هجرة الطيور "القاتلة" إلى العراق 

هشام خير الله

12 تشرين الأول 2024

عندما يهاجر الفلامينغو من موطنه الأصلي نحو العراق، لا يتوقع أنه سيتحول إلى وجبة على موائد العراقيين، أو أن يُباع ويُشترى في الأسواق الشعبية وعلى الأرصفة، إنّها تجربة مأساوية لم تكن هكذا قبل عشرات السنين.. عن رحلات الطيور المهاجرة إلى العراق..

     

لم يسأل عراقيون كثر كيف يقف الفلامينغو على ساق واحدة؛ لكنّهم تساءلوا عن طعمه في التشريب، لذلك وبدلاً من الوقوف على ضفاف البحيرات والأهوار وتأمّل جمال تلك الأسراب؛ تُنصب الفخاخ لتلك الطيور الوردية، ثمَّ تُعرض على الأرصفة والأسواق الشعبية، لبيعها لمن يرغب بالتجارة أو تحويلها إلى أكلة شتوية.    

   

يقطع الفلامينغو آلاف الكيلومترات في رحلتين موسميتين، تنطلق شتاءً من شمال أوروبا وآسيا نحو الشرق الأوسط وأفريقيا، وصيفاً من الجنوب إلى الشمال، بحثاً عن الجو المعتدل، والغذاء الذي يعطي تلك الطيور لونها المميز والفريد، فهي تتغذى على الروبيان واللافقريات والطحالب.    

    

يتميز الفلامينغو بالوقوف على ساق واحدة، وللعلماء نظرياتهم حول هذه القدرة، التي تحفظ الطاقة، وتوازن درجة الحرارة، وإعطاء الجسم تناسقاً رائعاً عند الوقوف في المياه، كما أثبتت دراسات أنّ الفلامينغو لديه القدرة على تكوين علاقات اجتماعية مع أقرانه من طيور الفلامينغو، وهذا يفسّر تجمّع تلك الطيور بأسراب كبيرة، وهجرتها بشكل جماعي يجعلها فريدة في أطلس الهجرات الموسمية للطيور.    

    

تحط أسراب الفلامينغو في الأهوار، بعد رحلة طويلة ومسارات معقدة للوصول إلى الدفء والغذاء الطازج في العراق، لكنّ أسراب الصيادين تحط هي الأخرى لصيد الطائر الجميل، وبيعه بسعر يتراوح بين 15 – 25 دولاراً أمريكياً، وفي مواسم الهجرة تكتظ أسواق وأرصفة بعض المدن العراقية بأعداد كبيرة من الفلامينغو.    

    

الصيد الجائر، والتغيّر المناخي، والجفاف، سببت هجرات بلا عودة لبعض أنواع الطيور التي اعتادت الوصول إلى العراق برحلات موسمية، وقلّت أعداد بعضها حيث هنالك مخاوف من اختفائها إلى الأبد، مثل طائر الفلامينغو الذي يتعرض للصيد بأعداد كبيرة في كل موسم هجرة، أو الزرزور.    

    

    

   

الزرزور: طائر الحظ الذي أكلوه   

  

في الموروث الشعبي العراقي، خاصة في إقليم كردستان، فإن إطلاق طائر الزرزور يجلب الحظ، لذلك كان الصيادون يضعون شباك الحظ في سهول قرية سبيران على أطراف أربيل، ثم يجلبون الزرزور إلى مدينة أربيل، وهناك يبيعونه لمن يبحثون عن الحظ السعيد.   

   

لكنّ هذه الحال تغيرت بعد 2014، فأصوات الرصاص والقصف وضجيج المعارك بين القوات الأمنية العراقية وتنظيم “داعش” الذي اجتاح تلك المناطق، تسبب بتغيير خط هجرة طائر الزرزور الذي يأتي من أوروبا.   

لم يعد الزرزور يأتي كما كان يأتي من قبل، ولم يعد يُطلق في السماء لجلب الحظ، بل صار يوضع في البطون من أجل الشبع، مع تأثير الحرب على الوضع الاقتصادي للناس، صارت هواية صيد طائر الزرزور تشبه العمل لمواجهة الجوع والبطالة التي زادت حينها.   

   

لا يُعرف على وجه الدقة عدد طيور الزرزور التي تهاجر في كل موسم إلى العراق، لكن الصيادون يعرفون أنهم كانوا يصيدون في كل موسم ما متوسطه 7 آلاف طائر، يبيعون الواحد منها بمبلغ لا يتجاور دولاراً أمريكياً واحداً، لكنهم بعد عام 2014، بعد أن غير الطائر وجهته، أصبح الزرزور شحيحاً في إقليم كردستان، وصار الصياد المحظوظ هو من يمسك بألفي زرزور في الموسم.   

   

تخطيط لرأس الزرزو، من كتاب “الطيور العراقية” تأليف بشير اللوس. 

   

الإغراء الأوّل: الماء    

كان العراق من الدول الغنية نسبياً من حيث التنوع البيولوجي، وجزء من غناه يكمن في أنواع الطيور؛ بسبب مجموعة من المقومات التي أدت أن تكون هذه البقعة ملاذاً للعديد من الأنواع المستوطنة والمهاجرة على حدٍّ سواء.  

    

أكثر هذه المقومات أهميةً وقوع البلاد على أكثر من خط رئيسي لهجرة الطيور المارة من سيبيريا وغرب أوربا، جنوباً نحو شبه الجزيرة العربية وأفريقيا.  

    

يشكل العراق نصف الممر اليابس، المحصور بين الخليج العربي والبحر المتوسط، وهو ممرٌّ لأنواع كثيرة من الطيور، خصوصاً الصغيرة منها، التي تتجنب عبور المسطحات المائية الواسعة كالبحار. بالإضافة لذلك، فان وقوع العراق في الشريط الدافئ العرضي ما بين المناطق الباردة الشمالية والحارة في الجنوب، يغري العديد من الطيور للمكوث في مساحاته الشاسعة.     

    

التشكيلة الطبيعية للتضاريس التي يمتاز بها العراق جعلته مكاناً مغرياً للاستيطان، طوبوغرافيا جبلية فيها أشكال من الغابات الكثيفة والجروف الصخرية، ومناطق سهليّة متموجة تتغير بتغيّر فصول السنة، ومناطق سهبية واسعة تنتشر فيها الحقول الزراعية، ومناطق صحراوية وشبه صحراوية مترامية الأطراف، ومناطق ساحلية بحرية، تتأثر بالمد والجزر، وأهوار رائعة، ومسطحات شاسعة.  

   

وسط هذه الأجواء، ينفرد النظام البيئي في الأهوار بنوعه. نشأت عليه الحضارات الأولى في العالم، السومرية منها، ولأن الماء يغري الجميع، فقد كانت الأهوار وما زالت موطناً لأعداد هائلة من الطيور، بعضها الآن مهدد بالانقراض.    

    

طائر “هازجة قصب البصرة”، وطائر “الشرشير المخطط”، وطائر “أبو منجل الأرجواني”، وطائر “الرخمة المصرية” لا توجد إلا في الأهوار ومواطنها الأصيلة. 

    

بعض الطيور تحب الرعي وقضاء الوقت على الضفاف، في الأهوار، أو البحيرات، أو الأنهار، أو المسطحات المائية قليلة العمق، وهذه كانت مساحات واسعة وكثيرة في العراق، لذلك اختارتها أنواع من الطيور كوجه محببة، مثل “بط الشهرمان” وبط “أبو فروة”، وبط “الصواي”، وطائر “الخضيري”، وطائر “أبو زلّة”، وكل تلك الطيور التي تحب الخوض، ويسميها العراقيون “الطيور الخوّاضة”.    

    

للطيور مواسم في الهجرة إلى العراق، رحلة الشتاء والصيف لا تنتهي، أو هي كانت كذلك. تحط أنواع من الطيور في فصل الصيف لتضع بيوضها، وتتكاثر، طائر “الخنّاق الرمادي”، وطائر “خطّاف الصخور الأفريقي”، وطائر “خطّاف الشواطئ”، وطائر “الوقواق”، وطائر “خطّاف المستنقعات”، هذه كلّها من الطيور الأوابد التي تنتشر وتعيش في العراق، مهاجرةً ومستوطنة.    

   

    

تخطيط لرأس البلبل العراقي، من كتاب “الطيور العراقية” تأليف بشير اللوس. 

استراتيجية النداء    

 هنالك أنواع نادرة من الطيور، تأتي إلى العراق بطريقة نادرة كذلك، هرباً وليس هجرةً طبيعية، طائر “الببغاء المطوّق”، وطائر “المينة”، هذه طيور هنديّة الأصول، موطنها هناك، لكنّها تهرب من الصيد والأقفاص وتصل إلى العراق، إلى البصرة وميسان بالتحديد، وتستقر هنالك، في الأشجار العالية، بعيداً عن النشاط البشري.    

    

قسوة الظروف تجبر الطيور على الهجرة، والبحث عن ملاذٍ آمن، ولطالما كان العراق ملاذاً لتلك الأسراب التي تطير من النصف الشمالي للأرض، فعندما يأتي الشتاء هناك، ترحل الطيور إلى هنا، إلى العراق، تصف الأكاديميا تلك الرحلة بالتشتية، لأنها تقضي فصل الشتاء في العراق، الذي يمنح دفئاً أكبر للوافدين.    

   

لن تكون الهجرة سهلةً، تعرف الطيور ذلك، لكن البرد في موطنها الأصلي خلال الشتاء، وندرة الغذاء، لا يترك خياراً للبقاء، فتُجمع الطيور ريشها للتحليق، وتضع خطة للوصول.    

    

الطيران الجماعي بأسراب منظمة، ومتشابهة بالنوع والفصيلة هي الخطة لمواجهة المخاطر في الطريق، فهنالك دائماً بشر يترصدونهم. 

الطيران لأوقات طويلة خلال الليل، والهبوط خلال النهار للراحة والغذاء يتطلب استراتيجيةً تسمّى “النداء”، حيث الطيران سويةً والهبوط معاً، وهكذا حتّى تصل.    

   

كانت أهوار العراق محطةً مغرية لوصول عشرات الآلاف من الطيور المهاجرة، يقدر عددها بأربعين ألف طائر كل سنة، تقصد المسطحات المائية في مواسم هجراتها، وتقدّر جامعة واسط أصناف هذه الطيور بأكثر من 270 صنفاً من الطيور المهددة بالانقراض، مثل الخضيري الحذاف، وطائر الفلامنكو، والشاهين، والبرهان، والقطقاط، والرفراف، وأبو زلة، والشهرمان.    

   

ولكن بدأت أعداد وكثافة هذه الطيور تتناقص بشكل ملحوظ في الأعوام الأخيرة إلى معدلات خطرة جداً، بسبب التغيّر المناخي وما سببه من تأثير مباشر في البيئة العراقية من انحسار واضح وتقليص الأراضي الرطبة، وتحولها الى أرض متصحرة.     

   

 كذلك انخفاض مناسيب المياه واختفاء مساحات واسعه من بيئة الأهوار، وجفاف مناطق من الأهوار بشكل كامل بسبب قله اطلاقات المياه الواصلة من دول الجوار، أدى إلى جفاف هذه المناطق، مع تقليص الاراضي الزراعية والنشاط الإنساني بتجريف عدد كبير من غابات النخيل والامتداد العمراني فيها.     

   

النشاط الإنساني المضر بالبيئة العراقية لا يقف عند هذا الحد، بل يتعداه إلى مواسم صيد يكثر بها عرض أصناف من الطيور في الأسواق والأرصفة، لبيعها طعاماً أو للزينة، فيما لا وجود لأثر شرطة حماية البيئة في حماية هذه الطيور.   

   

لا توجد أرقام رسمية يمكن الركون إليها في عدد منتسبي حماية البيئة في العراق، لكنّ بعض الأرقام تشير إلى نقص كبير في أعدادهم، ففي محافظة ميسان التي تعتبر واحدة من أكثر الوجهات المحببة للطيور المهاجرة؛ هناك 20 شرطياً فقط لحماية البيئة، وفي محافظة المثنى، الوجهة المفضلة الأخرى لتلك الطيور، هناك فقط 6 منتسبين في شرطة حماية البيئة.   

    

    

الطيور الاجتماعية     

من أهم الطيور جذباً لاهتمام السكان المحليين، سواء كانت للتربية في الأقفاص أو مشاهدتها في الطبيعة، حيث تكون ذات أشكال جميلة ومميزة، وذات أصوات عذبة ومحببة، هي طائر البلبل أبيض الخد (البلبل العراقي). 

يعتبر هذا الطائر رمز من رموز الطبيعة العراقية، واشتق اسمه من موطنه. يوجد ويتواجد البلبل في كل مناطق العراق ذات الغطاء النباتي، ويعشش في أشجار النخيل، والسدر، والزور، والأثل، ويتكاثر مرتين في السنة، في بداية فصل الربيع وفي بداية فصل الصيف. 

 تضع إناث البلبل العراقي من ثلاث إلى أربع بيوض، وفترة الحضانة تكون من 18 إلى 21 يوماً، وتستمر فترة الصغار 3 أسابيع، بعدها تترك الأعشاش. 

ومما يجذب السكان إلى هذا الطائر تحديداً هو جمال صوته.  

وهناك أيضاً طائر الفرفر (السحنون) ويعرف محلياً طائر “البرهان”، الذي يعتبر من الطيور المحببة للتربية في المنازل والحدائق العامة، لجمال ألوانه وصوته المميز، ويعتبر من الطيور سهلة التدجين. وهو   طائر مائي يتواجد في أغلب المسطحات المائية العراقية، ويتكاثر بجعل الأعشاش على كومات القصب والبردي في عمق الأهوار. 

      

طابع للبلبل ضمن مجموعة طيور العراق التي صدرت عام 1968. المصدر: ويكبيديا. 

الطيور المستوطنة وأثر المناخ     

يوجد من الطيور المستوطنة في العراق ما يقرب من 92 نوعاً. 

المستوطنة “المفرّخة” في داخل موزعة على جميع البيئات، من شمال البلاد إلى جنوبها، لكن وبسبب التغيّر المناخي، والنشاط البشري العمراني، وعمليات الصيد الجائر، بدأت أعداد هذه الطيور بالتناقص، وانحسرت من مناطق انتشارها بشكل شبه كامل، أو هاجرت من منطقة إلى منطقة أخرى، بسبب تجريف الأراضي الزراعية، وغابات النخيل، وتدمير مساحات واسعه من الأراضي الزراعية.    

    

من أهم هذه الطيور التي تعرضت للانحسار وقلّة في الاعداد هو طائر “دجاج الماء”، وطائر “الحبارة”، طائر “القطى الموشّح”، وطائر “القطى المرقّط”، وطائر “الحمام الجبلي”، وطائر “حمام الغابات”، وطائر “اليمام المطوق”، وطائر “الدرة الهندية المطوقة”، وطائر “البلبل أبيض الخد”. بعض هذه الطيور أصبح عرضة للموت كذلك بسبب ملوحة المياه، في مواسم الشدّ الملحي، خاصة في مناطق شط العرب والبصرة.    

    

    

أنواع الطيور المهاجرة إلى العراق     

    

صحيح أن هجرة الطيور نشطة في عموم فصول السنة تقريبا، إلا أنها تتركز في فصل الشتاء بكثافات عالية، وتنوع كبير قياساً بباقي فصول السنة، بسبب اعتدال المناخ في العراق وارتفاع درجات الحرارة قياساً بالمناطق الأصلية للطيور.  

تقسم الطيور المهاجرة إلى العراق إلى سبعة عشر رتبة، وهي الطيور الزائرة، ولم نذكر الطيور القاطعة للعراق، وهي تهبط في العراق للراحة، تقضي يوماً أو يومين للتغذية، وبعدها تكمل رحلتها إلى المكان الذي تقصده للهجرة.    

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

     

لم يسأل عراقيون كثر كيف يقف الفلامينغو على ساق واحدة؛ لكنّهم تساءلوا عن طعمه في التشريب، لذلك وبدلاً من الوقوف على ضفاف البحيرات والأهوار وتأمّل جمال تلك الأسراب؛ تُنصب الفخاخ لتلك الطيور الوردية، ثمَّ تُعرض على الأرصفة والأسواق الشعبية، لبيعها لمن يرغب بالتجارة أو تحويلها إلى أكلة شتوية.    

   

يقطع الفلامينغو آلاف الكيلومترات في رحلتين موسميتين، تنطلق شتاءً من شمال أوروبا وآسيا نحو الشرق الأوسط وأفريقيا، وصيفاً من الجنوب إلى الشمال، بحثاً عن الجو المعتدل، والغذاء الذي يعطي تلك الطيور لونها المميز والفريد، فهي تتغذى على الروبيان واللافقريات والطحالب.    

    

يتميز الفلامينغو بالوقوف على ساق واحدة، وللعلماء نظرياتهم حول هذه القدرة، التي تحفظ الطاقة، وتوازن درجة الحرارة، وإعطاء الجسم تناسقاً رائعاً عند الوقوف في المياه، كما أثبتت دراسات أنّ الفلامينغو لديه القدرة على تكوين علاقات اجتماعية مع أقرانه من طيور الفلامينغو، وهذا يفسّر تجمّع تلك الطيور بأسراب كبيرة، وهجرتها بشكل جماعي يجعلها فريدة في أطلس الهجرات الموسمية للطيور.    

    

تحط أسراب الفلامينغو في الأهوار، بعد رحلة طويلة ومسارات معقدة للوصول إلى الدفء والغذاء الطازج في العراق، لكنّ أسراب الصيادين تحط هي الأخرى لصيد الطائر الجميل، وبيعه بسعر يتراوح بين 15 – 25 دولاراً أمريكياً، وفي مواسم الهجرة تكتظ أسواق وأرصفة بعض المدن العراقية بأعداد كبيرة من الفلامينغو.    

    

الصيد الجائر، والتغيّر المناخي، والجفاف، سببت هجرات بلا عودة لبعض أنواع الطيور التي اعتادت الوصول إلى العراق برحلات موسمية، وقلّت أعداد بعضها حيث هنالك مخاوف من اختفائها إلى الأبد، مثل طائر الفلامينغو الذي يتعرض للصيد بأعداد كبيرة في كل موسم هجرة، أو الزرزور.    

    

    

   

الزرزور: طائر الحظ الذي أكلوه   

  

في الموروث الشعبي العراقي، خاصة في إقليم كردستان، فإن إطلاق طائر الزرزور يجلب الحظ، لذلك كان الصيادون يضعون شباك الحظ في سهول قرية سبيران على أطراف أربيل، ثم يجلبون الزرزور إلى مدينة أربيل، وهناك يبيعونه لمن يبحثون عن الحظ السعيد.   

   

لكنّ هذه الحال تغيرت بعد 2014، فأصوات الرصاص والقصف وضجيج المعارك بين القوات الأمنية العراقية وتنظيم “داعش” الذي اجتاح تلك المناطق، تسبب بتغيير خط هجرة طائر الزرزور الذي يأتي من أوروبا.   

لم يعد الزرزور يأتي كما كان يأتي من قبل، ولم يعد يُطلق في السماء لجلب الحظ، بل صار يوضع في البطون من أجل الشبع، مع تأثير الحرب على الوضع الاقتصادي للناس، صارت هواية صيد طائر الزرزور تشبه العمل لمواجهة الجوع والبطالة التي زادت حينها.   

   

لا يُعرف على وجه الدقة عدد طيور الزرزور التي تهاجر في كل موسم إلى العراق، لكن الصيادون يعرفون أنهم كانوا يصيدون في كل موسم ما متوسطه 7 آلاف طائر، يبيعون الواحد منها بمبلغ لا يتجاور دولاراً أمريكياً واحداً، لكنهم بعد عام 2014، بعد أن غير الطائر وجهته، أصبح الزرزور شحيحاً في إقليم كردستان، وصار الصياد المحظوظ هو من يمسك بألفي زرزور في الموسم.   

   

تخطيط لرأس الزرزو، من كتاب “الطيور العراقية” تأليف بشير اللوس. 

   

الإغراء الأوّل: الماء    

كان العراق من الدول الغنية نسبياً من حيث التنوع البيولوجي، وجزء من غناه يكمن في أنواع الطيور؛ بسبب مجموعة من المقومات التي أدت أن تكون هذه البقعة ملاذاً للعديد من الأنواع المستوطنة والمهاجرة على حدٍّ سواء.  

    

أكثر هذه المقومات أهميةً وقوع البلاد على أكثر من خط رئيسي لهجرة الطيور المارة من سيبيريا وغرب أوربا، جنوباً نحو شبه الجزيرة العربية وأفريقيا.  

    

يشكل العراق نصف الممر اليابس، المحصور بين الخليج العربي والبحر المتوسط، وهو ممرٌّ لأنواع كثيرة من الطيور، خصوصاً الصغيرة منها، التي تتجنب عبور المسطحات المائية الواسعة كالبحار. بالإضافة لذلك، فان وقوع العراق في الشريط الدافئ العرضي ما بين المناطق الباردة الشمالية والحارة في الجنوب، يغري العديد من الطيور للمكوث في مساحاته الشاسعة.     

    

التشكيلة الطبيعية للتضاريس التي يمتاز بها العراق جعلته مكاناً مغرياً للاستيطان، طوبوغرافيا جبلية فيها أشكال من الغابات الكثيفة والجروف الصخرية، ومناطق سهليّة متموجة تتغير بتغيّر فصول السنة، ومناطق سهبية واسعة تنتشر فيها الحقول الزراعية، ومناطق صحراوية وشبه صحراوية مترامية الأطراف، ومناطق ساحلية بحرية، تتأثر بالمد والجزر، وأهوار رائعة، ومسطحات شاسعة.  

   

وسط هذه الأجواء، ينفرد النظام البيئي في الأهوار بنوعه. نشأت عليه الحضارات الأولى في العالم، السومرية منها، ولأن الماء يغري الجميع، فقد كانت الأهوار وما زالت موطناً لأعداد هائلة من الطيور، بعضها الآن مهدد بالانقراض.    

    

طائر “هازجة قصب البصرة”، وطائر “الشرشير المخطط”، وطائر “أبو منجل الأرجواني”، وطائر “الرخمة المصرية” لا توجد إلا في الأهوار ومواطنها الأصيلة. 

    

بعض الطيور تحب الرعي وقضاء الوقت على الضفاف، في الأهوار، أو البحيرات، أو الأنهار، أو المسطحات المائية قليلة العمق، وهذه كانت مساحات واسعة وكثيرة في العراق، لذلك اختارتها أنواع من الطيور كوجه محببة، مثل “بط الشهرمان” وبط “أبو فروة”، وبط “الصواي”، وطائر “الخضيري”، وطائر “أبو زلّة”، وكل تلك الطيور التي تحب الخوض، ويسميها العراقيون “الطيور الخوّاضة”.    

    

للطيور مواسم في الهجرة إلى العراق، رحلة الشتاء والصيف لا تنتهي، أو هي كانت كذلك. تحط أنواع من الطيور في فصل الصيف لتضع بيوضها، وتتكاثر، طائر “الخنّاق الرمادي”، وطائر “خطّاف الصخور الأفريقي”، وطائر “خطّاف الشواطئ”، وطائر “الوقواق”، وطائر “خطّاف المستنقعات”، هذه كلّها من الطيور الأوابد التي تنتشر وتعيش في العراق، مهاجرةً ومستوطنة.    

   

    

تخطيط لرأس البلبل العراقي، من كتاب “الطيور العراقية” تأليف بشير اللوس. 

استراتيجية النداء    

 هنالك أنواع نادرة من الطيور، تأتي إلى العراق بطريقة نادرة كذلك، هرباً وليس هجرةً طبيعية، طائر “الببغاء المطوّق”، وطائر “المينة”، هذه طيور هنديّة الأصول، موطنها هناك، لكنّها تهرب من الصيد والأقفاص وتصل إلى العراق، إلى البصرة وميسان بالتحديد، وتستقر هنالك، في الأشجار العالية، بعيداً عن النشاط البشري.    

    

قسوة الظروف تجبر الطيور على الهجرة، والبحث عن ملاذٍ آمن، ولطالما كان العراق ملاذاً لتلك الأسراب التي تطير من النصف الشمالي للأرض، فعندما يأتي الشتاء هناك، ترحل الطيور إلى هنا، إلى العراق، تصف الأكاديميا تلك الرحلة بالتشتية، لأنها تقضي فصل الشتاء في العراق، الذي يمنح دفئاً أكبر للوافدين.    

   

لن تكون الهجرة سهلةً، تعرف الطيور ذلك، لكن البرد في موطنها الأصلي خلال الشتاء، وندرة الغذاء، لا يترك خياراً للبقاء، فتُجمع الطيور ريشها للتحليق، وتضع خطة للوصول.    

    

الطيران الجماعي بأسراب منظمة، ومتشابهة بالنوع والفصيلة هي الخطة لمواجهة المخاطر في الطريق، فهنالك دائماً بشر يترصدونهم. 

الطيران لأوقات طويلة خلال الليل، والهبوط خلال النهار للراحة والغذاء يتطلب استراتيجيةً تسمّى “النداء”، حيث الطيران سويةً والهبوط معاً، وهكذا حتّى تصل.    

   

كانت أهوار العراق محطةً مغرية لوصول عشرات الآلاف من الطيور المهاجرة، يقدر عددها بأربعين ألف طائر كل سنة، تقصد المسطحات المائية في مواسم هجراتها، وتقدّر جامعة واسط أصناف هذه الطيور بأكثر من 270 صنفاً من الطيور المهددة بالانقراض، مثل الخضيري الحذاف، وطائر الفلامنكو، والشاهين، والبرهان، والقطقاط، والرفراف، وأبو زلة، والشهرمان.    

   

ولكن بدأت أعداد وكثافة هذه الطيور تتناقص بشكل ملحوظ في الأعوام الأخيرة إلى معدلات خطرة جداً، بسبب التغيّر المناخي وما سببه من تأثير مباشر في البيئة العراقية من انحسار واضح وتقليص الأراضي الرطبة، وتحولها الى أرض متصحرة.     

   

 كذلك انخفاض مناسيب المياه واختفاء مساحات واسعه من بيئة الأهوار، وجفاف مناطق من الأهوار بشكل كامل بسبب قله اطلاقات المياه الواصلة من دول الجوار، أدى إلى جفاف هذه المناطق، مع تقليص الاراضي الزراعية والنشاط الإنساني بتجريف عدد كبير من غابات النخيل والامتداد العمراني فيها.     

   

النشاط الإنساني المضر بالبيئة العراقية لا يقف عند هذا الحد، بل يتعداه إلى مواسم صيد يكثر بها عرض أصناف من الطيور في الأسواق والأرصفة، لبيعها طعاماً أو للزينة، فيما لا وجود لأثر شرطة حماية البيئة في حماية هذه الطيور.   

   

لا توجد أرقام رسمية يمكن الركون إليها في عدد منتسبي حماية البيئة في العراق، لكنّ بعض الأرقام تشير إلى نقص كبير في أعدادهم، ففي محافظة ميسان التي تعتبر واحدة من أكثر الوجهات المحببة للطيور المهاجرة؛ هناك 20 شرطياً فقط لحماية البيئة، وفي محافظة المثنى، الوجهة المفضلة الأخرى لتلك الطيور، هناك فقط 6 منتسبين في شرطة حماية البيئة.   

    

    

الطيور الاجتماعية     

من أهم الطيور جذباً لاهتمام السكان المحليين، سواء كانت للتربية في الأقفاص أو مشاهدتها في الطبيعة، حيث تكون ذات أشكال جميلة ومميزة، وذات أصوات عذبة ومحببة، هي طائر البلبل أبيض الخد (البلبل العراقي). 

يعتبر هذا الطائر رمز من رموز الطبيعة العراقية، واشتق اسمه من موطنه. يوجد ويتواجد البلبل في كل مناطق العراق ذات الغطاء النباتي، ويعشش في أشجار النخيل، والسدر، والزور، والأثل، ويتكاثر مرتين في السنة، في بداية فصل الربيع وفي بداية فصل الصيف. 

 تضع إناث البلبل العراقي من ثلاث إلى أربع بيوض، وفترة الحضانة تكون من 18 إلى 21 يوماً، وتستمر فترة الصغار 3 أسابيع، بعدها تترك الأعشاش. 

ومما يجذب السكان إلى هذا الطائر تحديداً هو جمال صوته.  

وهناك أيضاً طائر الفرفر (السحنون) ويعرف محلياً طائر “البرهان”، الذي يعتبر من الطيور المحببة للتربية في المنازل والحدائق العامة، لجمال ألوانه وصوته المميز، ويعتبر من الطيور سهلة التدجين. وهو   طائر مائي يتواجد في أغلب المسطحات المائية العراقية، ويتكاثر بجعل الأعشاش على كومات القصب والبردي في عمق الأهوار. 

      

طابع للبلبل ضمن مجموعة طيور العراق التي صدرت عام 1968. المصدر: ويكبيديا. 

الطيور المستوطنة وأثر المناخ     

يوجد من الطيور المستوطنة في العراق ما يقرب من 92 نوعاً. 

المستوطنة “المفرّخة” في داخل موزعة على جميع البيئات، من شمال البلاد إلى جنوبها، لكن وبسبب التغيّر المناخي، والنشاط البشري العمراني، وعمليات الصيد الجائر، بدأت أعداد هذه الطيور بالتناقص، وانحسرت من مناطق انتشارها بشكل شبه كامل، أو هاجرت من منطقة إلى منطقة أخرى، بسبب تجريف الأراضي الزراعية، وغابات النخيل، وتدمير مساحات واسعه من الأراضي الزراعية.    

    

من أهم هذه الطيور التي تعرضت للانحسار وقلّة في الاعداد هو طائر “دجاج الماء”، وطائر “الحبارة”، طائر “القطى الموشّح”، وطائر “القطى المرقّط”، وطائر “الحمام الجبلي”، وطائر “حمام الغابات”، وطائر “اليمام المطوق”، وطائر “الدرة الهندية المطوقة”، وطائر “البلبل أبيض الخد”. بعض هذه الطيور أصبح عرضة للموت كذلك بسبب ملوحة المياه، في مواسم الشدّ الملحي، خاصة في مناطق شط العرب والبصرة.    

    

    

أنواع الطيور المهاجرة إلى العراق     

    

صحيح أن هجرة الطيور نشطة في عموم فصول السنة تقريبا، إلا أنها تتركز في فصل الشتاء بكثافات عالية، وتنوع كبير قياساً بباقي فصول السنة، بسبب اعتدال المناخ في العراق وارتفاع درجات الحرارة قياساً بالمناطق الأصلية للطيور.  

تقسم الطيور المهاجرة إلى العراق إلى سبعة عشر رتبة، وهي الطيور الزائرة، ولم نذكر الطيور القاطعة للعراق، وهي تهبط في العراق للراحة، تقضي يوماً أو يومين للتغذية، وبعدها تكمل رحلتها إلى المكان الذي تقصده للهجرة.