الـ "لا" التي نردّدها بلا نهاية ولا يفهمها "أبو التكسي"  

, , و

15 تشرين الأول 2024

قصص نساء أردن الوصول من النقطة ألف إلى النقطة باء، لكن "عمو أبو التكسي" الذي يعرف كل شيء، ويحب التكسي لأنه يحب أن "يفتر" بالعراق، استمر بعرض قصص يهدف الكثير منها إلى التحرّش.. كيف تشعر نساء يرددن "لا" بلا نهاية ولا يفهمها "أبو التكسي".c

جميعنا نعرف “عمو” أبو التكسي، الذي حاولت “الدكتورة” أن تتزوّجه رغبةً بأخلاقه، أو “المهندسة” التي وعدته بتصميم منزلهما المستقبلي معاً بعد أن يتزوجها، أو “النائبة” التي أخبرته أنها مستعدة لتسليمه رئاسة مكتبها لأنه محنك سياسي من الطراز الأول. نعرف عمو الذي سمع عن الدولة العميقة، ويعرف السبب الحقيقي لجفاف الأنهار، ويعرف من عيّن رئيس الوزراء، ويعرف لماذا الأستاذ الجامعي اختار تخصّصه الحالي. عمو الذي يعرفنا أفضل منّا، ويعرف دوافعنا وأسبابنا، ويعرف كل ما يدور في عقلنا المخفيّ بعيداً عنه. 

هنا قصصنا مع عمو الذي يعرف كل شيء، لكنه يحب التكسي لأنه يُحب أن “يفتر” (يتجول) في العراق.  

كثرة المواقف مع التكسي تدفعني للتساؤل دائماً: هل من الطبيعي أن يُحادثني رجلٌ غريب عن كل شيء يخصني؟ تختلط عندي المواقف والصور، وكل أحاديث “ابو التكسي” التي ما زلت أتساءل، كيف استطاع نطقها بكل تلك الجرأة؟ يعلق في ذاكرتي موقف من المواقف التي تعرّضت لها من سائق، وأُصنِّفه تَحَرُّشاً حسب مفاهيمي للتحرّش. كنتُ في السيارة انتظر صديقاتي لنعود إلى المنزل بعد انتهاء الامتحان، ولا أعلم كيف، ولكن لسائقي سيارات الأجرة مهارات عالية لفتح موضوعٍ جديد (يعرفون يمهّدون للسوالف). إذ سألني دون سابق إنذار: لماذا لم تتزوجي إلى الآن؟ أجبتُهُ: ليس الوقتُ مناسباً، إلى جانب أنني لم أُنهِ دراستي بعد، إضافة إلى أسبابي الشخصية وأُفَضِّل ألّا أبوح بخصوصياتي. 

اقرأ أيضاً

“نص ردن”.. الملابس ليست وصفاً لأخلاق المرأة في الصيف 

أذكُرُ أنّنا خُضنا جدالاً بكفاءة المرأة على الرجل. كُنتُ الطرفَ الناصر للنساء وكان هو الذي ينصر الرجال تَبسَّمتُ قائلةً: ربّما هم كذلك، لإنهاء الجدال، ثم أردف متسائلاً: ماذا يريد الرجل من زوجته؟ قُلتُ: لا أعلم. 

فأخبرني: أنا سأقول لكِ ماذا يريد إنه يريد منها البيت النظيف والوجه البشوش والمنام. 

شعَرتُ بالخجل والعار في وجهي. أحسَستُ بموجة هواء باردة أغرَقت ملامحي في يوم ماطر شديد البرودة. ما الذي يدفعه لإخباري بمثل هذه المعلومة؟ ولِم كان علي، أنا، الطالبة الجامعية -التي لم تكن تفكر حينها سِوى بنتيجة امتحانها-، أن أعرف ماذا يريد الرجل؟ هل فكر ماذا أريد أنا؟ 

كبداية، لم أرد لهذا الحديث أن يتِم. أجزم أنه علم أنني أُحرِجتُ حيث إنه أراد تغيير مسار الحديث متسائلاً: في أي عام وُلِدتِ؟ أجَبتُ: عام 2000. قال: لا يبدو عليك ذلك، تبدين أصغر (كُنت صغيرةً بالفعل، لم أبلغ الثالثة والعشرين بعد).    

حتّى صديقاتي لم يتخلّصن من تَطَفُّلِهِ وقلة أدبه. بدا مصراً أن يعرف كل شيء عنّا جميعاً، إذ كان مستمراً ويسأل أسئلة خاصة وعندما لم يلقَ جواباً منّا يقوم بإجابة نفسه. كانت مسرحية هزلية غريبة، الطريق الذي لا يتجاوز الساعة بدا كما لو أنه يمتد دهراً. أمضينا الوقت ونحن نفكر: كيف يمكن لنا أن نقفز من السيارة؟ أم نستخدم لاصقاً جيداً على فمه ليخرس للأبد؟ كانت النساء والزواج المُحرك الوحيد للسانه، لا مواضيع أخرى. 

أذكُر أنه كان يعمل دلّالاً للزواج (خطّابة)، قال لصديقتي يوماً أنّ شابّاً تقدم لخطبتها منه مُبَرِّراً قوله إن سيّارته فأل خير على جميع ركابه فما أن تركب إحداهن سيارته حتى يأتيها عريس (سيارتي وجهها خير ع البنات). 

كان فخوراً بحديثه معنا، وبرأيه أن عمله كـ”خطّابة” هو عمل مثمر ويساعد البشرية. ليته يعلم أنه لم يساعد في شيء سِوى زيادة خوفنا وقرفنا! 

لا أنسى التجارب السيئة التي مررت بها مع سائقي التكسي خلال سنوات دراستي الجامعية. عندما انتهت دراستي، شعرت بالتحرر والامتنان لتخلصي منهم. كنت أسميهم “الأذن الثالثة”، لأن كل حديث يدور داخل السيارة لا بد أن يكون صاحب التكسي هو المستمع الثالث أو المتدخل في الحوار بشكل ما. 

من أكثر المواقف التي لا تفارقني، كانت في المرحلة الأخيرة من الجامعة. اضطر صاحب الخط الذي نذهب معه بالعادة إلى تركنا ليوم واحد، وطلب من ابن عمه أن يأخذنا من وإلى الجامعة. خلال طريق العودة الطويل، دار بيني وبين صديقتي حديث عن صعوبة الحياة بعد التخرج وكيف أن المجتمع ذو تفكير سطحي ومحدود، وناقشنا آراءنا في الزواج والعمل بعد التخرج وعلى لسان صديقتي “الواحد يحير بمنو يثق، هنا عقليات ذكورية متحكمة”. علماً أن حديثنا كان بصوت منخفض في المقاعد الخلفية. 

سمح صاحب التكسي لنفسه بالتطفُّل على حديثنا، ووجدها فرصة مثالية لإخبارنا أنه يعيش في أربيل، وأنه “سنكل”. لم يكن واضحاً لي ولصديقتي سبب المشاركة، إذ بدت عشوائية، وغير مطلوبة. لكننا تسلحنا بترسانة الردود المعتادة للشابة العراقية مع أبو التكسي: “أها، أي، صحيح، شنسوي بعد، يلا الله كريم..” لأن لا سبيل آخر للهرب من شباك الحديث مع أصحاب التكسي. 

في اليوم التالي، عاد صاحب الخط الأصلي، لكنه بدا منزعجاً منا، وفي نهاية اليوم أخبرنا أنه يريد ترك الخط، ومن الأفضل لنا البحث عن شخص آخر، لأن “أنتم ما تريدوني!”. كان موقفه غريباً، حاولت أن استفسر منه عن موقفه المفاجئ هذا، ما الذي تغير؟ اكتشفنا أن صاحب التكسي قد تنصت على حديثنا وأضاف إليه من خياله الخصب ترهات زائفة،  أدعى أننا معجبات به ونود التقرب منه “يسولفن گدامي عن الزواج ويريدن ارتبط بيهن”، إذ وجدها حجة ليظهر كمحبوب الطالبات في الجامعة والهدف الأسمى لهن بعد التخرج. 

سمح لنفسه بتفسير حديثنا عن صعوبة الحياة بعد التخرج وقِلة الخيارات في كل شيء بأنها دعوة يائسة مني ومن صديقتي لكي يتزوجنا، لنعيش في شقته “الفاخرة” في أربيل. لم يتوقف هنا، أخبر صاحب الخط أننا لا نريده، بل نريد ابن عمه المذهل الذي لا يُطيق بابل، ولا يُحب العيش إلا في أربيل المُترفة، وأكاذيب أخرى لم يقو صاحب الخط على إخبارنا بها. أخبرت صاحب الخط ان ابن عمه من فتح موضوع الشقق وأربيل والعزوبية والترف، لِيرد علي أن ابن عمه أصلاً متزوج وله أطفال..  

مثلت لنا قضية التكسي من بعدها “أزمة” مُقلقة، إذ عشنا تحت ظل الخوف من تأليف الأكاذيب التي قد تصل إلى حد الطعن بالشرف، وخلق سيناريوهات قد لا تفقده أكثر من “كروة” بينما قد نفقد بسببها الجامعة، والحرية، أو حتى الحياة.     

عام 2009، اصطحبت أطفالي الثلاث (طفلة في الثامنة، أخيها في السابعة، أخيهم في الثالثة، وأنا في السادسة والثلاثين) لنزور أخي وزوجته في مستشفى ابن غزوان، إذ كانت ولادتها الأولى. جلس الأطفال بهدوء، كل منهم ينظر من النافذة للشوارع، كانت فترة مريبة في التاريخ العراقي، لِذا قلما تركنا المنزل.  

في الطريق للمستشفى، توقفنا في أحد التقاطعات لبضع دقائق بسبب شرطي المرور، وجدها صاحب التكسي فرصة مثالية للبوح عن مشاعره الكامنة. سألني عن مهنتي، فأخبرته أنني مُدرسة إنكليزي، وهنا تأتي الأسطوانة المشروخة لأصحاب تكاسي العراق “ارتاحيتلج هواي، أنطيني رقمج..”. لم تكن المرة الأولى لصاحب تكسي أن يعرض خدماته ومشاعره الرقيقة، لكن بصحبة أطفالي ثلاثتهم؟ كانت سابقة.  

“خوية دور وجهك وركز على الطريق لا يصير بينا شي” أجبته بحزم، رجوت الله أن الأطفال لم يسمعوا شيئاً، وأن النوافذ ما زالت تستحوذ على انتباههم الكامل. لعله لم يعتبر “خوية” أو “دور وجهك” أو الأطفال المرافقين لي علامة رفض واضحة، لذا عاود الطلب. 

“شتريدين أسويلج، بس طلبي وتمني.. بس أريد رقمج حتى أخابرج ونسولف”.. كنا قريبين من المستشفى الآن، لم يتبق شيء حتى أخرج من هذه المسرحية السخيفة. أدركت أن الحديث لفت انتباه ابنتي، وأنها تتابع (بتخفٍ، حتى لا تثير انتباهي) مجريات الحديث.  

“مشكور، كلشي ما أريد بس نزلنا يم المستشفى والله وياك”، بدأت بجمع أغراضي لأوضح أننا سننزل وتنتهي قصة “العشق الممنوع” هذه، لكن مجدداً، لم يعتبره رفضاً.  

“لعد خليني انتظرج هنا، أوصلج وين ما تريدين وشوكت ما تريدين” أظهر “كرمه” مع سيارته، لكنني لم أرغب إلا بأخذ الأطفال والنزول. نظرت خارج النافذة، كنت أترقب كل خطوة للسيارة لتصل لباب المستشفى، اليوم الذي بدأ سعيداً بولادة ابنة أخي أصبح ثقيلاً ومزعجاً. فكرت، ما الذي يمكن أن يعني “لا” له؟ لعل وجود “زلمة” (رجل) معي كان كفيلاً بإخراسه، لكن زوجي فكر أن ثلاثة أطفال معي هي تذكرة الخلاص.  

اقرأ أيضاً

الوصفة السرّية للرد على متحرش 

في النهاية، وصلنا وأخذت الأطفال بسرعة، رميت النقود على مقعد السيارة، حتى الباقي لم أكن أريده، لم يقف بوجهه التجمع حول المستشفى، الناس، الحراسة، صرخ بـ”تعالي فدوة إلج الفلوس، ما أريدهن”، لكنني كنت أمشي في محاولة للهرب منه، للهرب من هذا العبث. 

لم يكن هذا الأسوأ، لكنه عَلِق بذاكرتي، رغم أنني في الواحدة والخمسين من عمري الآن، فغيره عرض محبته وعاطفته الملتهبة علي وأنا حامل في شهري الثامن، لا أظن أن “محبة” أصحاب التكسي قد تقف عند الحامل أو الثلاثة أطفال، أو عند أي شيء، حتى الـ”لا” التي رددتها بلا نهايات.  

كنت قد خرجت للتو من منزل صديقتي، معي أمي وشقيقتي، وننتظر أي سيارة تكسي تفي بالغرض. مرت سيارة تكسي ونزل منها شاب، لِذا اغتنمنا الفرصة وعاملنا صاحب التكسي وأخبرناه عن وجهتنا. 

في العادة، لا نناقش -أنا وعائلتي- أصحاب التكسيات، إذ لا نُحب أن ندخل بكلاميات وحوارات ليس هناك داع لها، وأيضاً لكوننا نتجنب ما قد يأتي من خلف هذا الحوار، قد يكون منفتحاً للنقاش، أو لا يمانع أن يرميك خارج النافذة. أخبرنا بعد دقائق معدودة من الصمت، أنه خاض نقاشاً مع الشاب الذي سبقنا، وأن الشاب لم تعجبه آراء صاحب التكسي، لِذا يريد منا أن نحكم بينهما (رغم أن الخصم غائب) بالعدل..   

تحدث صاحب التكسي عن رأيه بعمل المرأة، إذ لا يراه ضرورياً ولا داعي لخروج المرأة من المنزل، وإنها رغم كل ما يقدمه الرجل من تضحيات و”مصاريف” فهي لا تظهر امتنانها لهذه النِعم. أما الشاب، رأى عمل المرأة كأولوية، وكذلك دراستها وتعليمها، لتكون مستقلة، فالرجل، حسب تعبير الشاب “يمكن يطلع وما يرجع..”.  

لم نشعر بالراحة، فنحن، في النهاية، من النساء اللائي يرى السيد صاحب التكسي أن تعليمنا وعملنا رفاهية وترفاً لا ضرورة لهما، وأن الامتنان ليس من سِماتنا (أنا التي أكتب كل يوم تدوينة امتنان لكل النعم، ولله على كل شيء). لم نتحدث كثيراً، اقتصرت أجوبتنا على “نعم، يجوز، أي أي” لنبتعد عن إعطاء رأيٍ صريح. أخبرنا أن زوجته تمتلك شهادتين، لكنه يرفض عملها لأنها “درست بخيري، ولولا مساعدتي وين تكدر تدرس؟ بس انه ما عندي مرة تشتغل” فهو يوفر لها كل ما تحتاجه حسب رأيه. لم يتوقف “أبو الخير” هنا، إذ أوضح أن رغبة المرأة للعمل (حسب تحليله الشخصي) مدفوعة بالرغبة بترك الرجل وهجرانه، وأن زوجته إن عملت، فهي بالطبع سترى ذاتها أفضل منه وتتركه. لم يكن حواره متمدناً، أو حواراً يشجعنا على المشاركة، لا يُسمى حواراً حتى، كان حديثاً مُقرفاً وغير مريح ومن طرفٍ واحد، طرف لم يتوقف عن الكلام ولا لحظة.  

وقتها، غيَّر طريقنا للمنزل، لم يأخذ الطريق الذي كان من الممكن أن نصل من خلاله إلى المنزل في 15 دقيقة، بل ذهب للطريق الذي يعطيه 45 دقيقة كفرصة للحديث عن آرائه للنساء. آراؤه التي وصلت إلى الطعن بشرف كل من تعمل، أو تريد العمل، أو تفكر بالبحث عن العمل وحسب قوله: “كلهن بلا أخلاق، كلهن بلا شرف، كلهن لا يبحثن إلا عن فرصة للتملعب وي الرجال”.  

اقرأ أيضاً

اليمين والمانوسفير العراقيان: وحدة ضد النساء 

فكرت، وأنا أسمعه يقول “بس المو شريفة تطلع من البيت تشتغل”. إن حتى السير للمنزل أفضل من الاستماع إلى أي شيء آخر من هذا الغثيان، قبل أن نصل إلى تقاطع المنطقة الرئيسية، أخبرته أن ينزلنا وأننا وصلنا حيث نريد، وبقي يكرر: “لا والله أوصلكم للباب، وين نازلات بالشارع، ها خاف ما شايلين فلوس؟” 

وفور أن ذهب أخذنا تك تك إلى المنزل، إذ ليس صاحب التك تك مساحة للحديث معنا بسبب صوت الهواء العالي.   

لم يتوان عمو “الشريف” عن تغيير مساره وزيادة الرحلة لـ 45 دقيقة، فقط حتى يخبر ثلاث غريبات بأن كل من تغادر المنزل للعمل والبحث عن لقمة العيش عاهرة، وأنه خارق لدرجة توفير “كل” ما تريده زوجته، لكنه ما زال يخاف أن تملك ما يكفي من المال لتغادره.  

لعله كان يخاف أن تقابل رجلاً لا يمضي يومه في محاولة تصنيفها “شريفة لو مو شريفة؟” 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

جميعنا نعرف “عمو” أبو التكسي، الذي حاولت “الدكتورة” أن تتزوّجه رغبةً بأخلاقه، أو “المهندسة” التي وعدته بتصميم منزلهما المستقبلي معاً بعد أن يتزوجها، أو “النائبة” التي أخبرته أنها مستعدة لتسليمه رئاسة مكتبها لأنه محنك سياسي من الطراز الأول. نعرف عمو الذي سمع عن الدولة العميقة، ويعرف السبب الحقيقي لجفاف الأنهار، ويعرف من عيّن رئيس الوزراء، ويعرف لماذا الأستاذ الجامعي اختار تخصّصه الحالي. عمو الذي يعرفنا أفضل منّا، ويعرف دوافعنا وأسبابنا، ويعرف كل ما يدور في عقلنا المخفيّ بعيداً عنه. 

هنا قصصنا مع عمو الذي يعرف كل شيء، لكنه يحب التكسي لأنه يُحب أن “يفتر” (يتجول) في العراق.  

كثرة المواقف مع التكسي تدفعني للتساؤل دائماً: هل من الطبيعي أن يُحادثني رجلٌ غريب عن كل شيء يخصني؟ تختلط عندي المواقف والصور، وكل أحاديث “ابو التكسي” التي ما زلت أتساءل، كيف استطاع نطقها بكل تلك الجرأة؟ يعلق في ذاكرتي موقف من المواقف التي تعرّضت لها من سائق، وأُصنِّفه تَحَرُّشاً حسب مفاهيمي للتحرّش. كنتُ في السيارة انتظر صديقاتي لنعود إلى المنزل بعد انتهاء الامتحان، ولا أعلم كيف، ولكن لسائقي سيارات الأجرة مهارات عالية لفتح موضوعٍ جديد (يعرفون يمهّدون للسوالف). إذ سألني دون سابق إنذار: لماذا لم تتزوجي إلى الآن؟ أجبتُهُ: ليس الوقتُ مناسباً، إلى جانب أنني لم أُنهِ دراستي بعد، إضافة إلى أسبابي الشخصية وأُفَضِّل ألّا أبوح بخصوصياتي. 

اقرأ أيضاً

“نص ردن”.. الملابس ليست وصفاً لأخلاق المرأة في الصيف 

أذكُرُ أنّنا خُضنا جدالاً بكفاءة المرأة على الرجل. كُنتُ الطرفَ الناصر للنساء وكان هو الذي ينصر الرجال تَبسَّمتُ قائلةً: ربّما هم كذلك، لإنهاء الجدال، ثم أردف متسائلاً: ماذا يريد الرجل من زوجته؟ قُلتُ: لا أعلم. 

فأخبرني: أنا سأقول لكِ ماذا يريد إنه يريد منها البيت النظيف والوجه البشوش والمنام. 

شعَرتُ بالخجل والعار في وجهي. أحسَستُ بموجة هواء باردة أغرَقت ملامحي في يوم ماطر شديد البرودة. ما الذي يدفعه لإخباري بمثل هذه المعلومة؟ ولِم كان علي، أنا، الطالبة الجامعية -التي لم تكن تفكر حينها سِوى بنتيجة امتحانها-، أن أعرف ماذا يريد الرجل؟ هل فكر ماذا أريد أنا؟ 

كبداية، لم أرد لهذا الحديث أن يتِم. أجزم أنه علم أنني أُحرِجتُ حيث إنه أراد تغيير مسار الحديث متسائلاً: في أي عام وُلِدتِ؟ أجَبتُ: عام 2000. قال: لا يبدو عليك ذلك، تبدين أصغر (كُنت صغيرةً بالفعل، لم أبلغ الثالثة والعشرين بعد).    

حتّى صديقاتي لم يتخلّصن من تَطَفُّلِهِ وقلة أدبه. بدا مصراً أن يعرف كل شيء عنّا جميعاً، إذ كان مستمراً ويسأل أسئلة خاصة وعندما لم يلقَ جواباً منّا يقوم بإجابة نفسه. كانت مسرحية هزلية غريبة، الطريق الذي لا يتجاوز الساعة بدا كما لو أنه يمتد دهراً. أمضينا الوقت ونحن نفكر: كيف يمكن لنا أن نقفز من السيارة؟ أم نستخدم لاصقاً جيداً على فمه ليخرس للأبد؟ كانت النساء والزواج المُحرك الوحيد للسانه، لا مواضيع أخرى. 

أذكُر أنه كان يعمل دلّالاً للزواج (خطّابة)، قال لصديقتي يوماً أنّ شابّاً تقدم لخطبتها منه مُبَرِّراً قوله إن سيّارته فأل خير على جميع ركابه فما أن تركب إحداهن سيارته حتى يأتيها عريس (سيارتي وجهها خير ع البنات). 

كان فخوراً بحديثه معنا، وبرأيه أن عمله كـ”خطّابة” هو عمل مثمر ويساعد البشرية. ليته يعلم أنه لم يساعد في شيء سِوى زيادة خوفنا وقرفنا! 

لا أنسى التجارب السيئة التي مررت بها مع سائقي التكسي خلال سنوات دراستي الجامعية. عندما انتهت دراستي، شعرت بالتحرر والامتنان لتخلصي منهم. كنت أسميهم “الأذن الثالثة”، لأن كل حديث يدور داخل السيارة لا بد أن يكون صاحب التكسي هو المستمع الثالث أو المتدخل في الحوار بشكل ما. 

من أكثر المواقف التي لا تفارقني، كانت في المرحلة الأخيرة من الجامعة. اضطر صاحب الخط الذي نذهب معه بالعادة إلى تركنا ليوم واحد، وطلب من ابن عمه أن يأخذنا من وإلى الجامعة. خلال طريق العودة الطويل، دار بيني وبين صديقتي حديث عن صعوبة الحياة بعد التخرج وكيف أن المجتمع ذو تفكير سطحي ومحدود، وناقشنا آراءنا في الزواج والعمل بعد التخرج وعلى لسان صديقتي “الواحد يحير بمنو يثق، هنا عقليات ذكورية متحكمة”. علماً أن حديثنا كان بصوت منخفض في المقاعد الخلفية. 

سمح صاحب التكسي لنفسه بالتطفُّل على حديثنا، ووجدها فرصة مثالية لإخبارنا أنه يعيش في أربيل، وأنه “سنكل”. لم يكن واضحاً لي ولصديقتي سبب المشاركة، إذ بدت عشوائية، وغير مطلوبة. لكننا تسلحنا بترسانة الردود المعتادة للشابة العراقية مع أبو التكسي: “أها، أي، صحيح، شنسوي بعد، يلا الله كريم..” لأن لا سبيل آخر للهرب من شباك الحديث مع أصحاب التكسي. 

في اليوم التالي، عاد صاحب الخط الأصلي، لكنه بدا منزعجاً منا، وفي نهاية اليوم أخبرنا أنه يريد ترك الخط، ومن الأفضل لنا البحث عن شخص آخر، لأن “أنتم ما تريدوني!”. كان موقفه غريباً، حاولت أن استفسر منه عن موقفه المفاجئ هذا، ما الذي تغير؟ اكتشفنا أن صاحب التكسي قد تنصت على حديثنا وأضاف إليه من خياله الخصب ترهات زائفة،  أدعى أننا معجبات به ونود التقرب منه “يسولفن گدامي عن الزواج ويريدن ارتبط بيهن”، إذ وجدها حجة ليظهر كمحبوب الطالبات في الجامعة والهدف الأسمى لهن بعد التخرج. 

سمح لنفسه بتفسير حديثنا عن صعوبة الحياة بعد التخرج وقِلة الخيارات في كل شيء بأنها دعوة يائسة مني ومن صديقتي لكي يتزوجنا، لنعيش في شقته “الفاخرة” في أربيل. لم يتوقف هنا، أخبر صاحب الخط أننا لا نريده، بل نريد ابن عمه المذهل الذي لا يُطيق بابل، ولا يُحب العيش إلا في أربيل المُترفة، وأكاذيب أخرى لم يقو صاحب الخط على إخبارنا بها. أخبرت صاحب الخط ان ابن عمه من فتح موضوع الشقق وأربيل والعزوبية والترف، لِيرد علي أن ابن عمه أصلاً متزوج وله أطفال..  

مثلت لنا قضية التكسي من بعدها “أزمة” مُقلقة، إذ عشنا تحت ظل الخوف من تأليف الأكاذيب التي قد تصل إلى حد الطعن بالشرف، وخلق سيناريوهات قد لا تفقده أكثر من “كروة” بينما قد نفقد بسببها الجامعة، والحرية، أو حتى الحياة.     

عام 2009، اصطحبت أطفالي الثلاث (طفلة في الثامنة، أخيها في السابعة، أخيهم في الثالثة، وأنا في السادسة والثلاثين) لنزور أخي وزوجته في مستشفى ابن غزوان، إذ كانت ولادتها الأولى. جلس الأطفال بهدوء، كل منهم ينظر من النافذة للشوارع، كانت فترة مريبة في التاريخ العراقي، لِذا قلما تركنا المنزل.  

في الطريق للمستشفى، توقفنا في أحد التقاطعات لبضع دقائق بسبب شرطي المرور، وجدها صاحب التكسي فرصة مثالية للبوح عن مشاعره الكامنة. سألني عن مهنتي، فأخبرته أنني مُدرسة إنكليزي، وهنا تأتي الأسطوانة المشروخة لأصحاب تكاسي العراق “ارتاحيتلج هواي، أنطيني رقمج..”. لم تكن المرة الأولى لصاحب تكسي أن يعرض خدماته ومشاعره الرقيقة، لكن بصحبة أطفالي ثلاثتهم؟ كانت سابقة.  

“خوية دور وجهك وركز على الطريق لا يصير بينا شي” أجبته بحزم، رجوت الله أن الأطفال لم يسمعوا شيئاً، وأن النوافذ ما زالت تستحوذ على انتباههم الكامل. لعله لم يعتبر “خوية” أو “دور وجهك” أو الأطفال المرافقين لي علامة رفض واضحة، لذا عاود الطلب. 

“شتريدين أسويلج، بس طلبي وتمني.. بس أريد رقمج حتى أخابرج ونسولف”.. كنا قريبين من المستشفى الآن، لم يتبق شيء حتى أخرج من هذه المسرحية السخيفة. أدركت أن الحديث لفت انتباه ابنتي، وأنها تتابع (بتخفٍ، حتى لا تثير انتباهي) مجريات الحديث.  

“مشكور، كلشي ما أريد بس نزلنا يم المستشفى والله وياك”، بدأت بجمع أغراضي لأوضح أننا سننزل وتنتهي قصة “العشق الممنوع” هذه، لكن مجدداً، لم يعتبره رفضاً.  

“لعد خليني انتظرج هنا، أوصلج وين ما تريدين وشوكت ما تريدين” أظهر “كرمه” مع سيارته، لكنني لم أرغب إلا بأخذ الأطفال والنزول. نظرت خارج النافذة، كنت أترقب كل خطوة للسيارة لتصل لباب المستشفى، اليوم الذي بدأ سعيداً بولادة ابنة أخي أصبح ثقيلاً ومزعجاً. فكرت، ما الذي يمكن أن يعني “لا” له؟ لعل وجود “زلمة” (رجل) معي كان كفيلاً بإخراسه، لكن زوجي فكر أن ثلاثة أطفال معي هي تذكرة الخلاص.  

اقرأ أيضاً

الوصفة السرّية للرد على متحرش 

في النهاية، وصلنا وأخذت الأطفال بسرعة، رميت النقود على مقعد السيارة، حتى الباقي لم أكن أريده، لم يقف بوجهه التجمع حول المستشفى، الناس، الحراسة، صرخ بـ”تعالي فدوة إلج الفلوس، ما أريدهن”، لكنني كنت أمشي في محاولة للهرب منه، للهرب من هذا العبث. 

لم يكن هذا الأسوأ، لكنه عَلِق بذاكرتي، رغم أنني في الواحدة والخمسين من عمري الآن، فغيره عرض محبته وعاطفته الملتهبة علي وأنا حامل في شهري الثامن، لا أظن أن “محبة” أصحاب التكسي قد تقف عند الحامل أو الثلاثة أطفال، أو عند أي شيء، حتى الـ”لا” التي رددتها بلا نهايات.  

كنت قد خرجت للتو من منزل صديقتي، معي أمي وشقيقتي، وننتظر أي سيارة تكسي تفي بالغرض. مرت سيارة تكسي ونزل منها شاب، لِذا اغتنمنا الفرصة وعاملنا صاحب التكسي وأخبرناه عن وجهتنا. 

في العادة، لا نناقش -أنا وعائلتي- أصحاب التكسيات، إذ لا نُحب أن ندخل بكلاميات وحوارات ليس هناك داع لها، وأيضاً لكوننا نتجنب ما قد يأتي من خلف هذا الحوار، قد يكون منفتحاً للنقاش، أو لا يمانع أن يرميك خارج النافذة. أخبرنا بعد دقائق معدودة من الصمت، أنه خاض نقاشاً مع الشاب الذي سبقنا، وأن الشاب لم تعجبه آراء صاحب التكسي، لِذا يريد منا أن نحكم بينهما (رغم أن الخصم غائب) بالعدل..   

تحدث صاحب التكسي عن رأيه بعمل المرأة، إذ لا يراه ضرورياً ولا داعي لخروج المرأة من المنزل، وإنها رغم كل ما يقدمه الرجل من تضحيات و”مصاريف” فهي لا تظهر امتنانها لهذه النِعم. أما الشاب، رأى عمل المرأة كأولوية، وكذلك دراستها وتعليمها، لتكون مستقلة، فالرجل، حسب تعبير الشاب “يمكن يطلع وما يرجع..”.  

لم نشعر بالراحة، فنحن، في النهاية، من النساء اللائي يرى السيد صاحب التكسي أن تعليمنا وعملنا رفاهية وترفاً لا ضرورة لهما، وأن الامتنان ليس من سِماتنا (أنا التي أكتب كل يوم تدوينة امتنان لكل النعم، ولله على كل شيء). لم نتحدث كثيراً، اقتصرت أجوبتنا على “نعم، يجوز، أي أي” لنبتعد عن إعطاء رأيٍ صريح. أخبرنا أن زوجته تمتلك شهادتين، لكنه يرفض عملها لأنها “درست بخيري، ولولا مساعدتي وين تكدر تدرس؟ بس انه ما عندي مرة تشتغل” فهو يوفر لها كل ما تحتاجه حسب رأيه. لم يتوقف “أبو الخير” هنا، إذ أوضح أن رغبة المرأة للعمل (حسب تحليله الشخصي) مدفوعة بالرغبة بترك الرجل وهجرانه، وأن زوجته إن عملت، فهي بالطبع سترى ذاتها أفضل منه وتتركه. لم يكن حواره متمدناً، أو حواراً يشجعنا على المشاركة، لا يُسمى حواراً حتى، كان حديثاً مُقرفاً وغير مريح ومن طرفٍ واحد، طرف لم يتوقف عن الكلام ولا لحظة.  

وقتها، غيَّر طريقنا للمنزل، لم يأخذ الطريق الذي كان من الممكن أن نصل من خلاله إلى المنزل في 15 دقيقة، بل ذهب للطريق الذي يعطيه 45 دقيقة كفرصة للحديث عن آرائه للنساء. آراؤه التي وصلت إلى الطعن بشرف كل من تعمل، أو تريد العمل، أو تفكر بالبحث عن العمل وحسب قوله: “كلهن بلا أخلاق، كلهن بلا شرف، كلهن لا يبحثن إلا عن فرصة للتملعب وي الرجال”.  

اقرأ أيضاً

اليمين والمانوسفير العراقيان: وحدة ضد النساء 

فكرت، وأنا أسمعه يقول “بس المو شريفة تطلع من البيت تشتغل”. إن حتى السير للمنزل أفضل من الاستماع إلى أي شيء آخر من هذا الغثيان، قبل أن نصل إلى تقاطع المنطقة الرئيسية، أخبرته أن ينزلنا وأننا وصلنا حيث نريد، وبقي يكرر: “لا والله أوصلكم للباب، وين نازلات بالشارع، ها خاف ما شايلين فلوس؟” 

وفور أن ذهب أخذنا تك تك إلى المنزل، إذ ليس صاحب التك تك مساحة للحديث معنا بسبب صوت الهواء العالي.   

لم يتوان عمو “الشريف” عن تغيير مساره وزيادة الرحلة لـ 45 دقيقة، فقط حتى يخبر ثلاث غريبات بأن كل من تغادر المنزل للعمل والبحث عن لقمة العيش عاهرة، وأنه خارق لدرجة توفير “كل” ما تريده زوجته، لكنه ما زال يخاف أن تملك ما يكفي من المال لتغادره.  

لعله كان يخاف أن تقابل رجلاً لا يمضي يومه في محاولة تصنيفها “شريفة لو مو شريفة؟”