"الشوف مو بالعين".. عن العَمَى والبصيرة في المسرح وكرة القدم
16 تشرين الثاني 2024
الظلام صار عالمهم الآن، "تجربةٌ" لا يريدون لأحدٍ خوضها، لكنّهم يتعلّمون منها، وتُلهمهم، فالتفاصيل في ذلك العالم ليست مجرّد عادات يومية، أو أفعال عابرة، إنّها تشبه الإنجازات الكبيرة، أو هي كذلك بالفعل، عن العَمَى وعالمه ومجتمعه في العراق..
في واحدة من ليالي الشتاء الطويلة، كانت العائلة بين النوم والكسل والظلام الكثيف بعد انطفاء الكهرباء الوطنية في البيت. بدأت المفاوضات: من سينهض من فراشه الدافئ، ويمشي نحو “السركيت”، لتبديل جوزة الوطنية بالمولدة! أحدهم فعلها؛ الأب “الكفيف”، خطا في الظلام ليجلب النور إلى البيت.
من كان يعتقد أن هذا المشهد بسيط؛ فليجرّب المشي بلا بصرٍ في هذا العالم، فليجرّب ممارسة حياة كاملة في العراق، بلا رؤية، فليجرّب الخروج إلى الشوارع، ومراجعة الدوائر الحكومية، إنه عالم من الظلام، لكنّ عثمان الكناني يحمل فيه شعلة البصيرة.
في السادسة والثلاثين من العمر، يكون الشباب في ذروته، والأحلام أكبر من العمر، لكنّ الكناني في ذلك العمر، فقد عينيه بظرف ثلاثة أيام، العالم الذي كان مضيئاً انطفأ فجأة، عليه أن يتعامل الآن مع واقعه الجديد، فهل يستسلم؟ ذلك لم يحدث أبداً.
ما حدث هو ولادة فرقة مسرحية ومنتخب كرة قدم، للمكفوفين، حدثان فتحا العالم للمكفوفين في العراق.
فرقة “السراج” المسرحية
عند تأسيسها واجهت فرقة السراج المسرحية تحدياً أكبر، ليس بسبب العمى؛ وإنّما بسبب تنمّر الناس، واستخفافهم، “ذولي شديسوون؟ هو الي يشوف ما مدبرها انوب ذولي العميان”.
فرقة السراج أدت مسرحيتي “اوفر بروفة”، و”يا زارع البزرنكوش.. منو هؤلاء”، على مسارح عدّة، وهي تعد أول فرقة مسرحية للمكفوفين في العراق، وكان الهدف منها دمج المكفوفين في المجتمع، عبر تقديمهم لرسائل متعددة، إذ أنّ الممثلين المسرحيين هم من المكفوفين فقط، ذكوراً وإناثاً، وبأعمار مختلفة.
يعاني ذوو الاحتياجات الخاصة بشكل عام، والمكفوفون بشكل خاص من عدم توفر الاحتياجات التي تسهّل عليهم الحركة، وممارسة الحياة الطبيعية كباقي الفئات، لكن لفرقة “السراج” المسرحية كلمةً وتأثيراً على المسرح.
بدأت فرقة السراج بـ7 أعضاء من المكفوفين، ليصل عددهم الآن إلى 15 ممثلاً وفنياً، وشارك في إخراج مسرحياتهم مسرحيون عراقيون معروفون.
في العراق، الذي 2.5 بالمئة من سكانه مكفوفون (مليون إنسان)، لا توجد طرق للمشي والرياضة خاصة بهم، وليست هناك مصاعد، أو أماكن، للحاجة والترفيه، مخصصة لهم.
انبثقت فرقة “السراج” المسرحية من جمعية السراج للمكفوفين، التي تأسست عام 2016، كانت تؤدّي نشاطات عديدة من أهمها المسرح، والرياضة، والتكنولوجيا، والتنمية.
يقول عثمان الكناني، مؤسس الجمعية، إنّ المسرح من أهم الأقسام في الجمعية، إنّه يشكّل نقطة مضيئة بالنسبة لهم، وسبب اختيارهم هذا المجال الصعب؛ بالإضافة إلى الرياضة، هو أن المسرح فيه رسالة كبيرة ومباشرة جداً، يمكن أن تصل من خلالها التحديات التي يواجهها المكفوفون في هذا العالم الذي يقوم على العروض البصرية.
الكناني ابن هذه التجربة، وهذا التحدي، لقد فقد بصره بسبب استعمال الأدوية بشكل خاطئ، عندما كان يحاول علاج حساسية موسمية في العين، ما أدّى إلى إصابته بمرض الغلوكوما، وهو تلف في أنسجة العصب البصري.
بدأ نظره يتقلص عندما كان عمره 36 عاماً، ثم فقد بصره تدريجياً.
كرار الغالبي، مؤسس الفرقة المسرحية، تحدّث لجمّار عن تعرضه لحادث إرهابي عام 2014، أدى إلى فقدانه البصر. انفجرت قربه سيارة مفخخة أثناء وجوده في شارع المستشفى الجمهوري، وسط بابل، حدث ذلك قبل يوم من امتحانه الأخير في تخصص التمريض، لكنّ الحادث لم يمنعه من مواصلة دراسته ونيل تخصصه.
يعمل كرار اليوم تدريسياً في معهد الصحة العالي في كربلاء، وأكمل دراسة الماجستير في مجال صحة المجتمع خارج العراق، ويتذكر دخوله إلى مجال المسرح، واهتمامه به، كان ذلك بحسب ما يسرد، صدفةً، أثناء دراسته في جامعة بابل حين لم يعثر على مكان للسكن في الأقسام الداخلية، لأن الأقسام الداخلية للكليات الطبيّة كانت ممتلئة، لذا انتقل للعيش في الأقسام الداخلية الخاصة بطلاب كلية الفنون الجميلة، وهناك اختلط بطلاب المسرح، وأحب العمل المسرحي، وتمت دعوته من قبل أحد زملائه إلى التمثيل في مسرحيتين، إحداهما عام 2012، والثانية عام 2014.
بالنسبة لكرار، بدأت قصته مع التمثيل المسرحي بعد فترة من الحادث الإرهابي، تعرف على مجموعة من المكفوفين في مدينة كربلاء، واتفقوا على تأسيس جمعية “السراج” للمكفوفين.
المسرح
في بداية انطلاق الجمعية سعى كرار إلى تأسيس فرقة “السراج”، وكانت الأعمال المسرحية التي قُدّمت في بداية التأسيس تندرج تحت مسرح الظلام، حيث أوّل عمل للفرقة كان مسرحية “مقهى الجواهري”، ثم مسرحية “الصرخة”، والعرضان اعتمدا على عصب عيون المتفرّجين بشريط، أو قماش أسود، حتى يعيش المتفرّج العرض المسرحي على السماع فقط، وكان هذا النوع من المسرح يطبّق لأول مرّة في العراق.
بدأت الفرقة بعروض بسيطة تعبّر عن هواية وليس احترافاً، استمرت لمدة سنتين، وفي عام 2018 انتقلت الفرقة إلى الأعمال الاحترافية، وكان عملها الأول بعنوان “نحن هنا”، وكانت من بطولة 11 ممثلاً من المكفوفين. يقول كرار إنه كان عملاً مسرحياً يقول فيه المكفوفون للعالم، “نحن هنا”.
أخذ هذا العمل صدىً واسعاً في كربلاء، وشارك في مهرجان بابل، والمسرح الوطني في بغداد، ومهرجانات أخرى في محافظات عدّة. ”بعدها قدمنا عملاً مسرحياً احترافياً آخر، هو أوفر بروفة”، وعلى إثر هذا العمل حصلت الفرقة على اعتراف نقابة الفنانين.
مُنح أعضاء الفرقة هويات النقابة، وشاركت في مهرجانات عديدة كذلك، منها “أيام كربلاء الدولي”، ومهرجان “المسرح التجريبي”، و”المسرح الوطني”، ومهرجانات كثيرة أخرى.
بعدها انتقلت فرقة “السراج” إلى أعمال مشتركة مع شعبة المسرح المعاصر في العتبة الحسينية، وقدمت عملاً مشتركاً، هو مسرحية “بوصلة”.
أما العمل الأخير للفرقة فكان بعنوان “يا زارع البزرنكوش.. من هؤلاء”، وكان عملاً كبيراً بحسب كرار، “شاركنا به في مهرجانات كثيرة، وعرضناه على مسارح عدة، منها مهرجان بغداد الدولي، الذي اشتركت فيه العديد من الدول العربية والأجنبية”.
يقول كرار إن الفرقة تتجه في الوقت الحالي نحو التنظير لمسرح المكفوفين، وهناك مشاركات عديدة مستقبلية لهم، يطمحون من خلالها للوصول إلى العالمية.
كرة القدم
سعى الكناني منذ البداية إلى تأسيس فريق كرة القدم الخاص بالمكفوفين ضمن قسم الرياضة في جمعية “السراج”، وقد أسست الجمعية نادي “أمل كربلاء”، لتوفير الموارد البشرية من المكفوفين، بعدها تأسس منتخب وطني، واتحاد كرة القدم للمكفوفين، وشارك المنتخب في منافسات خارج البلاد، كما اتيحت الفرصة لدخول بعض لاعبي الفريق من المكفوفين إلى اللجنة البارالمبية العراقية.
انطلق المنتخب بشكل رسمي مطلع العام الحالي، بعدما تأسّس الاتحاد العراقي لكرة القدم للمكفوفين، نهاية 2023، ويضمّ 20 لاعباً.
في المملكة المغربية، نهاية حزيران 2024، ضمن بطولة تحدي المغرب، توّج المنتخب بالمركز الثاني، وفاز على المنتخب البولندي بهدفين نظيفين، في أول مشاركة دولية له.
كيف يلعب المكفوف كرة القدم؟ هذا لم يكن سؤالاً في رأس الكناني، لقد كان هاجساً، “كيف يمكنني جعل المكفوف يلعبها ويمارسها؟ كان هاجساً مملوءاً بالحب والشغف واللوعة في لعب كرة القدم، فالصعوبات كثيرة ومنها التنقل والتمويل وتوفر الأدوات اللازمة”.
في البداية كان لدى الفريق ما يُطلق عليه “كرة الجرس” فقط، وهي كرة اعتيادية بداخلها جرس يتبع المكفوف الصوت للعبها، وبعد مساعي ومحاولات استطاع الكناني إدخال كرة القدم للمكفوفين إلى العراق، بالتواصل مع منظمات دولية معنية بها في خارج العراق.
“في التجربة الأولى عندما مسكت الكرة الخاصة بالمكفوفين اقشعّر بدني، وكانت لقطة مهمة وتاريخية بالنسبة لي ولنا كمكفوفين! فقد أصبح حلم فريق كرة قدم خاص بالمكفوفين حقيقة، وأخيراً سيلعب المكفوفون في العراق كرة القدم”.
هناك لحظة أخرى، كانت مذهلة ومليئة بالمشاعر بالنسبة للكناني، أثناء مباراة نادي القوة الجوية مع نادي كربلاء، عندما تقرر أن يكون أول تحريك للكرة من المنتصف، من قبل الكناني، كأكبر لاعب في فريق المكفوفين، مع أصغر لاعب، وهو زين العابدين، يقول الكناني، “نزلنا وسط الملعب مع اللاعبين من كلا الناديين وكان مشهداً فائق الجمال، بوجود 30 ألف مشجع، ونقل تليفزيوني مباشر، في حينها شعرت وكأننا امتلكنا كأس العالم بوجودنا هنا”.
كيف يلعب اللاعب الكفيف؟ وعلى ماذا يعتمد؟ يخبرنا الكناني أنه يعتمد على حاسة السمع بشكل كبير في اللعب، بالإضافة إلى الإحساس العالي والحدس منقطع النظير بالمكان، فالاعتماد على الجرس للكرة يتطلب تركيزاً عالياً، واستعمال الحاسة بشكل كبير، بالإضافة للحركة، وهذه كلها مؤهلات تجعل اللاعب الكفيف يمارس الكرة ويلعبها بسهولة.
التفاعل مع الكرة
يأخذنا الكناني في الحديث عن مشاعره ويصف كرة القدم بمعشوقة الجماهير، أما بالنسبة للكفيف فهو يتفاعل مع كرة القدم بشكل كبير، خصوصاً الشباب منهم، لذلك تبقى كرة القدم الهاجس الكبير للكفيف وكيفية متابعتها وممارستها حلماً بالنسبة له.
يمكن لأنواع فقدان البصر أن تؤثر على أداء اللاعبين. يذكر الكناني أن المكفوفين أنواع، منهم منذ الولادة، ومنهم أصيب به في ما بعد، وهذا يؤثر في التفاعل مع الكرة، بالعمى المكتسب، مثل حالة الكناني، كانت له فرصة بلعبها طول السنوات، طيلة فترة إبصاره.
الكناني اكتشف، من خلال المحاولات، أنّه يستطيع متابعتها من خلال الوصف الذي يقدمه التعليق الصوتي، وتطورت التقنيات مع الذكاء الاصطناعي، مثل تجربة كأس العالم في قطر، عام 2022، حيث كان هناك استوديو خاص للمكفوفين، يقول الكناني، “جعلنا نتعايش مع اللعبة بشكل تام”.
يسعى المكفوف إلى استخدام الحواس الأخرى، لتعويض حاسة البصر، وخصوصاً الإحساس بالصوت، والعصف الذهني لمتابعة كرة القدم من خلال التعليق الصوتي.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
مدارس مُهجَّرة: لماذا لن ينتهي "الدوام المزدوج" و"الاكتظاظ" في العراق؟
10 ديسمبر 2024
الهيدروجين الأزرق والشمس.. عن بدائل النفط "الممكنة" في العراق
07 ديسمبر 2024
الأشجار والدولار على المحكّ في سنجار
03 ديسمبر 2024
الصيادون يبيعون "الآرو".. الوجه القاسي للتغيُّر المناخي على سكان الأهوار
28 نوفمبر 2024
في واحدة من ليالي الشتاء الطويلة، كانت العائلة بين النوم والكسل والظلام الكثيف بعد انطفاء الكهرباء الوطنية في البيت. بدأت المفاوضات: من سينهض من فراشه الدافئ، ويمشي نحو “السركيت”، لتبديل جوزة الوطنية بالمولدة! أحدهم فعلها؛ الأب “الكفيف”، خطا في الظلام ليجلب النور إلى البيت.
من كان يعتقد أن هذا المشهد بسيط؛ فليجرّب المشي بلا بصرٍ في هذا العالم، فليجرّب ممارسة حياة كاملة في العراق، بلا رؤية، فليجرّب الخروج إلى الشوارع، ومراجعة الدوائر الحكومية، إنه عالم من الظلام، لكنّ عثمان الكناني يحمل فيه شعلة البصيرة.
في السادسة والثلاثين من العمر، يكون الشباب في ذروته، والأحلام أكبر من العمر، لكنّ الكناني في ذلك العمر، فقد عينيه بظرف ثلاثة أيام، العالم الذي كان مضيئاً انطفأ فجأة، عليه أن يتعامل الآن مع واقعه الجديد، فهل يستسلم؟ ذلك لم يحدث أبداً.
ما حدث هو ولادة فرقة مسرحية ومنتخب كرة قدم، للمكفوفين، حدثان فتحا العالم للمكفوفين في العراق.
فرقة “السراج” المسرحية
عند تأسيسها واجهت فرقة السراج المسرحية تحدياً أكبر، ليس بسبب العمى؛ وإنّما بسبب تنمّر الناس، واستخفافهم، “ذولي شديسوون؟ هو الي يشوف ما مدبرها انوب ذولي العميان”.
فرقة السراج أدت مسرحيتي “اوفر بروفة”، و”يا زارع البزرنكوش.. منو هؤلاء”، على مسارح عدّة، وهي تعد أول فرقة مسرحية للمكفوفين في العراق، وكان الهدف منها دمج المكفوفين في المجتمع، عبر تقديمهم لرسائل متعددة، إذ أنّ الممثلين المسرحيين هم من المكفوفين فقط، ذكوراً وإناثاً، وبأعمار مختلفة.
يعاني ذوو الاحتياجات الخاصة بشكل عام، والمكفوفون بشكل خاص من عدم توفر الاحتياجات التي تسهّل عليهم الحركة، وممارسة الحياة الطبيعية كباقي الفئات، لكن لفرقة “السراج” المسرحية كلمةً وتأثيراً على المسرح.
بدأت فرقة السراج بـ7 أعضاء من المكفوفين، ليصل عددهم الآن إلى 15 ممثلاً وفنياً، وشارك في إخراج مسرحياتهم مسرحيون عراقيون معروفون.
في العراق، الذي 2.5 بالمئة من سكانه مكفوفون (مليون إنسان)، لا توجد طرق للمشي والرياضة خاصة بهم، وليست هناك مصاعد، أو أماكن، للحاجة والترفيه، مخصصة لهم.
انبثقت فرقة “السراج” المسرحية من جمعية السراج للمكفوفين، التي تأسست عام 2016، كانت تؤدّي نشاطات عديدة من أهمها المسرح، والرياضة، والتكنولوجيا، والتنمية.
يقول عثمان الكناني، مؤسس الجمعية، إنّ المسرح من أهم الأقسام في الجمعية، إنّه يشكّل نقطة مضيئة بالنسبة لهم، وسبب اختيارهم هذا المجال الصعب؛ بالإضافة إلى الرياضة، هو أن المسرح فيه رسالة كبيرة ومباشرة جداً، يمكن أن تصل من خلالها التحديات التي يواجهها المكفوفون في هذا العالم الذي يقوم على العروض البصرية.
الكناني ابن هذه التجربة، وهذا التحدي، لقد فقد بصره بسبب استعمال الأدوية بشكل خاطئ، عندما كان يحاول علاج حساسية موسمية في العين، ما أدّى إلى إصابته بمرض الغلوكوما، وهو تلف في أنسجة العصب البصري.
بدأ نظره يتقلص عندما كان عمره 36 عاماً، ثم فقد بصره تدريجياً.
كرار الغالبي، مؤسس الفرقة المسرحية، تحدّث لجمّار عن تعرضه لحادث إرهابي عام 2014، أدى إلى فقدانه البصر. انفجرت قربه سيارة مفخخة أثناء وجوده في شارع المستشفى الجمهوري، وسط بابل، حدث ذلك قبل يوم من امتحانه الأخير في تخصص التمريض، لكنّ الحادث لم يمنعه من مواصلة دراسته ونيل تخصصه.
يعمل كرار اليوم تدريسياً في معهد الصحة العالي في كربلاء، وأكمل دراسة الماجستير في مجال صحة المجتمع خارج العراق، ويتذكر دخوله إلى مجال المسرح، واهتمامه به، كان ذلك بحسب ما يسرد، صدفةً، أثناء دراسته في جامعة بابل حين لم يعثر على مكان للسكن في الأقسام الداخلية، لأن الأقسام الداخلية للكليات الطبيّة كانت ممتلئة، لذا انتقل للعيش في الأقسام الداخلية الخاصة بطلاب كلية الفنون الجميلة، وهناك اختلط بطلاب المسرح، وأحب العمل المسرحي، وتمت دعوته من قبل أحد زملائه إلى التمثيل في مسرحيتين، إحداهما عام 2012، والثانية عام 2014.
بالنسبة لكرار، بدأت قصته مع التمثيل المسرحي بعد فترة من الحادث الإرهابي، تعرف على مجموعة من المكفوفين في مدينة كربلاء، واتفقوا على تأسيس جمعية “السراج” للمكفوفين.
المسرح
في بداية انطلاق الجمعية سعى كرار إلى تأسيس فرقة “السراج”، وكانت الأعمال المسرحية التي قُدّمت في بداية التأسيس تندرج تحت مسرح الظلام، حيث أوّل عمل للفرقة كان مسرحية “مقهى الجواهري”، ثم مسرحية “الصرخة”، والعرضان اعتمدا على عصب عيون المتفرّجين بشريط، أو قماش أسود، حتى يعيش المتفرّج العرض المسرحي على السماع فقط، وكان هذا النوع من المسرح يطبّق لأول مرّة في العراق.
بدأت الفرقة بعروض بسيطة تعبّر عن هواية وليس احترافاً، استمرت لمدة سنتين، وفي عام 2018 انتقلت الفرقة إلى الأعمال الاحترافية، وكان عملها الأول بعنوان “نحن هنا”، وكانت من بطولة 11 ممثلاً من المكفوفين. يقول كرار إنه كان عملاً مسرحياً يقول فيه المكفوفون للعالم، “نحن هنا”.
أخذ هذا العمل صدىً واسعاً في كربلاء، وشارك في مهرجان بابل، والمسرح الوطني في بغداد، ومهرجانات أخرى في محافظات عدّة. ”بعدها قدمنا عملاً مسرحياً احترافياً آخر، هو أوفر بروفة”، وعلى إثر هذا العمل حصلت الفرقة على اعتراف نقابة الفنانين.
مُنح أعضاء الفرقة هويات النقابة، وشاركت في مهرجانات عديدة كذلك، منها “أيام كربلاء الدولي”، ومهرجان “المسرح التجريبي”، و”المسرح الوطني”، ومهرجانات كثيرة أخرى.
بعدها انتقلت فرقة “السراج” إلى أعمال مشتركة مع شعبة المسرح المعاصر في العتبة الحسينية، وقدمت عملاً مشتركاً، هو مسرحية “بوصلة”.
أما العمل الأخير للفرقة فكان بعنوان “يا زارع البزرنكوش.. من هؤلاء”، وكان عملاً كبيراً بحسب كرار، “شاركنا به في مهرجانات كثيرة، وعرضناه على مسارح عدة، منها مهرجان بغداد الدولي، الذي اشتركت فيه العديد من الدول العربية والأجنبية”.
يقول كرار إن الفرقة تتجه في الوقت الحالي نحو التنظير لمسرح المكفوفين، وهناك مشاركات عديدة مستقبلية لهم، يطمحون من خلالها للوصول إلى العالمية.
كرة القدم
سعى الكناني منذ البداية إلى تأسيس فريق كرة القدم الخاص بالمكفوفين ضمن قسم الرياضة في جمعية “السراج”، وقد أسست الجمعية نادي “أمل كربلاء”، لتوفير الموارد البشرية من المكفوفين، بعدها تأسس منتخب وطني، واتحاد كرة القدم للمكفوفين، وشارك المنتخب في منافسات خارج البلاد، كما اتيحت الفرصة لدخول بعض لاعبي الفريق من المكفوفين إلى اللجنة البارالمبية العراقية.
انطلق المنتخب بشكل رسمي مطلع العام الحالي، بعدما تأسّس الاتحاد العراقي لكرة القدم للمكفوفين، نهاية 2023، ويضمّ 20 لاعباً.
في المملكة المغربية، نهاية حزيران 2024، ضمن بطولة تحدي المغرب، توّج المنتخب بالمركز الثاني، وفاز على المنتخب البولندي بهدفين نظيفين، في أول مشاركة دولية له.
كيف يلعب المكفوف كرة القدم؟ هذا لم يكن سؤالاً في رأس الكناني، لقد كان هاجساً، “كيف يمكنني جعل المكفوف يلعبها ويمارسها؟ كان هاجساً مملوءاً بالحب والشغف واللوعة في لعب كرة القدم، فالصعوبات كثيرة ومنها التنقل والتمويل وتوفر الأدوات اللازمة”.
في البداية كان لدى الفريق ما يُطلق عليه “كرة الجرس” فقط، وهي كرة اعتيادية بداخلها جرس يتبع المكفوف الصوت للعبها، وبعد مساعي ومحاولات استطاع الكناني إدخال كرة القدم للمكفوفين إلى العراق، بالتواصل مع منظمات دولية معنية بها في خارج العراق.
“في التجربة الأولى عندما مسكت الكرة الخاصة بالمكفوفين اقشعّر بدني، وكانت لقطة مهمة وتاريخية بالنسبة لي ولنا كمكفوفين! فقد أصبح حلم فريق كرة قدم خاص بالمكفوفين حقيقة، وأخيراً سيلعب المكفوفون في العراق كرة القدم”.
هناك لحظة أخرى، كانت مذهلة ومليئة بالمشاعر بالنسبة للكناني، أثناء مباراة نادي القوة الجوية مع نادي كربلاء، عندما تقرر أن يكون أول تحريك للكرة من المنتصف، من قبل الكناني، كأكبر لاعب في فريق المكفوفين، مع أصغر لاعب، وهو زين العابدين، يقول الكناني، “نزلنا وسط الملعب مع اللاعبين من كلا الناديين وكان مشهداً فائق الجمال، بوجود 30 ألف مشجع، ونقل تليفزيوني مباشر، في حينها شعرت وكأننا امتلكنا كأس العالم بوجودنا هنا”.
كيف يلعب اللاعب الكفيف؟ وعلى ماذا يعتمد؟ يخبرنا الكناني أنه يعتمد على حاسة السمع بشكل كبير في اللعب، بالإضافة إلى الإحساس العالي والحدس منقطع النظير بالمكان، فالاعتماد على الجرس للكرة يتطلب تركيزاً عالياً، واستعمال الحاسة بشكل كبير، بالإضافة للحركة، وهذه كلها مؤهلات تجعل اللاعب الكفيف يمارس الكرة ويلعبها بسهولة.
التفاعل مع الكرة
يأخذنا الكناني في الحديث عن مشاعره ويصف كرة القدم بمعشوقة الجماهير، أما بالنسبة للكفيف فهو يتفاعل مع كرة القدم بشكل كبير، خصوصاً الشباب منهم، لذلك تبقى كرة القدم الهاجس الكبير للكفيف وكيفية متابعتها وممارستها حلماً بالنسبة له.
يمكن لأنواع فقدان البصر أن تؤثر على أداء اللاعبين. يذكر الكناني أن المكفوفين أنواع، منهم منذ الولادة، ومنهم أصيب به في ما بعد، وهذا يؤثر في التفاعل مع الكرة، بالعمى المكتسب، مثل حالة الكناني، كانت له فرصة بلعبها طول السنوات، طيلة فترة إبصاره.
الكناني اكتشف، من خلال المحاولات، أنّه يستطيع متابعتها من خلال الوصف الذي يقدمه التعليق الصوتي، وتطورت التقنيات مع الذكاء الاصطناعي، مثل تجربة كأس العالم في قطر، عام 2022، حيث كان هناك استوديو خاص للمكفوفين، يقول الكناني، “جعلنا نتعايش مع اللعبة بشكل تام”.
يسعى المكفوف إلى استخدام الحواس الأخرى، لتعويض حاسة البصر، وخصوصاً الإحساس بالصوت، والعصف الذهني لمتابعة كرة القدم من خلال التعليق الصوتي.