الغرافيتي في العراق.. خدوشٌ على وجه السلطة والمدينة 

رقية النجفي

14 تشرين الثاني 2024

"الحزن كان له أثر على الجميع؛ فأردنا إضافة البهجة في الأرواح المرهقة".. عن الغرافيتي ورساميه من معركة الموصل وثورة تشرين وساحة التحرير، حتى جدران المطاعم وصالات الكيمنغ في بغداد..

في إسطنبول، وتحديداً في كاديكوي، أشهر مناطق الجزء الآسيوي، في المدينة الساحرة، كثيرة هي الأشياء التي تسمّر النظر، وتثير فضول المارّة، ودهشتهم، ليست القطط وحدها، ولا ساحل المدينة المطلّ على بحر مرمرة، فهناك أيضاً الغرافيتي، فنّ “الخدوش” الجميلة على جدران المدينة، ألوان الصور والأشكال التي تمتلك طاقة التعبير، وحرية إظهاره، الكلام الذي يقوله أهل المدينة لأهل المدينة، وزائريها، في الأزقة الضيقة، والشوارع الرئيسة، والبنايات الجديدة، والقديمة. 

الغرافيتي لغة المدينة التي تريد أن تقول أشياء لا تريد قولها في الصحف والشاشات والمعارض، لغة تحمل معنى التمرّد، والمقاومة، والاعتراض، وطاقة الإنسان الذي استطاع تحويل جدران المدينة إلى دفتر مفتوح، وجميل. 

امرأة فلسطينية ترتدي كوفيّة حمراء، على جدران كاديكوي، ملامح وجهها الشاحب تشدّ الناظرين، وكأنها تحكي قصة الشعب الذي يقاتل من أجل حريته، ما الذي أتى بفلسطين إلى كاديكوي؟ وكيف لهذه المرأة المقاومة أن تحيل إلى ثورة تشرين؟ إنها صلات تشبه فلسفة الغرافيتي.  

فلسطين تستدعي فكرة الوطن، والمقاومة، والحريّة، لذا استدعت تلك المرأة، أو ذلك الغرافيتي، سنوات مضت في بغداد والموصل، عندما كانت الثورة والحرب، سبيلاً -لا بدّ منه- نحو الوطن، واستدعت تحديداً الذكريات والمخيال عن الغرافيتي، الذي نما وازدهر بعد معركة الموصل 2016 – 2017، وثورة تشرين عام 2019، التي كان الغرافيتي لغتها الجمالية، للمارة ولصانعي تلك الأحداث المبهرة. 

“نازل آخذ حقي”، و”نريد وطن”، ومخلوقات سنان حسين وباقر ماجد وقنابل الغاز المسيل للدموع، والأجنحة التي حلّق بها الشهداء هناك، كلها كانت غرافيتي يحكي قصصاً عن البلاد، وعن الشباب الذين مارسوا حقاً وطنياً بالتعبير، والمطالبة بغد أفضل. 

عمل لسنان حسين في ساحة التحرير وسط بغداد. المصدر: السوشيال ميديا. 

بالقرب من ساحة التحرير، عند جسر الجمهورية في بغداد، وعلى بعد أمتار قليلة من أهم مراكز الاحتجاجات حينها، ووسط الذخيرة الحيّة والقنابل الدخانية؛ رسم أسامة صادق (29 عاماً) لوحة قماشية كتب عليها، “نريد وطن”، بالخط المسماري، في ذلك اليوم أُصيب أسامة بقنبلة دخانية، وسقطت لوحته على الأرض، “بما أننا خرجنا بسلام ومن أجل قضية عادلة ومسالمة قررت رسم أول لوحة لي بداية الاحتجاجات بهذه الجملة”، يقول صادق لجمّار. 

كان صادق من أوائل الذين نزلوا إلى الشوارع للرسم، مستخدماً الفن، أداةً رئيسية للاحتجاج، رسم أول لوحة مسمارية على الحائط بكلمة واحدة، “حب”، باللون الأحمر، “الذي رأيته أنّ جميع من في الساحة من كبار وصغار جاء من أجل شيء واحد وهو حبهم للوطن”، انتشرت هذه الجدارية على نطاق واسع محلياً ودولياً، وشجّعت العديد من الفنانين والهواة على رسم جداريات متنوعة، فخرج العديد إلى الشوارع حاملين ألوان الطلاء للتعبير عن حقهم في الحرية والرأي والوطن. 

عمل “حب” لأسامة صادق في نفق ساحة التحرير وسط بغداد. المصدر: السوشيال ميديا. 

رسم صادق لوحة أخرى بكلمة “سلام”، على مساحة 45 متراً، “ضمّ هذا العمل أكبر كلمة مسمارية في العالم”، مستخدماً كذلك اللون الأحمر، ويقول صادق عن سبب اختياره اللون الأحمر، إنّها تصف ما كان يحدث، “خروج ناس سلميين مطالبين بحريتهم لكن تلقوهم بالدماء”. 

فريق أثر الفراشة، رسم جدارية كبيرة لمواطن أصيب بقنبلة دخانية في رأسه، وبجانبها عبارة “أوقفوا القتل”، و”أين أنتم؟”، في إشارة إلى الأمم المتحدة التي لم تقدم تقارير وكلمة تؤدي إلى منع القتل بسرعة.  

يقول علي خليفة، مؤسس الفريق، “جئنا في نهاية أكتوبر بعد انتشار العديد من الرسومات في الساحة، وكان هدفنا في الرسم إيصال رسالة، وليس رسالة تطالب بالحقوق، لأننا رأينا ألّا أحد يستمع إليها، فقررنا إيصال رسالة إلى الرأي العام بشكل عام”. 

يرى خليفة أن ثورة تشرين كان لها أثر كبير في انتشار فن الغرافيتي، “إنّه جيل مثقف، يطالب بحقوقه، وينتقد الأشياء السلبية الدخيلة على البلد، ويطالب بحريته، وله الفضل في شهرة وانتشار الرسومات والتعبير عنها”. 

يؤمن فريق أثر الفراشة بأن الغرافيتي فن يوصل رسائل توعوية وتربوية، ورسائل تحمل معنى جمالياً، أو رسائل لتوصيل فكرة كما حصل في ثورة تشرين، ورسائل تطالب بحقوق الفئات المستضعفة مثل النساء والأطفال. 

عمل لفريق أثر الفراشة – مصدر الصورة: الفريق. 

يعتقد أسامة صادق أنّ فنّ الجداريات هو واحد من الفنون القديمة في العراق، لكنّه ظهر بشكله اللافت عام 2008 مع انتشار فن الهيب هوب، وفي 2015 أعيد تسليط الضوء عليه بشكل أكبر بعد الحملات التطوعية التي قامت بها منظمات المجتمع المدني في محافظات العراق عموماً، وبغداد خصوصاً، في رسم جداريات عدة في أنحاء العاصمة، واقتصرت رسوماته على جدران المدارس والأزقة، إلا أن ثورة تشرين أعادت خلق هذا الفن، بنوعيه، فن الغرافيتي، وفن الجداريات، وبات الطلب عليه واسعاً، من قبل أصحاب المشاريع، وشركات التسويق، والمشاريع الخاصة. 

يمارس أسامة صادق، رسم الغرافيتي في العديد من الأماكن العامة، وقرر اختيار هذا النوع من الفن كونه قريباً من التفاصيل التي يحبها في الرسم، الألوان والخطوط، إضافة إلى الحريّة التي يوفرها، كما يصف. 

قرر صادق التميُّز بشيء خاص به، واستخدم رموز الحروف المسمارية في الرسم، وبعد جولة في المتحف العراقي، لفتت انتباهه ألواح الطين المنقوشة بالخط المسماري، فأعجبته، “أردت أن أتميز بشيء خاص بي، يكون بمثابة بصمة لي ويحمل رسالة فنية ويكون خاصاً بالعراق”.  

استغرق العمل معه عاماً ونصف العام، بحث خلالها ودرس الكتابة المسمارية، وكيفية توظيفها بطريقة فنية جديدة، دمج بين فن الغرافيتي والخط المسماري، بطابع الحرف العربي، وأعاد إحياء الكتابة المسمارية القديمة بطريقة فنية جديدة. 

تجسيداً للمأساة 

لم يقتصر تأثير الغرافيتي على ثورة تشرين، بل سبق تلك الثورة بمعركة شهيرة، معركة الموصل، المدينة التي خرجت من فترة مظلمة امتدت لثلاث سنوات، فرض فيها تنظيم داعش أفكاره المتطرفة على الجميع، حتى على شكل المدينة وألوانها، أسود وأبيض فقط، حياة قاتمة، في مدينة تعدُّ رَحِماً للفن. 

شارك العديد من الرسامين والفنانين في رسم جداريات في جانبي المدينة، داخل المدارس والجامعات والمنتزهات، حاملة رسائل توعية، ومعالم عن تراث مدينة الموصل، فعلى الرغم من عمل بشرى النعيمي (26 عاماً) كفنانة تشكيلية في الأساس؛ لم يمنعها هذا من المشاركة ورسم جداريات في مختلف أنحاء الموصل. 

شاركت النعيمي بقرابة 100 جدارية، كل جدارية تحمل 50 رسمة كبيرة الحجم، بموضوع واحد، أو عدة رسومات صغيرة مختلفة، تحمل موضوعاً واحداً، “بعد تحرير المدينة بدأت بالرسم على جدران الشوارع والمنتزهات والمدارس والجسور، أيضاً في أماكن مهمة في المدن التي على أطراف مدينة الموصل”. 

تقول بشرى إنَّ سبب الرسم على الجدران وفي أزقة المدينة، هو أن تراه أعداد كبيرة من الناس، الحائط في الشوارع مكاناً حيوياً يمكن من خلاله إيصال رسالة”.  

عمل لبشرى النعيمي في مدينة الموصل. مصدر الصورة: الرسامة. 

لم يكتف الفنانون بالرسم داخل المدينة، إنّما رسموا على أطرافها، مثل بعشيقة وقرقوش وتلكيف، لتسليط الضوء على التراث الشعبي، والتعايش السلمي.  

بشرى كانت من أوائل الفنانات اللواتي شاركن في المعارض والمهرجانات داخل المدينة، قادها حبها للفن منذ الصغر وتشجيع أهلها لها في دخول معهد الفنون، والتخرّج منه عام 2019، ومن ثمَّ دخولها كلية الفنون الجميلة، “بسبب حبي لتزيين مدينتي والسعي لجعلها أكثر جمالاً اتجهت إلى الجداريات”. 

ترى بشرى أن المدينة بعد خروج داعش، كانت متعطشة للفن، وإظهار الفنانين والهواة مواهبهم، “الفن اختلف 180 درجة، احنا قبل ما كان للفن والفنانين الأهمية خصوصاً داخل الموصل، وكنا ما نشوف معارض فنية، وكان الفنان الشاب ليس له أي دور، ولكن بعد خروج داعش حدثت ثورة فنية من خلال المعارض والمهرجانات والجداريات والفرق الفنية التطوعية”. 

الخدش على وجه السلطة والمدينة 

بعد ذلك انتشرت الكتابة وأشكالها في العالم، أمّا كلمة غرافيتي بمعناها الذي نعرفه الآن فهي مشتقة من الكلمة الإيطالية (graffio)، التي تعني الخدش، وهي رسم أو كتابة قديمة مخطوطة على حائط أو سطح آخر، وتُخدش أو تُكتب أو تُرسم، عادةً، بدون إذن، وفي مكان عام.  

في السبعينيات وجد فن الغرافيتي طريقه إلى مدينة نيويورك، هناك نما وتطور بشكله الفنّي، عندما بدأ الناس في كتابة أسمائهم أو علاماتهم على المباني في جميع أنحاء المدينة، وفي منتصف السبعينيات، كان من الصعب الرؤية من نافذة عربة مترو الأنفاق، لأن القطارات كانت مغطاة بالكامل برسومات الرش المعروفة باسم القيء. 

بحسب مجلة ايدن للمعارض، يمكن اعتبار كل رسومات الغرافيتي فناً، وعادةً ما يُستخدم التمييز بين رسومات الغرافيتي وفن الغرافيتي، عندما تنتقل الرسومات من أسطح المدينة إلى سطح فني آخر أكثر تقليدية، مثل القماش. أما الفن فيأخذ الرسومات من الشوارع ويسمح ببيعها وعرضها في بيئات أخرى، مثل المعارض الفنيّة. 

شوارع قاتمة  

“نحن نأتي لتلوين الشوارع، الناس تتقبل هذا الشيء، وإذا كان العالم أبيض وأسود فنحن نجعله ألواناً”، هكذا يصف رسامو الغرافيتي أهدافهم في نشر فنّهم، في أنحاء المدينة، يرسم العديد من الفنانين في الشوارع والأزقة، رسومات متنوعة من الغرافيتي إلى البورتريه إلى الجداريات، التي تنقل رسائل مختلفة. 

يرسم فريق أثر الفراشة، المكون من خمسة أفراد متطوعين، على العديد من أزقة وجدران مدينة بغداد، مستهدفين الجدران المتهالكة والأزقة التي مرّ عليها الزمن، أثناء التجوال في أزقة الكاظمية، ستلفت انتباهك رسومات مختلفة لشخصيات أدبية عراقية مشهورة، بالإضافة إلى الفولكلور البغدادي، الذي أعطاه بعداً فنياً مختلفاً، يقول علي خليفة، إنّ “فكرة رسم الأزقة جاءت مع جائحة كورونا، أحببنا الترفيه عن الناس بسبب حظر التجوال، وبدأت الناس تزورها من كل مكان من العالم، وهذه إحدى الرسائل الكبيرة التي يحملها فن الغرافيتي”. 

يستلهم الفريق فكرته حسب طبيعة المكان، ويعمد في “توظيف المكان للفكرة”، كما يقول علي خليفة، “غالباً ما تكون الفكرة بها جمالية خاصة إذا كانت تخص شجرةً أو باباً”. 

حسّان سامر (26 عاماً)، هو أيضاً لديه أهدافه الجمالية، من خلال الفن. يرسم حسّان في شوارع بغداد ومناطقها، مستهدفاً الجدران، و”صبات الكونكريت”، التي أعطت منظراً كئيباً للأزقة، تنوعت رسوماته ما بين الهيب هوب إلى رسومات كرتونية، ارتبطت بجيل التسعينيات، مثل جريندايزر، “وين ما أمشي أرسم، إذا شفت مكان مهجور وجدار متهالك وقابل للرسم، أرسم عليه دون ما اتعرض لمشاكل وطلب موافقات”.  

يمارس حسّان الرسم منذ 2010، دفعه حبه للرسم إلى ترك تخصصه بالهندسة المعمارية، متجهاً نحو الفن، وبسبب حبه للهيب هوب والراب اتجه إلى الغرافيتي، “شفت أن الغرافيتي شيء مرتبط بي، عجبتني الألوان والأحرف والتعقيد الذي فيها”. 

“فكرة الرسم من روح المكان واللوغو له”، هكذا يصف حسّان رسوماته، مستلهماً رسمه أحياناً من الأفلام أو الألعاب، وسهلت عليه دراسة الهندسة المعمارية اختيار الألوان والتفاصيل، “اقترح للزبون أكثر من لون وتصميم وعلى هل الأساس نشتغل لاحقاً”، ويستغرق حسّان من ست إلى تسع ساعات في الرسم خلال اليوم. 

انتقل هذا الفن بعد ثورة تشرين من كونه عملاً تطوعياً، إلى عمل فنيٍّ يتقاضى الفنانون مبالغ مالية عليه، من الشارع إلى المطاعم والصالات الرياضية، وصالات الألعاب الإلكترونية، لكنّ الرسامين يتحدثون أيضاً عن التعرض لمضايقات من قبل السلطات، بسبب رسوماتهم على جدران وشوارع العاصمة. 

حسن سامر يقف بجانب أحد أعماله في بغداد. مصدر الصورة: الرسام. 

يقول أسامة صادق لجمّار، “بعد الثورة قل الرسم بالأماكن العامة لأننا لم نعد قادرين على الرسم في أي مكان، وإذا أردت الرسم يتم اتهامك على الفور بالقيام بفعل له علاقة بتشرين، وتتعرض لمضايقات أمنية، لكن الطلب من قبل المطاعم والكافيهات زاد بكثرة بعد الثورة”. 

تختلف الأجور التي يتقاضاها رسامو الغرافيتي وفقاً لنوع الرسم والجهد المبذول، تتراوح بين 200 إلى 1000 دولار للرسمة الواحدة. 

يحاول رسامو الغرافيتي خلق حالة جمالية تجمعهم، لذا أقاموا في بغداد معرضاً لفناني الغرافيتي، في “سندباد لاند”، وهو الأول من نوعه في العراق، بجهود تطوعية.  

يرى صادق، إنه وحتى هذه اللحظة، “لم يتبنَ أي معرض رسمي فن الغرافيتي، المعارض تتبنى فقط الفنون التشكيلية المتعارف عليها، ونتمنى أن تقام معارض وندوات تستقبل فن الغرافيتي من قبل العديد من الفنانين، حتى ينمو هذا الفن أكثر وتتعرف الناس على هذا الفن ويصبح أكثر شعبية”. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

في إسطنبول، وتحديداً في كاديكوي، أشهر مناطق الجزء الآسيوي، في المدينة الساحرة، كثيرة هي الأشياء التي تسمّر النظر، وتثير فضول المارّة، ودهشتهم، ليست القطط وحدها، ولا ساحل المدينة المطلّ على بحر مرمرة، فهناك أيضاً الغرافيتي، فنّ “الخدوش” الجميلة على جدران المدينة، ألوان الصور والأشكال التي تمتلك طاقة التعبير، وحرية إظهاره، الكلام الذي يقوله أهل المدينة لأهل المدينة، وزائريها، في الأزقة الضيقة، والشوارع الرئيسة، والبنايات الجديدة، والقديمة. 

الغرافيتي لغة المدينة التي تريد أن تقول أشياء لا تريد قولها في الصحف والشاشات والمعارض، لغة تحمل معنى التمرّد، والمقاومة، والاعتراض، وطاقة الإنسان الذي استطاع تحويل جدران المدينة إلى دفتر مفتوح، وجميل. 

امرأة فلسطينية ترتدي كوفيّة حمراء، على جدران كاديكوي، ملامح وجهها الشاحب تشدّ الناظرين، وكأنها تحكي قصة الشعب الذي يقاتل من أجل حريته، ما الذي أتى بفلسطين إلى كاديكوي؟ وكيف لهذه المرأة المقاومة أن تحيل إلى ثورة تشرين؟ إنها صلات تشبه فلسفة الغرافيتي.  

فلسطين تستدعي فكرة الوطن، والمقاومة، والحريّة، لذا استدعت تلك المرأة، أو ذلك الغرافيتي، سنوات مضت في بغداد والموصل، عندما كانت الثورة والحرب، سبيلاً -لا بدّ منه- نحو الوطن، واستدعت تحديداً الذكريات والمخيال عن الغرافيتي، الذي نما وازدهر بعد معركة الموصل 2016 – 2017، وثورة تشرين عام 2019، التي كان الغرافيتي لغتها الجمالية، للمارة ولصانعي تلك الأحداث المبهرة. 

“نازل آخذ حقي”، و”نريد وطن”، ومخلوقات سنان حسين وباقر ماجد وقنابل الغاز المسيل للدموع، والأجنحة التي حلّق بها الشهداء هناك، كلها كانت غرافيتي يحكي قصصاً عن البلاد، وعن الشباب الذين مارسوا حقاً وطنياً بالتعبير، والمطالبة بغد أفضل. 

عمل لسنان حسين في ساحة التحرير وسط بغداد. المصدر: السوشيال ميديا. 

بالقرب من ساحة التحرير، عند جسر الجمهورية في بغداد، وعلى بعد أمتار قليلة من أهم مراكز الاحتجاجات حينها، ووسط الذخيرة الحيّة والقنابل الدخانية؛ رسم أسامة صادق (29 عاماً) لوحة قماشية كتب عليها، “نريد وطن”، بالخط المسماري، في ذلك اليوم أُصيب أسامة بقنبلة دخانية، وسقطت لوحته على الأرض، “بما أننا خرجنا بسلام ومن أجل قضية عادلة ومسالمة قررت رسم أول لوحة لي بداية الاحتجاجات بهذه الجملة”، يقول صادق لجمّار. 

كان صادق من أوائل الذين نزلوا إلى الشوارع للرسم، مستخدماً الفن، أداةً رئيسية للاحتجاج، رسم أول لوحة مسمارية على الحائط بكلمة واحدة، “حب”، باللون الأحمر، “الذي رأيته أنّ جميع من في الساحة من كبار وصغار جاء من أجل شيء واحد وهو حبهم للوطن”، انتشرت هذه الجدارية على نطاق واسع محلياً ودولياً، وشجّعت العديد من الفنانين والهواة على رسم جداريات متنوعة، فخرج العديد إلى الشوارع حاملين ألوان الطلاء للتعبير عن حقهم في الحرية والرأي والوطن. 

عمل “حب” لأسامة صادق في نفق ساحة التحرير وسط بغداد. المصدر: السوشيال ميديا. 

رسم صادق لوحة أخرى بكلمة “سلام”، على مساحة 45 متراً، “ضمّ هذا العمل أكبر كلمة مسمارية في العالم”، مستخدماً كذلك اللون الأحمر، ويقول صادق عن سبب اختياره اللون الأحمر، إنّها تصف ما كان يحدث، “خروج ناس سلميين مطالبين بحريتهم لكن تلقوهم بالدماء”. 

فريق أثر الفراشة، رسم جدارية كبيرة لمواطن أصيب بقنبلة دخانية في رأسه، وبجانبها عبارة “أوقفوا القتل”، و”أين أنتم؟”، في إشارة إلى الأمم المتحدة التي لم تقدم تقارير وكلمة تؤدي إلى منع القتل بسرعة.  

يقول علي خليفة، مؤسس الفريق، “جئنا في نهاية أكتوبر بعد انتشار العديد من الرسومات في الساحة، وكان هدفنا في الرسم إيصال رسالة، وليس رسالة تطالب بالحقوق، لأننا رأينا ألّا أحد يستمع إليها، فقررنا إيصال رسالة إلى الرأي العام بشكل عام”. 

يرى خليفة أن ثورة تشرين كان لها أثر كبير في انتشار فن الغرافيتي، “إنّه جيل مثقف، يطالب بحقوقه، وينتقد الأشياء السلبية الدخيلة على البلد، ويطالب بحريته، وله الفضل في شهرة وانتشار الرسومات والتعبير عنها”. 

يؤمن فريق أثر الفراشة بأن الغرافيتي فن يوصل رسائل توعوية وتربوية، ورسائل تحمل معنى جمالياً، أو رسائل لتوصيل فكرة كما حصل في ثورة تشرين، ورسائل تطالب بحقوق الفئات المستضعفة مثل النساء والأطفال. 

عمل لفريق أثر الفراشة – مصدر الصورة: الفريق. 

يعتقد أسامة صادق أنّ فنّ الجداريات هو واحد من الفنون القديمة في العراق، لكنّه ظهر بشكله اللافت عام 2008 مع انتشار فن الهيب هوب، وفي 2015 أعيد تسليط الضوء عليه بشكل أكبر بعد الحملات التطوعية التي قامت بها منظمات المجتمع المدني في محافظات العراق عموماً، وبغداد خصوصاً، في رسم جداريات عدة في أنحاء العاصمة، واقتصرت رسوماته على جدران المدارس والأزقة، إلا أن ثورة تشرين أعادت خلق هذا الفن، بنوعيه، فن الغرافيتي، وفن الجداريات، وبات الطلب عليه واسعاً، من قبل أصحاب المشاريع، وشركات التسويق، والمشاريع الخاصة. 

يمارس أسامة صادق، رسم الغرافيتي في العديد من الأماكن العامة، وقرر اختيار هذا النوع من الفن كونه قريباً من التفاصيل التي يحبها في الرسم، الألوان والخطوط، إضافة إلى الحريّة التي يوفرها، كما يصف. 

قرر صادق التميُّز بشيء خاص به، واستخدم رموز الحروف المسمارية في الرسم، وبعد جولة في المتحف العراقي، لفتت انتباهه ألواح الطين المنقوشة بالخط المسماري، فأعجبته، “أردت أن أتميز بشيء خاص بي، يكون بمثابة بصمة لي ويحمل رسالة فنية ويكون خاصاً بالعراق”.  

استغرق العمل معه عاماً ونصف العام، بحث خلالها ودرس الكتابة المسمارية، وكيفية توظيفها بطريقة فنية جديدة، دمج بين فن الغرافيتي والخط المسماري، بطابع الحرف العربي، وأعاد إحياء الكتابة المسمارية القديمة بطريقة فنية جديدة. 

تجسيداً للمأساة 

لم يقتصر تأثير الغرافيتي على ثورة تشرين، بل سبق تلك الثورة بمعركة شهيرة، معركة الموصل، المدينة التي خرجت من فترة مظلمة امتدت لثلاث سنوات، فرض فيها تنظيم داعش أفكاره المتطرفة على الجميع، حتى على شكل المدينة وألوانها، أسود وأبيض فقط، حياة قاتمة، في مدينة تعدُّ رَحِماً للفن. 

شارك العديد من الرسامين والفنانين في رسم جداريات في جانبي المدينة، داخل المدارس والجامعات والمنتزهات، حاملة رسائل توعية، ومعالم عن تراث مدينة الموصل، فعلى الرغم من عمل بشرى النعيمي (26 عاماً) كفنانة تشكيلية في الأساس؛ لم يمنعها هذا من المشاركة ورسم جداريات في مختلف أنحاء الموصل. 

شاركت النعيمي بقرابة 100 جدارية، كل جدارية تحمل 50 رسمة كبيرة الحجم، بموضوع واحد، أو عدة رسومات صغيرة مختلفة، تحمل موضوعاً واحداً، “بعد تحرير المدينة بدأت بالرسم على جدران الشوارع والمنتزهات والمدارس والجسور، أيضاً في أماكن مهمة في المدن التي على أطراف مدينة الموصل”. 

تقول بشرى إنَّ سبب الرسم على الجدران وفي أزقة المدينة، هو أن تراه أعداد كبيرة من الناس، الحائط في الشوارع مكاناً حيوياً يمكن من خلاله إيصال رسالة”.  

عمل لبشرى النعيمي في مدينة الموصل. مصدر الصورة: الرسامة. 

لم يكتف الفنانون بالرسم داخل المدينة، إنّما رسموا على أطرافها، مثل بعشيقة وقرقوش وتلكيف، لتسليط الضوء على التراث الشعبي، والتعايش السلمي.  

بشرى كانت من أوائل الفنانات اللواتي شاركن في المعارض والمهرجانات داخل المدينة، قادها حبها للفن منذ الصغر وتشجيع أهلها لها في دخول معهد الفنون، والتخرّج منه عام 2019، ومن ثمَّ دخولها كلية الفنون الجميلة، “بسبب حبي لتزيين مدينتي والسعي لجعلها أكثر جمالاً اتجهت إلى الجداريات”. 

ترى بشرى أن المدينة بعد خروج داعش، كانت متعطشة للفن، وإظهار الفنانين والهواة مواهبهم، “الفن اختلف 180 درجة، احنا قبل ما كان للفن والفنانين الأهمية خصوصاً داخل الموصل، وكنا ما نشوف معارض فنية، وكان الفنان الشاب ليس له أي دور، ولكن بعد خروج داعش حدثت ثورة فنية من خلال المعارض والمهرجانات والجداريات والفرق الفنية التطوعية”. 

الخدش على وجه السلطة والمدينة 

بعد ذلك انتشرت الكتابة وأشكالها في العالم، أمّا كلمة غرافيتي بمعناها الذي نعرفه الآن فهي مشتقة من الكلمة الإيطالية (graffio)، التي تعني الخدش، وهي رسم أو كتابة قديمة مخطوطة على حائط أو سطح آخر، وتُخدش أو تُكتب أو تُرسم، عادةً، بدون إذن، وفي مكان عام.  

في السبعينيات وجد فن الغرافيتي طريقه إلى مدينة نيويورك، هناك نما وتطور بشكله الفنّي، عندما بدأ الناس في كتابة أسمائهم أو علاماتهم على المباني في جميع أنحاء المدينة، وفي منتصف السبعينيات، كان من الصعب الرؤية من نافذة عربة مترو الأنفاق، لأن القطارات كانت مغطاة بالكامل برسومات الرش المعروفة باسم القيء. 

بحسب مجلة ايدن للمعارض، يمكن اعتبار كل رسومات الغرافيتي فناً، وعادةً ما يُستخدم التمييز بين رسومات الغرافيتي وفن الغرافيتي، عندما تنتقل الرسومات من أسطح المدينة إلى سطح فني آخر أكثر تقليدية، مثل القماش. أما الفن فيأخذ الرسومات من الشوارع ويسمح ببيعها وعرضها في بيئات أخرى، مثل المعارض الفنيّة. 

شوارع قاتمة  

“نحن نأتي لتلوين الشوارع، الناس تتقبل هذا الشيء، وإذا كان العالم أبيض وأسود فنحن نجعله ألواناً”، هكذا يصف رسامو الغرافيتي أهدافهم في نشر فنّهم، في أنحاء المدينة، يرسم العديد من الفنانين في الشوارع والأزقة، رسومات متنوعة من الغرافيتي إلى البورتريه إلى الجداريات، التي تنقل رسائل مختلفة. 

يرسم فريق أثر الفراشة، المكون من خمسة أفراد متطوعين، على العديد من أزقة وجدران مدينة بغداد، مستهدفين الجدران المتهالكة والأزقة التي مرّ عليها الزمن، أثناء التجوال في أزقة الكاظمية، ستلفت انتباهك رسومات مختلفة لشخصيات أدبية عراقية مشهورة، بالإضافة إلى الفولكلور البغدادي، الذي أعطاه بعداً فنياً مختلفاً، يقول علي خليفة، إنّ “فكرة رسم الأزقة جاءت مع جائحة كورونا، أحببنا الترفيه عن الناس بسبب حظر التجوال، وبدأت الناس تزورها من كل مكان من العالم، وهذه إحدى الرسائل الكبيرة التي يحملها فن الغرافيتي”. 

يستلهم الفريق فكرته حسب طبيعة المكان، ويعمد في “توظيف المكان للفكرة”، كما يقول علي خليفة، “غالباً ما تكون الفكرة بها جمالية خاصة إذا كانت تخص شجرةً أو باباً”. 

حسّان سامر (26 عاماً)، هو أيضاً لديه أهدافه الجمالية، من خلال الفن. يرسم حسّان في شوارع بغداد ومناطقها، مستهدفاً الجدران، و”صبات الكونكريت”، التي أعطت منظراً كئيباً للأزقة، تنوعت رسوماته ما بين الهيب هوب إلى رسومات كرتونية، ارتبطت بجيل التسعينيات، مثل جريندايزر، “وين ما أمشي أرسم، إذا شفت مكان مهجور وجدار متهالك وقابل للرسم، أرسم عليه دون ما اتعرض لمشاكل وطلب موافقات”.  

يمارس حسّان الرسم منذ 2010، دفعه حبه للرسم إلى ترك تخصصه بالهندسة المعمارية، متجهاً نحو الفن، وبسبب حبه للهيب هوب والراب اتجه إلى الغرافيتي، “شفت أن الغرافيتي شيء مرتبط بي، عجبتني الألوان والأحرف والتعقيد الذي فيها”. 

“فكرة الرسم من روح المكان واللوغو له”، هكذا يصف حسّان رسوماته، مستلهماً رسمه أحياناً من الأفلام أو الألعاب، وسهلت عليه دراسة الهندسة المعمارية اختيار الألوان والتفاصيل، “اقترح للزبون أكثر من لون وتصميم وعلى هل الأساس نشتغل لاحقاً”، ويستغرق حسّان من ست إلى تسع ساعات في الرسم خلال اليوم. 

انتقل هذا الفن بعد ثورة تشرين من كونه عملاً تطوعياً، إلى عمل فنيٍّ يتقاضى الفنانون مبالغ مالية عليه، من الشارع إلى المطاعم والصالات الرياضية، وصالات الألعاب الإلكترونية، لكنّ الرسامين يتحدثون أيضاً عن التعرض لمضايقات من قبل السلطات، بسبب رسوماتهم على جدران وشوارع العاصمة. 

حسن سامر يقف بجانب أحد أعماله في بغداد. مصدر الصورة: الرسام. 

يقول أسامة صادق لجمّار، “بعد الثورة قل الرسم بالأماكن العامة لأننا لم نعد قادرين على الرسم في أي مكان، وإذا أردت الرسم يتم اتهامك على الفور بالقيام بفعل له علاقة بتشرين، وتتعرض لمضايقات أمنية، لكن الطلب من قبل المطاعم والكافيهات زاد بكثرة بعد الثورة”. 

تختلف الأجور التي يتقاضاها رسامو الغرافيتي وفقاً لنوع الرسم والجهد المبذول، تتراوح بين 200 إلى 1000 دولار للرسمة الواحدة. 

يحاول رسامو الغرافيتي خلق حالة جمالية تجمعهم، لذا أقاموا في بغداد معرضاً لفناني الغرافيتي، في “سندباد لاند”، وهو الأول من نوعه في العراق، بجهود تطوعية.  

يرى صادق، إنه وحتى هذه اللحظة، “لم يتبنَ أي معرض رسمي فن الغرافيتي، المعارض تتبنى فقط الفنون التشكيلية المتعارف عليها، ونتمنى أن تقام معارض وندوات تستقبل فن الغرافيتي من قبل العديد من الفنانين، حتى ينمو هذا الفن أكثر وتتعرف الناس على هذا الفن ويصبح أكثر شعبية”.