهر الاحتفال لأسباب دينية متشددة محضة، فما هي مصلحة الفصائل بمنع مظاهر الاحتفال؟ تتخذ الفصائل من تظاهرات المنع وسيلة لابتزاز متعهدي الحفلات لجباية الأموال منهم كإتاوات، كذلك أن تلك الفصائل المقربة من إيران هي أكثر الفصائل راديكالية وولاء للولي الفقيه، وبالتالي لديهم أيديولوجياتهم الخاصة بمنع مظاهر الاحتفال والاختلاط والغناء.
وفاة فاطمة الزهراء حسب الحاجة
السيدة فاطمة الزهراء، التي تؤخذ حجّة لمنع الاحتفال، توفيت في السنة 11 هجرية، فقد روي أنّها عاشت بعد أبيها ستة أشهر. وقيل 95 يوماً. وقيل 75 يوماً، أو أقلّ من ذلك. وبالتالي هناك ثلاث روايات لوفاتها، في 8 ربيع الثاني، و13 جمادي الأولى، وجمادي الثانية.
ما يزيد التعقيد في تواريخ الوفاة هذه، هو أن التاريخ الهجري غير ثابت كما الميلادي، حيث تتقدم السنة الهجرية 11 يوماً كل عام، ولأن عامة الناس لا يستعملون التقويم الهجري لتعقيده وعدم ثباته واعتمادهم على التقويم الميلادي، اُستغِل هذا من قبل هيئات المواكب لتوفير غطاء شرعي ديني لمنع الاحتفالات.
في كل تظاهرة منع أو عند نصب المواكب في عيدي الحب ورأس السنة في شارعي الروان والسناتر في النجف وكربلاء، تكون تلك العزاءات لاستذكار وفاة السيدة فاطمة الزهراء! فعلى الرغم من أن السنة الهجرية تتقدم كل عام 11 يوماً ولا يمكن لمناسبة وفق التقويم الهجري أن تتزامن بثبات مع التقويم الميلادي، إلا أن وفاة السيدة فاطمة الزهراء باتت تتزامن كل عام مع عيدي الحب ورأس السنة!
القائمون على تلك المواكب ومن خلفهم الفصائل التي تدعمهم، يحوّلون بقدرة قادر وفاة السيدة فاطمة الزهراء على حسب مواعيد الحفلات الغنائية في بغداد أو البصرة، وتصبح بذلك المواعيد المقدسة بحسب الحاجة وعند الطلب!