ما هو تاريخ العلاقات بين العراق وتركيا؟ كيف كانت الولايات العراقية تحت السلطة العثمانية وكيف أصبحت؟ كيف تضرّرت العلاقات خلال عقود، وكيف تمت استعادتها؟ ما الذي تريده أنقرة من بغداد اليوم، وما سياسات أنقرة التي تخشاها بغداد؟
في 22 نيسان 2024، زار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بغداد، لأول مرة منذ 13 عاماً، التقى خلال رحلته بالرئيس العراقي عبد اللطيف رشيد ورئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، وكذلك زار أربيل والتقى برئيس إقليم كردستان نيجيرفان بارزاني ورئيس الوزراء مسرور بارزاني، تُوجت الزيارة التاريخية بتوقيع “اتفاقية الإطار الاستراتيجي”، فضلاً عن (26) مذكرة تفاهم أخرى في مختلف المجالات الأمنية والاقتصادية والتعليمية والصحية والسياحية، وكان أبرزها ما يتعلق بمشروع طريق التنمية وملف المياه.
شكلت هذه الزيارة قفزة نوعية كبيرة في العلاقات التركية العراقية، واتضح فيها اهتمام أنقرة بتحسين علاقاتها مع بغداد، ملوّحةً بأوراق الضغط التي تملكها من أجل الحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب، لاسيما في المجال الاقتصادي الذي حققت تركيا فيه ميزة إضافية برفع مستوى التبادل التجاري وحصول شركاتها على عقود واستثمارات كبرى في مشاريع الري والزراعة وغيرها، فضلاً عن تعزيز التعاون في محاربة عناصر حزب العمال الكردستاني الذي يملك قواعد عسكرية في إقليم كردستان، حيث سبق وأن صنفته الحكومة العراقية كمنظمة محظورة، في خطوة تُعد إنجازاً مهماً لحكومة الرئيس أردوغان. بالمقابل، حققت بغداد مكاسب مهمة في ملف المياه ومشروع طريق التنمية ومجالات أخرى.
تاريخ علاقات البلدين
تتميز علاقة العراق وتركيا بروابط مشتركة تختلف عن غيرها من دول الجوار العربية وغير العربية من النواحي التاريخية والجغرافية والثقافية والدينية، لا يمكن تجاهلها. وقد رسمت معاهدة أنقرة التي تم توقيعها بين البلدين في العام 1926 (ضمت 18 مادة في ثلاثة فصول وملحق)، طبيعة العلاقات بعد تسوية مشكلة الموصل من قبل عصبة الأمم، استناداً إلى معاهدة لوزان (1923)، بعد أن أعلنت تركيا اعتمادها سياسة خارجية ترتكز على الشعار الذي رفعه مصطفى كمال أتاتورك “سلام في الوطن وسلام في العالم”1، وقد تناول الفصل الأول من معاهدة أنقرة مسألة ترسيم الحدود، في حين نظم الفصل الثاني علاقات حسن الجوار بين البلدين، وتضمن الفصل الثالث أحكاماً عامة.
على إثر ذلك، تحسّنت العلاقة بين البلدين، ففي عام 1932 قام الملك فيصل الأول بزيارة إلى تركيا وعيّن أخاه الأمير زيد سفيراً لدى أنقرة، وفي عام 1937 تم توقيع معاهدة عدم الاعتداء (ميثاق سعد آباد) مع كلٍ من إيران وأفغانستان، واستمر هذا النهج من العلاقات بين البلدين بعد الحرب العالمية الثانية 1944-1948، حيث تم الاتفاق على إنشاء حلف سُمي بـ(حلف بغداد) في العام 1955، قبل انسحاب العراق منه بعد الانقلاب العسكري عام 1958.2 وبسبب الانقلابات العسكرية التي شهدتها بلدان المنطقة خلال الفترة (1958-1960) تعرّضت العلاقات لبعض الاختلالات المرحلية، لتعود وتتحسّن من جديد بعد انقلاب 1960 في تركيا واتباعها سياسة خارجية جديدة توجت بزيارة رئيس الوزراء التركي الأسبق (جودت صوناي) الى بغداد في العام 1967.3. ومنذ تسعينيات القرن الماضي، حصلت انعطافة مهمة في علاقات البلدين نتيجة حدثين مهمين: الأول/ حرب الخليج الثانية في العام 1991 وفرض الحصار الاقتصادي على العراق نتيجة غزوه الكويت، حيث تراوحت خسائر تركيا الاقتصادية خلال الفترة بين عامي (1990-2000) بنحو 30-40 مليار دولار جرّاء التزامها بالعقوبات على العراق 4، في حين قدّر الرئيس الأسبق عبد الله غول تلك الخسائر بنحو 100 مليار دولار5. أما الحدث الآخر فهو احتلال العراق عام 2003 من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، حيث بدأت مرحلة جديدة من العلاقات مع دول الجوار، ومنها تركيا التي كانت تعيش الصعود الكاسح لحزب العدالة والتنمية ووصول رجب طيب أردوغان إلى الرئاسة لأول مرة، تقوم المرحلة على أساس مختلف عما سبقها: تعاوني في المجال الاقتصادي، وخلافي في المجال السياسي نتيجة عدد من القضايا في مقدمتها تعاظم خطر حزب العمال الكردستاني -وفق وجهة النظر التركية- الذي وسّع من حضوره العسكري والسياسي في مدن شمال العراق.
ونتيجةً لذلك، تعرّضت العلاقات بين الدولتين إلى فترات من الشد والجذب في أغلب الأحيان، ووصلت إلى مرحلة سيئة للغاية لاسيما خلال المدة بين عامي (2015-2017) بسبب غزو تنظيم الدولة الإسلامية الارهابي، بعد ذلك بدأت العلاقات تتحسن منذ عام 2018 لتصل إلى مراحل متقدمة من التنسيق والتعاون مع مطلع العام 2023 وزيارة رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني أنقرة في آذار الماضي، بعد أن نشبت خلافات بين البلدين بسبب قرار محكمة باريس بخصوص بيع النفط الخام من قبل حكومة إقليم كردستان عبر أنبوب نفط جيهان التركي بمعزل عن بغداد، والتي أوقفت ضخّه. 6
على الرغم من القواسم المشتركة الثقافية والدينية والتاريخية التي تجمع البلدين، إلّا أن الخلافات والمصالح المتضاربة تفرض نفسها على سياق تقدم العلاقات الثنائية المشتركة وتعيق تقدمها، وهو ما يفرض نوعاً من العلاقة المتأرجحة بين التوتر الشديد والهدوء الحذر، تغذيها تدخلات الفواعل الدولية والإقليمية وتداخل أجندتها ومصالحها في الساحة العراقية، فضلاً عن الأزمات المتفجّرة والحروب التي تشهدها المنطقة منذ مطلع العقد الثاني من الألفية الجديدة، فواقع الحال يشير إلى أن البلدين مختلفان سياسياً وعرقياً ولغوياً، فالعراق لديه حكومة تديرها أحزاب سياسية إسلامية شيعية منذ عشرين سنة، في حين تدير تركيا أحزاب إسلامية سنية، تدافع بنشاط عن الأحزاب السنية في العراق وتموّلها، كما أن عراق ما بعد عام 2003 قريب من الجمهورية الإسلامية في إيران، المنافس الأكبر لتركيا في المنطقة.
أحلام الامبراطورية العثمانية
حكمت الإمبراطورية العثمانية أراضي العراق لأربعة قرون، من عام 1534 حتى سقوطها عام 1917 ونهاية الحرب العالمية الأولى. بالنسبة للعراق، لا يمكن وصف هذه الحقبة الطويلة من تاريخه إلّا بأنها صعبة؛ نتيجة الإهمال وسوء الإدارة الذي عانته الولايات العراقية. بالمقابل ما زال الكثير من الأتراك -لاسيما الأحزاب القومية- يعتقدون أن جزءاً من أراضي العراق، وخصوصاً ولاية الموصل، سُلبت منهم بالقوّة، حين رسمت بريطانيا الحدود العراقية-التركية في عام 1926، إلّا أن قضايا الحدود لم تطرح كإشكالية سياسية بين البلدين طوال العقود الماضية، لاسيما وأن تركيا بعد الحرب العالمية الثانية انضمت إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) واتجهت نحو الغرب بحثاً عن التحديث، مبتعدةً عن الشرق والمنطقة العربية، حتى جاء حزب “العدالة والتنمية” إلى الحكم عام 2002، وبدأت مع حكمه مرحلة جديدة من الانفتاح على العالم العربي وإحياء الروابط التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والحضارية.7
تتحجج الأحزاب القومية التركية في موقفها من أراضي ولاية الموصل (الموصل، كركوك، سليمانية، دهوك، أربيل) بأنها من ضمن “الميثاق الملي Mîsâk-ı Millî” وتم استقطاعها عن تركيا بموجب معاهدة لوزان عام 1923، وأن مضمون هذه المعاهدة ينتهي بمرور مئة عام عليها، أي في نهاية عام 2023، لكنْ في الواقع، لا تنص أيٌّ من موادّ معاهدة لوزان على أيّ سقف زمني، وليس ما يثار بخصوص انتهائها في عام 2023 صحيحاً بالمرّة.8 ولا يعدو كونه شعارات تثيرها خطابات سياسيي تركيا وبمقدمتهم الأحزاب القومية، بين الحين والآخر خاصةً خلال فترة الانتخابات، الغاية منها تحريك الشعور القومي لدى الأتراك وكسب أصواتهم.
أهمية تركيا بالنسبة للعراق
يعد العامل الجغرافي من العوامل المؤثرة في سياسة الدولة وقوتها من الناحيتين العسكرية والاقتصادية فهو يحدد أهميتها الاستراتيجية. وتحتل تركيا موقعاً جيوبولتيكياً مهماً بالنسبة للعراق يعطيها مكانة مهمة جداً في الحسابات العراقية، كونها تمثل حلقة الوصل مع أوروبا، وللبلدَيْن حدود مشتركة مع كل من إيران وسوريا التي تبدّل الحكم فيها مؤخراً لصالح قوى معارضة شديدة القرب من أنقرة، وهو ما يعطي لموقع تركيا الجغرافي خصوصية في مدرك الأمن القومي للعراق، على الرغم من أن العراق لا ينظر للجارة تركيا كدولة حليفة، بسبب تقاطع مصالح الدولتين بشكل عام، ولقرب الطبقة السياسية العراقية بشكل عام من إيران، الدولة التي تعتبر ندّاً لتركيا في المنطقة.
وتتمثل أهمية تركيا بالنسبة للعراق في ثلاثة جوانب أساسية: اقتصادية، وسياسية، وملف المياه، فبالنسبة للجانب الاقتصادي؛ تبحث تركيا دائماً عن أسواق لتصريف منتجاتها وبضائعها وترى في العراق أرضاً خصبة، كونه بحاجة كبيرة لتأهيل بنيته التحتية ومؤسساته بعد الاحتلال الأمريكي وتغيّر النظام عام 2003، ويشهد حركة إعمار متسارعة تمثل فرصة ذهبية للشركات التركية، لاسيما وأن تركيا تتمتع بقبول في الأوساط السياسية والشعبية العراقية بسبب مواقفها الايجابية من العراق بدءاً برفضها استخدام أراضيها منطلقاً للعمليات العسكرية الأمريكية ضد العراق عام 2003، وعملت تركيا جاهدة لتوسيع صادراتها إلى السوق العراقية والعمل على فتح منافذ حدودية إضافية لتسهيل مرور كميات أكبر من سلعها إلى العراق، وقد أكّد وزير الاقتصاد التركي مظفر جاعلايان خلال زيارته الأخيرة لإقليم كردستان أن العراق ثاني أكبر سوق لتصدير البضائع التركية بعد ألمانيا، كما تدخل إليه عبر تركيا سنوياً كميات هائلة من البضائع قادمة من أوروبا والصين، إذ بلغت قيمة التجارة البينية 19,9 مليارات دولار في عام 2023، مقارنة بنحو 24,2 مليار دولار في 2022، وفقاً لبيانات رسمية تركية، كما ذكر وزير التجارة التركي عمر بولات خلال زيارته للبصرة بأنّ هناك فرصة وإمكانيات لزيادة التجارة بين البلدين إلى 30 مليار دولار على المدى المتوسط9.
ويعد إقليم كردستان العراق مجالاً مهماً لتركيا، ومعبراً تجارياً يدرّ على الدخل القومي التركي مليارات الدولارات، حيث وصل حجم التبادل التجاري بين تركيا والإقليم وحده خلال الأشهر الـ9 الأولى من عام 2024 الماضية إلى نحو (10) مليارات دولار، إلى جانب وجود آلاف الشركات التركية في مجال البناء والإعمار والاستثمار في الإقليم.10 كما يصدر العراق وإقليم كردستان النفط الخام إلى العالم عبر أنابيب النفط التركية، ويعد مسألة مهمة جداً في علاقة العراق بتركيا، كون الاقتصاد العراقي يعتمد بشكل كبير على ريع بيع النفط، خاصة شركة نفط الشمال العراقية التي تصدر نفط كركوك إلى الخارج عبر خط نفط جيهان التركي. وبسبب قيام حكومة الإقليم بتصدير النفط دون إذن الحكومة الاتحادية عبر هذا الخط رفعت بغداد دعوى قضائية عام 2014 في غرفة التجارة الدولية في باريس، والتي حكمت بوجوب دفع تركيا حوالي 1,5 مليار دولار كتعويض عن الأضرار التي لحقت ببغداد بسبب تصدير النفط بين عامي (2014 -2018)، هذا القرار الذي أوقفت تركيا فور صدوره شحن النفط عبر أراضيها في 25 آذار عام 202311.
وبالنسبة لأهمية تركيا في الجانب السياسي، فتكمن في أنّها تعد من أكبر القوى الفاعلة في الشرق الأوسط، وتملك ثاني أكبر جيش في حلف شمال الأطلسي (الناتو) وتمثل قوة مضادة لنفوذ إيران في المنطقة تخلق توزاناً جيوسياسياً في معادلة الأمن الإقليمي، فضلاً عن أن العراق شكّل عبر التاريخ نقطة للجذب الاستراتيجي بالنسبة لتركيا. وعليه تبنت الحكومة التركية ومنذ عام 2008 استراتيجية جديدة حيال العراق تهدف إلى حماية أمنها القومي ومصالحها الحيوية، وذلك على النحو الآتي:
- التواصل مع كافة القوى السياسية العراقية خاصة العرب السنة والشيعة الرافضين لتقسيم العراق.
- الاستمرار في رفض تقسيم العراق مهما كانت الظروف والتنسيق مع الدول صاحبة المصلحة في ذلك.
- تعزيز العلاقات الاقتصادية وكذلك مع إقليم كردستان العراق والسماح بتصدير النفط عبر ميناء جيهان.
- حض العرب السنة على المشاركة في العملية السياسية وخوض الانتخابات.
- المشاركة في عملية إعادة إعمار العراق، لما في ذلك من مردود اقتصادي على الشركات التركية.
- رفض العنف الطائفي وحث الأطراف العراقية على نبذ الطائفية وتأسيس نظام سياسي يقوم على حقوق المواطنة.
- مطالبة الحكومة الاتحادية والإقليم بتقديم المساعدة لمنع حزب العمال الكردستاني من استخدام الأراضي العراقية لضرب المصالح التركية.12
وعلى الرغم من أن القوى السياسية التي تولت الحكم في العراق بعد عام 2003 لم تعمل على بناء علاقات وثيقة مع تركيا كالتي بنتها مع إيران، إلّا أن بعض الجهات السياسية الفاعلة -خصوصاً السنية وجزء من الكردية- تعتبر إلى حد ما قريبة من أنقرة، ولا سيما الحزب الديمقراطي الكردستاني الحاكم في إقليم كردستان والأحزاب التركمانية في كركوك وأربيل، فضلاً عن بعض قادة الأحزاب السنية في العراق، لكن هذه الجهات لا تمتلك القرار لوحدها في ما يخص توجهات الحكومات العراقية السياسية بعلاقاتها مع دول الجوار ومنها تركيا.
لكن الحال تغيّر في السنوات الاخيرة، فالعراق وبعد عام 2015، بدأ السعي إلى إقامة علاقات أكثر توازناً مع دول الجوار تركيا وايران، على الرغم من تأثير النفوذ الإيراني الكبير على السياسة العراقية، فإيران تبذل جهوداً لتوسيع نفوذها في المنطقة عبر نافذة العراق، وهو ما دفع الحكومات العراقية إلى النأي بالعراق عن سياسة المحاور والعمل على خلق توازن بين القوى الإقليمية والدولية الفاعلة في المنطقة، تقوم على أساس احترام مصالح العراق وسيادته وأمنه القومي، بالمقابل سعت تركيا ومنذ عام 2008 عبر سياستها الناعمة في المنطقة إلى تعزيز دورها الاقتصادي والسياسي لموازنة النفوذ الإيراني في العراق، فأقدمت على دعم القائمة “العراقية” المكونة من العرب السنة والتركمان والكرد برئاسة إياد علاوي في الانتخابات العراقية التي أجريت عام 2010 وخسر معركته حينها مع نوري المالكي، الذي تعتبره أنقرة رجل إيران في بغداد.13
تاريخياً، حاول العراق التعاون مع تركيا للسيطرة على الحركات الكردية المتمردة أثناء الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينيات القرن الماضي، حيث سمحت بغداد لتركيا بتنفيذ عمليات عبر الحدود ضد عناصر حزب العمال الكردستاني التي تمركزت في المناطق الجبلية في شمال العراق. لكن الحال تغير في السنوات الأخيرة، إذ يحاول العراق إيقاف العمليات العسكرية التركية في أراضيه ويستنكر الهجمات التركية شبه المستمرة التي تؤدي بحياة عشرات المدنيين، وتجلّى ذلك في عام 2016 حين رفض العراق مساعدة الجيش التركي في الحرب على عصابات داعش الاجرامية التي سيطرت على مناطق واسعة في العراق وسوريا، وهو ما تسبب بتوتر كبير في العلاقات الثنائية بين البلدين.
أما في ما يخص ملف المياه، حاول العراق إبرام تفاهمات دائمة تضمن حصوله على حصة عادلة من المياه؛ فالعراق يعتمد بشكل كبير جداً على نهري دجلة والفرات اللذين ينبعان من الجنوب التركي، في المناطق التي شيّدت فيها الحكومة التركية عشرات السدود والخزانات على مجاري النهرين، فانخفض منسوب المياه المتدفقة إلى العراق.
على مرّ سنوات العلاقة، دائماً ما تثبت التجربة أن تركيا لا تلتزم بالاتفاقات الدولية والثنائية بخصوص المياه وحقوق العراق المائية، فكان وما زال، هذا الملف ركناً مهماً في العلاقات الثنائية بين البلدين، فصار جزءاً أساسياً من مذكرة الاتفاق الموقعة بين البلدين في زيارة أردوغان الأخيرة للعراق في نيسان 2024.
وقد نص الاتفاق بحسب ما أوردته وكالة الأنباء العراقية (واع) على “تطوير سبل التفاهم والتعاون في قطاع المياه على مبدأ المساواة والنوايا الحسنة وحسن الجوار، ووضع رؤية جديدة لتنفيذ مشاريع البنى التحتية والاستثمارية للموارد المائية في العراق، واعتماد رؤية تهدف إلى تخصيص عادل ومنصف للمياه العابرة للحدود”، كما نص الاتفاق أيضاً على، “التعاون عبر مشاريع مشتركة لتحسين إدارة المياه في حوضي دجلة والفرات”، وأن “يستمر تنفيذه لـ10 سنوات”.
السياسة الخارجية التركية في عهد حزب العدالة والتنمية
تولي أنقرة أهمية خاصة للعالم العربي في سياستها الخارجية، بسبب القرب الجغرافي، فموقع تركيا الجيوستراتيجي الذي يتوسط قارات العالم القديم الثلاث14، يفسر توجهات سياستها الخارجية لاسيما في فترة حزب العدالة والتنمية التي بدأت عام 2002، والتغيير والاستمرار في هذه التوجهات التي استندت الى ثلاثة معايير رئيسية: أولها وأهمها: القيادة السياسية المسيطرة في البلاد، وهوية الدولة المحددة من خلال هذه القيادة. وثانيها: التأثير المتنامي للمنظمات عبر الوطنية، وثالثها: التوازنات الإقليمية المتغيّرة في المنطقة التي توجد فيها تركيا.15
كما ارتكزت السياسة التركية على خمسة مبادئ أساسية وعلى نحو ينسجم مع الرؤية الجديدة لقيادتها السياسية والاستفادة من موقعها الجغرافي ورصيدها التاريخي، تتلخص في:
- التوازن بين الأمن والديمقراطية، فانعدام هذا التوازن في أي دولة لن يحقق لهذه الدولة فرصة إقامة منطقة نفوذ في محيطها.
- سياسة تصفير المشكلات مع دول الجوار، بوجود ترابط اقتصادي كبير بين البلدان المجاورة، مثل جورجيا وبلغاريا وإيران وسوريا والعراق.
- التأثير في الأقاليم الداخلية والخارجية لدول الجوار، ولاسيما تأثير تركيا في البلقان والشرق الأوسط والقوقاز وآسيا الوسطى.
- السياسة الخارجية متعددة الأبعاد، فالعلاقات مع اللاعبين الدوليين ليست في حالة تنافس، وليست منفصلة عن بعضها البعض.
- الدبلوماسية المتناغمة، أي أداء تركيا الدبلوماسي من زاوية عضويتها في المنظمات الدولية، واستضافتها المؤتمرات والقمم الدولية.16
فتغيرت بوصلة السياسات الداخلية والخارجية للبلاد، كما تغيرت نغمة الخطاب السياسي، حيث استخدمت الحكومة في خطاباتها نغمة ذات طابع إسلامي قومي، تتناغم مع الجوار الإسلامي، واتخذت خطاً جديداً يقوم على أساس توسيع دائرة النفوذ في المنطقة عبر التجارة والاقتصاد والقوة الناعمة، واستخدام لغة تجذب الجماهير الشعبوية الإسلامية، وبالتزامن مع تعزيز القدرات العسكرية والأمنية والإدارية، وتطوير أدوات السياسة الخارجية ومجالات نشاطها، وإبراز رغبة إعادة أمجاد الماضي وعهد الامبراطورية العثمانية، وحلم إعادة السيطرة على المناطق التي كانت تحت نفوذها قبل أكثر من مئة عام، لكن بأساليب أخرى.
في بداية الألفية الجديدة، سنحت الفرصة لتركيا بتشكيل نمط جديد من العلاقات الثنائية مع العراق، وعلى مدى العقدين الماضيين ومع تغير النظام السياسي في العراق ووصول حزب العدالة والتنمية الى الحكم في تركيا في الفترة نفسها تقريباً، حصلت أحداث دراماتيكية شكلت تهديداً جديداً على الأمن القومي لتركيا، فحصول القوى الكردية على مكاسب سياسية غير مسبوقة في إقليم كردستان العراق ذي الغالبية الكردية، أثار مخاوف جدية من ارتفاع الأصوات المطالبة بالحقوق الكردية وإحياء نزعات انفصالية في الجنوب الشرقي ذي الغالبية الكردية أيضاً، وهو ما استدعى من تركيا اتباع نهج استراتيجي مختلف حيال العراق لضمان أمنها ومصالحها القومية، وكان لهذا النهج الجديد تداعيات على علاقات البلدين المشتركة وصلت الى مراحل متوترة جداً.
وفي السياق ذاته، استدعى الهاجس الأمني لتركيا إعادة النظر في سياساتها مع كل من إيران وسوريا، فسعت جاهدة إلى تطوير تلك العلاقات إلى مستوى التحالف الفاعل والتنسيق الأمني، وإيجاد شبكة قوية من العلاقات لا سيما مع إيران، التي تتمتع بالقدرة على الرد المباشر على الأخطار التي تتعرض لها من شمال العراق، وهي المنطقة التي يصنفها الأمن القومي التركي مصدر خطر17.
القضية الكردية
تعد المسألة الكردية من أهم المشاكل التي تهدد الأمن القومي لتركيا، وتمثل المناطق الحدودية مع العراق التي ينتشر على طولها كرد عراقيون تربطهم بكرد تركيا رابطة الدم والعرق والقومية، مصدر قلق كبير للحكومة التركية، فموقع العراق الجغرافي الاستراتيجي ووضعه غير المستقر، والذي تعدّه أنقرة كأنه برميل من البارود العرقي والإثني والمذهبي، إلى جانب دخول المنطقة في صراعات سياسية وسقوط أنظمة في ما سمي بـ”ثورات الربيع العربي”، الأمر الذي استلزم من تركيا التعاطي بحذر مع هذه المخاطر18.
شهدت الحدود العراقية-التركية منذ تأسيس الدولة العراقية، العديد من الثورات تحت قيادة محمود البرزاني في فترة العشرينيات من القرن المنصرم وحتى عام 1931 لكنها لم تنجح جميعها ووجهت أغلبها بالقمع، حتى توجه محمود البرزاني إلى تركيا طالباً الدعم عام 1943 فلم يوافق الأتراك.19
ومنذ عام 1984، دخل الصراع الكردي-التركي إلى كردستان العراق بقيام حزب العمال بأول عملية عسكرية استهدفت فيها القوات التركية، فاندلع الصراع العسكري واستمر حتى وقتنا الحاضر، وعلى شكل فترات تصعيد متقطعة، تتداخل فيها الهدنة والهدوء النسبي مع اشتداد القتال والمعارك، والتي خلّفت أكثر من 40 ألف ضحية من الجانبين، فتولّدت الذريعة لتواجد القوات التركية في المناطق الشمالية من العراق. ومنذ ثلاثة عقود وبالتحديد من عام 1994، لا توجد إحصاءات دقيقة وموثّقة لحجم الوجود العسكري التركي في كردستان العراق والمناطق الأخرى، لكن المعلومات التي تضمنها التقرير الصادر عن البرلمان العراقي في عام 2007، أشارت إلى وجود نحو 3 آلاف جندي تركي20، فعدد القوات تزايد في عام 1995 بعد نشوب الصراع بين الأكراد (حزب الديمقراطي والاتحاد الوطني)، وانتشرت في 10 مناطق رئيسية في إقليم كردستان العراق وكانت مهمتها إيقاف الصدام المسلح بين الحزبين الكرديين، فتواجد جزء من هذه القوات في مصيف صلاح الدين الذي يقيم فيه مسعود بارزاني، والسليمانية ودهوك وزاخو والعمادية، وبعد انتهاء الصراع في عام 1998، رفضت القوات التركية الانسحاب وبقيت متمركزة في كردستان العراق، إضافة الى ذلك، تواجدت بعض القوات في منطقة بارزاني وديانة لتدريب قوات البيشمركة (أعداد القوات موضحة في المخطط أدناه والذي نشرته صحيفة حريت التركية عام 2015).21
وتعتبر أنقرة العمليات الجارية في الوقت الحاضر، المرحلة الأخيرة من سلسلة عمليات تأمين المناطق الحدودية وغلق الحدود بالكامل والسيطرة عليها بشكل كامل وفعال، وهو ما نجحت به تركيا إلى حدٍ ما بالتعاون مع حكومة الإقليم التي يقودها الحزب الديمقراطي الكردستاني القريب من تركيا، حيث يتمتع الطرفان بعلاقات وثيقة ومصالح اقتصادية وسياسية وأمنية مهمة، ففي مؤتمر صحفي في آذار الماضي، أعلن الرئيس أردوغان عن الإعداد لعملية شاملة ضد وجود حزب العمال الكردستاني في العراق وسوريا للسيطرة على كامل المناطق الحدودية بين تركيا والعراق وتركيا وسوريا لإيقاف تحركات عناصر الحزب بين قواعدها داخل الحدود التركية و خارجها بالأخص في شمال العراق، وكذلك في شمال سوريا، ولفت أردوغان إلى أن القوات المسلحة التركية أوشكت على إتمام “الطوق الذي سيؤمن حدودها مع العراق”، وأضاف قائلا “نأمل أن نتمكّن هذا الصيف من حلّ المشكلة المتعلقة بحدودنا العراقية بشكل دائم” وأكّد على تصميم الحكومة التركية على إنشاء “حزام أمني بعمق 30 إلى 40 كيلومتراً” على طول حدودها مع سوريا والعراق لضمان عدم تحرك مقاتلي الحزب عبر الحدود حسب ما أكده وزير الدفاع التركي وكما موضح في الخريطة أدناه.22
كان ذلك قبل سقوط نظام بشار الأسد في دمشق فجر 8 كانون الأول 2024، وتمدّد هيئة تحرير الشام القريبة من تركيا -رغم أن أنقرة تصفنها إرهابية- وبعض الفصائل الأخرى الحليفة لتحلّ محلّ النظام السوري البعثي، وبموازاة ذلك تحركت فصائل “الجيش الوطني السوري” المحسوبة على تركيا بشكل حاسم، باتجاه مناطق سيطرة الإدارة الذاتية الكردية في الشمال السوري مثل منبج، وتحتشد قوات تركية شمال منطقة عين العرب كوباني من الجانب التركي، ما دفع مظلوم عبدي قائد قوات سوريا الديمقراطية المعروفة اختصارا بـ”قسد” إلى إعلان الاستعداد لإخلاء كومباني من السلاح وتحويلها منطقة منزوعة، ودفع مقاتلي الأكراد من الجنسيات غير السورية إلى خارج الحدود وفكّ الارتباط بهم، والقصد هنا هم عناصر حزب العمال من الكرد الأتراك، وهو شرط دائما ما يكرّره أردوغان ومسؤولون أتراك، لكن، وبما أن الأحداث السورية شديدة السرعة وتتغير كلّ دقيقة، ولأن التوازن في سوريا انقلب لصالح تركيا، فلن يكون معلوماً إذا كانت أنقرة ستكتفي بذلك أم أنها ستستغل اللحظة من أجل المزيد.
عراقياً، تكمن خطورة هذه الرغبة التركية، في أنه إذا دخلت قوات الجيش التركي لعمق 40 كيلومتراً داخل الأراضي العراقية، فأن ذلك يعني سيطرتها على حوالي ثلث أراضي الإقليم من دون أي رادع سياسي او عسكري. هذا الوجود العسكري يشكل ورقة ضغط كبيرة ضد سلطات الإقليم وحكومة بغداد.
هل يمكن الوثوق بتركيا؟
تعمل تركيا على تنفيذ أدوات السياسة الخارجية بين قوة صلبة (أدوات عسكرية واقتصادية وتوظيف الموارد الطبيعية) وقوة ناعمة تتنوع ما بين (أدوات ثقافية وسياسية ودبلوماسية وقانونية)23. تعتمد تركيا سياسة خارجية براغماتية جداً تضع مصالحها دائماً في المقام الأول وتمنحها مرونة كبيرة في التحول من موقف الى آخر، ورغم عدم وجود “ثقة” في قاموس السياسة، لكنّ كل ما تقدّم أدّى إلى عدم الوثوق بأفعال تركيا أو التنبؤ بها. مثال على ذلك عندما غيّرت في الآونة الأخيرة بشكل غير متوقع سياساتها تجاه الأحزاب الكردية المؤيدة لحزب العمال الكردستاني في غضون أيام قليلة في داخل تركيا، وكذلك تجاه حزب العمال الكردستاني، ودعت بصورة مفاجئة إلى انفتاحها على جهود إحياء عملية السلام التي توقفت في عام 2015، وبدأت محادثات مع زعيم حزب العمال الكردستاني المسجون عبد الله أوجلان الذي تسرّبت أخبار عن إمكانية الإفراج عنه، وفي الوقت نفسه تستمر قواتها المسلحة بقصف مقرات الحزب الكردي في شمالي العراق وسوريا، لذلك يميل الكرد دائماً إلى النظر إلى دعوة تركيا إلى السلام بعين الشك.
يقف العراق في موقع غير مريح بين إرضاء إيران، وبين الحفاظ على علاقات متوازنة مع الولايات المتحدة وحليفتها في الشرق الأوسط، تركيا، وهذا ليس بالأمر السهل، لأنهما من القوى الكبرى في المنطقة، تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي، وتطوّر ترسانتها وصناعاتها الحربية، بينما تمتلك إيران ترسانة عسكرية قوية وصواريخ باليستية، الأمر الذي يفرض على العراق أن يعتمد سياسة ذكية سواء في ما يتعلق بالاقتصاد والتجارة والاستثمار، أو قطاع النفط، أو القضايا العسكرية والأمنية، وأن يتعامل بحذر شديد في قراراته وسياساته تجاه القوى الإقليمية الفاعلة تركيا وايران. فبالنسبة لتركيا، ينظر العراق لنواياها وسياساتها في المنطقة بعين الشك، فحلم استعادة الأمجاد العثمانية مرة أخرى ما زال يراودها، وتسعى بشكل حثيث لتحقيقه، لذلك يتحفظ العراق على سياسات تركيا لاسيما المتعلقة بوجودها العسكري في إقليمه الكردي، ويرفض تدخلاتها السياسية لاسيما علاقاتها ببعض الأحزاب والشخصيات وبالمكون والأحزاب التركمانية في العراق.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
في 22 نيسان 2024، زار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بغداد، لأول مرة منذ 13 عاماً، التقى خلال رحلته بالرئيس العراقي عبد اللطيف رشيد ورئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، وكذلك زار أربيل والتقى برئيس إقليم كردستان نيجيرفان بارزاني ورئيس الوزراء مسرور بارزاني، تُوجت الزيارة التاريخية بتوقيع “اتفاقية الإطار الاستراتيجي”، فضلاً عن (26) مذكرة تفاهم أخرى في مختلف المجالات الأمنية والاقتصادية والتعليمية والصحية والسياحية، وكان أبرزها ما يتعلق بمشروع طريق التنمية وملف المياه.
شكلت هذه الزيارة قفزة نوعية كبيرة في العلاقات التركية العراقية، واتضح فيها اهتمام أنقرة بتحسين علاقاتها مع بغداد، ملوّحةً بأوراق الضغط التي تملكها من أجل الحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب، لاسيما في المجال الاقتصادي الذي حققت تركيا فيه ميزة إضافية برفع مستوى التبادل التجاري وحصول شركاتها على عقود واستثمارات كبرى في مشاريع الري والزراعة وغيرها، فضلاً عن تعزيز التعاون في محاربة عناصر حزب العمال الكردستاني الذي يملك قواعد عسكرية في إقليم كردستان، حيث سبق وأن صنفته الحكومة العراقية كمنظمة محظورة، في خطوة تُعد إنجازاً مهماً لحكومة الرئيس أردوغان. بالمقابل، حققت بغداد مكاسب مهمة في ملف المياه ومشروع طريق التنمية ومجالات أخرى.
تاريخ علاقات البلدين
تتميز علاقة العراق وتركيا بروابط مشتركة تختلف عن غيرها من دول الجوار العربية وغير العربية من النواحي التاريخية والجغرافية والثقافية والدينية، لا يمكن تجاهلها. وقد رسمت معاهدة أنقرة التي تم توقيعها بين البلدين في العام 1926 (ضمت 18 مادة في ثلاثة فصول وملحق)، طبيعة العلاقات بعد تسوية مشكلة الموصل من قبل عصبة الأمم، استناداً إلى معاهدة لوزان (1923)، بعد أن أعلنت تركيا اعتمادها سياسة خارجية ترتكز على الشعار الذي رفعه مصطفى كمال أتاتورك “سلام في الوطن وسلام في العالم”1، وقد تناول الفصل الأول من معاهدة أنقرة مسألة ترسيم الحدود، في حين نظم الفصل الثاني علاقات حسن الجوار بين البلدين، وتضمن الفصل الثالث أحكاماً عامة.
على إثر ذلك، تحسّنت العلاقة بين البلدين، ففي عام 1932 قام الملك فيصل الأول بزيارة إلى تركيا وعيّن أخاه الأمير زيد سفيراً لدى أنقرة، وفي عام 1937 تم توقيع معاهدة عدم الاعتداء (ميثاق سعد آباد) مع كلٍ من إيران وأفغانستان، واستمر هذا النهج من العلاقات بين البلدين بعد الحرب العالمية الثانية 1944-1948، حيث تم الاتفاق على إنشاء حلف سُمي بـ(حلف بغداد) في العام 1955، قبل انسحاب العراق منه بعد الانقلاب العسكري عام 1958.2 وبسبب الانقلابات العسكرية التي شهدتها بلدان المنطقة خلال الفترة (1958-1960) تعرّضت العلاقات لبعض الاختلالات المرحلية، لتعود وتتحسّن من جديد بعد انقلاب 1960 في تركيا واتباعها سياسة خارجية جديدة توجت بزيارة رئيس الوزراء التركي الأسبق (جودت صوناي) الى بغداد في العام 1967.3. ومنذ تسعينيات القرن الماضي، حصلت انعطافة مهمة في علاقات البلدين نتيجة حدثين مهمين: الأول/ حرب الخليج الثانية في العام 1991 وفرض الحصار الاقتصادي على العراق نتيجة غزوه الكويت، حيث تراوحت خسائر تركيا الاقتصادية خلال الفترة بين عامي (1990-2000) بنحو 30-40 مليار دولار جرّاء التزامها بالعقوبات على العراق 4، في حين قدّر الرئيس الأسبق عبد الله غول تلك الخسائر بنحو 100 مليار دولار5. أما الحدث الآخر فهو احتلال العراق عام 2003 من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، حيث بدأت مرحلة جديدة من العلاقات مع دول الجوار، ومنها تركيا التي كانت تعيش الصعود الكاسح لحزب العدالة والتنمية ووصول رجب طيب أردوغان إلى الرئاسة لأول مرة، تقوم المرحلة على أساس مختلف عما سبقها: تعاوني في المجال الاقتصادي، وخلافي في المجال السياسي نتيجة عدد من القضايا في مقدمتها تعاظم خطر حزب العمال الكردستاني -وفق وجهة النظر التركية- الذي وسّع من حضوره العسكري والسياسي في مدن شمال العراق.
ونتيجةً لذلك، تعرّضت العلاقات بين الدولتين إلى فترات من الشد والجذب في أغلب الأحيان، ووصلت إلى مرحلة سيئة للغاية لاسيما خلال المدة بين عامي (2015-2017) بسبب غزو تنظيم الدولة الإسلامية الارهابي، بعد ذلك بدأت العلاقات تتحسن منذ عام 2018 لتصل إلى مراحل متقدمة من التنسيق والتعاون مع مطلع العام 2023 وزيارة رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني أنقرة في آذار الماضي، بعد أن نشبت خلافات بين البلدين بسبب قرار محكمة باريس بخصوص بيع النفط الخام من قبل حكومة إقليم كردستان عبر أنبوب نفط جيهان التركي بمعزل عن بغداد، والتي أوقفت ضخّه. 6
على الرغم من القواسم المشتركة الثقافية والدينية والتاريخية التي تجمع البلدين، إلّا أن الخلافات والمصالح المتضاربة تفرض نفسها على سياق تقدم العلاقات الثنائية المشتركة وتعيق تقدمها، وهو ما يفرض نوعاً من العلاقة المتأرجحة بين التوتر الشديد والهدوء الحذر، تغذيها تدخلات الفواعل الدولية والإقليمية وتداخل أجندتها ومصالحها في الساحة العراقية، فضلاً عن الأزمات المتفجّرة والحروب التي تشهدها المنطقة منذ مطلع العقد الثاني من الألفية الجديدة، فواقع الحال يشير إلى أن البلدين مختلفان سياسياً وعرقياً ولغوياً، فالعراق لديه حكومة تديرها أحزاب سياسية إسلامية شيعية منذ عشرين سنة، في حين تدير تركيا أحزاب إسلامية سنية، تدافع بنشاط عن الأحزاب السنية في العراق وتموّلها، كما أن عراق ما بعد عام 2003 قريب من الجمهورية الإسلامية في إيران، المنافس الأكبر لتركيا في المنطقة.
أحلام الامبراطورية العثمانية
حكمت الإمبراطورية العثمانية أراضي العراق لأربعة قرون، من عام 1534 حتى سقوطها عام 1917 ونهاية الحرب العالمية الأولى. بالنسبة للعراق، لا يمكن وصف هذه الحقبة الطويلة من تاريخه إلّا بأنها صعبة؛ نتيجة الإهمال وسوء الإدارة الذي عانته الولايات العراقية. بالمقابل ما زال الكثير من الأتراك -لاسيما الأحزاب القومية- يعتقدون أن جزءاً من أراضي العراق، وخصوصاً ولاية الموصل، سُلبت منهم بالقوّة، حين رسمت بريطانيا الحدود العراقية-التركية في عام 1926، إلّا أن قضايا الحدود لم تطرح كإشكالية سياسية بين البلدين طوال العقود الماضية، لاسيما وأن تركيا بعد الحرب العالمية الثانية انضمت إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) واتجهت نحو الغرب بحثاً عن التحديث، مبتعدةً عن الشرق والمنطقة العربية، حتى جاء حزب “العدالة والتنمية” إلى الحكم عام 2002، وبدأت مع حكمه مرحلة جديدة من الانفتاح على العالم العربي وإحياء الروابط التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والحضارية.7
تتحجج الأحزاب القومية التركية في موقفها من أراضي ولاية الموصل (الموصل، كركوك، سليمانية، دهوك، أربيل) بأنها من ضمن “الميثاق الملي Mîsâk-ı Millî” وتم استقطاعها عن تركيا بموجب معاهدة لوزان عام 1923، وأن مضمون هذه المعاهدة ينتهي بمرور مئة عام عليها، أي في نهاية عام 2023، لكنْ في الواقع، لا تنص أيٌّ من موادّ معاهدة لوزان على أيّ سقف زمني، وليس ما يثار بخصوص انتهائها في عام 2023 صحيحاً بالمرّة.8 ولا يعدو كونه شعارات تثيرها خطابات سياسيي تركيا وبمقدمتهم الأحزاب القومية، بين الحين والآخر خاصةً خلال فترة الانتخابات، الغاية منها تحريك الشعور القومي لدى الأتراك وكسب أصواتهم.
أهمية تركيا بالنسبة للعراق
يعد العامل الجغرافي من العوامل المؤثرة في سياسة الدولة وقوتها من الناحيتين العسكرية والاقتصادية فهو يحدد أهميتها الاستراتيجية. وتحتل تركيا موقعاً جيوبولتيكياً مهماً بالنسبة للعراق يعطيها مكانة مهمة جداً في الحسابات العراقية، كونها تمثل حلقة الوصل مع أوروبا، وللبلدَيْن حدود مشتركة مع كل من إيران وسوريا التي تبدّل الحكم فيها مؤخراً لصالح قوى معارضة شديدة القرب من أنقرة، وهو ما يعطي لموقع تركيا الجغرافي خصوصية في مدرك الأمن القومي للعراق، على الرغم من أن العراق لا ينظر للجارة تركيا كدولة حليفة، بسبب تقاطع مصالح الدولتين بشكل عام، ولقرب الطبقة السياسية العراقية بشكل عام من إيران، الدولة التي تعتبر ندّاً لتركيا في المنطقة.
وتتمثل أهمية تركيا بالنسبة للعراق في ثلاثة جوانب أساسية: اقتصادية، وسياسية، وملف المياه، فبالنسبة للجانب الاقتصادي؛ تبحث تركيا دائماً عن أسواق لتصريف منتجاتها وبضائعها وترى في العراق أرضاً خصبة، كونه بحاجة كبيرة لتأهيل بنيته التحتية ومؤسساته بعد الاحتلال الأمريكي وتغيّر النظام عام 2003، ويشهد حركة إعمار متسارعة تمثل فرصة ذهبية للشركات التركية، لاسيما وأن تركيا تتمتع بقبول في الأوساط السياسية والشعبية العراقية بسبب مواقفها الايجابية من العراق بدءاً برفضها استخدام أراضيها منطلقاً للعمليات العسكرية الأمريكية ضد العراق عام 2003، وعملت تركيا جاهدة لتوسيع صادراتها إلى السوق العراقية والعمل على فتح منافذ حدودية إضافية لتسهيل مرور كميات أكبر من سلعها إلى العراق، وقد أكّد وزير الاقتصاد التركي مظفر جاعلايان خلال زيارته الأخيرة لإقليم كردستان أن العراق ثاني أكبر سوق لتصدير البضائع التركية بعد ألمانيا، كما تدخل إليه عبر تركيا سنوياً كميات هائلة من البضائع قادمة من أوروبا والصين، إذ بلغت قيمة التجارة البينية 19,9 مليارات دولار في عام 2023، مقارنة بنحو 24,2 مليار دولار في 2022، وفقاً لبيانات رسمية تركية، كما ذكر وزير التجارة التركي عمر بولات خلال زيارته للبصرة بأنّ هناك فرصة وإمكانيات لزيادة التجارة بين البلدين إلى 30 مليار دولار على المدى المتوسط9.
ويعد إقليم كردستان العراق مجالاً مهماً لتركيا، ومعبراً تجارياً يدرّ على الدخل القومي التركي مليارات الدولارات، حيث وصل حجم التبادل التجاري بين تركيا والإقليم وحده خلال الأشهر الـ9 الأولى من عام 2024 الماضية إلى نحو (10) مليارات دولار، إلى جانب وجود آلاف الشركات التركية في مجال البناء والإعمار والاستثمار في الإقليم.10 كما يصدر العراق وإقليم كردستان النفط الخام إلى العالم عبر أنابيب النفط التركية، ويعد مسألة مهمة جداً في علاقة العراق بتركيا، كون الاقتصاد العراقي يعتمد بشكل كبير على ريع بيع النفط، خاصة شركة نفط الشمال العراقية التي تصدر نفط كركوك إلى الخارج عبر خط نفط جيهان التركي. وبسبب قيام حكومة الإقليم بتصدير النفط دون إذن الحكومة الاتحادية عبر هذا الخط رفعت بغداد دعوى قضائية عام 2014 في غرفة التجارة الدولية في باريس، والتي حكمت بوجوب دفع تركيا حوالي 1,5 مليار دولار كتعويض عن الأضرار التي لحقت ببغداد بسبب تصدير النفط بين عامي (2014 -2018)، هذا القرار الذي أوقفت تركيا فور صدوره شحن النفط عبر أراضيها في 25 آذار عام 202311.
وبالنسبة لأهمية تركيا في الجانب السياسي، فتكمن في أنّها تعد من أكبر القوى الفاعلة في الشرق الأوسط، وتملك ثاني أكبر جيش في حلف شمال الأطلسي (الناتو) وتمثل قوة مضادة لنفوذ إيران في المنطقة تخلق توزاناً جيوسياسياً في معادلة الأمن الإقليمي، فضلاً عن أن العراق شكّل عبر التاريخ نقطة للجذب الاستراتيجي بالنسبة لتركيا. وعليه تبنت الحكومة التركية ومنذ عام 2008 استراتيجية جديدة حيال العراق تهدف إلى حماية أمنها القومي ومصالحها الحيوية، وذلك على النحو الآتي:
- التواصل مع كافة القوى السياسية العراقية خاصة العرب السنة والشيعة الرافضين لتقسيم العراق.
- الاستمرار في رفض تقسيم العراق مهما كانت الظروف والتنسيق مع الدول صاحبة المصلحة في ذلك.
- تعزيز العلاقات الاقتصادية وكذلك مع إقليم كردستان العراق والسماح بتصدير النفط عبر ميناء جيهان.
- حض العرب السنة على المشاركة في العملية السياسية وخوض الانتخابات.
- المشاركة في عملية إعادة إعمار العراق، لما في ذلك من مردود اقتصادي على الشركات التركية.
- رفض العنف الطائفي وحث الأطراف العراقية على نبذ الطائفية وتأسيس نظام سياسي يقوم على حقوق المواطنة.
- مطالبة الحكومة الاتحادية والإقليم بتقديم المساعدة لمنع حزب العمال الكردستاني من استخدام الأراضي العراقية لضرب المصالح التركية.12
وعلى الرغم من أن القوى السياسية التي تولت الحكم في العراق بعد عام 2003 لم تعمل على بناء علاقات وثيقة مع تركيا كالتي بنتها مع إيران، إلّا أن بعض الجهات السياسية الفاعلة -خصوصاً السنية وجزء من الكردية- تعتبر إلى حد ما قريبة من أنقرة، ولا سيما الحزب الديمقراطي الكردستاني الحاكم في إقليم كردستان والأحزاب التركمانية في كركوك وأربيل، فضلاً عن بعض قادة الأحزاب السنية في العراق، لكن هذه الجهات لا تمتلك القرار لوحدها في ما يخص توجهات الحكومات العراقية السياسية بعلاقاتها مع دول الجوار ومنها تركيا.
لكن الحال تغيّر في السنوات الاخيرة، فالعراق وبعد عام 2015، بدأ السعي إلى إقامة علاقات أكثر توازناً مع دول الجوار تركيا وايران، على الرغم من تأثير النفوذ الإيراني الكبير على السياسة العراقية، فإيران تبذل جهوداً لتوسيع نفوذها في المنطقة عبر نافذة العراق، وهو ما دفع الحكومات العراقية إلى النأي بالعراق عن سياسة المحاور والعمل على خلق توازن بين القوى الإقليمية والدولية الفاعلة في المنطقة، تقوم على أساس احترام مصالح العراق وسيادته وأمنه القومي، بالمقابل سعت تركيا ومنذ عام 2008 عبر سياستها الناعمة في المنطقة إلى تعزيز دورها الاقتصادي والسياسي لموازنة النفوذ الإيراني في العراق، فأقدمت على دعم القائمة “العراقية” المكونة من العرب السنة والتركمان والكرد برئاسة إياد علاوي في الانتخابات العراقية التي أجريت عام 2010 وخسر معركته حينها مع نوري المالكي، الذي تعتبره أنقرة رجل إيران في بغداد.13
تاريخياً، حاول العراق التعاون مع تركيا للسيطرة على الحركات الكردية المتمردة أثناء الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينيات القرن الماضي، حيث سمحت بغداد لتركيا بتنفيذ عمليات عبر الحدود ضد عناصر حزب العمال الكردستاني التي تمركزت في المناطق الجبلية في شمال العراق. لكن الحال تغير في السنوات الأخيرة، إذ يحاول العراق إيقاف العمليات العسكرية التركية في أراضيه ويستنكر الهجمات التركية شبه المستمرة التي تؤدي بحياة عشرات المدنيين، وتجلّى ذلك في عام 2016 حين رفض العراق مساعدة الجيش التركي في الحرب على عصابات داعش الاجرامية التي سيطرت على مناطق واسعة في العراق وسوريا، وهو ما تسبب بتوتر كبير في العلاقات الثنائية بين البلدين.
أما في ما يخص ملف المياه، حاول العراق إبرام تفاهمات دائمة تضمن حصوله على حصة عادلة من المياه؛ فالعراق يعتمد بشكل كبير جداً على نهري دجلة والفرات اللذين ينبعان من الجنوب التركي، في المناطق التي شيّدت فيها الحكومة التركية عشرات السدود والخزانات على مجاري النهرين، فانخفض منسوب المياه المتدفقة إلى العراق.
على مرّ سنوات العلاقة، دائماً ما تثبت التجربة أن تركيا لا تلتزم بالاتفاقات الدولية والثنائية بخصوص المياه وحقوق العراق المائية، فكان وما زال، هذا الملف ركناً مهماً في العلاقات الثنائية بين البلدين، فصار جزءاً أساسياً من مذكرة الاتفاق الموقعة بين البلدين في زيارة أردوغان الأخيرة للعراق في نيسان 2024.
وقد نص الاتفاق بحسب ما أوردته وكالة الأنباء العراقية (واع) على “تطوير سبل التفاهم والتعاون في قطاع المياه على مبدأ المساواة والنوايا الحسنة وحسن الجوار، ووضع رؤية جديدة لتنفيذ مشاريع البنى التحتية والاستثمارية للموارد المائية في العراق، واعتماد رؤية تهدف إلى تخصيص عادل ومنصف للمياه العابرة للحدود”، كما نص الاتفاق أيضاً على، “التعاون عبر مشاريع مشتركة لتحسين إدارة المياه في حوضي دجلة والفرات”، وأن “يستمر تنفيذه لـ10 سنوات”.
السياسة الخارجية التركية في عهد حزب العدالة والتنمية
تولي أنقرة أهمية خاصة للعالم العربي في سياستها الخارجية، بسبب القرب الجغرافي، فموقع تركيا الجيوستراتيجي الذي يتوسط قارات العالم القديم الثلاث14، يفسر توجهات سياستها الخارجية لاسيما في فترة حزب العدالة والتنمية التي بدأت عام 2002، والتغيير والاستمرار في هذه التوجهات التي استندت الى ثلاثة معايير رئيسية: أولها وأهمها: القيادة السياسية المسيطرة في البلاد، وهوية الدولة المحددة من خلال هذه القيادة. وثانيها: التأثير المتنامي للمنظمات عبر الوطنية، وثالثها: التوازنات الإقليمية المتغيّرة في المنطقة التي توجد فيها تركيا.15
كما ارتكزت السياسة التركية على خمسة مبادئ أساسية وعلى نحو ينسجم مع الرؤية الجديدة لقيادتها السياسية والاستفادة من موقعها الجغرافي ورصيدها التاريخي، تتلخص في:
- التوازن بين الأمن والديمقراطية، فانعدام هذا التوازن في أي دولة لن يحقق لهذه الدولة فرصة إقامة منطقة نفوذ في محيطها.
- سياسة تصفير المشكلات مع دول الجوار، بوجود ترابط اقتصادي كبير بين البلدان المجاورة، مثل جورجيا وبلغاريا وإيران وسوريا والعراق.
- التأثير في الأقاليم الداخلية والخارجية لدول الجوار، ولاسيما تأثير تركيا في البلقان والشرق الأوسط والقوقاز وآسيا الوسطى.
- السياسة الخارجية متعددة الأبعاد، فالعلاقات مع اللاعبين الدوليين ليست في حالة تنافس، وليست منفصلة عن بعضها البعض.
- الدبلوماسية المتناغمة، أي أداء تركيا الدبلوماسي من زاوية عضويتها في المنظمات الدولية، واستضافتها المؤتمرات والقمم الدولية.16
فتغيرت بوصلة السياسات الداخلية والخارجية للبلاد، كما تغيرت نغمة الخطاب السياسي، حيث استخدمت الحكومة في خطاباتها نغمة ذات طابع إسلامي قومي، تتناغم مع الجوار الإسلامي، واتخذت خطاً جديداً يقوم على أساس توسيع دائرة النفوذ في المنطقة عبر التجارة والاقتصاد والقوة الناعمة، واستخدام لغة تجذب الجماهير الشعبوية الإسلامية، وبالتزامن مع تعزيز القدرات العسكرية والأمنية والإدارية، وتطوير أدوات السياسة الخارجية ومجالات نشاطها، وإبراز رغبة إعادة أمجاد الماضي وعهد الامبراطورية العثمانية، وحلم إعادة السيطرة على المناطق التي كانت تحت نفوذها قبل أكثر من مئة عام، لكن بأساليب أخرى.
في بداية الألفية الجديدة، سنحت الفرصة لتركيا بتشكيل نمط جديد من العلاقات الثنائية مع العراق، وعلى مدى العقدين الماضيين ومع تغير النظام السياسي في العراق ووصول حزب العدالة والتنمية الى الحكم في تركيا في الفترة نفسها تقريباً، حصلت أحداث دراماتيكية شكلت تهديداً جديداً على الأمن القومي لتركيا، فحصول القوى الكردية على مكاسب سياسية غير مسبوقة في إقليم كردستان العراق ذي الغالبية الكردية، أثار مخاوف جدية من ارتفاع الأصوات المطالبة بالحقوق الكردية وإحياء نزعات انفصالية في الجنوب الشرقي ذي الغالبية الكردية أيضاً، وهو ما استدعى من تركيا اتباع نهج استراتيجي مختلف حيال العراق لضمان أمنها ومصالحها القومية، وكان لهذا النهج الجديد تداعيات على علاقات البلدين المشتركة وصلت الى مراحل متوترة جداً.
وفي السياق ذاته، استدعى الهاجس الأمني لتركيا إعادة النظر في سياساتها مع كل من إيران وسوريا، فسعت جاهدة إلى تطوير تلك العلاقات إلى مستوى التحالف الفاعل والتنسيق الأمني، وإيجاد شبكة قوية من العلاقات لا سيما مع إيران، التي تتمتع بالقدرة على الرد المباشر على الأخطار التي تتعرض لها من شمال العراق، وهي المنطقة التي يصنفها الأمن القومي التركي مصدر خطر17.
القضية الكردية
تعد المسألة الكردية من أهم المشاكل التي تهدد الأمن القومي لتركيا، وتمثل المناطق الحدودية مع العراق التي ينتشر على طولها كرد عراقيون تربطهم بكرد تركيا رابطة الدم والعرق والقومية، مصدر قلق كبير للحكومة التركية، فموقع العراق الجغرافي الاستراتيجي ووضعه غير المستقر، والذي تعدّه أنقرة كأنه برميل من البارود العرقي والإثني والمذهبي، إلى جانب دخول المنطقة في صراعات سياسية وسقوط أنظمة في ما سمي بـ”ثورات الربيع العربي”، الأمر الذي استلزم من تركيا التعاطي بحذر مع هذه المخاطر18.
شهدت الحدود العراقية-التركية منذ تأسيس الدولة العراقية، العديد من الثورات تحت قيادة محمود البرزاني في فترة العشرينيات من القرن المنصرم وحتى عام 1931 لكنها لم تنجح جميعها ووجهت أغلبها بالقمع، حتى توجه محمود البرزاني إلى تركيا طالباً الدعم عام 1943 فلم يوافق الأتراك.19
ومنذ عام 1984، دخل الصراع الكردي-التركي إلى كردستان العراق بقيام حزب العمال بأول عملية عسكرية استهدفت فيها القوات التركية، فاندلع الصراع العسكري واستمر حتى وقتنا الحاضر، وعلى شكل فترات تصعيد متقطعة، تتداخل فيها الهدنة والهدوء النسبي مع اشتداد القتال والمعارك، والتي خلّفت أكثر من 40 ألف ضحية من الجانبين، فتولّدت الذريعة لتواجد القوات التركية في المناطق الشمالية من العراق. ومنذ ثلاثة عقود وبالتحديد من عام 1994، لا توجد إحصاءات دقيقة وموثّقة لحجم الوجود العسكري التركي في كردستان العراق والمناطق الأخرى، لكن المعلومات التي تضمنها التقرير الصادر عن البرلمان العراقي في عام 2007، أشارت إلى وجود نحو 3 آلاف جندي تركي20، فعدد القوات تزايد في عام 1995 بعد نشوب الصراع بين الأكراد (حزب الديمقراطي والاتحاد الوطني)، وانتشرت في 10 مناطق رئيسية في إقليم كردستان العراق وكانت مهمتها إيقاف الصدام المسلح بين الحزبين الكرديين، فتواجد جزء من هذه القوات في مصيف صلاح الدين الذي يقيم فيه مسعود بارزاني، والسليمانية ودهوك وزاخو والعمادية، وبعد انتهاء الصراع في عام 1998، رفضت القوات التركية الانسحاب وبقيت متمركزة في كردستان العراق، إضافة الى ذلك، تواجدت بعض القوات في منطقة بارزاني وديانة لتدريب قوات البيشمركة (أعداد القوات موضحة في المخطط أدناه والذي نشرته صحيفة حريت التركية عام 2015).21
وتعتبر أنقرة العمليات الجارية في الوقت الحاضر، المرحلة الأخيرة من سلسلة عمليات تأمين المناطق الحدودية وغلق الحدود بالكامل والسيطرة عليها بشكل كامل وفعال، وهو ما نجحت به تركيا إلى حدٍ ما بالتعاون مع حكومة الإقليم التي يقودها الحزب الديمقراطي الكردستاني القريب من تركيا، حيث يتمتع الطرفان بعلاقات وثيقة ومصالح اقتصادية وسياسية وأمنية مهمة، ففي مؤتمر صحفي في آذار الماضي، أعلن الرئيس أردوغان عن الإعداد لعملية شاملة ضد وجود حزب العمال الكردستاني في العراق وسوريا للسيطرة على كامل المناطق الحدودية بين تركيا والعراق وتركيا وسوريا لإيقاف تحركات عناصر الحزب بين قواعدها داخل الحدود التركية و خارجها بالأخص في شمال العراق، وكذلك في شمال سوريا، ولفت أردوغان إلى أن القوات المسلحة التركية أوشكت على إتمام “الطوق الذي سيؤمن حدودها مع العراق”، وأضاف قائلا “نأمل أن نتمكّن هذا الصيف من حلّ المشكلة المتعلقة بحدودنا العراقية بشكل دائم” وأكّد على تصميم الحكومة التركية على إنشاء “حزام أمني بعمق 30 إلى 40 كيلومتراً” على طول حدودها مع سوريا والعراق لضمان عدم تحرك مقاتلي الحزب عبر الحدود حسب ما أكده وزير الدفاع التركي وكما موضح في الخريطة أدناه.22
كان ذلك قبل سقوط نظام بشار الأسد في دمشق فجر 8 كانون الأول 2024، وتمدّد هيئة تحرير الشام القريبة من تركيا -رغم أن أنقرة تصفنها إرهابية- وبعض الفصائل الأخرى الحليفة لتحلّ محلّ النظام السوري البعثي، وبموازاة ذلك تحركت فصائل “الجيش الوطني السوري” المحسوبة على تركيا بشكل حاسم، باتجاه مناطق سيطرة الإدارة الذاتية الكردية في الشمال السوري مثل منبج، وتحتشد قوات تركية شمال منطقة عين العرب كوباني من الجانب التركي، ما دفع مظلوم عبدي قائد قوات سوريا الديمقراطية المعروفة اختصارا بـ”قسد” إلى إعلان الاستعداد لإخلاء كومباني من السلاح وتحويلها منطقة منزوعة، ودفع مقاتلي الأكراد من الجنسيات غير السورية إلى خارج الحدود وفكّ الارتباط بهم، والقصد هنا هم عناصر حزب العمال من الكرد الأتراك، وهو شرط دائما ما يكرّره أردوغان ومسؤولون أتراك، لكن، وبما أن الأحداث السورية شديدة السرعة وتتغير كلّ دقيقة، ولأن التوازن في سوريا انقلب لصالح تركيا، فلن يكون معلوماً إذا كانت أنقرة ستكتفي بذلك أم أنها ستستغل اللحظة من أجل المزيد.
عراقياً، تكمن خطورة هذه الرغبة التركية، في أنه إذا دخلت قوات الجيش التركي لعمق 40 كيلومتراً داخل الأراضي العراقية، فأن ذلك يعني سيطرتها على حوالي ثلث أراضي الإقليم من دون أي رادع سياسي او عسكري. هذا الوجود العسكري يشكل ورقة ضغط كبيرة ضد سلطات الإقليم وحكومة بغداد.
هل يمكن الوثوق بتركيا؟
تعمل تركيا على تنفيذ أدوات السياسة الخارجية بين قوة صلبة (أدوات عسكرية واقتصادية وتوظيف الموارد الطبيعية) وقوة ناعمة تتنوع ما بين (أدوات ثقافية وسياسية ودبلوماسية وقانونية)23. تعتمد تركيا سياسة خارجية براغماتية جداً تضع مصالحها دائماً في المقام الأول وتمنحها مرونة كبيرة في التحول من موقف الى آخر، ورغم عدم وجود “ثقة” في قاموس السياسة، لكنّ كل ما تقدّم أدّى إلى عدم الوثوق بأفعال تركيا أو التنبؤ بها. مثال على ذلك عندما غيّرت في الآونة الأخيرة بشكل غير متوقع سياساتها تجاه الأحزاب الكردية المؤيدة لحزب العمال الكردستاني في غضون أيام قليلة في داخل تركيا، وكذلك تجاه حزب العمال الكردستاني، ودعت بصورة مفاجئة إلى انفتاحها على جهود إحياء عملية السلام التي توقفت في عام 2015، وبدأت محادثات مع زعيم حزب العمال الكردستاني المسجون عبد الله أوجلان الذي تسرّبت أخبار عن إمكانية الإفراج عنه، وفي الوقت نفسه تستمر قواتها المسلحة بقصف مقرات الحزب الكردي في شمالي العراق وسوريا، لذلك يميل الكرد دائماً إلى النظر إلى دعوة تركيا إلى السلام بعين الشك.
يقف العراق في موقع غير مريح بين إرضاء إيران، وبين الحفاظ على علاقات متوازنة مع الولايات المتحدة وحليفتها في الشرق الأوسط، تركيا، وهذا ليس بالأمر السهل، لأنهما من القوى الكبرى في المنطقة، تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي، وتطوّر ترسانتها وصناعاتها الحربية، بينما تمتلك إيران ترسانة عسكرية قوية وصواريخ باليستية، الأمر الذي يفرض على العراق أن يعتمد سياسة ذكية سواء في ما يتعلق بالاقتصاد والتجارة والاستثمار، أو قطاع النفط، أو القضايا العسكرية والأمنية، وأن يتعامل بحذر شديد في قراراته وسياساته تجاه القوى الإقليمية الفاعلة تركيا وايران. فبالنسبة لتركيا، ينظر العراق لنواياها وسياساتها في المنطقة بعين الشك، فحلم استعادة الأمجاد العثمانية مرة أخرى ما زال يراودها، وتسعى بشكل حثيث لتحقيقه، لذلك يتحفظ العراق على سياسات تركيا لاسيما المتعلقة بوجودها العسكري في إقليمه الكردي، ويرفض تدخلاتها السياسية لاسيما علاقاتها ببعض الأحزاب والشخصيات وبالمكون والأحزاب التركمانية في العراق.