أسماكٌ تسبح في المجتمع والموسيقى والأدب 

جنى حسن

05 كانون الأول 2024

كيف تحوّلت السمكة إلى واحدة من أكثر الرموز خفةً وبساطة في الكلام العراقي؟ وكيف يمكن للأسماك أن تسبح في الأدب والفن والحكايا واللهجة العراقية وأن تأخذ مكان الإنسان؟

على ضفاف دجلة والفرات، وصولاً إلى الأهوار، نشأت علاقة خاصة بين العراقيين والطبيعة المائية، والسمك هو العنصر الأقوى في العلاقة مع المجتمع العراقي القريب من الأنهار، فناء العنصر الأول يؤدي إلى زعزعة حياة العنصر الثاني. ليس التأثير مادياً فقط، لأن السمك يمثل بالنسبة للكثير من العراقيين جزءاً من تركيبتهم الحياتية، ومحركاً في تقاليدهم واحتفالاتهم. 

يشارك السمك العراقيين سهراتهم فيصنعون منه “المسكوف”، وهو طبق يستوي على الدخان أكثر منه بالنار، ويحتفي العراقيون به كطبق سومري. كذلك “المسموطة” التي تبدأ بنزع أحشاء السمكة وتنظيفها من أعضائها، ووضع الملح في باطنها، ثم تربط في خيط مع مجموعة أسماك، وتبقى مدة عشرة أيام تحت الشمس لتجفّف، لاحقاً يتم غسلها وتنظيفها جيداً، ثم توضع في قدر مع إضافة الملح وبعض التوابل، حتى تُطبخ على نار هادئة. 

لكن السمك لا يبقى على الموائد فقط جيلاً بعد جيل، إذ يسحب العراقيون الأسماك من الماء إلى أحاديثهم، ويروون حولها قصصاً، تظهر فيها السمكة كواحدة من الأساطير أو الأبطال الشعبيين. 

سمك في مشاعر المجتمع 

يتناول عراقيون كثر، السمك، يوم الأربعاء بشكل خاص، والرواية بحسب الباعة والصيادين تنقسم إلى قصتين، تُرجّح الأولى أنه قديماً كان يوم الأربعاء هو يوم الإجازة للعسكريين في الجيش العراقي، وبالتالي كانت معظم العائلات تحتفل بتجمع أفرادها بتناول السمك، أما الحكاية الثانية فهي أن وزيراً عراقياً أوقع خاتمه في الماء، فابتلعته سمكة، ليصطادها أحد الصيادين، ويتفاجأ حين يفتحها بوجود الخاتم، فيعيد الصياد الخاتم للوزير، ويتم مكافأته بالكثير من العطايا، وكان هذا اليوم يوم الأربعاء. 

وفي الأمثال، يرمز السمك إلى الفساد والتحكّم والاستغلال عندما يُقال “السمكة الكبيرة تأكل الصغيرة”. ثم تتحول السمكة إلى رمز للقوة والشجاعة والمسؤولية في تحمل الصعوبات لأن “السمكة الكبيرة ما تخاف من الشبك”، أما “السمج مأكول مذموم”، يُستخدم ليشير إلى الشخص الذي يفعل الخير ويساعد الآخرين وينفعهم، لكنه يتعرض للذم والأذى في النهاية. تحول هذا المثل إلى أغنية بصوت حسام الرسام. “السمجة تبين من راسها”، تعكس الحُكم الأولي على الأشياء، دون التعمق في مجرياتها أو صفاتها، مثلما السمك هو كائن مائي تظهر نوعيته وصلاحيته من خلال رأسه. 

السمك في الأساطير 

في أغنية “يا حوته يا منحوته” تبدأ الحكاية عندما كان الناس يعتبرون خسوف القمر نذير شؤم، أو كما تفسر الكتابات البابلية، هجوم حيوانات تحاول التهام الكواكب السماوية. 

يظهر هذا قديماً في زمن البابليين حين حدث خسوف للقمر، فاجتمع الكهنة والفلكيون لتفسير الظاهرة، وأنذروا الملك أن الخسوف هو تحذير من الآلهة بوجود حوتة تلتهم القمر، لذا يأخذ الملك على عاتقه مهمة إصلاح علاقته مع شعبه ومن يجاوره. 

يخرج الشعب للشارع كلما حدث الخسوف، حاملين أطباقاً أو أواني منزلية ليحدثوا صوتاً عالياً ضد “الحوتة” التي تُريد القمر، ثم يرددون “يا حوته يا منحوته ردي كمرنا العالي، وان جان ما تردينه اندكلج بصينية”. 

وفي أغاني الحب والرومانسية، يحضر السمك. ففي الأغنية العراقية “يا صياد السمج” جُسدت قصة حب عاطفية يتخللها الألم والأسى، فقلب العاشق كان متعلقاً بشباكِ محبوبته، مستذكراً أحاديثهما ولواعج الحب وألم الفراق، وهو كما السمك في الماء، والصياد هنا رمز للبحث عن الحب، ومحاولات تحقيق الاستقرار. 

يطلب الرجل من صياد السمك أن يصطاد له فتاة، ثم يكرر رجاءه بأن يصطاد له سمكة كبيرة بحجم الدنيا، ثم يرجوه أن يعيد السمك الصغير للبحر، وإن كان شهياً، لأن ما يطلبه هو العثور على قلبه المعلق بمحبوبته. 

يطلب المُحب في الأغنية طلبات “تعجيزية” من صياد السمك، لأن مهنة الصيد ارتبطت بالرزق الوفير، والمهارة العالية، والصبر على أحوال الطقس ومواسم هجرة بعض الأسماك. 

 في عام 1979 عُرض الاوبريت الكويتي، بعنوان “بساط الفقر”، وهو عمل مسرحي وغنائي تم تقديمه بمناسبة اليوم الوطني للكويت، في جزء من الأغنية يتم أيضاً الحديث عن السمك، كجزء من تصوّر الناس، ومدى ارتباط الوجود الثقافي بالسمك. يروي الأوبريت قصة فتاة يتقدم لخطبتها ثلاثة شبان، توافق الفتاة على الشاب الفقير الذي لا يملك سوى بساط الفقر، فتسافر معه إلى بلدان عدة منها العراق.  تكرر الممثلة الكويتية سعاد العبد الله جملة “مثل السمج بالماي ما غمضت عيني” للتعبير عن التعب والإرهاق الناتجين عن السهر المستمر، والتفكير الذي يحول عن النوم، كما السمك الذي يبقى يقظاً في الماء، لا يغلق عينيه بالكامل، حتى يستطيع مراقبة البيئة من حوله وحماية نفسه. 

هذا التقارب الدقيق جداً بين وصف حالة الأرق والصعوبة في النوم، بحالة السمك اليقظ بطبعه، يُبين مدى القدرة على إعطاء السمك دوراً وسمات إنسانية، أبعد من علاقة مخلوق تحت الماء وبشر يتمشون فوق الأرض. 

السمك في الشعر والأدب 

في الشعر والأدب العراقي، استخدمت السمكة كرمز على المشاعر غير الثابتة، نسبة لتحركها المستمر في الماء، والقدرة على تجسيد الجمال والمعاناة في قالب واحد ودون تكلف. 

في قصيدة محمد مهدي الجواهري “بائعة السمك”، يبدأ الشاعر بوصف ذهابه الى متجر سمك وملاحظته لحاجته الملحّة للحصول عليه: 

ذات غداةٍ وقد أوجفت بنا شهوة الجائع الحائر 

دلفنا لـ “حانوت” سماكة نزود بالسمك الكابري 

يسترسل الجواهري في الأبيات اللاحقة بوصف بائعة السمك، وحركاتها وجمالها الخارجي “فلاحت لنا حلوة المجتلى تُلفت كالرشأ النافر”. بالرغم من فتنة الشاعر بالبائعة إلا أنه يعود ليصف السمك بالطري الجميل، ويؤكد على حسن رائحته أيضاً “فجاءت بممكورة بضةٍ لعوب كذي خبرة ماكر// تنفض بالذيل عطر الصبا وترمق بالنظر الخازر”. 

في بقية القصيدة يصف الشاعر حالة بائعة السمك النفسية، وتقلبها بين الجمال والرقة والألم والتعب، فمهنة بيع السمك لا تعود على أصحابها بالمال الوفير، وتبدأ حياة السمكة كما يصف الشاعر حال البائعة، بالغنج والفرح والخفة، وتنتهي بالتعب والموت، لذا يقول الجواهري “تكاد تقول أمثلي تموت؟ لعنت ابن آدم من جائر/ أما في الصبا لي من شافع؟ أما لابنة “الجيك” من زاجر؟”. 

ينهي الجواهري القصيدة بإعطاء القول للبائعة وهي ترقي حالها وتقول “تعلمت من جفوة الهاجر ومن قسوة الرجل الغادر”. 

يتنقل الجواهري في هذه القصيدة بين الحوار الداخلي والوصف الخارجي، ويبين قدرة الجمال على الظهور بالرغم من التعب والشقاء، في تجسيد لبائعة سمك، ماهرة في التقاط السمك وتقطيعه، مما يجعل من حال البائعة متناقضاً وغير ثابت، تماماً كمشاعر الشاعر في القصيدة. 

بأسلوب من السخرية والرمزية، ينقد الشاعر أحمد مطر في قصيدته قانون السمك، مفهوم القوانين في المجتمع، وأدوار تطبيق العدالة. 

سَمَكاً كُنتمْ 

وَمَنْ لم تلتَهمهُ التَهَمَكْ؟ 

ذُقْ، إذنْ، طعمَ قوانينِ السّمَكْ. 

يشير مطر في عبارة “سمكاً كنتم” إلى التبعية السياسية والاجتماعية التي تسيطر على المجتمع، تلغي الفرد وحقه في الاختيار، ويشبه الأفراد بالسمك لأنهم محصورون في نظام وظروف قاسية غير قادرين على الخروج منها، يكمل “من لم تلتهمه التهمك”، عادةً السمك الكبير يلتهم الصغير، وفي المجتمعات التي يشير إليها مطر، يلتهم النظام أو القوى المسيطرة الأشخاص الضعفاء، ويُفقدهم القدرة على التحكم بمصيرهم، يكمل الشاعر “ذق، إذن، طعم قوانين السمك”. يدعو الشاعر أصحاب القوى والفئات المسيطرة إلى الاستعداد لمواجهة قانون السمك، لأن مصيرهم سوف يكون مثل الآخرين الذين تم التهامهم، في المجتمع الذي تلتهم فيه الفئات القوية الفئات الضعيفة، سيكون الجميع معرضاً للخطر. 

ها هوَ القِرشُ الذي سوّاكَ طُعْماً 

حينَ لم يبقَ سِواكَ استَطْعَمَكْ! 

يشير الشاعر إلى الأنظمة المتحكمة والمسيطرة في المجتمع عبر رمزية القرش كحيوان مفترس ويأكل الأسماك الصغيرة، ويرمي من خلال كلمة “سواك” أن هذا النظام يُشكل الأفراد لمصالحه، وسيتم استهلاك هؤلاء الأفراد حين ينتهي دورهم، ويصبحون ضحية القوانين، المتحكمة والمسيطرة على المجتمع، بعد أن كانوا جزءاً منها، لأن دورهم انتهى ولم يبق غيرهم ليتم التهامه وتطبيق القانون عليهم. 

الرابط الروحي بين العراقيين والسمك يوجههم لجعل السمك موجوداً في مختلف نواحي حياتهم. إحدى هذه النواحي هو اختيار السمك كرمز للهشاشة والضعف لكونه يتأثر بسهولة بالتغيُّرات البيئية المحيطة. 

السمك بألوانه وأشكاله المختلفة، رمز عند العراقيين لشرح ثقافتهم وأسلوب حياتهم، يمكن استخدامه لتصوير السعادة والحزن، القوة والضعف، الشجاعة والخوف، الجرأة والخجل، دون أن يتناقض معنى مع الآخر؛ ولذا ظهر كواحد من أغنى الرموز التي تعبر عن العراقيين في أذهان باقي المجتمعات، ولربما ستبقى السمكة العراقية واحدة من أكثر الرموز خفةً وبساطة، تبحر دائماً في الأدب والفن والحكايا العراقية. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

على ضفاف دجلة والفرات، وصولاً إلى الأهوار، نشأت علاقة خاصة بين العراقيين والطبيعة المائية، والسمك هو العنصر الأقوى في العلاقة مع المجتمع العراقي القريب من الأنهار، فناء العنصر الأول يؤدي إلى زعزعة حياة العنصر الثاني. ليس التأثير مادياً فقط، لأن السمك يمثل بالنسبة للكثير من العراقيين جزءاً من تركيبتهم الحياتية، ومحركاً في تقاليدهم واحتفالاتهم. 

يشارك السمك العراقيين سهراتهم فيصنعون منه “المسكوف”، وهو طبق يستوي على الدخان أكثر منه بالنار، ويحتفي العراقيون به كطبق سومري. كذلك “المسموطة” التي تبدأ بنزع أحشاء السمكة وتنظيفها من أعضائها، ووضع الملح في باطنها، ثم تربط في خيط مع مجموعة أسماك، وتبقى مدة عشرة أيام تحت الشمس لتجفّف، لاحقاً يتم غسلها وتنظيفها جيداً، ثم توضع في قدر مع إضافة الملح وبعض التوابل، حتى تُطبخ على نار هادئة. 

لكن السمك لا يبقى على الموائد فقط جيلاً بعد جيل، إذ يسحب العراقيون الأسماك من الماء إلى أحاديثهم، ويروون حولها قصصاً، تظهر فيها السمكة كواحدة من الأساطير أو الأبطال الشعبيين. 

سمك في مشاعر المجتمع 

يتناول عراقيون كثر، السمك، يوم الأربعاء بشكل خاص، والرواية بحسب الباعة والصيادين تنقسم إلى قصتين، تُرجّح الأولى أنه قديماً كان يوم الأربعاء هو يوم الإجازة للعسكريين في الجيش العراقي، وبالتالي كانت معظم العائلات تحتفل بتجمع أفرادها بتناول السمك، أما الحكاية الثانية فهي أن وزيراً عراقياً أوقع خاتمه في الماء، فابتلعته سمكة، ليصطادها أحد الصيادين، ويتفاجأ حين يفتحها بوجود الخاتم، فيعيد الصياد الخاتم للوزير، ويتم مكافأته بالكثير من العطايا، وكان هذا اليوم يوم الأربعاء. 

وفي الأمثال، يرمز السمك إلى الفساد والتحكّم والاستغلال عندما يُقال “السمكة الكبيرة تأكل الصغيرة”. ثم تتحول السمكة إلى رمز للقوة والشجاعة والمسؤولية في تحمل الصعوبات لأن “السمكة الكبيرة ما تخاف من الشبك”، أما “السمج مأكول مذموم”، يُستخدم ليشير إلى الشخص الذي يفعل الخير ويساعد الآخرين وينفعهم، لكنه يتعرض للذم والأذى في النهاية. تحول هذا المثل إلى أغنية بصوت حسام الرسام. “السمجة تبين من راسها”، تعكس الحُكم الأولي على الأشياء، دون التعمق في مجرياتها أو صفاتها، مثلما السمك هو كائن مائي تظهر نوعيته وصلاحيته من خلال رأسه. 

السمك في الأساطير 

في أغنية “يا حوته يا منحوته” تبدأ الحكاية عندما كان الناس يعتبرون خسوف القمر نذير شؤم، أو كما تفسر الكتابات البابلية، هجوم حيوانات تحاول التهام الكواكب السماوية. 

يظهر هذا قديماً في زمن البابليين حين حدث خسوف للقمر، فاجتمع الكهنة والفلكيون لتفسير الظاهرة، وأنذروا الملك أن الخسوف هو تحذير من الآلهة بوجود حوتة تلتهم القمر، لذا يأخذ الملك على عاتقه مهمة إصلاح علاقته مع شعبه ومن يجاوره. 

يخرج الشعب للشارع كلما حدث الخسوف، حاملين أطباقاً أو أواني منزلية ليحدثوا صوتاً عالياً ضد “الحوتة” التي تُريد القمر، ثم يرددون “يا حوته يا منحوته ردي كمرنا العالي، وان جان ما تردينه اندكلج بصينية”. 

وفي أغاني الحب والرومانسية، يحضر السمك. ففي الأغنية العراقية “يا صياد السمج” جُسدت قصة حب عاطفية يتخللها الألم والأسى، فقلب العاشق كان متعلقاً بشباكِ محبوبته، مستذكراً أحاديثهما ولواعج الحب وألم الفراق، وهو كما السمك في الماء، والصياد هنا رمز للبحث عن الحب، ومحاولات تحقيق الاستقرار. 

يطلب الرجل من صياد السمك أن يصطاد له فتاة، ثم يكرر رجاءه بأن يصطاد له سمكة كبيرة بحجم الدنيا، ثم يرجوه أن يعيد السمك الصغير للبحر، وإن كان شهياً، لأن ما يطلبه هو العثور على قلبه المعلق بمحبوبته. 

يطلب المُحب في الأغنية طلبات “تعجيزية” من صياد السمك، لأن مهنة الصيد ارتبطت بالرزق الوفير، والمهارة العالية، والصبر على أحوال الطقس ومواسم هجرة بعض الأسماك. 

 في عام 1979 عُرض الاوبريت الكويتي، بعنوان “بساط الفقر”، وهو عمل مسرحي وغنائي تم تقديمه بمناسبة اليوم الوطني للكويت، في جزء من الأغنية يتم أيضاً الحديث عن السمك، كجزء من تصوّر الناس، ومدى ارتباط الوجود الثقافي بالسمك. يروي الأوبريت قصة فتاة يتقدم لخطبتها ثلاثة شبان، توافق الفتاة على الشاب الفقير الذي لا يملك سوى بساط الفقر، فتسافر معه إلى بلدان عدة منها العراق.  تكرر الممثلة الكويتية سعاد العبد الله جملة “مثل السمج بالماي ما غمضت عيني” للتعبير عن التعب والإرهاق الناتجين عن السهر المستمر، والتفكير الذي يحول عن النوم، كما السمك الذي يبقى يقظاً في الماء، لا يغلق عينيه بالكامل، حتى يستطيع مراقبة البيئة من حوله وحماية نفسه. 

هذا التقارب الدقيق جداً بين وصف حالة الأرق والصعوبة في النوم، بحالة السمك اليقظ بطبعه، يُبين مدى القدرة على إعطاء السمك دوراً وسمات إنسانية، أبعد من علاقة مخلوق تحت الماء وبشر يتمشون فوق الأرض. 

السمك في الشعر والأدب 

في الشعر والأدب العراقي، استخدمت السمكة كرمز على المشاعر غير الثابتة، نسبة لتحركها المستمر في الماء، والقدرة على تجسيد الجمال والمعاناة في قالب واحد ودون تكلف. 

في قصيدة محمد مهدي الجواهري “بائعة السمك”، يبدأ الشاعر بوصف ذهابه الى متجر سمك وملاحظته لحاجته الملحّة للحصول عليه: 

ذات غداةٍ وقد أوجفت بنا شهوة الجائع الحائر 

دلفنا لـ “حانوت” سماكة نزود بالسمك الكابري 

يسترسل الجواهري في الأبيات اللاحقة بوصف بائعة السمك، وحركاتها وجمالها الخارجي “فلاحت لنا حلوة المجتلى تُلفت كالرشأ النافر”. بالرغم من فتنة الشاعر بالبائعة إلا أنه يعود ليصف السمك بالطري الجميل، ويؤكد على حسن رائحته أيضاً “فجاءت بممكورة بضةٍ لعوب كذي خبرة ماكر// تنفض بالذيل عطر الصبا وترمق بالنظر الخازر”. 

في بقية القصيدة يصف الشاعر حالة بائعة السمك النفسية، وتقلبها بين الجمال والرقة والألم والتعب، فمهنة بيع السمك لا تعود على أصحابها بالمال الوفير، وتبدأ حياة السمكة كما يصف الشاعر حال البائعة، بالغنج والفرح والخفة، وتنتهي بالتعب والموت، لذا يقول الجواهري “تكاد تقول أمثلي تموت؟ لعنت ابن آدم من جائر/ أما في الصبا لي من شافع؟ أما لابنة “الجيك” من زاجر؟”. 

ينهي الجواهري القصيدة بإعطاء القول للبائعة وهي ترقي حالها وتقول “تعلمت من جفوة الهاجر ومن قسوة الرجل الغادر”. 

يتنقل الجواهري في هذه القصيدة بين الحوار الداخلي والوصف الخارجي، ويبين قدرة الجمال على الظهور بالرغم من التعب والشقاء، في تجسيد لبائعة سمك، ماهرة في التقاط السمك وتقطيعه، مما يجعل من حال البائعة متناقضاً وغير ثابت، تماماً كمشاعر الشاعر في القصيدة. 

بأسلوب من السخرية والرمزية، ينقد الشاعر أحمد مطر في قصيدته قانون السمك، مفهوم القوانين في المجتمع، وأدوار تطبيق العدالة. 

سَمَكاً كُنتمْ 

وَمَنْ لم تلتَهمهُ التَهَمَكْ؟ 

ذُقْ، إذنْ، طعمَ قوانينِ السّمَكْ. 

يشير مطر في عبارة “سمكاً كنتم” إلى التبعية السياسية والاجتماعية التي تسيطر على المجتمع، تلغي الفرد وحقه في الاختيار، ويشبه الأفراد بالسمك لأنهم محصورون في نظام وظروف قاسية غير قادرين على الخروج منها، يكمل “من لم تلتهمه التهمك”، عادةً السمك الكبير يلتهم الصغير، وفي المجتمعات التي يشير إليها مطر، يلتهم النظام أو القوى المسيطرة الأشخاص الضعفاء، ويُفقدهم القدرة على التحكم بمصيرهم، يكمل الشاعر “ذق، إذن، طعم قوانين السمك”. يدعو الشاعر أصحاب القوى والفئات المسيطرة إلى الاستعداد لمواجهة قانون السمك، لأن مصيرهم سوف يكون مثل الآخرين الذين تم التهامهم، في المجتمع الذي تلتهم فيه الفئات القوية الفئات الضعيفة، سيكون الجميع معرضاً للخطر. 

ها هوَ القِرشُ الذي سوّاكَ طُعْماً 

حينَ لم يبقَ سِواكَ استَطْعَمَكْ! 

يشير الشاعر إلى الأنظمة المتحكمة والمسيطرة في المجتمع عبر رمزية القرش كحيوان مفترس ويأكل الأسماك الصغيرة، ويرمي من خلال كلمة “سواك” أن هذا النظام يُشكل الأفراد لمصالحه، وسيتم استهلاك هؤلاء الأفراد حين ينتهي دورهم، ويصبحون ضحية القوانين، المتحكمة والمسيطرة على المجتمع، بعد أن كانوا جزءاً منها، لأن دورهم انتهى ولم يبق غيرهم ليتم التهامه وتطبيق القانون عليهم. 

الرابط الروحي بين العراقيين والسمك يوجههم لجعل السمك موجوداً في مختلف نواحي حياتهم. إحدى هذه النواحي هو اختيار السمك كرمز للهشاشة والضعف لكونه يتأثر بسهولة بالتغيُّرات البيئية المحيطة. 

السمك بألوانه وأشكاله المختلفة، رمز عند العراقيين لشرح ثقافتهم وأسلوب حياتهم، يمكن استخدامه لتصوير السعادة والحزن، القوة والضعف، الشجاعة والخوف، الجرأة والخجل، دون أن يتناقض معنى مع الآخر؛ ولذا ظهر كواحد من أغنى الرموز التي تعبر عن العراقيين في أذهان باقي المجتمعات، ولربما ستبقى السمكة العراقية واحدة من أكثر الرموز خفةً وبساطة، تبحر دائماً في الأدب والفن والحكايا العراقية.