مُهر أبو كُمر: حارس آلهة أوروك 

خليل بركات

26 تشرين الثاني 2024

كانت الآلهة تحرس كل شيء في أوروك، حتى الضوء.. فهل استطاع مُهر أبو كُمر حراسة المدينة السومرية وتاريخها وحتّى آلهتها.. قصة رجل حرس المعابد السومرية منذ الخمسينيات، ويشهد اكتشاف أسرارها ومعابدها حتى اليوم..

مُهر، ينادونه “أبو كُمر”، لا يعرف متى وُلد، لكنّه يعتقد أنه الآن في الحادية والثمانين من عمره، هو الذي رأى كل شيء، وحمى أسوار أوروك، من الناهبين، والمخربين، والسراق، وكان شاهداً على اكتشاف معابدها واحداً تلو الآخر. 

عاش بين زقوراتها، وتحايل على رئيس البعثة الألمانية في أواسط القرن الماضي، ليكون أحد العاملين مع الفرق التنقيبيّة. 

“فيها معابد كثيرة، أهمها (أي انا) لعبادة الإلهة عشتار، وبقربه زقورة (أي ننا)، التي بُنيت في العصر السومري الأول وهي مبنية من مادة اللِّبن، الطين المفخور، وبناؤها مُدرّج، ويتوسطها سلّم يصل إلى الأعلى، نحو المعبد، معبد الإلهة عشتار، وتتكوّن الزقورة من طبقات يفصلها عن بعضها الخوص”.   

يأخذك مُهر في سياحة فريدة وتجربة استكشافية عندما تتجوّل معه في مدينة الآلهة الأولى، يتضاعف هذا الشعور عندما ترى فضوله الكبير وهو يلوّح بيديه نحو معالم لا يعرفها غير من عاش هنا قبل آلاف السنين، أو نقّب في هذه المدينة.   

يشير إلى تلٍّ ترابي، تظهر منه بعض الأطلال، “هناك زقورة (انو)، تقع بالجزء الجنوبي من مدينة الوركاء، قرب المعبد الأبيض، توجد في المدينة معابد أخرى مثل معبد (اريكال)، بيت ريش، وكاريوس، وهناك معبد حجري يشبه شكل المتاهات، يقع أسفل الجزء الجنوبي الغربي لمدينة الوركاء”.  

زقورة عشتار المتكونة من سبع طبقات ويفصلها الخوص / تصوير الكاتب. 

خلال حديثه عن معابد أوروك، كان يمرّ دائماً على ذكر البعثة الألمانية التي نقّبت في المنطقة، والتوقفات التي حدثت خلال التنقيب، وتأثير الحربين العالميتين، وجائحة كورونا في تأخير اكتشاف الأسرار الأولى للحضارة البشرية.  

يؤمن مُهر أن الجزء المكتشف من الوركاء صغير جداً، لا يتجاوز 15 بالمئة من حجم المدينة السومرية الحقيقي، ومواسم التنقيب التي مرت بها لم تكن كافية، كما أن التنقيب يحتاج إلى موارد وصبر، وهذا لم يتوفر حتى الآن في الوركاء، وفي العراق.  

وأنت تسير على أرض الوركاء، ستسير على كنز ثمين مفقود، وما أن تطأ قدمك أيّ متر منها؛ تتفاجأ بأنك تسير على أحد معابدها، ربما تسير على معبد كرندش، بجوار زقورة الوركاء، الذي لا تزال أرضيته واضحة حتى الآن، ومبنيّة من حجر الآجر، وعليها كتابات مسمارية، هذه الطريقة التي يمشي بها مهر هنا، بحذر وخشوع، كأنه في معبد حقاً، وهو رجل يؤمن بتأثير الآلهة حتى الآن، ويعتقد أن الأسطورة يمكن أن تكون جزءاً من حياتنا، وقد نكون من أبطالها في فصل ما.  

  

الولادة  

ولد مهر في إحدى قرى عشيرة آل توبة، قرب آثار الوركاء، لا يتذكر متى، لكنه يقول إن ذلك حدث قبل واحد وثمانين عاماً، كان يذهب مع والده الذي كان يعمل حفّاراً مع البعثة التنقيبية، في المواقع المكتشفة، وعندما بلغ السبعة عشر عاماً وجد نفسه مفتوناً بمدينة الآلهة، وقصصها العظيمة، وأراد أن يكون جزءاً من هذه القصص، فقرر أن يعمل بالتنقيب، لكن رئيس البعثة التنقيبية رفضه، وأراده أن يكمل تعليمه في المدرسة.   

مهر أبو كمر / تصوير الكاتب. 

“عام 1955، أتيت إلى رئيس البعثة برفقة ابن عمي، وأخبرته أني أريد العمل معهم فرفض ذلك حينما رأى القلم في جيبي، وأخبرني أن أُكمل تعليمي، لكنني كنت مصراً على العمل، لأن والدي كان يعمل ويحمي الوركاء قبلي، وبعد رفض البرفسور لم أتراجع”. 

ظل مهر يتردد على مواقع التنقيب ويعمل بالخفاء مع عمّال الحفر، وعندما اكتشف البروفيسور ذلك وافق أخيراً على انضمامه، فصار “حفار أسطة”.  

اقرأ أيضاً

“آثار المقتلة مستمرة”.. اليأس يتسلل إلى “المنقذ” وأهالي المفقودين الايزيديين 

بعد سنوات من العمل مع البعثة الألمانية، وكسبه ثقتهم، قرر مهر استلام مهام حراسة الآثار خلال عودتهم إلى ألمانيا في سبعينيات القرن الماضي، فهو الذي حفظ كل شبر منها، وكل اكتشافاتها وأسماء جميع الآلهة، وأصبح دليلها السياحي لكل زائر يقصدها.  

عام 1975، عيّن مهر حارساً للآثار، رسمياً، وسُجّل على الملاك الرسمي للدولة العراقية، وبنى بيتاً له داخلها، ليكون قريباً من الآلهة، يحرسها وتمنحه الخيالات والشعر.  

صورة تجمع مهر مع مدير البعثة الألمانية البروفيسور بيمر في مدينة أوروك الأثرية / تصوير الكاتب. 

بفخر كبير يتحدث مهر عن بطولاته أثناء حراسة الوركاء، ويروي قصة معركته مع مجموعة من اللصوص، كانوا قادمين على دراجات نارية لسرقة المدينة، فمنعهم بمساعدة أبناء قبيلته، آل توبة. 

حصل ذلك نهاية تسعينيات القرن الماضي، فترة الحصار الاقتصادي الدولي على العراق. 

في اليوم التالي كان يتجوّل في مملكته القديمة، حاملاً بندقيته “البرنو”، أو “الطويلة” كما يحب تسميتها، ابتعد عن الزقورة 15 كيلومتراً لتشديد الحراسة والمراقبة، فهبّت عاصفة ترابية، دخل في غبارها، وظلّ في وسطها جالساً القرفصاء، وقد جرت على لسانه قصيدة: 

حرت بين السور واطعوس الرمال السايلة  

كلتلها وين اهلج.. كالت انظر هذي القصور الشايلة  

بيها عدل.. كالت العدل ضاع ومايله  

بيها تراث.. كالت بيها تراث اغنى الشعوب الصايرة  

كلتلها انه اريد احميج واتحمل الحر والبرد   

واليكتب الخطوط المايلة..  

“المنافق” يريد يلبسني ثوب اسود   

وثوبي ابيض ولمّاع   

ابد ما انطي منج ولا اذراع  

  

بعد ذهاب العاصفة بقيت القصيدة في رأسه، وعاد إلى بيته الذي كان يتوسط المدينة الأثرية، وقطع عهداً على نفسه بأن لا يترك الوركاء، وأن يحميها مهما كلفه ذلك من ثمن.  

الأسطورة  

يروي السكان المحليون قرب الآثار حكايات وقصصاً كثيرة عن عائلة مهر. 

واحدة من تلك الحكايات تدور حول زواج “كمر” ابن مهر البكر، من إلهة داخل المدينة الأثرية، لذلك هو يذهب دائماً إلى هناك، يأخذ مكاناً قصيّاً، ويناجي الآلهة، وفيما يروون أيضاً، أنّ “كمر” يسمع صوت الآلهة تناديه: كمر.. كمر.. كمر. ويعلم “كمر” أن هذا الصوت هو صوت الإلهة السومرية، معشوقته. 

لكن الأسطورة تتداخل مع الواقع في حياة مهر. عام 2004، جاءت مجموعة من خارج العراق، قدمت نفسها لمهر على أنّها “جهة أمنية”. أخبروه أنّ الآثار تحتوي على مواد كيميائية مضرّة، في محاولة للاستيلاء عليها وسرقتها. لكنّه منعهم، وأخبرهم أنها مدينة أثرية، ولا يوجد فيها إلا المعابد، والتلول الترابية، “قلت لهم: إذا حاولتم الدخول وفرهدتها، فإنّ الخراخيت سيقومون بفرهدتكم”. 

والخراخيت لقب تُعرف به عشيرته “آل توبة”.  

بيت مهر داخل المدينة الأثرية على مقربة من زقورة عشتار وتظهر على شكل تل ترابي / تصوير الكاتب. 

في العام ذاته، تدخّل الخراتيت بالفعل، حيث خاض مُهر مواجهات مسلّحة من أجل الآلهة، إذ جاء ثلاثة سرّاق إلى المدينة الأثرية بمركبة بيك أب، لكنّ مُهر “فزّع” عشيرته، واستجاب كبيرها، الشيخ محيسن آل شجان، فأصابوا أحد اللصوص، وفرّوا من المدينة الأثرية.  

الحفّار  

كان مهر الذي يهيم داخل المعابد في الليل، يلازم البعثة الألمانية في النهار. يعمل معهم في عمليات التنقيب، في تلّ النفيجي التابع لمدينة الوركاء، والذي كان قبراً لأحد ملوك سومر، ويحيطه سور داخلي. 

اعترض على الخبراء خلال محاولة حفرهم القبر واستخراج ما فيه بسبب خطأ ربما سيدمر القبر بالكامل، وتفشل عملية استخراجه كاملاً، “البعثة حفرت مساراً للقبر، لكنه كان مائلاً وغير صحيح، لأنّ الحفر باتجاه الشمال أكثر من الحفر باتجاه الشرق، فبقي نصف القبر داخل التل، “اعترضت عليهم ورسمت لهم مساراً، وعملنا عليه، فاستخرجناه بسلام، ووجدنا فيه صناديق من الذهب والفضة. أوقفنا العمل به حتى مجيء طه باقر”، العالم الآثاري الذي أدار مديرية الآثار بين أعوام 1958 - 1963.  

نقل الملك من أوروك إلى بغداد.  

يفتح لنا الحاج مهر أبو كمر أبواب البيت الطيني داخل أوروك، بيت البعثة الألمانية ومقرها في مواسم التنقيب الربيعية والخريفية، وحيث تخزن اكتشافاتها وأدوات عملها.  

بيت البعثة 

دخلنا البيت الألماني، فيه 21 غرفة، دخلنا بهو الاستراحة، وغرفة الاجتماعات الخاصة بالفريق الألماني، والمطبخ، والمكتبة، وغرفة الكهرباء، فيها ثلاجاتهم النفطية، لعدم وجود الكهرباء في المنطقة الأثرية آنذاك.  

غرفة الاجتماعات في البيت الألماني / تصوير الكاتب.

في البيت الألماني كانوا يحفظون كل اكتشافاتهم، وعُدَدهم اليدوية الخاصة، ويشير مهر إلى طابعة قديمة تعود إلى العقد الثاني من القرن الماضي، “على هذه الطابعة كان الألمان يكتبون رسائلهم واكتشافاتهم وبريدهم”.   

يكمل جولته معنا ويشير إلى صندوق فارغ، “هنا كانت عظام فتاة سومرية، عمرها 13 عاماً، تجلس القرفصاء، ودفن معها فك الخنزير، وهي إحدى طقوسهم في دفن الميت في ذلك الزمان”.  

اكتُشِفت العظام عام 1989، كانت مدفونة في قبر دائري، وهي بوضع الجلوس، وضم الركبتين إلى الصدر، لأنّ السومريين يدفنون موتاهم بوضعية وجود المولود في بيت الرحم، وقد نقلت إلى المتحف العراقي في بغداد.  

البيت الألماني وهو مقر البعثة الألمانية في مواسم التنقيب وحفظ معداتهم واكتشافاتهم / تصوير الكاتب .

لم تستغن البعثة الألمانية عن خدمات حارس الوركاء، وعينته حارساً على البيت الألماني، وأمين مفتاحه، وسرّه، حتى عام 2023، بعد أن أخذ منه العمر كثيراً، وأخذ ذلك البيت إحدى عينيه خلال رشّه بمبيد لمكافحة حشرة العثة، والتي أكلت سقف البيت المبني من القصب والبارية، “سقط الرذاذ على عيني وتعرضت إلى العمى”. أفقده الحادث حراسة الآثار، وكان لعواصف التراب قبلها تأثيرها على بصره طيلة كل تلك السنوات.  

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

مُهر، ينادونه “أبو كُمر”، لا يعرف متى وُلد، لكنّه يعتقد أنه الآن في الحادية والثمانين من عمره، هو الذي رأى كل شيء، وحمى أسوار أوروك، من الناهبين، والمخربين، والسراق، وكان شاهداً على اكتشاف معابدها واحداً تلو الآخر. 

عاش بين زقوراتها، وتحايل على رئيس البعثة الألمانية في أواسط القرن الماضي، ليكون أحد العاملين مع الفرق التنقيبيّة. 

“فيها معابد كثيرة، أهمها (أي انا) لعبادة الإلهة عشتار، وبقربه زقورة (أي ننا)، التي بُنيت في العصر السومري الأول وهي مبنية من مادة اللِّبن، الطين المفخور، وبناؤها مُدرّج، ويتوسطها سلّم يصل إلى الأعلى، نحو المعبد، معبد الإلهة عشتار، وتتكوّن الزقورة من طبقات يفصلها عن بعضها الخوص”.   

يأخذك مُهر في سياحة فريدة وتجربة استكشافية عندما تتجوّل معه في مدينة الآلهة الأولى، يتضاعف هذا الشعور عندما ترى فضوله الكبير وهو يلوّح بيديه نحو معالم لا يعرفها غير من عاش هنا قبل آلاف السنين، أو نقّب في هذه المدينة.   

يشير إلى تلٍّ ترابي، تظهر منه بعض الأطلال، “هناك زقورة (انو)، تقع بالجزء الجنوبي من مدينة الوركاء، قرب المعبد الأبيض، توجد في المدينة معابد أخرى مثل معبد (اريكال)، بيت ريش، وكاريوس، وهناك معبد حجري يشبه شكل المتاهات، يقع أسفل الجزء الجنوبي الغربي لمدينة الوركاء”.  

زقورة عشتار المتكونة من سبع طبقات ويفصلها الخوص / تصوير الكاتب. 

خلال حديثه عن معابد أوروك، كان يمرّ دائماً على ذكر البعثة الألمانية التي نقّبت في المنطقة، والتوقفات التي حدثت خلال التنقيب، وتأثير الحربين العالميتين، وجائحة كورونا في تأخير اكتشاف الأسرار الأولى للحضارة البشرية.  

يؤمن مُهر أن الجزء المكتشف من الوركاء صغير جداً، لا يتجاوز 15 بالمئة من حجم المدينة السومرية الحقيقي، ومواسم التنقيب التي مرت بها لم تكن كافية، كما أن التنقيب يحتاج إلى موارد وصبر، وهذا لم يتوفر حتى الآن في الوركاء، وفي العراق.  

وأنت تسير على أرض الوركاء، ستسير على كنز ثمين مفقود، وما أن تطأ قدمك أيّ متر منها؛ تتفاجأ بأنك تسير على أحد معابدها، ربما تسير على معبد كرندش، بجوار زقورة الوركاء، الذي لا تزال أرضيته واضحة حتى الآن، ومبنيّة من حجر الآجر، وعليها كتابات مسمارية، هذه الطريقة التي يمشي بها مهر هنا، بحذر وخشوع، كأنه في معبد حقاً، وهو رجل يؤمن بتأثير الآلهة حتى الآن، ويعتقد أن الأسطورة يمكن أن تكون جزءاً من حياتنا، وقد نكون من أبطالها في فصل ما.  

  

الولادة  

ولد مهر في إحدى قرى عشيرة آل توبة، قرب آثار الوركاء، لا يتذكر متى، لكنه يقول إن ذلك حدث قبل واحد وثمانين عاماً، كان يذهب مع والده الذي كان يعمل حفّاراً مع البعثة التنقيبية، في المواقع المكتشفة، وعندما بلغ السبعة عشر عاماً وجد نفسه مفتوناً بمدينة الآلهة، وقصصها العظيمة، وأراد أن يكون جزءاً من هذه القصص، فقرر أن يعمل بالتنقيب، لكن رئيس البعثة التنقيبية رفضه، وأراده أن يكمل تعليمه في المدرسة.   

مهر أبو كمر / تصوير الكاتب. 

“عام 1955، أتيت إلى رئيس البعثة برفقة ابن عمي، وأخبرته أني أريد العمل معهم فرفض ذلك حينما رأى القلم في جيبي، وأخبرني أن أُكمل تعليمي، لكنني كنت مصراً على العمل، لأن والدي كان يعمل ويحمي الوركاء قبلي، وبعد رفض البرفسور لم أتراجع”. 

ظل مهر يتردد على مواقع التنقيب ويعمل بالخفاء مع عمّال الحفر، وعندما اكتشف البروفيسور ذلك وافق أخيراً على انضمامه، فصار “حفار أسطة”.  

اقرأ أيضاً

“آثار المقتلة مستمرة”.. اليأس يتسلل إلى “المنقذ” وأهالي المفقودين الايزيديين 

بعد سنوات من العمل مع البعثة الألمانية، وكسبه ثقتهم، قرر مهر استلام مهام حراسة الآثار خلال عودتهم إلى ألمانيا في سبعينيات القرن الماضي، فهو الذي حفظ كل شبر منها، وكل اكتشافاتها وأسماء جميع الآلهة، وأصبح دليلها السياحي لكل زائر يقصدها.  

عام 1975، عيّن مهر حارساً للآثار، رسمياً، وسُجّل على الملاك الرسمي للدولة العراقية، وبنى بيتاً له داخلها، ليكون قريباً من الآلهة، يحرسها وتمنحه الخيالات والشعر.  

صورة تجمع مهر مع مدير البعثة الألمانية البروفيسور بيمر في مدينة أوروك الأثرية / تصوير الكاتب. 

بفخر كبير يتحدث مهر عن بطولاته أثناء حراسة الوركاء، ويروي قصة معركته مع مجموعة من اللصوص، كانوا قادمين على دراجات نارية لسرقة المدينة، فمنعهم بمساعدة أبناء قبيلته، آل توبة. 

حصل ذلك نهاية تسعينيات القرن الماضي، فترة الحصار الاقتصادي الدولي على العراق. 

في اليوم التالي كان يتجوّل في مملكته القديمة، حاملاً بندقيته “البرنو”، أو “الطويلة” كما يحب تسميتها، ابتعد عن الزقورة 15 كيلومتراً لتشديد الحراسة والمراقبة، فهبّت عاصفة ترابية، دخل في غبارها، وظلّ في وسطها جالساً القرفصاء، وقد جرت على لسانه قصيدة: 

حرت بين السور واطعوس الرمال السايلة  

كلتلها وين اهلج.. كالت انظر هذي القصور الشايلة  

بيها عدل.. كالت العدل ضاع ومايله  

بيها تراث.. كالت بيها تراث اغنى الشعوب الصايرة  

كلتلها انه اريد احميج واتحمل الحر والبرد   

واليكتب الخطوط المايلة..  

“المنافق” يريد يلبسني ثوب اسود   

وثوبي ابيض ولمّاع   

ابد ما انطي منج ولا اذراع  

  

بعد ذهاب العاصفة بقيت القصيدة في رأسه، وعاد إلى بيته الذي كان يتوسط المدينة الأثرية، وقطع عهداً على نفسه بأن لا يترك الوركاء، وأن يحميها مهما كلفه ذلك من ثمن.  

الأسطورة  

يروي السكان المحليون قرب الآثار حكايات وقصصاً كثيرة عن عائلة مهر. 

واحدة من تلك الحكايات تدور حول زواج “كمر” ابن مهر البكر، من إلهة داخل المدينة الأثرية، لذلك هو يذهب دائماً إلى هناك، يأخذ مكاناً قصيّاً، ويناجي الآلهة، وفيما يروون أيضاً، أنّ “كمر” يسمع صوت الآلهة تناديه: كمر.. كمر.. كمر. ويعلم “كمر” أن هذا الصوت هو صوت الإلهة السومرية، معشوقته. 

لكن الأسطورة تتداخل مع الواقع في حياة مهر. عام 2004، جاءت مجموعة من خارج العراق، قدمت نفسها لمهر على أنّها “جهة أمنية”. أخبروه أنّ الآثار تحتوي على مواد كيميائية مضرّة، في محاولة للاستيلاء عليها وسرقتها. لكنّه منعهم، وأخبرهم أنها مدينة أثرية، ولا يوجد فيها إلا المعابد، والتلول الترابية، “قلت لهم: إذا حاولتم الدخول وفرهدتها، فإنّ الخراخيت سيقومون بفرهدتكم”. 

والخراخيت لقب تُعرف به عشيرته “آل توبة”.  

بيت مهر داخل المدينة الأثرية على مقربة من زقورة عشتار وتظهر على شكل تل ترابي / تصوير الكاتب. 

في العام ذاته، تدخّل الخراتيت بالفعل، حيث خاض مُهر مواجهات مسلّحة من أجل الآلهة، إذ جاء ثلاثة سرّاق إلى المدينة الأثرية بمركبة بيك أب، لكنّ مُهر “فزّع” عشيرته، واستجاب كبيرها، الشيخ محيسن آل شجان، فأصابوا أحد اللصوص، وفرّوا من المدينة الأثرية.  

الحفّار  

كان مهر الذي يهيم داخل المعابد في الليل، يلازم البعثة الألمانية في النهار. يعمل معهم في عمليات التنقيب، في تلّ النفيجي التابع لمدينة الوركاء، والذي كان قبراً لأحد ملوك سومر، ويحيطه سور داخلي. 

اعترض على الخبراء خلال محاولة حفرهم القبر واستخراج ما فيه بسبب خطأ ربما سيدمر القبر بالكامل، وتفشل عملية استخراجه كاملاً، “البعثة حفرت مساراً للقبر، لكنه كان مائلاً وغير صحيح، لأنّ الحفر باتجاه الشمال أكثر من الحفر باتجاه الشرق، فبقي نصف القبر داخل التل، “اعترضت عليهم ورسمت لهم مساراً، وعملنا عليه، فاستخرجناه بسلام، ووجدنا فيه صناديق من الذهب والفضة. أوقفنا العمل به حتى مجيء طه باقر”، العالم الآثاري الذي أدار مديرية الآثار بين أعوام 1958 - 1963.  

نقل الملك من أوروك إلى بغداد.  

يفتح لنا الحاج مهر أبو كمر أبواب البيت الطيني داخل أوروك، بيت البعثة الألمانية ومقرها في مواسم التنقيب الربيعية والخريفية، وحيث تخزن اكتشافاتها وأدوات عملها.  

بيت البعثة 

دخلنا البيت الألماني، فيه 21 غرفة، دخلنا بهو الاستراحة، وغرفة الاجتماعات الخاصة بالفريق الألماني، والمطبخ، والمكتبة، وغرفة الكهرباء، فيها ثلاجاتهم النفطية، لعدم وجود الكهرباء في المنطقة الأثرية آنذاك.  

غرفة الاجتماعات في البيت الألماني / تصوير الكاتب.

في البيت الألماني كانوا يحفظون كل اكتشافاتهم، وعُدَدهم اليدوية الخاصة، ويشير مهر إلى طابعة قديمة تعود إلى العقد الثاني من القرن الماضي، “على هذه الطابعة كان الألمان يكتبون رسائلهم واكتشافاتهم وبريدهم”.   

يكمل جولته معنا ويشير إلى صندوق فارغ، “هنا كانت عظام فتاة سومرية، عمرها 13 عاماً، تجلس القرفصاء، ودفن معها فك الخنزير، وهي إحدى طقوسهم في دفن الميت في ذلك الزمان”.  

اكتُشِفت العظام عام 1989، كانت مدفونة في قبر دائري، وهي بوضع الجلوس، وضم الركبتين إلى الصدر، لأنّ السومريين يدفنون موتاهم بوضعية وجود المولود في بيت الرحم، وقد نقلت إلى المتحف العراقي في بغداد.  

البيت الألماني وهو مقر البعثة الألمانية في مواسم التنقيب وحفظ معداتهم واكتشافاتهم / تصوير الكاتب .

لم تستغن البعثة الألمانية عن خدمات حارس الوركاء، وعينته حارساً على البيت الألماني، وأمين مفتاحه، وسرّه، حتى عام 2023، بعد أن أخذ منه العمر كثيراً، وأخذ ذلك البيت إحدى عينيه خلال رشّه بمبيد لمكافحة حشرة العثة، والتي أكلت سقف البيت المبني من القصب والبارية، “سقط الرذاذ على عيني وتعرضت إلى العمى”. أفقده الحادث حراسة الآثار، وكان لعواصف التراب قبلها تأثيرها على بصره طيلة كل تلك السنوات.