صنمٌ آخرُ يتهاوى: خيارات بغداد بعد سقوط طاغية دمشق 

علي خنجر

11 كانون الأول 2024

ما المطلوب اليوم من "النخبة" العراقية أمام التحوّل الكبير الذي تشهده سوريا؟ وأي مخاطر يمكن أن يشهدها العراق إذا استمر تحت عباءة إيران التي تشهد هزائم كبيرة؟ مقال مفصّل عن خيارات بغداد بعد سقوط طاغية دمشق..

“سقط بشار” كلمتان تختزلان الكثير، وليس الكثير إلّا كثيراً من الدم والدمار والتهجير والجوع والتغييب والانقسام، عاشتها سوريا منذ اندلع الصراع عام 2011، وراح ضحيته أكثر من 600 ألف شخص، واضطُر أكثر من 13 مليوناً آخرين لترك منازلهم ومدنهم إما هرباً إلى خيمةٍ ما في بقعة أخرى من الخريطة السورية، أو لجوءاً إلى دول أخرى في موجة نزوح لم تشهد الألفية مثيلاً لها ذلك الحين.  

وما سنوات الحرب التي اندلعت إثر التعامل الدموي للحكومة مع التظاهرات الشعبية، إلّا جزءاً من نحو 54 سنة استحوذت فيها عائلة الأسد على السلطة في البلاد، منذ سيطر الأسد الأب، حافظ، عليها عام 1970 وانتقلت لابنه بشار عقب وفاته عام 2000 وحتى فجر الثامن من كانون الأول 2024. 

الانهيار الكبير 

في صباح 27 من تشرين الثاني، بدأت فصائل معارضة مسلحة عملية عسكرية أسمتها “ردع العدوان” انطلاقاً من محافظة إدلب-شمال غربي سوريا وخارج سيطرة النظام- نحو أرياف المحافظة الجنوبية ومساحات من محافظة حلب المجاورة لها من جهة الشرق، لكنّ هشاشة الجيش السوري والميليشيات المتمركزة في تلك المنطقة فتحت الطريق لسيطرة سريعة وخاطفة على كلّ محافظة حلب ومدينتها لتخرج بالكامل من يد حكومة الأسد والميليشيات متعددة الجنسيات للمرة الأولى منذ 2011 فتساقطت بعدها البلدات والقرى واحدة تلو الأخرى، مثل محافظة حماة جنوب حلب، والتي تُعرف بخزانها البشري المعارض لحكم الأسد، وتعرضت عام 1982 لمجزرة على يد الأسد الأب. بعدها، انكسر الركود في الجنوب، بمحافظة درعا التي تربطها حدود مع الأردن، والسويداء الملاصقة لها، فبدأ الناس بالتجمّع والهتاف، ثم تحوّلوا بغضون ساعات لحمل السلاح وأعلنوا “غرفة عمليات الجنوب” فخرجت المحافظتان من سيطرة النظام، كل ذلك كان يقابله موقف عسكري واحد من الجيش: الانسحاب/ إعادة التموضع. 

العراق يراقب.. العراق يرتبك 

مع كل دقيقة من أيام الطوفان السوري الـ11، كان العالم يترقب، يحلل، يتنبأ، ويتفاعل مع الأحداث السورية، وللعراق نصيب كبير من الحالة: فبينما كان الجيش السوري والفصائل المسلحة المتحالفة معه، وبضمنها عراقية، يتعرضون لانهيارات كبيرة، أعلن العراق في 30 من تشرين الثاني -أي بعد 3 أيام من بدء العملية التي تزامنت مع زيارة السوداني إلى إسبانيا 27 تشرين الثاني- إغلاق حدوده مع سوريا وأجرى رئيس وزرائه محمد شياع السوداني اتصالاً ببشار الأسد، وفي اليوم الذي أعقبه، ترأس اجتماعاً طارئاً للمجلس الوزاري للأمن الوطني لبحث الأوضاع في ظل ما يحدث في سوريا، بعدها بيومين فقط، أجرى السوداني اتصالاً بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان أبلغه فيه أن “العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة في سوريا وعمليات التطهير العرقي للمكونات والمذاهب” كما جاء في بيان مكتبه الإعلامي أن السوداني قال لأردوغان إن “ما يحدث في سوريا يصب بمصلحة الكيان الصهيوني”. 

 في اليوم الذي تلاه، ذهب رئيس مجلس الوزراء إلى مجلس النواب في استضافةٍ أصرّ على تبيان أنها بطلب منه، ومن منصة مجلس النواب كرّر أن العراق لن يقف متفرجاً، لكنه أضاف هذه المرة: “لا نريد للعراق أن نزجّه في حرب أو متاهة تأتي على كل امتيازات العملية السياسية”. 

اقرأ أيضاً

لم أُرِد أن أكون ابنة الحربين: رحلتان من سوريا والعراق وإليهما 

فتح تصريح رئيس الوزراء باب التكهنات والمخاوف وتسرّبت معها خطابات طائفية، فصار الفضاء الإلكتروني العام في العراق مُقسّماً بين متخوف من زج البلاد في حرب، وداعٍ لإرسال نجدة للأسد، ومُجترٍ لروايات طائفية، حالة عززتها المواقف شديدة التناقض لقادة العملية السياسية، التي تأرجحت بين الدعوة لتكرار تجربة إرسال مقاتلين ونداءات النأي بالعراق عن هذه الحرب بصفتها شأناً سورياً داخلياً، في وقت كشفت فيه رويترز عن إرسال مقاتلين إضافيين من الميليشيات العراقية لمساندة الجيش السوري بالقتال، حتى جاء تصريح رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض بالنفي والتأكيد أن ما يحدث في سوريا شأن داخلي. 

لاحقاً، وحين صار بشار الأسد من الماضي في التاريخ السوري، تغيّرت بعض مفردات الخطاب العراقي، فجاء بيان الناطق باسم الحكومة العراقية باسم العوّادي مطرّزاً بجملة “احترام الإرادة الحرة لكل السوريين” مع تكرار جديد لعدم التدخل بالشأن السوري. 

الانقسام 

على الجانب الآخر من الحدود، كانت الفصائل تتقدم على الأرض، وعلى منصات الخطاب الإعلامي أيضاً، حيث خرج قائد “إدارة العمليات العسكرية” التي تقود العملية أبو محمد الجولاني الذي صار يستخدم اسمه الحقيقي “أحمد الشرع” بمقطع مصوّر لا يمكن وصفه إلّا بالذكي، وجه خلاله كلمة لرئيس الحكومة العراقية، يطالبه بمنع تدخل الميليشيات من جهة، ويطمئن العراقيين أن الحال لن يمتد لحدودهم من أخرى. 

قسّمت “ردع العدوان” وسقوط بشار الأسد العراقيين، وبيّنت مرّة أخرى، حاجة العراق لإعادة بناء أساسات نظامه الحاكم بطريقة جامعة، حيث شجّعت العملية في سوريا بعض الأصوات السُنية العراقية على استدعاء المظالم التي تعرّض لها المجتمع العراقي السُني وخصوصاً تلك التي ارتكبتها ميليشيات شيعية، لدرجة تبييض صورة الجولاني، بمقابل أصوات شيعية –عدا مقتدى الصدر على الأقل- رفعت شعارَ “لن تُسبى زينب مرّتَيْن”، مذكّرةً بتاريخ الجولاني المطلوب دولياً لانتمائه السابق إلى تنظيم القاعدة وارتكابه جرائم في العراق وسوريا، صوتان، أحدهما يحوّل الجولاني إلى “أحمد الشرع” منقذ شعب سوريا المظلوم، وآخر يقصر الجولاني على ذاك الذي بايع الزرقاوي والبغدادي والظواهري، إلّا أن الحقيقة أكثر تعقيداً بالنسبة له وللمشهد السوري. 

لعبة الأسماء 

هيأت الحرب التي اندلعت عام 2011 في سوريا الأجواء لظهور تنظيمات مسلحة عدّة، وفتحت الفوضى وانفلاتُ الأمن المجال لدخول أخرى، فشهدت الأراضي السورية ولادة وتفكُّك عشرات الجماعات الجهادية، واندمج بعضها ببعض آخر، وتغير موقف بعضها من خندق لآخر… وبمقدمتها “هيئة تحرير الشام” التي لعبت دوراً محورياً في الصراع وصولاً إلى حسمه بإسقاط الأسد. 

للهيئة تاريخ طويل ومعقد في الصراع السوري، إذ مرت بأربع مراحل منذ تأسيسها هي: 

  • الأولى: (البزوغ) (2012-2013) وفيها ظهرت لأول مرّة تحت اسم جبهة النصرة، وجرى تشكيلها وتمويلها من جانب تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” لتكون فرعها السوري. 
  • الثانية: (الانفصال) (2013-2016) انفصلت خلالها جبهة النصرة عن “داعش” وأعلن زعيمها-الجولاني- البيعة لأيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة آنذاك، لتكون فرع التنظيم في بلاد الشام. 
  • الثالثة: (الاستقلال) (2016-2017) وفيها، قطعت جبهة النصرة علاقاتها مع تنظيم القاعدة ظاهرياً ثم شكلت تحالفاً عسكرياً مع فصائل محلية أخرى، وغيّرت اسمها إلى “جبهة فتح الشام”. 
  • الرابعة (2017 حتى الآن) وفيها انفصلت جبهة فتح الشام عن تنظيم القاعدة واندمجت مع فصائل محلية أخرى تحت اسم “هيئة تحرير الشام”. 

حظي تأسيس الكيان الجديد حينها بمباركة رجال دين بارزين في سوريا من بينهم الداعية عبد الله المحيسني المولود في السعودية والذي كان مفتياً لجيش الفتح -اتحاد مجموعة فصائل جهادية بين 2015 و2017-، ووقّع رجال الدين على بيان منفصل أعلنوا فيه نيتهم الانضمام لتحرير الشام. 

غفلة.. مفارقة 

مُذّاك، يحكم الجولاني منطقة إدلب في الزاوية الشمالية الغربية من الخارطة السورية، وبدأ بالظهور للفضاء العام، متسلّحاً بآلة إعلامية، كحاكم يستمع للناس، ويحرص على تقديم الخدمات، ويزور الأقليات، ويحضر فعاليات معرض الكتاب وينظّم عدداً من المهرجانات المثيلة ويتجوّل في معرض آخر للفن التشكيلي، وشهدت شوارع المحافظة شبه المعزولة تظاهرات ضد حكمه والهيئة التي يقود، وصلت إلى حد المطالبة بتنحيه. 

لم يكن الفاعل السياسي في العراق يراقب ما يحدث في تلك البقعة الصغيرة البعيدة عن حدوده، طيلة هذه السنوات، كان يكتفي بترك الملف السوري في يد ميليشيات عراقية موالية لإيران يتمركز عدد كبير من عناصرها في مناطق عدة من سوريا، وفي مفارقة عجيبة، بالمقارنة مع مدينة يحكمها “تنظيم إرهابي”، انشغل ساسة العراق خلال الفترة ذاتها بابتكار طرائق تمنع النقد والتظاهرات والإعلام الحرّ في البلاد. 

الخارطة.. لا ثبات 

قبل “ردع العدوان”، كانت الخارطة السورية مستقرة على التقسيم التالي: إدلب في يد هيئة تحرير الشام، الحسكة والرقة وجزء من دير الزور وبعض المساحات في ريف حلب الشمالي بيد “قسد” المدعومة من قبل الولايات المتحدة وتعبر إسرائيل علناً عن دعمها، بعض مناطق الشمال مثل عفرين وجرابلس تخضع لفصائل مسلحة موالية لتركيا تعرف باسم “الجيش الوطني السوري”، منطقة التَنَف في الجنوب الشرقي تحت سيطرة فصائل “الجيش الحر” المتحالفة مع الولايات المتحدة، وبقية المحافظات تحت سيطرة النظام بقيادة بشار الأسد وحلفائه (روسيا وحزب الله وميليشيات إيرانية وموالية لإيران) بدرجات متفاوتة، ففي السويداء ذات الغالبية الدرزية تقل سطوتهم، بينما تثقل في مناطق متاخمة للبنان مثل القصير وفي دمشق وأرياف حلب وحمص وجزء من دير الزور. 

كانت الطريق من طهران سالكةً إلى بيروت وضاحيتها الجنوبية، لكن سقوط بشار الأسد والانسحاب الكبير للميليشيات الموالية لإيران قطعها، وعزل حزب الله الذي تعرّض لأقسى الضربات في تاريخه أثناء حربه مع إسرائيل، وخسرت الميليشيات العراقية مواقع متاخمة للقواعد العسكرية الأمريكية في مناطق “قسد” ليس كل هذا إلّا خسارة لإيران -وروسيا بالطبع-، لم تسبقها واحدة بهذا الحجم منذ الثورة الإسلامية عام 1979، خصوصاً في هذا التوقيت الذي تعيش إيران فيه حالة حرب تقريباً مع إسرائيل في المنطقة منذ عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر من العام الماضي، حرب تغيّرت فيها ما تُعرف بـ”قواعد الاشتباك” واختلّ “توازن الرعب” بتصفية قيادة حزب الله واغتيال زعيمه الرمز حسن نصر الله، ثم انكسر في سوريا. 

الاندفاع.. الارتجال 

اندفع أصدقاء إيران في بغداد إلى اتهام المعارضة السورية بالعمالة لإسرائيل -وتركيا-، نظراً لتوقيت العملية الذي أعقب الهدنة بين إسرائيل وحزب الله في لبنان بيوم واحد، ولا يمكن، بأيّ حال، نفي الفائدة الاستراتيجية التي جنتها إسرائيل، فسرعان ما ذهب بنيامين نتنياهو إلى الجولان المحتل، وأطلّ من على الحدود مع سوريا بتصريحات اعتبر فيها سقوط بشار باليوم التاريخي، وتوغل الجيش الإسرائيلي إلى الأراضي السورية واحتلّ مساحات منها، ثم صار يحذر أهالي القرى من الخروج من منازلهم، وألحق ذلك بعشرات الغارات على مواقع الجيش السوري ومعداته، حيث أعلن شنّ نحو 350 غارة خلال 48 ساعة فقط، وهنالك أخرى منتظرة

في العراق الجديد، يستعصي على المراقب ملاحظة أيّ تصرف قائم على نظرة بعيدة المدى، ودائما ما تتشح تصرفات الحكومات المتعاقبة، ومحرّكيها الرئيسيين، بالارتجالية، والتسرع، وغالباً ما تنطلق من جحر فئوي/ مذهبي، فبينما “يتحنبل” سياسيو العراق بموقفهم تجاه ما حدث في سوريا، كشفت رويترز، نقلا عن مسؤول إيراني رفيع، أن طهران فتحت قنوات اتصال بفصائل المعارضة السورية التي أطاحت بالأسد، ذاتها الفصائل ذات التاريخ الإرهابي، ولم يقتصر الأمر على إيران؛ البيت الأبيض أكّد أنه يسلك الطريق ذاته، وسرعان ما ظهرت أخبار أن الإدارة الأمريكية ستدرس رفع الهيئة من قائمة الإرهاب، ولحقتها أخبار من داوننغ ستريت عن النية ذاتها لدى حكومة المملكة المتحدة البريطانية. 

الهشاشة.. الفرصة 

تبرهن الأحداث الكبرى، مثل السقوط الأسدي والتحوّل الدمشقي هذا، هشاشة “العراق الجديد” وحاجته لإعادة بناء الأسس التي قام عليها منذ الاحتلال الأمريكي 2003، وللمفارقة، دائماً ما تكون هذه الأحداث، مع خطورتها، فرصةً للتصحيح العراقي؛ فبإمكان النخبة، أو من نُصبوا على العراقيين كنخبة، تجنيب العراق ارتدادات الزلزال الشرق أوسطي، وبإمكانها أيضاً تحويل سكّة قطار العراقيين من الإقصاء والتضييق وسنّ القوانين المقوِّضة لحقوق الإنسان والفساد والتقاسم الإثني للسلطة… إلى المشاركة الفعلية والتطوير وتصفير الخلافات وجبر الضرر الذي طال فئات كثيرة من المجتمع العراقي، ولحسن الحظ أيضاً يمتلك هذا المجتمع قدرة تفوق ما لدى مجتمعات -تعددية- أخرى، على التعايش وتجاوز الخلافات. 

اقرأ أيضاً

الخروج من جنة مطاعم السوريين في مدن كردستان 

لن يكون الغد السوري مضموناً في ظل تعدّد الأطراف المسلحة والتاريخ “الجهادي” لبعضها واختلاف الرؤى والحالة التي تعيشها المنطقة والعالم، لكنْ، المضمونُ هو الحاضر العراقي، فلن يكون عصياً حماية الحدود بيد، والتفاهم مع الأطراف (المحلية، السورية، الإقليمية، الدولية) بأخرى، كي لا تتكرر مشاهد إرسال عناصر تعيد بث الحياة في الإرهاب، كما فعل نظام الأسد نفسه إبان الحرب الأهلية التي أعقبت الاحتلال الأمريكي للعراق، ولن يكون هذا ممكناً من دون إغلاق الحدود بوجه الذاهبين إلى سوريا: الميليشيات التي نشطت هناك وساعدت الأسد بالحفاظ على كرسيه طيلة 13 سنةً، وارتكاب فظائع بحق مواطنيه، ومكّنت إيران من المحافظة على طريقها المقدّس. 

في حالة كالتي يعيشها “الشرق الأوسط الجديد” تحوّل العراق إلى منطقة تركُّز النفوذ الإيراني، ستستدعي، بالضرورة، الشهية الإسرائيلية/ الأمريكية للاستمرار بضرب امتدادات طهران في ظل حالة التراجع الكبير التي تعيشها الجمهورية الإسلامية، وأمام النخبة العراقية فرصة لدرء هذا العدوان المحتمل، لكنْ ليس من دون الخروج، ولو جزئياً، من العباءة الإيرانية، مع الحفاظ على مواقف العراق التاريخية من قضايا كبرى كالقضية الفلسطينية، وفي حالة كالتي يعيشها نظام المرشد، سيكون التملّص من نفوذها، والاصطفاف مع الدولة الوطنية، أسهل من ذي قبل.  

* تنشر هذه المادة بالشراكة مع الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية ”نيريج” 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

“سقط بشار” كلمتان تختزلان الكثير، وليس الكثير إلّا كثيراً من الدم والدمار والتهجير والجوع والتغييب والانقسام، عاشتها سوريا منذ اندلع الصراع عام 2011، وراح ضحيته أكثر من 600 ألف شخص، واضطُر أكثر من 13 مليوناً آخرين لترك منازلهم ومدنهم إما هرباً إلى خيمةٍ ما في بقعة أخرى من الخريطة السورية، أو لجوءاً إلى دول أخرى في موجة نزوح لم تشهد الألفية مثيلاً لها ذلك الحين.  

وما سنوات الحرب التي اندلعت إثر التعامل الدموي للحكومة مع التظاهرات الشعبية، إلّا جزءاً من نحو 54 سنة استحوذت فيها عائلة الأسد على السلطة في البلاد، منذ سيطر الأسد الأب، حافظ، عليها عام 1970 وانتقلت لابنه بشار عقب وفاته عام 2000 وحتى فجر الثامن من كانون الأول 2024. 

الانهيار الكبير 

في صباح 27 من تشرين الثاني، بدأت فصائل معارضة مسلحة عملية عسكرية أسمتها “ردع العدوان” انطلاقاً من محافظة إدلب-شمال غربي سوريا وخارج سيطرة النظام- نحو أرياف المحافظة الجنوبية ومساحات من محافظة حلب المجاورة لها من جهة الشرق، لكنّ هشاشة الجيش السوري والميليشيات المتمركزة في تلك المنطقة فتحت الطريق لسيطرة سريعة وخاطفة على كلّ محافظة حلب ومدينتها لتخرج بالكامل من يد حكومة الأسد والميليشيات متعددة الجنسيات للمرة الأولى منذ 2011 فتساقطت بعدها البلدات والقرى واحدة تلو الأخرى، مثل محافظة حماة جنوب حلب، والتي تُعرف بخزانها البشري المعارض لحكم الأسد، وتعرضت عام 1982 لمجزرة على يد الأسد الأب. بعدها، انكسر الركود في الجنوب، بمحافظة درعا التي تربطها حدود مع الأردن، والسويداء الملاصقة لها، فبدأ الناس بالتجمّع والهتاف، ثم تحوّلوا بغضون ساعات لحمل السلاح وأعلنوا “غرفة عمليات الجنوب” فخرجت المحافظتان من سيطرة النظام، كل ذلك كان يقابله موقف عسكري واحد من الجيش: الانسحاب/ إعادة التموضع. 

العراق يراقب.. العراق يرتبك 

مع كل دقيقة من أيام الطوفان السوري الـ11، كان العالم يترقب، يحلل، يتنبأ، ويتفاعل مع الأحداث السورية، وللعراق نصيب كبير من الحالة: فبينما كان الجيش السوري والفصائل المسلحة المتحالفة معه، وبضمنها عراقية، يتعرضون لانهيارات كبيرة، أعلن العراق في 30 من تشرين الثاني -أي بعد 3 أيام من بدء العملية التي تزامنت مع زيارة السوداني إلى إسبانيا 27 تشرين الثاني- إغلاق حدوده مع سوريا وأجرى رئيس وزرائه محمد شياع السوداني اتصالاً ببشار الأسد، وفي اليوم الذي أعقبه، ترأس اجتماعاً طارئاً للمجلس الوزاري للأمن الوطني لبحث الأوضاع في ظل ما يحدث في سوريا، بعدها بيومين فقط، أجرى السوداني اتصالاً بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان أبلغه فيه أن “العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة في سوريا وعمليات التطهير العرقي للمكونات والمذاهب” كما جاء في بيان مكتبه الإعلامي أن السوداني قال لأردوغان إن “ما يحدث في سوريا يصب بمصلحة الكيان الصهيوني”. 

 في اليوم الذي تلاه، ذهب رئيس مجلس الوزراء إلى مجلس النواب في استضافةٍ أصرّ على تبيان أنها بطلب منه، ومن منصة مجلس النواب كرّر أن العراق لن يقف متفرجاً، لكنه أضاف هذه المرة: “لا نريد للعراق أن نزجّه في حرب أو متاهة تأتي على كل امتيازات العملية السياسية”. 

اقرأ أيضاً

لم أُرِد أن أكون ابنة الحربين: رحلتان من سوريا والعراق وإليهما 

فتح تصريح رئيس الوزراء باب التكهنات والمخاوف وتسرّبت معها خطابات طائفية، فصار الفضاء الإلكتروني العام في العراق مُقسّماً بين متخوف من زج البلاد في حرب، وداعٍ لإرسال نجدة للأسد، ومُجترٍ لروايات طائفية، حالة عززتها المواقف شديدة التناقض لقادة العملية السياسية، التي تأرجحت بين الدعوة لتكرار تجربة إرسال مقاتلين ونداءات النأي بالعراق عن هذه الحرب بصفتها شأناً سورياً داخلياً، في وقت كشفت فيه رويترز عن إرسال مقاتلين إضافيين من الميليشيات العراقية لمساندة الجيش السوري بالقتال، حتى جاء تصريح رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض بالنفي والتأكيد أن ما يحدث في سوريا شأن داخلي. 

لاحقاً، وحين صار بشار الأسد من الماضي في التاريخ السوري، تغيّرت بعض مفردات الخطاب العراقي، فجاء بيان الناطق باسم الحكومة العراقية باسم العوّادي مطرّزاً بجملة “احترام الإرادة الحرة لكل السوريين” مع تكرار جديد لعدم التدخل بالشأن السوري. 

الانقسام 

على الجانب الآخر من الحدود، كانت الفصائل تتقدم على الأرض، وعلى منصات الخطاب الإعلامي أيضاً، حيث خرج قائد “إدارة العمليات العسكرية” التي تقود العملية أبو محمد الجولاني الذي صار يستخدم اسمه الحقيقي “أحمد الشرع” بمقطع مصوّر لا يمكن وصفه إلّا بالذكي، وجه خلاله كلمة لرئيس الحكومة العراقية، يطالبه بمنع تدخل الميليشيات من جهة، ويطمئن العراقيين أن الحال لن يمتد لحدودهم من أخرى. 

قسّمت “ردع العدوان” وسقوط بشار الأسد العراقيين، وبيّنت مرّة أخرى، حاجة العراق لإعادة بناء أساسات نظامه الحاكم بطريقة جامعة، حيث شجّعت العملية في سوريا بعض الأصوات السُنية العراقية على استدعاء المظالم التي تعرّض لها المجتمع العراقي السُني وخصوصاً تلك التي ارتكبتها ميليشيات شيعية، لدرجة تبييض صورة الجولاني، بمقابل أصوات شيعية –عدا مقتدى الصدر على الأقل- رفعت شعارَ “لن تُسبى زينب مرّتَيْن”، مذكّرةً بتاريخ الجولاني المطلوب دولياً لانتمائه السابق إلى تنظيم القاعدة وارتكابه جرائم في العراق وسوريا، صوتان، أحدهما يحوّل الجولاني إلى “أحمد الشرع” منقذ شعب سوريا المظلوم، وآخر يقصر الجولاني على ذاك الذي بايع الزرقاوي والبغدادي والظواهري، إلّا أن الحقيقة أكثر تعقيداً بالنسبة له وللمشهد السوري. 

لعبة الأسماء 

هيأت الحرب التي اندلعت عام 2011 في سوريا الأجواء لظهور تنظيمات مسلحة عدّة، وفتحت الفوضى وانفلاتُ الأمن المجال لدخول أخرى، فشهدت الأراضي السورية ولادة وتفكُّك عشرات الجماعات الجهادية، واندمج بعضها ببعض آخر، وتغير موقف بعضها من خندق لآخر… وبمقدمتها “هيئة تحرير الشام” التي لعبت دوراً محورياً في الصراع وصولاً إلى حسمه بإسقاط الأسد. 

للهيئة تاريخ طويل ومعقد في الصراع السوري، إذ مرت بأربع مراحل منذ تأسيسها هي: 

  • الأولى: (البزوغ) (2012-2013) وفيها ظهرت لأول مرّة تحت اسم جبهة النصرة، وجرى تشكيلها وتمويلها من جانب تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” لتكون فرعها السوري. 
  • الثانية: (الانفصال) (2013-2016) انفصلت خلالها جبهة النصرة عن “داعش” وأعلن زعيمها-الجولاني- البيعة لأيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة آنذاك، لتكون فرع التنظيم في بلاد الشام. 
  • الثالثة: (الاستقلال) (2016-2017) وفيها، قطعت جبهة النصرة علاقاتها مع تنظيم القاعدة ظاهرياً ثم شكلت تحالفاً عسكرياً مع فصائل محلية أخرى، وغيّرت اسمها إلى “جبهة فتح الشام”. 
  • الرابعة (2017 حتى الآن) وفيها انفصلت جبهة فتح الشام عن تنظيم القاعدة واندمجت مع فصائل محلية أخرى تحت اسم “هيئة تحرير الشام”. 

حظي تأسيس الكيان الجديد حينها بمباركة رجال دين بارزين في سوريا من بينهم الداعية عبد الله المحيسني المولود في السعودية والذي كان مفتياً لجيش الفتح -اتحاد مجموعة فصائل جهادية بين 2015 و2017-، ووقّع رجال الدين على بيان منفصل أعلنوا فيه نيتهم الانضمام لتحرير الشام. 

غفلة.. مفارقة 

مُذّاك، يحكم الجولاني منطقة إدلب في الزاوية الشمالية الغربية من الخارطة السورية، وبدأ بالظهور للفضاء العام، متسلّحاً بآلة إعلامية، كحاكم يستمع للناس، ويحرص على تقديم الخدمات، ويزور الأقليات، ويحضر فعاليات معرض الكتاب وينظّم عدداً من المهرجانات المثيلة ويتجوّل في معرض آخر للفن التشكيلي، وشهدت شوارع المحافظة شبه المعزولة تظاهرات ضد حكمه والهيئة التي يقود، وصلت إلى حد المطالبة بتنحيه. 

لم يكن الفاعل السياسي في العراق يراقب ما يحدث في تلك البقعة الصغيرة البعيدة عن حدوده، طيلة هذه السنوات، كان يكتفي بترك الملف السوري في يد ميليشيات عراقية موالية لإيران يتمركز عدد كبير من عناصرها في مناطق عدة من سوريا، وفي مفارقة عجيبة، بالمقارنة مع مدينة يحكمها “تنظيم إرهابي”، انشغل ساسة العراق خلال الفترة ذاتها بابتكار طرائق تمنع النقد والتظاهرات والإعلام الحرّ في البلاد. 

الخارطة.. لا ثبات 

قبل “ردع العدوان”، كانت الخارطة السورية مستقرة على التقسيم التالي: إدلب في يد هيئة تحرير الشام، الحسكة والرقة وجزء من دير الزور وبعض المساحات في ريف حلب الشمالي بيد “قسد” المدعومة من قبل الولايات المتحدة وتعبر إسرائيل علناً عن دعمها، بعض مناطق الشمال مثل عفرين وجرابلس تخضع لفصائل مسلحة موالية لتركيا تعرف باسم “الجيش الوطني السوري”، منطقة التَنَف في الجنوب الشرقي تحت سيطرة فصائل “الجيش الحر” المتحالفة مع الولايات المتحدة، وبقية المحافظات تحت سيطرة النظام بقيادة بشار الأسد وحلفائه (روسيا وحزب الله وميليشيات إيرانية وموالية لإيران) بدرجات متفاوتة، ففي السويداء ذات الغالبية الدرزية تقل سطوتهم، بينما تثقل في مناطق متاخمة للبنان مثل القصير وفي دمشق وأرياف حلب وحمص وجزء من دير الزور. 

كانت الطريق من طهران سالكةً إلى بيروت وضاحيتها الجنوبية، لكن سقوط بشار الأسد والانسحاب الكبير للميليشيات الموالية لإيران قطعها، وعزل حزب الله الذي تعرّض لأقسى الضربات في تاريخه أثناء حربه مع إسرائيل، وخسرت الميليشيات العراقية مواقع متاخمة للقواعد العسكرية الأمريكية في مناطق “قسد” ليس كل هذا إلّا خسارة لإيران -وروسيا بالطبع-، لم تسبقها واحدة بهذا الحجم منذ الثورة الإسلامية عام 1979، خصوصاً في هذا التوقيت الذي تعيش إيران فيه حالة حرب تقريباً مع إسرائيل في المنطقة منذ عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر من العام الماضي، حرب تغيّرت فيها ما تُعرف بـ”قواعد الاشتباك” واختلّ “توازن الرعب” بتصفية قيادة حزب الله واغتيال زعيمه الرمز حسن نصر الله، ثم انكسر في سوريا. 

الاندفاع.. الارتجال 

اندفع أصدقاء إيران في بغداد إلى اتهام المعارضة السورية بالعمالة لإسرائيل -وتركيا-، نظراً لتوقيت العملية الذي أعقب الهدنة بين إسرائيل وحزب الله في لبنان بيوم واحد، ولا يمكن، بأيّ حال، نفي الفائدة الاستراتيجية التي جنتها إسرائيل، فسرعان ما ذهب بنيامين نتنياهو إلى الجولان المحتل، وأطلّ من على الحدود مع سوريا بتصريحات اعتبر فيها سقوط بشار باليوم التاريخي، وتوغل الجيش الإسرائيلي إلى الأراضي السورية واحتلّ مساحات منها، ثم صار يحذر أهالي القرى من الخروج من منازلهم، وألحق ذلك بعشرات الغارات على مواقع الجيش السوري ومعداته، حيث أعلن شنّ نحو 350 غارة خلال 48 ساعة فقط، وهنالك أخرى منتظرة

في العراق الجديد، يستعصي على المراقب ملاحظة أيّ تصرف قائم على نظرة بعيدة المدى، ودائما ما تتشح تصرفات الحكومات المتعاقبة، ومحرّكيها الرئيسيين، بالارتجالية، والتسرع، وغالباً ما تنطلق من جحر فئوي/ مذهبي، فبينما “يتحنبل” سياسيو العراق بموقفهم تجاه ما حدث في سوريا، كشفت رويترز، نقلا عن مسؤول إيراني رفيع، أن طهران فتحت قنوات اتصال بفصائل المعارضة السورية التي أطاحت بالأسد، ذاتها الفصائل ذات التاريخ الإرهابي، ولم يقتصر الأمر على إيران؛ البيت الأبيض أكّد أنه يسلك الطريق ذاته، وسرعان ما ظهرت أخبار أن الإدارة الأمريكية ستدرس رفع الهيئة من قائمة الإرهاب، ولحقتها أخبار من داوننغ ستريت عن النية ذاتها لدى حكومة المملكة المتحدة البريطانية. 

الهشاشة.. الفرصة 

تبرهن الأحداث الكبرى، مثل السقوط الأسدي والتحوّل الدمشقي هذا، هشاشة “العراق الجديد” وحاجته لإعادة بناء الأسس التي قام عليها منذ الاحتلال الأمريكي 2003، وللمفارقة، دائماً ما تكون هذه الأحداث، مع خطورتها، فرصةً للتصحيح العراقي؛ فبإمكان النخبة، أو من نُصبوا على العراقيين كنخبة، تجنيب العراق ارتدادات الزلزال الشرق أوسطي، وبإمكانها أيضاً تحويل سكّة قطار العراقيين من الإقصاء والتضييق وسنّ القوانين المقوِّضة لحقوق الإنسان والفساد والتقاسم الإثني للسلطة… إلى المشاركة الفعلية والتطوير وتصفير الخلافات وجبر الضرر الذي طال فئات كثيرة من المجتمع العراقي، ولحسن الحظ أيضاً يمتلك هذا المجتمع قدرة تفوق ما لدى مجتمعات -تعددية- أخرى، على التعايش وتجاوز الخلافات. 

اقرأ أيضاً

الخروج من جنة مطاعم السوريين في مدن كردستان 

لن يكون الغد السوري مضموناً في ظل تعدّد الأطراف المسلحة والتاريخ “الجهادي” لبعضها واختلاف الرؤى والحالة التي تعيشها المنطقة والعالم، لكنْ، المضمونُ هو الحاضر العراقي، فلن يكون عصياً حماية الحدود بيد، والتفاهم مع الأطراف (المحلية، السورية، الإقليمية، الدولية) بأخرى، كي لا تتكرر مشاهد إرسال عناصر تعيد بث الحياة في الإرهاب، كما فعل نظام الأسد نفسه إبان الحرب الأهلية التي أعقبت الاحتلال الأمريكي للعراق، ولن يكون هذا ممكناً من دون إغلاق الحدود بوجه الذاهبين إلى سوريا: الميليشيات التي نشطت هناك وساعدت الأسد بالحفاظ على كرسيه طيلة 13 سنةً، وارتكاب فظائع بحق مواطنيه، ومكّنت إيران من المحافظة على طريقها المقدّس. 

في حالة كالتي يعيشها “الشرق الأوسط الجديد” تحوّل العراق إلى منطقة تركُّز النفوذ الإيراني، ستستدعي، بالضرورة، الشهية الإسرائيلية/ الأمريكية للاستمرار بضرب امتدادات طهران في ظل حالة التراجع الكبير التي تعيشها الجمهورية الإسلامية، وأمام النخبة العراقية فرصة لدرء هذا العدوان المحتمل، لكنْ ليس من دون الخروج، ولو جزئياً، من العباءة الإيرانية، مع الحفاظ على مواقف العراق التاريخية من قضايا كبرى كالقضية الفلسطينية، وفي حالة كالتي يعيشها نظام المرشد، سيكون التملّص من نفوذها، والاصطفاف مع الدولة الوطنية، أسهل من ذي قبل.  

* تنشر هذه المادة بالشراكة مع الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية ”نيريج”