بحيرة حمرين.. أسماك وترفيه وموت 

أحمد نجم

21 تشرين الثاني 2024

قبل 43 عاماً، غُمرت قرى وبساتين وتلال أثرية بالمياه، فولدت بحيرة حمرين في ديالى، وازدهر صيد الأسماك فيها، لكن الظروف لم تبق على ما هي عليه، والصيد صار يُمارس بحذر، والصيادون صاروا رجال شرطة وأمن.. أسماك وترفيه وموت في حيرة حمرين..

مع أن العلاقة بين أهالي قرى حوض حمرين والبحيرة المجاورة لهم ليست عميقة الجذور تاريخياً، فقد أنشئت البحيرة قبل 43 عاماً فقط، إلا أن هذه المدة كانت كافية لتحول ارتباط حياتهم بما تجود به البحيرة من مصادر للعيش صيداً أو زراعة وأحياناً سياحة، ويتأثرون أيضاً بقسوتها وجفافها وتذبذب مناسيب مياهها. 

وقد اختبر الأهالي هناك أشكالاً متعددة من العلاقة بالبحيرة، من النزوح القسري وترك قراهم السابقة لتغمرها مياه البحيرة عند إنشائها، إلى الكرم الذي جادت به في ظروف الحصار الاقتصادي وتردي الأوضاع المعيشية في التسعينيات، مروراً بفترات متقطعة من الجفاف، ثم ابتلاعها جثث الصيادين الذين قتل العشرات منهم على سطح المياه في السنوات الأخيرة بنيران مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” المتحصنين في سلسلة جبال حمرين. 

تبعد بحيرة حمرين نحو 110 كم شمال شرق بغداد، وهي حوض مائي مساحته 340 كيلومتراً مربعاً غُمر بالمياه بشكل كامل عام 1981 مع إنشاء سد حمرين كجزء من إجراءات وقائية من مخاطر الفيضانات التي كانت تجتاح المدن العراقية. 

تمُدّ البحيرة محافظة ديالى بنحو 70-80 بالمئة من احتياجاتها من مياه الشرب والزراعة، بحسب مديرية الموارد المائية في المحافظة، وبقدرة استيعابية تبلغ أكثر من مليارين و400 مليون متر مكعب من المياه. 

تعاضدت الظروف الأمنية المرتبكة في محيط البحيرة وتقلبات مناسيب المياه التي وصلت إلى حالة اقتربت من الفيضان ربيع عام 2019 ثم تحولت إلى جفاف كامل للبحيرة صيف 2021، على تراجع العمل بصيد الأسماك في حوض البحيرة، كما ساهم التوجه العام نحو العمل بالوظائف الحكومية المدنية والعسكرية في هجرة المهنة الأولى لأهالي القرى المحيطة بها خلال العقود السابقة. 

مهنة ثانوية 

كانت ذروة مجد حياة الصيد في التسعينيات من القرن الماضي، أيام الحصار الاقتصادي الخانق، فالبحيرة التي لم يمض على افتتاحها إلا عقد واحد، كانت تعج بالزوارق وتخترق أعماقها شباك صيد طويلة تبحث عمّا تجود به البحيرة من أسماك مختلفة الأنواع، غير أن الحياة اليوم لم تعد كالسابق، فقد قلّ الصيادون المحترفون الذين يتخذون من الصيد مهنة رئيسية، وتحول معظمهم إلى هواة صيد أو إلى ممارسته كمهنة ثانوية في أوقات الفراغ. 

“في التسعينيات كان ثلثا سكان المنطقة يعملون في الصيد والزراعة”، يقول علي الجبوري، أحد صيادي التسعينيات في بحيرة حمرين. 

اقرأ أيضاً

غزلان العراق يهدّدها الجوع: من يُنقذ “الريم” في علي الغربي؟ 

“أما الآن فالناس توجهت للوظائف المدنية والعسكرية”، يضيف لجمار. 

يسكن الجبوري في قرى حمرين، وهي مجموعة قرى تجاور البحيرة من جهة الغرب وتمتد طولياً معها. 

عدد الزوارق التي تعمل بالصيد في المنطقة حالياً أقل من 100 زورق، ما يعني وجود 200-250 شخصاً يمتهنون صيد السمك مقارنة بالسابق عندما كان عدد الصيادين يصل إلى آلاف. 

ومعظم الصيادين الحاليين لا يعتمدون على الصيد كمهنة رئيسية “لأن إنتاجه غير ثابت ومرتبط بالطقس والرياح والجفاف، فضلاً عن انشغالهم بالوظائف الحكومية” كما يقول الجبوري. 

بحيرة حمرين في ديالى / تصوير الكاتب 

بحيرة المطر 

يملك فؤاد وابن عمه علي، وكلاهما عسكريان، زورقاً حديثاً يستخدمانه لغرض الصيد في أيام الإجازات. 

ويقولان إن العمل بالصيد وحده غير مضمون، لأن مناسيب البحيرة غير ثابتة، بالإضافة إلى عدم وجود ضامن لمستقبلهما بعد تقدمهما في العمر. 

وتعتمد البحيرة بشكل أساسي على المياه القادمة من نهر سيروان، الذي ينبع من أعالي سلسلة جبال زاكروس في إيران ويدخل العراق من السليمانية ويمر ببحيرة دربندخان لينتهي فيها، بالإضافة إلى مصدر آخر يتمثل بذوبان الثلوج والعيون المائية في السليمانية. 

وسجلت السلطات العراقية انخفاضاً كبيراً في مناسيب مياه نهر سيروان القادم من إيران في السنوات الأخيرة، ما جعل مناسيب مياه البحيرة تعتمد بشكل أكبر على الحجم السنوي للأمطار، فترتفع خلال موسم المطر وتنخفض تدريجياً بعد ذلك. 

يمارس فؤاد وعلي الصيد بحذر ولا يصلان بزورقهما إلى الجهة الشمالية من البحيرة، فعبد الرزاق، شقيق فؤاد، كان قد قتل هناك قبل ثلاث سنوات أثناء الصيد عندما وصل بزورقه إلى أطراف البحيرة من جهة قرى نارين، بعد أن رفض تسليم نفسه لمسلحين من “داعش” حاولوا اختطافه. 

ضحايا الصيد 

حادثة قتل عبد الرزاق لم تكن إلا امتداداً لسلسلة من عمليات الاختطاف والقتل التي مارستها خلايا تنظيم “داعش” المتواجدة في تلال حمرين المجاورة للبحيرة من جهة الشمال، وكان آخرها مقتل اثنين من الصيادين من قرى بني ويس العام الماضي. 

ويقول مصطفى الأوسي، وهو ابن عم الصيادين المقتولين، إن الجريمة وقعت مباشرة من دون تحذير مسبق أو محاولة اختطاف. 

لذلك لم يعد الأوسي منذ ذلك الوقت إلى الصيد في تلك المنطقة الخطيرة، وأصبح عمله يتركز في الطرف المقابل للبحيرة والقريب من الشارع الرئيسي الرابط بين إقليم كردستان وبغداد، على الرغم من انخفاض وفرة الأسماك في هذه الجهة. 

وعندما لا يكون السمك وفيراً، يستخدم مصطفى زورقه لإجراء جولات سياحية داخل البحيرة، وخاصة للمارين عبر الطريق الدولي الذين يجذبهم منظر مياه البحيرة الممتد لمسافات شاسعة. 

ويقدر الجبوري عدد الصيادين الذين قتلوا داخل البحيرة بعد عام 2014 بنحو 20 صياداً. 

ونتيجة للمخاطر الأمنية، لم يعد بإمكان الصيادين المبيت ليلاً في البحيرة مع زوارقهم، كما أن القوات الأمنية المسؤولة عن حماية المنطقة لا تسمح غالباً بذلك. 

وبدلاً من المبيت، يبدأ معظم الصيادين عملهم فجراً قبل شروق الشمس بأكثر من ساعة، ويغادرون صباحاً بعد الساعة التاسعة، والبعض الآخر ينزل إلى البحيرة صباحاً ويخرج منها بعد الظهر. 

صيادون يستعدون للصيد في بحيرة حمرين/ تصوير الكاتب 

يوميات الصيادين 

حين يخرج الصيادون بزوارقهم السريعة من البحيرة، يجدون غالباً مشتري الأسماك المعروفين باسم “الصفّاطين” بالقرب من الضفاف، وأحياناً يذهبون بصيدهم إلى منازل الـ”صفاطين”، حيث تعقد صفقة البيع بحسب الوزن وأحياناً بحسب العدد. 

وأسعار السمك غير مستقرة وتتأثر بالعرض والطلب، ولأن بحيرات تربية الأسماك تتعرض لحملات ردم وغلق، فالأسعار حالياً مرتفعة نسبياً. 

أغلى الأنواع هو القطّان، ويباع لـ”الصفاط” بسعر يتراوح بين ثمانية وعشرة آلاف دينار للكيلوغرام الواحد، أما الشبّوط فيبلغ سعره نحو ثمانية آلاف دينار، والكاريبي بين خمسة وستة آلاف دينار، فيما تباع الأنواع الصغيرة مثل الحرش والزوري بنحو ألفي دينار. (الدولار = 1530 ديناراً في شركات الصرافة). 

يعيد الـ”صفاطون” بيع الأسماك بعد تجميع كميات كبيرة منها يومياً في الأسواق المخصصة لها في بغداد، وأحيانا تصل إلى محافظات أخرى، بالإضافة إلى وجود مشترين محليين يبيعون بضاعتهم للزبائن بشكل مباشر في الأسواق وعلى الشوارع الرئيسية داخل محافظة ديالى حيث تقع البحيرة. 

وعلى العكس من الزراعة التي تساهم فيها النساء بدور واضح ومؤثر، فإن مشاركتهن في الصيد نادرة جداً، ولا يتذكر الجبوري غير مشهد واحد في التسعينيات عندما كانت فتاة صغيرة تشارك في النزول بالزورق إلى وسط البحيرة مع والدها، بالإضافة لحالات نادرة من مساعدة النساء لعوائلهن على الضفة من دون ركوب الزوارق. 

لكن دوراً آخر ما تزال نساء في القرى تمارسه يتمثل بالصناعة اليدوية لشباك الصيد، وهي مهنة تقليدية مستمرة على الرغم من وجود الشباك الجاهزة المستوردة. 

صيادان يعدان شباكهما للصيد في بحيرة حمرين / تصوير الكاتب  

وتتعدد طرق وأساليب الصيد، غير أن أفضلها تلك التي تنجح في اصطياد أكبر كمية من الأسماك، وهي طريقة تُعرف بـ”الكرفة”. 

تعتمد “الكرفة” على وجود نحو عشرة أشخاص مع جرار زراعي أو أكثر، حيث يدخل في البدء اثنان أو ثلاثة أفراد بالزورق إلى البحيرة وينصبون الشباك التي عادة ما يكون طولها أكثر من 50 متراً، فيما ينتظر الآخرون على الضفة ممسكين بالطرف الثاني من الشبكة. 

اقرأ أيضاً

الجفاف والعطش.. جردة مطولة بالأنهار والسياسات المائية في العراق 

وبعد أن ترمى الأعلاف لجذب الأسماك، تطوى الشبكة من الأعلى بسرعة وخفة وتسحب من جهة الضفة بمجهود جميع الأفراد وبمساعدة الجرار. 

وتضمن هذه الطريقة اصطياد مئات الكيلوغرامات من الأسماك، وهي أصعب الطرق وأكثرها إنتاجية، لكنها صعبة تقنياً بسبب العدد الكبير المطلوب من العاملين لأداء المهمة والحاجة للجرارات للمساعدة. 

أما أشهر الطرق فهي الطريقة التقليدية المعتمدة على نصب الشباك والانتظار ساعات عدة لرفعها، وهي أكثر الأساليب انتشاراً، إذ يتطلب العمل فيها زورقاً مزوداً بمحرك وشخصين من ذوي الخبرة بالصيد. 

والناتج في كل الأحوال غير مضمون، فقد يكون كيلوغرامات قليلة جداً وقد يصل إلى مئات الكيلوغرامات بحسب كرم الطبيعة. 

ويستخدم بعض الصيادين أحياناً طريقة أخرى تعتمد على تخويف الأسماك من خلال رفع صوت المحرك والضرب على جدار الزورق بالأيدي لإصابتها بالهلع ودفعها باتجاه الضفة، حيث تكون الشباك منصوبة هناك وتسقط فيها. 

ويتراوح سعر قارب الصيد الحديث المزود بمحرك يعمل بالبنزين بين خمسة وستة ملايين دينار، مع معداته الأخرى مثل المجاديف اليدوية والشباك وغيرها. 

الصيد الجائر 

ثمة طرق صيد ممنوعة يجري استخدامها في بحيرة حمرين بتكتم مثل الصيد بالكهرباء. 

يقول أحد الصيادين طالباً عدم نشر اسمه، إن الصيد بالكهرباء منتشر بكثرة ويستخدمه معظم الصيادين “لأنه يجلب كميات كبيرة من الأسماك”. 

ويصنف هذا الأسلوب على أنه صيد جائر، وهو يعتمد على تمرير التيار الكهربائي في الماء بعد نشر الأعلاف في منطقة واحدة لجذب السمك، وبفعل الكهرباء تفقد السمكة وعيها في ثوان قليلة وتطوف إلى الأعلى ليتم التقاطها بواسطة شبكة مربوطة بلوح خشبي. 

تواجه دائرة البيئة ظاهرة الصيد الجائر بدوريات رصد مشتركة مع الشرطة النهرية، كما يقول يوسف سعدي مدير شعبة النظم الطبيعية لجمار. 

ويقر سعدي بصعوبة القضاء على الصيد الجائر، ولاسيما أن العقوبات المتعلقة به غير رادعة. 

“يتم توقيف المدان بممارسة الصيد الجائر لمدة يوم أو يومين من دون غرامات بقرار من القاضي” يضيف سعدي. 

وبحسب المحامي مصطفى مؤيد، فإن قرار القاضي في مثل هذه الحالات يتم بالرجوع إلى نص المادة 482/ثانياً من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل، والتي تعاقب بالحبس والغرامة أو إحداهما على “من سم سمكاً من الأسماك الموجودة في نهر أو ترعة أو غدير أو مستنقع أو حوض أو استعمل في صيدها أو إتلافها طريقة من طرق الإبادة الجماعية كالمتفجرات والمواد الكيمياوية والوسائل الكهربائية وغيرها”. 

والصيد الجائر يشمل طرقاً متعددة أبرزها استخدام الكهرباء أو السموم، ويؤدي إلى نفوق الأحياء الصغيرة أو التسبب بهدرها. 

البز يختفي 

قلّ بعض أنواع الأسماك في البحيرة بشكل كبير جداً، حتى أصبح نادراً، مثل البز والقطان، وفقاً لسعدي ومعظم الصيادين. 

يشير أبو حوراء، وهو عسكري حالياً ويعمل بالصيد في أوقات الفراغ، إلى تعرض البحيرة لموجات جفاف بين 2008 و2010، ما تسبب بتراجع عدد الأسماك وأنواعها. 

“كان الشبوط من أكثر أنواع الأسماك انتشاراً في البحيرة، لكنه الآن تراجع إلى حد كبير، وهناك أنواع أخرى تكاد تكون مختفية مثل السمتي والحمري”. 

اقرأ أيضاً

الصيادون يبيعون “الآرو”.. الوجه القاسي للتغيُّر المناخي على سكان الأهوار 

في المقابل، فإن أصنافاً جديدة من الأسماك أخذت تزداد بكثرة مثل البلطي، وهي سمكة تصنف كدخيلة على البيئة العراقية ومتهمة بكونها تتغذى على أسماك أخرى وكائنات بحرية ونفايات ومخلفات المجاري الثقيلة، لذلك يعتقد البعض أنها سامة أو مؤذية صحياً. 

“عندما نصطادها نعيدها إلى المياه لأنها مضرة بصحة القلب” يقول أحمد نبيل، صياد من ناحية السعدية المطلة على البحيرة من جهة الشرق. 

وأكثر أنواع السمك انتشاراً الآن هو الكاريبي، بسبب قدرته على مقاومة مختلف الظروف البيئية. 

ليلتان من الرعب 

مثلما تفيض البحيرة بخيراتها على الساكنين بجوارها، هناك لحظات من القسوة لا ينساها عباس، وهو صياد احترف مهنة الصيد منذ عام 1989 عندما كان عمره تسع سنوات، وترك المهنة عام 2007 ليلتحق بسلك الشرطة. 

في إحدى المرات التي نزل فيها مع زملائه الصيادين بقواربهم إلى البحيرة نهاية عقد التسعينيات، هبت رياح وعواصف عاتية بشكل مفاجئ، فظلوا حائرين وسط المياه لا يعرفون ماذا يفعلون. 

ولكن لحسن الحظ، كانت أرض يابسة مرتفعة قليلاً عن مستوى الماء يسمونها “الجزرة” كانت قريبة منهم، فلجأوا إليها وقضوا فيها ليلتين وثلاثة نهارات حتى هدأت العاصفة، وكان ذووهم ينتظرون بيأس على الضفاف ظناً منهم أن العاصفة قد تسببت بغرقهم. 

“أنقذنا السمك الذي اصطدناه من الموت جوعاً. رحنا نشوي منه ونأكل من دون خبز” يقول عباس لـ”جمّار”. 

مثل هذه التجارب، قللت حوادث الغرق في البحيرة إلى حد كبير، لأنها أكسبت الناس خبرة ومعرفة بالمخاطر، كما أن الزوارق الحديثة ساعدت بمتانتها واتزانها الجيد في جعل تلك الحوادث نادرة جداً. 

ولأن الطبيعة ليست قاسية دائماً، يستذكر عباس واحدة من قصصه السعيدة في التسعينيات حين تمكن من اصطياد سمكة بز بلغ وزنها 50.5 كغم، وهي أكبر سمكة تمكن من اصطيادها بنفسه، لكن صيادين آخرين استطاعوا اصطياد أسماك في بحيرة حمرين بوزن يتجاوز 100 كغم. 

الآن باتت الأسماك بهكذا أوزان نادرة جداً. 

وحتى بعد عمله في الشرطة، لم ينقطع عباس عن الصيد في أيام الإجازات، فهو يرى فيه مصدراً للترفيه. 

قارب مركون في بحيرة حمرين/ تصوير الكاتب 

تلال مغمورة 

قبل إنشاء سد حمرين، كانت منازل عوائل الصيادين جزءاً من الحوض المغمور بالمياه الآن. 

وما يزال كبار السن من الأهالي يستطيعون تحديد مواقع بيوتهم القديمة ويشاهدون أطلالها عندما تنخفض مناسيب المياه بحدة. 

ولم تكن المنازل وحدها قد غمرت، بل هناك 70 موقعاً أثرياً غطتها المياه بشكل كامل. 

وبحسب الأرشيف الآثاري العراقي، فإن التلال الأثرية التي نقبتها بعثات عراقية وأجنبية مشتركة ابتداءً من عام 1976، تعود لفترات زمنية مختلفة تبدأ من 7000 سنة قبل الميلاد ولغاية القرن الثاني عشر الميلادي. 

يقول علي حسين، واحد من الصيادين القدامى، إن أبرز تلك التلال التي يتذكرها الأهالي هما تل سلَيمة وتل برَدان، وما تزال تظهر فيها لقى أثرية وحلي أحياناً عندما تنخفض مناسيب المياه. 

ويعتزم الجبوري توثيق حياة قرية كوردرة في رواية ستكون التجربة الكتابية الأولى له. 

وكوردرة هي القرية الصغيرة التي ولد وعاش فيها السنوات المبكرة من طفولته قبل أن تغمرها مياه بحيرة حمرين ويُجبر أهاليها على الانتقال إلى قراهم الحالية التي ترتفع كثيراً عن مواقعهم السابقة، بعد أن خسروا بساتينهم الكبيرة وأراضيهم الزراعية الشاسعة ومُنحوا عوضاً عنها أراضي غير صالحة سوى للزراعة الموسمية، وخاصة محاصيل الرقي واللوبياء التي تشتهر بها المنطقة. 

وفي الرواية التي ينوي تأليفها، سيتطرق الجبوري إلى شغف الصيادين بمهنتهم التي لا تمنحهم الأسماك والأموال فحسب، بل تمنحهم شيئاً من الصفاء الذهني والابتعاد عن ضجيج الحياة اليومية ومتاعبها. 

  • هذه المادة من ضمن ملف أعدّه جمار عن الأسماك في العراق 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

مع أن العلاقة بين أهالي قرى حوض حمرين والبحيرة المجاورة لهم ليست عميقة الجذور تاريخياً، فقد أنشئت البحيرة قبل 43 عاماً فقط، إلا أن هذه المدة كانت كافية لتحول ارتباط حياتهم بما تجود به البحيرة من مصادر للعيش صيداً أو زراعة وأحياناً سياحة، ويتأثرون أيضاً بقسوتها وجفافها وتذبذب مناسيب مياهها. 

وقد اختبر الأهالي هناك أشكالاً متعددة من العلاقة بالبحيرة، من النزوح القسري وترك قراهم السابقة لتغمرها مياه البحيرة عند إنشائها، إلى الكرم الذي جادت به في ظروف الحصار الاقتصادي وتردي الأوضاع المعيشية في التسعينيات، مروراً بفترات متقطعة من الجفاف، ثم ابتلاعها جثث الصيادين الذين قتل العشرات منهم على سطح المياه في السنوات الأخيرة بنيران مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” المتحصنين في سلسلة جبال حمرين. 

تبعد بحيرة حمرين نحو 110 كم شمال شرق بغداد، وهي حوض مائي مساحته 340 كيلومتراً مربعاً غُمر بالمياه بشكل كامل عام 1981 مع إنشاء سد حمرين كجزء من إجراءات وقائية من مخاطر الفيضانات التي كانت تجتاح المدن العراقية. 

تمُدّ البحيرة محافظة ديالى بنحو 70-80 بالمئة من احتياجاتها من مياه الشرب والزراعة، بحسب مديرية الموارد المائية في المحافظة، وبقدرة استيعابية تبلغ أكثر من مليارين و400 مليون متر مكعب من المياه. 

تعاضدت الظروف الأمنية المرتبكة في محيط البحيرة وتقلبات مناسيب المياه التي وصلت إلى حالة اقتربت من الفيضان ربيع عام 2019 ثم تحولت إلى جفاف كامل للبحيرة صيف 2021، على تراجع العمل بصيد الأسماك في حوض البحيرة، كما ساهم التوجه العام نحو العمل بالوظائف الحكومية المدنية والعسكرية في هجرة المهنة الأولى لأهالي القرى المحيطة بها خلال العقود السابقة. 

مهنة ثانوية 

كانت ذروة مجد حياة الصيد في التسعينيات من القرن الماضي، أيام الحصار الاقتصادي الخانق، فالبحيرة التي لم يمض على افتتاحها إلا عقد واحد، كانت تعج بالزوارق وتخترق أعماقها شباك صيد طويلة تبحث عمّا تجود به البحيرة من أسماك مختلفة الأنواع، غير أن الحياة اليوم لم تعد كالسابق، فقد قلّ الصيادون المحترفون الذين يتخذون من الصيد مهنة رئيسية، وتحول معظمهم إلى هواة صيد أو إلى ممارسته كمهنة ثانوية في أوقات الفراغ. 

“في التسعينيات كان ثلثا سكان المنطقة يعملون في الصيد والزراعة”، يقول علي الجبوري، أحد صيادي التسعينيات في بحيرة حمرين. 

اقرأ أيضاً

غزلان العراق يهدّدها الجوع: من يُنقذ “الريم” في علي الغربي؟ 

“أما الآن فالناس توجهت للوظائف المدنية والعسكرية”، يضيف لجمار. 

يسكن الجبوري في قرى حمرين، وهي مجموعة قرى تجاور البحيرة من جهة الغرب وتمتد طولياً معها. 

عدد الزوارق التي تعمل بالصيد في المنطقة حالياً أقل من 100 زورق، ما يعني وجود 200-250 شخصاً يمتهنون صيد السمك مقارنة بالسابق عندما كان عدد الصيادين يصل إلى آلاف. 

ومعظم الصيادين الحاليين لا يعتمدون على الصيد كمهنة رئيسية “لأن إنتاجه غير ثابت ومرتبط بالطقس والرياح والجفاف، فضلاً عن انشغالهم بالوظائف الحكومية” كما يقول الجبوري. 

بحيرة حمرين في ديالى / تصوير الكاتب 

بحيرة المطر 

يملك فؤاد وابن عمه علي، وكلاهما عسكريان، زورقاً حديثاً يستخدمانه لغرض الصيد في أيام الإجازات. 

ويقولان إن العمل بالصيد وحده غير مضمون، لأن مناسيب البحيرة غير ثابتة، بالإضافة إلى عدم وجود ضامن لمستقبلهما بعد تقدمهما في العمر. 

وتعتمد البحيرة بشكل أساسي على المياه القادمة من نهر سيروان، الذي ينبع من أعالي سلسلة جبال زاكروس في إيران ويدخل العراق من السليمانية ويمر ببحيرة دربندخان لينتهي فيها، بالإضافة إلى مصدر آخر يتمثل بذوبان الثلوج والعيون المائية في السليمانية. 

وسجلت السلطات العراقية انخفاضاً كبيراً في مناسيب مياه نهر سيروان القادم من إيران في السنوات الأخيرة، ما جعل مناسيب مياه البحيرة تعتمد بشكل أكبر على الحجم السنوي للأمطار، فترتفع خلال موسم المطر وتنخفض تدريجياً بعد ذلك. 

يمارس فؤاد وعلي الصيد بحذر ولا يصلان بزورقهما إلى الجهة الشمالية من البحيرة، فعبد الرزاق، شقيق فؤاد، كان قد قتل هناك قبل ثلاث سنوات أثناء الصيد عندما وصل بزورقه إلى أطراف البحيرة من جهة قرى نارين، بعد أن رفض تسليم نفسه لمسلحين من “داعش” حاولوا اختطافه. 

ضحايا الصيد 

حادثة قتل عبد الرزاق لم تكن إلا امتداداً لسلسلة من عمليات الاختطاف والقتل التي مارستها خلايا تنظيم “داعش” المتواجدة في تلال حمرين المجاورة للبحيرة من جهة الشمال، وكان آخرها مقتل اثنين من الصيادين من قرى بني ويس العام الماضي. 

ويقول مصطفى الأوسي، وهو ابن عم الصيادين المقتولين، إن الجريمة وقعت مباشرة من دون تحذير مسبق أو محاولة اختطاف. 

لذلك لم يعد الأوسي منذ ذلك الوقت إلى الصيد في تلك المنطقة الخطيرة، وأصبح عمله يتركز في الطرف المقابل للبحيرة والقريب من الشارع الرئيسي الرابط بين إقليم كردستان وبغداد، على الرغم من انخفاض وفرة الأسماك في هذه الجهة. 

وعندما لا يكون السمك وفيراً، يستخدم مصطفى زورقه لإجراء جولات سياحية داخل البحيرة، وخاصة للمارين عبر الطريق الدولي الذين يجذبهم منظر مياه البحيرة الممتد لمسافات شاسعة. 

ويقدر الجبوري عدد الصيادين الذين قتلوا داخل البحيرة بعد عام 2014 بنحو 20 صياداً. 

ونتيجة للمخاطر الأمنية، لم يعد بإمكان الصيادين المبيت ليلاً في البحيرة مع زوارقهم، كما أن القوات الأمنية المسؤولة عن حماية المنطقة لا تسمح غالباً بذلك. 

وبدلاً من المبيت، يبدأ معظم الصيادين عملهم فجراً قبل شروق الشمس بأكثر من ساعة، ويغادرون صباحاً بعد الساعة التاسعة، والبعض الآخر ينزل إلى البحيرة صباحاً ويخرج منها بعد الظهر. 

صيادون يستعدون للصيد في بحيرة حمرين/ تصوير الكاتب 

يوميات الصيادين 

حين يخرج الصيادون بزوارقهم السريعة من البحيرة، يجدون غالباً مشتري الأسماك المعروفين باسم “الصفّاطين” بالقرب من الضفاف، وأحياناً يذهبون بصيدهم إلى منازل الـ”صفاطين”، حيث تعقد صفقة البيع بحسب الوزن وأحياناً بحسب العدد. 

وأسعار السمك غير مستقرة وتتأثر بالعرض والطلب، ولأن بحيرات تربية الأسماك تتعرض لحملات ردم وغلق، فالأسعار حالياً مرتفعة نسبياً. 

أغلى الأنواع هو القطّان، ويباع لـ”الصفاط” بسعر يتراوح بين ثمانية وعشرة آلاف دينار للكيلوغرام الواحد، أما الشبّوط فيبلغ سعره نحو ثمانية آلاف دينار، والكاريبي بين خمسة وستة آلاف دينار، فيما تباع الأنواع الصغيرة مثل الحرش والزوري بنحو ألفي دينار. (الدولار = 1530 ديناراً في شركات الصرافة). 

يعيد الـ”صفاطون” بيع الأسماك بعد تجميع كميات كبيرة منها يومياً في الأسواق المخصصة لها في بغداد، وأحيانا تصل إلى محافظات أخرى، بالإضافة إلى وجود مشترين محليين يبيعون بضاعتهم للزبائن بشكل مباشر في الأسواق وعلى الشوارع الرئيسية داخل محافظة ديالى حيث تقع البحيرة. 

وعلى العكس من الزراعة التي تساهم فيها النساء بدور واضح ومؤثر، فإن مشاركتهن في الصيد نادرة جداً، ولا يتذكر الجبوري غير مشهد واحد في التسعينيات عندما كانت فتاة صغيرة تشارك في النزول بالزورق إلى وسط البحيرة مع والدها، بالإضافة لحالات نادرة من مساعدة النساء لعوائلهن على الضفة من دون ركوب الزوارق. 

لكن دوراً آخر ما تزال نساء في القرى تمارسه يتمثل بالصناعة اليدوية لشباك الصيد، وهي مهنة تقليدية مستمرة على الرغم من وجود الشباك الجاهزة المستوردة. 

صيادان يعدان شباكهما للصيد في بحيرة حمرين / تصوير الكاتب  

وتتعدد طرق وأساليب الصيد، غير أن أفضلها تلك التي تنجح في اصطياد أكبر كمية من الأسماك، وهي طريقة تُعرف بـ”الكرفة”. 

تعتمد “الكرفة” على وجود نحو عشرة أشخاص مع جرار زراعي أو أكثر، حيث يدخل في البدء اثنان أو ثلاثة أفراد بالزورق إلى البحيرة وينصبون الشباك التي عادة ما يكون طولها أكثر من 50 متراً، فيما ينتظر الآخرون على الضفة ممسكين بالطرف الثاني من الشبكة. 

اقرأ أيضاً

الجفاف والعطش.. جردة مطولة بالأنهار والسياسات المائية في العراق 

وبعد أن ترمى الأعلاف لجذب الأسماك، تطوى الشبكة من الأعلى بسرعة وخفة وتسحب من جهة الضفة بمجهود جميع الأفراد وبمساعدة الجرار. 

وتضمن هذه الطريقة اصطياد مئات الكيلوغرامات من الأسماك، وهي أصعب الطرق وأكثرها إنتاجية، لكنها صعبة تقنياً بسبب العدد الكبير المطلوب من العاملين لأداء المهمة والحاجة للجرارات للمساعدة. 

أما أشهر الطرق فهي الطريقة التقليدية المعتمدة على نصب الشباك والانتظار ساعات عدة لرفعها، وهي أكثر الأساليب انتشاراً، إذ يتطلب العمل فيها زورقاً مزوداً بمحرك وشخصين من ذوي الخبرة بالصيد. 

والناتج في كل الأحوال غير مضمون، فقد يكون كيلوغرامات قليلة جداً وقد يصل إلى مئات الكيلوغرامات بحسب كرم الطبيعة. 

ويستخدم بعض الصيادين أحياناً طريقة أخرى تعتمد على تخويف الأسماك من خلال رفع صوت المحرك والضرب على جدار الزورق بالأيدي لإصابتها بالهلع ودفعها باتجاه الضفة، حيث تكون الشباك منصوبة هناك وتسقط فيها. 

ويتراوح سعر قارب الصيد الحديث المزود بمحرك يعمل بالبنزين بين خمسة وستة ملايين دينار، مع معداته الأخرى مثل المجاديف اليدوية والشباك وغيرها. 

الصيد الجائر 

ثمة طرق صيد ممنوعة يجري استخدامها في بحيرة حمرين بتكتم مثل الصيد بالكهرباء. 

يقول أحد الصيادين طالباً عدم نشر اسمه، إن الصيد بالكهرباء منتشر بكثرة ويستخدمه معظم الصيادين “لأنه يجلب كميات كبيرة من الأسماك”. 

ويصنف هذا الأسلوب على أنه صيد جائر، وهو يعتمد على تمرير التيار الكهربائي في الماء بعد نشر الأعلاف في منطقة واحدة لجذب السمك، وبفعل الكهرباء تفقد السمكة وعيها في ثوان قليلة وتطوف إلى الأعلى ليتم التقاطها بواسطة شبكة مربوطة بلوح خشبي. 

تواجه دائرة البيئة ظاهرة الصيد الجائر بدوريات رصد مشتركة مع الشرطة النهرية، كما يقول يوسف سعدي مدير شعبة النظم الطبيعية لجمار. 

ويقر سعدي بصعوبة القضاء على الصيد الجائر، ولاسيما أن العقوبات المتعلقة به غير رادعة. 

“يتم توقيف المدان بممارسة الصيد الجائر لمدة يوم أو يومين من دون غرامات بقرار من القاضي” يضيف سعدي. 

وبحسب المحامي مصطفى مؤيد، فإن قرار القاضي في مثل هذه الحالات يتم بالرجوع إلى نص المادة 482/ثانياً من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل، والتي تعاقب بالحبس والغرامة أو إحداهما على “من سم سمكاً من الأسماك الموجودة في نهر أو ترعة أو غدير أو مستنقع أو حوض أو استعمل في صيدها أو إتلافها طريقة من طرق الإبادة الجماعية كالمتفجرات والمواد الكيمياوية والوسائل الكهربائية وغيرها”. 

والصيد الجائر يشمل طرقاً متعددة أبرزها استخدام الكهرباء أو السموم، ويؤدي إلى نفوق الأحياء الصغيرة أو التسبب بهدرها. 

البز يختفي 

قلّ بعض أنواع الأسماك في البحيرة بشكل كبير جداً، حتى أصبح نادراً، مثل البز والقطان، وفقاً لسعدي ومعظم الصيادين. 

يشير أبو حوراء، وهو عسكري حالياً ويعمل بالصيد في أوقات الفراغ، إلى تعرض البحيرة لموجات جفاف بين 2008 و2010، ما تسبب بتراجع عدد الأسماك وأنواعها. 

“كان الشبوط من أكثر أنواع الأسماك انتشاراً في البحيرة، لكنه الآن تراجع إلى حد كبير، وهناك أنواع أخرى تكاد تكون مختفية مثل السمتي والحمري”. 

اقرأ أيضاً

الصيادون يبيعون “الآرو”.. الوجه القاسي للتغيُّر المناخي على سكان الأهوار 

في المقابل، فإن أصنافاً جديدة من الأسماك أخذت تزداد بكثرة مثل البلطي، وهي سمكة تصنف كدخيلة على البيئة العراقية ومتهمة بكونها تتغذى على أسماك أخرى وكائنات بحرية ونفايات ومخلفات المجاري الثقيلة، لذلك يعتقد البعض أنها سامة أو مؤذية صحياً. 

“عندما نصطادها نعيدها إلى المياه لأنها مضرة بصحة القلب” يقول أحمد نبيل، صياد من ناحية السعدية المطلة على البحيرة من جهة الشرق. 

وأكثر أنواع السمك انتشاراً الآن هو الكاريبي، بسبب قدرته على مقاومة مختلف الظروف البيئية. 

ليلتان من الرعب 

مثلما تفيض البحيرة بخيراتها على الساكنين بجوارها، هناك لحظات من القسوة لا ينساها عباس، وهو صياد احترف مهنة الصيد منذ عام 1989 عندما كان عمره تسع سنوات، وترك المهنة عام 2007 ليلتحق بسلك الشرطة. 

في إحدى المرات التي نزل فيها مع زملائه الصيادين بقواربهم إلى البحيرة نهاية عقد التسعينيات، هبت رياح وعواصف عاتية بشكل مفاجئ، فظلوا حائرين وسط المياه لا يعرفون ماذا يفعلون. 

ولكن لحسن الحظ، كانت أرض يابسة مرتفعة قليلاً عن مستوى الماء يسمونها “الجزرة” كانت قريبة منهم، فلجأوا إليها وقضوا فيها ليلتين وثلاثة نهارات حتى هدأت العاصفة، وكان ذووهم ينتظرون بيأس على الضفاف ظناً منهم أن العاصفة قد تسببت بغرقهم. 

“أنقذنا السمك الذي اصطدناه من الموت جوعاً. رحنا نشوي منه ونأكل من دون خبز” يقول عباس لـ”جمّار”. 

مثل هذه التجارب، قللت حوادث الغرق في البحيرة إلى حد كبير، لأنها أكسبت الناس خبرة ومعرفة بالمخاطر، كما أن الزوارق الحديثة ساعدت بمتانتها واتزانها الجيد في جعل تلك الحوادث نادرة جداً. 

ولأن الطبيعة ليست قاسية دائماً، يستذكر عباس واحدة من قصصه السعيدة في التسعينيات حين تمكن من اصطياد سمكة بز بلغ وزنها 50.5 كغم، وهي أكبر سمكة تمكن من اصطيادها بنفسه، لكن صيادين آخرين استطاعوا اصطياد أسماك في بحيرة حمرين بوزن يتجاوز 100 كغم. 

الآن باتت الأسماك بهكذا أوزان نادرة جداً. 

وحتى بعد عمله في الشرطة، لم ينقطع عباس عن الصيد في أيام الإجازات، فهو يرى فيه مصدراً للترفيه. 

قارب مركون في بحيرة حمرين/ تصوير الكاتب 

تلال مغمورة 

قبل إنشاء سد حمرين، كانت منازل عوائل الصيادين جزءاً من الحوض المغمور بالمياه الآن. 

وما يزال كبار السن من الأهالي يستطيعون تحديد مواقع بيوتهم القديمة ويشاهدون أطلالها عندما تنخفض مناسيب المياه بحدة. 

ولم تكن المنازل وحدها قد غمرت، بل هناك 70 موقعاً أثرياً غطتها المياه بشكل كامل. 

وبحسب الأرشيف الآثاري العراقي، فإن التلال الأثرية التي نقبتها بعثات عراقية وأجنبية مشتركة ابتداءً من عام 1976، تعود لفترات زمنية مختلفة تبدأ من 7000 سنة قبل الميلاد ولغاية القرن الثاني عشر الميلادي. 

يقول علي حسين، واحد من الصيادين القدامى، إن أبرز تلك التلال التي يتذكرها الأهالي هما تل سلَيمة وتل برَدان، وما تزال تظهر فيها لقى أثرية وحلي أحياناً عندما تنخفض مناسيب المياه. 

ويعتزم الجبوري توثيق حياة قرية كوردرة في رواية ستكون التجربة الكتابية الأولى له. 

وكوردرة هي القرية الصغيرة التي ولد وعاش فيها السنوات المبكرة من طفولته قبل أن تغمرها مياه بحيرة حمرين ويُجبر أهاليها على الانتقال إلى قراهم الحالية التي ترتفع كثيراً عن مواقعهم السابقة، بعد أن خسروا بساتينهم الكبيرة وأراضيهم الزراعية الشاسعة ومُنحوا عوضاً عنها أراضي غير صالحة سوى للزراعة الموسمية، وخاصة محاصيل الرقي واللوبياء التي تشتهر بها المنطقة. 

وفي الرواية التي ينوي تأليفها، سيتطرق الجبوري إلى شغف الصيادين بمهنتهم التي لا تمنحهم الأسماك والأموال فحسب، بل تمنحهم شيئاً من الصفاء الذهني والابتعاد عن ضجيج الحياة اليومية ومتاعبها. 

  • هذه المادة من ضمن ملف أعدّه جمار عن الأسماك في العراق