"أزمة مكان".. 437 ألف كم² بلا مساحة لتقبيل حبيبة

إيهاب شغيدل

24 أيلول 2024

عن القُبلات المحذوفة قسراً، عن الخوف من العيون، عن الاشتياق والخيالات، والمستشفيات والمقاهي التي تحوّلت إلى غرفٍ افتراضية لممارسة غواية الحب، عن العراق الكبير، الذي يضيق بلقاء حبيبين..

تبلغ مساحة العراق أكثر من 437 ألف كم²، هذه أول معلومة في درس الجغرافية قُدّمت للتلاميذ في المدارس العراقية، لكنّ هؤلاء الأطفال عندما كبروا؛ اكتشفوا أنّ كل هذه المساحة ليست فيها 50 سم2من أجل قبلة عابرة، وليس في هذه المساحة متران من أجل لحظة حميمية، ليس هناك غرفة 3X4 م2،من أجل خلوة. 

الأزمات السياسية والاقتصادية سبب في عديد من المشكلات اليومية، إلا أنّها قد تطال مفهومنا عن الحب، وتغيّر رؤيتنا تجاه الجسد، الجسد الذي لا يجد مكاناً آمناً، الجسد الذي قد يرفض الحب وينزوي ويشعر باليأس أو يتطرف جرّاء عدم وجود مكان يُمارس فيه نشاطاً طبيعياً. 

تضيّق أزمة السكن الحياةَ على المواطن، ارتفاع أسعار العقارات تجاوزت دخل غالبية الفئات، هناك إحصاءات رسمية عن عدد العراقيين الذين لا يملكون سكناً، أو عدد سكنة العشوائيات، وسكنة البيوت التي لا تصلح لسكن الإنسان. 

الأزمة هذه تضيّق فرص الحب من باب آخر، باب مهمل وهامشي ومسكوت عنه، لا يمكن أن نحصي عدد القبلات التي ضاعت لعدم وجود مكان تنطلق فيه، لا يمكن أن نعد النظرات والملامسات التي ضاعت من عدم توفر غرفة تدور فيها المشاهد، كم هي عدد الأيدي التي بقيت باردة دون اشتباك؛ لأنّ طرفين لا مكان لديهما حتى لهذه اللحظة، كم اللحظات الحميمية التي ضيعتها أزمة السكن في العراق؟  

عن هذا يتحدث الشبان فيما بينهم، الذكور تحديداً أكثر تعبيراً عن الموضوع. بسبب طبيعة المجتمع، همأكثر رغبة في الحديث عنه، يبدأ الأمر من أزمة سكن، ليأخذ أشكالاً مختلفة من القرارات المصيرية التي قد تتخذ تحت هذا الضغط، بعض الأحيان يصبح مادة للسخرية، تاركاً خلفه موجة من الضحك، دون حلول لهذه الأزمة، التي قد تؤثر على النشوء الطبيعي لعديد من الأفراد. 

لماذا الذكور تحديداً؟ الجواب بسيط، لأن معرفة ما يدور في عوالم النساء غير مرئي، ومسكوت عنه. حياة النساء مغلقة في هذا الشأن، خلف جدران غرف النساء تدور الأقوال، والأصوات تصل مشوشة وغير واضحة. 

اقرأ أيضاً

“منو يكدر يشتريها؟”.. المجمّعات السكنية للأغنياء وغاسلي الأموال 

حين تسأل النساء والرجال عن طبيعة هذه الأحاديث، ستجد أن التلعثم والخجل يلف الكثير من النساء، فيما يفتح الرجال أقصى خيالاتهم عن المكان.  

وسائل قمع الرغبات كثيرة، مرة بذريعة اجتماعية وعرفية، ومرة بسبب السلطات المتعددة التي تمارس عليهن، خصوصاً في القرى والأرياف والمدن المدارة قبلياً. 

تعليقاً على كونديرا 

يفتتح ميلان كونديرا “الحياة في مكان آخر”، بالبحث عن سبب نشوء الشاعر، تتساءل الأم عن المكان الذي حبلت فيه بالشاعر، وتطرح لذلك الحدث ثلاثة أمكنة. والد الشاعر أيضاً يحاصره السؤال نفسه، ويرجح أنها حبلت به في شقة صديقه، لتنتهي قناعة الأم أنها “لم تحبل بالشاعر إلا خلال صبيحة صيفية مشمسة في ظل صخرة تنتصب بشكل مثير بين الصخور الأخرى، في واد يقصده سكان براغ للنزهة أيام الآحاد”، معتقدة أن هذا هو المكان لأسباب عديدة. 

كنت للتو قد بدأت بقراءة العمل، حدّثت صديقي عن شعرية هذا المدخل، وإعجابي به، وعن أهمية الرواية، علق بشيء من السخرية: “هنيالهم ما عدهم أزمة مكان!”.

قبلات خيالية هاربة من التسعينيات  

8210208 هذا رقم هاتف المنزل الأرضي، الهاتف الذي يتوافد من أجله العشاق، يتناوب عليه الشبان من أجل سماع كلمات محددة وبسيطة، من الحلم أن تدوم تلك الدقائق، إذ سرعان ما ينقطع الصوت، هاتف واحد كان يكفي لعشرات الحبيبات على ألا يخلطن بين صوت وآخر، هاتف واحد كان كافياً لأن ينتشي سيف وأسماء وضحى وأحمد وخالد وسحر وصادق وبيداء ونوال وسهاد..  

في ذلك الزمن العدمي، زمن نفاد السكّر، زمن شحّت فيه الحياة حتى اقتربت من الصفر، رقم الهاتف ذاك كان يكتب بعناية فائقة، وخط واضح منعاً للالتباس، يدسّ في جيب البناطيل الكالحة، في انتظار فرصة المرور إلى قلب فتاة.

 كان الهاتف شيطان المنزل، تغلق من أجله الأبواب، وتخفت الأصوات، لتبدأ المغازلات الناعمة، في تلك الحوارات المربوطة بحبل الحصار، كانت هذه أكبر فرصة للحصول على لحظة حميمية، زمن كانت القبلة فيه حدثاً، وتحسس قطعة جسد بطرف إصبع إنجازاً لا يمكن نسيانه بسهولة.  

عدا أماكن “بائعات الهوى”، فرصة خلوة حبيبين شبه معدومة بالنسبة للطبقات الفقيرة، وحتى جزء من المتوسطة، فقط الذين يتسلقون سلم الحياة بقوة يمكنهم إيجاد مكان للمواعدة، غالبية الأفراد ليس أمامهم إلا الزواج، فهو المسار الوحيد الذي يجعل للفردين مكاناً خاصاً بهما. 

في ذلك الشح، لجأ جيل كامل لاستخدام الأمكنة العامة سريراً افتراضياً، أصبحت حدائق الزوراء ومدينة الألعاب وحتى بعض المراقد الدينية، غرفة متخيلة لحبيبين، لقاءات تحدث عن بُعد، ووحده الحظ من يجعل تلامس الأجساد ممكناً.  

أحمد (48 عاماً) كانت غرفته الافتراضية هي المستشفى، “مرة تواعدنا آني وحبيبتي بالمستشفى، سوت نفسها متخربطة، ورحت شفتها، انتظرت ساعة حتى أمها تطلع، وطبيت لزمت ايدها”، هذه المجازفة ليست غريبة في تلك السنوات، فأحمد يتذكر مشهداً مألوفاً حتى الآن، “غالبية العشاق في الكلية ليس لهم إلا الطريق من المنزل إلى كلية، يختارون آخر كراسي بالكيا أو الكوستر، بس علمود يلزمون إيدين بعض”. 

اقرأ أيضاً

الحب في مرحلة أولى جامعة: “سال دمي من أجل نظرة واحدة” 

شيء واحد قد تغيّر، قد يبدو الزواج الآن أسهل مما كان في السابق من الناحية الاقتصادية، يقول أحمد عن ذلك: “بالتسعينات ردت اتزوج، بيتنا ما بي مكان، هسة الشاب يقدر يبني غرفة بسهولة مو مثل قبل”. 

عن تلك الأيام يقول فريد (46 عاماً)، إن رحلته من حي طارق إلى مرقد سيد حمد الله، قرب وزارة الداخلية كانت تكلف 150 ديناراً، وإن هذه الرحلة كلها من أجل اللقاء بسماح، التي تأتي مع جدتها للمرقد صباح كل سبت، ومن ذلك جاءت تسمية المرقد بـ”سيد العشاق”، في منتصف التسعينيات، بحسب فريد، “كانت أزمة المكان مو جديدة وما تخص جيل محدد، مكان للعشاق يصير صعب، إلا عند ناس محددين”. 

أمكنة غير صحية 

حين يرغب جسدان؛ لا يحتاجان سوى غرفة مسوّرة بشكل جيد، ومغلقة، وليس فيها سوى تلك الرغبة، قد يكون إيجاد شريك عمليّة معقدة، إلا أن الأكثر صعوبة بالنسبة لغالبية الشباب في العراق، هو المكان المناسب للحب، فأزمة المكان تلك غالباً ما تلازم الشباب في مقتبل العمر، بالنسبة لزيد (28 عاماً) فإن “إيجاد المكان أكثر صعوبة من الارتباط، والشباب والشابات غالبيتهم يقعون في مشاكل بسبب هذه الأزمة”، ومن جملة تلك المشكلات، أن يضطر بعضهم لممارسة الملامسة الجسدية في الشارع والأمكنة العامة، منهم من يتحيّن فرصة خلو منزل الأهل، ومنها بحسب زيد، “للذهاب للأماكن غير الآمنة وغير الصحية”. 

قد يتصوّر البعض أن تلك الأزمة بسيطة، إلا أنها من جانب ما، من الممكن أن تؤثّر على حياة الأفراد بشكل مباشر، يقول زيد، “تخيل أن تتزوج امرأة لم تلتق بها قبل الزواج، ليست لديكم لحظة خاصة، ليست لديكم خبرة في معرفة رغبة بعض، قد يؤدي إلى ارتباطات رسمية مرتبكة”. 

الكافيهات وشقق الساعات 

من أجل تفادي تلك الأزمة، ثمّة حلول ما تُبتكر لتوسيع فرص اللقاء واللحظات العاطفية والحميمية، منها تصميم بعض الكافيهات والمقاهي على شكل غرف شبه مغلقة، وقد انتشرت على نطاق واسع خصوصاً في بغداد، إلا أنها تُعدّ مجازفة أمنية، فالكثير منها تعرض للتهديد والمضايقة من جهات مجهولة.   

بينما يتعرض بشكل يومي للابتزاز قسم كبير منها، هذا خلاف الإغلاق الرسمي الذي يتم تحت يافطات: “مخالفته للقانون، عدم التزامه بشروط السلامة، غير مرخصة، مشبوهة”، مما يجعل أصحاب الأموال يتراجعون عن الاستثمار في هذا النوع من المقاهي، وقد تراجعت أعدادها بشكل ملحوظ عما هو عليه في السابق. 

ذلك لم يمنع بعض المتمكنين مادياً من الاستثمار في “المكان”، اذ يستأجر أو يشتري من لديه القدرة شقة أو بيتاً، ليؤجره هو الآخر للشباب ممن لديهم “أزمة مكان”، وهذا ما صار يعرف في الأوساط الشبابية “شقة إيجار ساعات”، وهي شقق وبيوت مؤثثة، ومرتبة في وسط بغداد، تؤجر لمدة ساعات، حسب رغبة الزبون.   

يتراوح سعر الساعة فيها من 40 إلى 60 ألف دينار عراقي، غالباً ما تكون تلك الأمكنة آمنة، وهي حل مؤقت يلجأ إليه بعض الشباب ممن لديهم القدرة المالية على دفع ذلك البدل.

عادة تعرض هذه الشقق والبيوت ويُعلن عنها عبر الميديا، وهي تقريباً متوفرة في غالبية المناطق، خلاف ذلك توجد عشرات “الكروبات” في فيسبوك تحت عناوين مختلفة منها: “كروب إيجار ساعات، شقق للإيجار بغداد، شقق للإيجار، شقق للإيجار في بغداد.. الخ”. 

امتنع العديد من مستأجري “الشقق ساعات” عن الحديث حول الأمر، معتبرين أن ما يقومون به مجرد عمل، وأن أي محاولة صحفية أو إعلامية قد تضعهم تحت المجهر، لكن الحساب المزيّف “مام جلا” قال: “هذا حل للأزمة، اهواي ناس يجونا حتى متزوجين وما عدهم مكان بالبيت، يخلصون هنا ساعات حلوة”، ساخرا من العشاق الذين يمارسون لحظاتهم الحميمية عبر الإنترنت، معتبراً أن الأسعار ليست مرتفعة، قياساً بالخدمة المقدمة، مبرراً ذلك بأن إيجار شقق متاحة لهذا الغرض ليس سهلاً، إلا أن الحل الأمثل بحسبه، هو أن تقترب أسعار العقارات من الحد المعقول الذي يسمح للشباب بشراء أماكنهم الخاصة. 

اقرأ أيضاً

“تغليف من الرأس إلى القدم”.. الرقباء والرقيبات في “بيت العيال” 

على الجانب الآخر، يقول أحد مرتادي هذه الشقق، إنّها فخ، “مرة تواعدت مع حبيبتي، وحجزنا لمدة ساعة، بـ40 ألف دينار، وحين وصلنا في الموعد المحدد، وجدنا أن الشقة حجزت من قبل شخص آخر، دفع أكثر مني 10 آلاف دينار”. 

مع ذلك يعتقد الكثير من الشباب، أنه حل يرضي جميع الأطراف، فيما لو مضت العملية كما هو متفق عليه، لكنّ الأمر قد يكون وسيلة للابتزاز أيضاً، أحد زبائن هذه الشقق يقول إن صاحب الشقة اقترح عليه ألا يدفع له مقابل أن يوفر له امرأة!

 المخاطر لا تنتهي، فحين تدخل لمجموعات الفيسبوك التي تجمع المؤجرين بالمستأجرين، ستجد العديد من القصص التي يكتبها ممن وقعوا في مشكلات، هناك من يقول انه تم تصويره وابتزازه. 

الـ “ماكو مكان” والقرارات المصيرية  

تعجّ الحياة العراقية بالمفارقات عن تلك الأزمة، يقول رامي إن صديقه كان لفترة طويلة يبحث عن مكان ليلتقي بحبيبته، وحين حصل على المكان، ذهب بسيارته، ولم يجد أسفل البناية مكاناً لركن سيارته، معلقاً على ذلك، “حتى السيارات ما عدها مكان”. 

مقابل ذلك، تتخذ قرارات مصيرية نتيجة لأزمة المكان، فقد دفع حمادة (45 عاماً)، ابنته البالغة من العمر 18 عاماً إلى الزواج، لأنه كان يسكن داخل غرفة صغيرة في منزل والده، وليس لديه مكان خاص لممارسة الحياة الحميمية مع زوجته، يقول، “صرت جد بسبب أزمة المكان، زوجت بنتي لأنه ما عدنا غرفة لها”، على العكس منه سرمد الذي يتم سؤاله عن سبب زواجه دون حب أو رغبة في زوجته، “والله تزوجت لأنه عدنا غرفة بالبيت، ليش تظل فارغة”. 

حبيبة أحمد تكره السياسة، وتحاول دائماً إبعاده عن كل ما له علاقة بالشأن السياسي. فكرا في إيجاد مكان لقضاء أوقات حلوة، وسط عملية البحث عن مكان، والتفكر، قال لها أحمد، “حبيبتي العراق الشكبره ما بي مترين ابوسج بيهن”، يقول غضبت وقالت، “حتى من نريد نتباوس تفكر بالعراق بيك مرض مو بيدك”، ثم أغلقت الهاتف بوجهه.

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

تبلغ مساحة العراق أكثر من 437 ألف كم²، هذه أول معلومة في درس الجغرافية قُدّمت للتلاميذ في المدارس العراقية، لكنّ هؤلاء الأطفال عندما كبروا؛ اكتشفوا أنّ كل هذه المساحة ليست فيها 50 سم2من أجل قبلة عابرة، وليس في هذه المساحة متران من أجل لحظة حميمية، ليس هناك غرفة 3X4 م2،من أجل خلوة. 

الأزمات السياسية والاقتصادية سبب في عديد من المشكلات اليومية، إلا أنّها قد تطال مفهومنا عن الحب، وتغيّر رؤيتنا تجاه الجسد، الجسد الذي لا يجد مكاناً آمناً، الجسد الذي قد يرفض الحب وينزوي ويشعر باليأس أو يتطرف جرّاء عدم وجود مكان يُمارس فيه نشاطاً طبيعياً. 

تضيّق أزمة السكن الحياةَ على المواطن، ارتفاع أسعار العقارات تجاوزت دخل غالبية الفئات، هناك إحصاءات رسمية عن عدد العراقيين الذين لا يملكون سكناً، أو عدد سكنة العشوائيات، وسكنة البيوت التي لا تصلح لسكن الإنسان. 

الأزمة هذه تضيّق فرص الحب من باب آخر، باب مهمل وهامشي ومسكوت عنه، لا يمكن أن نحصي عدد القبلات التي ضاعت لعدم وجود مكان تنطلق فيه، لا يمكن أن نعد النظرات والملامسات التي ضاعت من عدم توفر غرفة تدور فيها المشاهد، كم هي عدد الأيدي التي بقيت باردة دون اشتباك؛ لأنّ طرفين لا مكان لديهما حتى لهذه اللحظة، كم اللحظات الحميمية التي ضيعتها أزمة السكن في العراق؟  

عن هذا يتحدث الشبان فيما بينهم، الذكور تحديداً أكثر تعبيراً عن الموضوع. بسبب طبيعة المجتمع، همأكثر رغبة في الحديث عنه، يبدأ الأمر من أزمة سكن، ليأخذ أشكالاً مختلفة من القرارات المصيرية التي قد تتخذ تحت هذا الضغط، بعض الأحيان يصبح مادة للسخرية، تاركاً خلفه موجة من الضحك، دون حلول لهذه الأزمة، التي قد تؤثر على النشوء الطبيعي لعديد من الأفراد. 

لماذا الذكور تحديداً؟ الجواب بسيط، لأن معرفة ما يدور في عوالم النساء غير مرئي، ومسكوت عنه. حياة النساء مغلقة في هذا الشأن، خلف جدران غرف النساء تدور الأقوال، والأصوات تصل مشوشة وغير واضحة. 

اقرأ أيضاً

“منو يكدر يشتريها؟”.. المجمّعات السكنية للأغنياء وغاسلي الأموال 

حين تسأل النساء والرجال عن طبيعة هذه الأحاديث، ستجد أن التلعثم والخجل يلف الكثير من النساء، فيما يفتح الرجال أقصى خيالاتهم عن المكان.  

وسائل قمع الرغبات كثيرة، مرة بذريعة اجتماعية وعرفية، ومرة بسبب السلطات المتعددة التي تمارس عليهن، خصوصاً في القرى والأرياف والمدن المدارة قبلياً. 

تعليقاً على كونديرا 

يفتتح ميلان كونديرا “الحياة في مكان آخر”، بالبحث عن سبب نشوء الشاعر، تتساءل الأم عن المكان الذي حبلت فيه بالشاعر، وتطرح لذلك الحدث ثلاثة أمكنة. والد الشاعر أيضاً يحاصره السؤال نفسه، ويرجح أنها حبلت به في شقة صديقه، لتنتهي قناعة الأم أنها “لم تحبل بالشاعر إلا خلال صبيحة صيفية مشمسة في ظل صخرة تنتصب بشكل مثير بين الصخور الأخرى، في واد يقصده سكان براغ للنزهة أيام الآحاد”، معتقدة أن هذا هو المكان لأسباب عديدة. 

كنت للتو قد بدأت بقراءة العمل، حدّثت صديقي عن شعرية هذا المدخل، وإعجابي به، وعن أهمية الرواية، علق بشيء من السخرية: “هنيالهم ما عدهم أزمة مكان!”.

قبلات خيالية هاربة من التسعينيات  

8210208 هذا رقم هاتف المنزل الأرضي، الهاتف الذي يتوافد من أجله العشاق، يتناوب عليه الشبان من أجل سماع كلمات محددة وبسيطة، من الحلم أن تدوم تلك الدقائق، إذ سرعان ما ينقطع الصوت، هاتف واحد كان يكفي لعشرات الحبيبات على ألا يخلطن بين صوت وآخر، هاتف واحد كان كافياً لأن ينتشي سيف وأسماء وضحى وأحمد وخالد وسحر وصادق وبيداء ونوال وسهاد..  

في ذلك الزمن العدمي، زمن نفاد السكّر، زمن شحّت فيه الحياة حتى اقتربت من الصفر، رقم الهاتف ذاك كان يكتب بعناية فائقة، وخط واضح منعاً للالتباس، يدسّ في جيب البناطيل الكالحة، في انتظار فرصة المرور إلى قلب فتاة.

 كان الهاتف شيطان المنزل، تغلق من أجله الأبواب، وتخفت الأصوات، لتبدأ المغازلات الناعمة، في تلك الحوارات المربوطة بحبل الحصار، كانت هذه أكبر فرصة للحصول على لحظة حميمية، زمن كانت القبلة فيه حدثاً، وتحسس قطعة جسد بطرف إصبع إنجازاً لا يمكن نسيانه بسهولة.  

عدا أماكن “بائعات الهوى”، فرصة خلوة حبيبين شبه معدومة بالنسبة للطبقات الفقيرة، وحتى جزء من المتوسطة، فقط الذين يتسلقون سلم الحياة بقوة يمكنهم إيجاد مكان للمواعدة، غالبية الأفراد ليس أمامهم إلا الزواج، فهو المسار الوحيد الذي يجعل للفردين مكاناً خاصاً بهما. 

في ذلك الشح، لجأ جيل كامل لاستخدام الأمكنة العامة سريراً افتراضياً، أصبحت حدائق الزوراء ومدينة الألعاب وحتى بعض المراقد الدينية، غرفة متخيلة لحبيبين، لقاءات تحدث عن بُعد، ووحده الحظ من يجعل تلامس الأجساد ممكناً.  

أحمد (48 عاماً) كانت غرفته الافتراضية هي المستشفى، “مرة تواعدنا آني وحبيبتي بالمستشفى، سوت نفسها متخربطة، ورحت شفتها، انتظرت ساعة حتى أمها تطلع، وطبيت لزمت ايدها”، هذه المجازفة ليست غريبة في تلك السنوات، فأحمد يتذكر مشهداً مألوفاً حتى الآن، “غالبية العشاق في الكلية ليس لهم إلا الطريق من المنزل إلى كلية، يختارون آخر كراسي بالكيا أو الكوستر، بس علمود يلزمون إيدين بعض”. 

اقرأ أيضاً

الحب في مرحلة أولى جامعة: “سال دمي من أجل نظرة واحدة” 

شيء واحد قد تغيّر، قد يبدو الزواج الآن أسهل مما كان في السابق من الناحية الاقتصادية، يقول أحمد عن ذلك: “بالتسعينات ردت اتزوج، بيتنا ما بي مكان، هسة الشاب يقدر يبني غرفة بسهولة مو مثل قبل”. 

عن تلك الأيام يقول فريد (46 عاماً)، إن رحلته من حي طارق إلى مرقد سيد حمد الله، قرب وزارة الداخلية كانت تكلف 150 ديناراً، وإن هذه الرحلة كلها من أجل اللقاء بسماح، التي تأتي مع جدتها للمرقد صباح كل سبت، ومن ذلك جاءت تسمية المرقد بـ”سيد العشاق”، في منتصف التسعينيات، بحسب فريد، “كانت أزمة المكان مو جديدة وما تخص جيل محدد، مكان للعشاق يصير صعب، إلا عند ناس محددين”. 

أمكنة غير صحية 

حين يرغب جسدان؛ لا يحتاجان سوى غرفة مسوّرة بشكل جيد، ومغلقة، وليس فيها سوى تلك الرغبة، قد يكون إيجاد شريك عمليّة معقدة، إلا أن الأكثر صعوبة بالنسبة لغالبية الشباب في العراق، هو المكان المناسب للحب، فأزمة المكان تلك غالباً ما تلازم الشباب في مقتبل العمر، بالنسبة لزيد (28 عاماً) فإن “إيجاد المكان أكثر صعوبة من الارتباط، والشباب والشابات غالبيتهم يقعون في مشاكل بسبب هذه الأزمة”، ومن جملة تلك المشكلات، أن يضطر بعضهم لممارسة الملامسة الجسدية في الشارع والأمكنة العامة، منهم من يتحيّن فرصة خلو منزل الأهل، ومنها بحسب زيد، “للذهاب للأماكن غير الآمنة وغير الصحية”. 

قد يتصوّر البعض أن تلك الأزمة بسيطة، إلا أنها من جانب ما، من الممكن أن تؤثّر على حياة الأفراد بشكل مباشر، يقول زيد، “تخيل أن تتزوج امرأة لم تلتق بها قبل الزواج، ليست لديكم لحظة خاصة، ليست لديكم خبرة في معرفة رغبة بعض، قد يؤدي إلى ارتباطات رسمية مرتبكة”. 

الكافيهات وشقق الساعات 

من أجل تفادي تلك الأزمة، ثمّة حلول ما تُبتكر لتوسيع فرص اللقاء واللحظات العاطفية والحميمية، منها تصميم بعض الكافيهات والمقاهي على شكل غرف شبه مغلقة، وقد انتشرت على نطاق واسع خصوصاً في بغداد، إلا أنها تُعدّ مجازفة أمنية، فالكثير منها تعرض للتهديد والمضايقة من جهات مجهولة.   

بينما يتعرض بشكل يومي للابتزاز قسم كبير منها، هذا خلاف الإغلاق الرسمي الذي يتم تحت يافطات: “مخالفته للقانون، عدم التزامه بشروط السلامة، غير مرخصة، مشبوهة”، مما يجعل أصحاب الأموال يتراجعون عن الاستثمار في هذا النوع من المقاهي، وقد تراجعت أعدادها بشكل ملحوظ عما هو عليه في السابق. 

ذلك لم يمنع بعض المتمكنين مادياً من الاستثمار في “المكان”، اذ يستأجر أو يشتري من لديه القدرة شقة أو بيتاً، ليؤجره هو الآخر للشباب ممن لديهم “أزمة مكان”، وهذا ما صار يعرف في الأوساط الشبابية “شقة إيجار ساعات”، وهي شقق وبيوت مؤثثة، ومرتبة في وسط بغداد، تؤجر لمدة ساعات، حسب رغبة الزبون.   

يتراوح سعر الساعة فيها من 40 إلى 60 ألف دينار عراقي، غالباً ما تكون تلك الأمكنة آمنة، وهي حل مؤقت يلجأ إليه بعض الشباب ممن لديهم القدرة المالية على دفع ذلك البدل.

عادة تعرض هذه الشقق والبيوت ويُعلن عنها عبر الميديا، وهي تقريباً متوفرة في غالبية المناطق، خلاف ذلك توجد عشرات “الكروبات” في فيسبوك تحت عناوين مختلفة منها: “كروب إيجار ساعات، شقق للإيجار بغداد، شقق للإيجار، شقق للإيجار في بغداد.. الخ”. 

امتنع العديد من مستأجري “الشقق ساعات” عن الحديث حول الأمر، معتبرين أن ما يقومون به مجرد عمل، وأن أي محاولة صحفية أو إعلامية قد تضعهم تحت المجهر، لكن الحساب المزيّف “مام جلا” قال: “هذا حل للأزمة، اهواي ناس يجونا حتى متزوجين وما عدهم مكان بالبيت، يخلصون هنا ساعات حلوة”، ساخرا من العشاق الذين يمارسون لحظاتهم الحميمية عبر الإنترنت، معتبراً أن الأسعار ليست مرتفعة، قياساً بالخدمة المقدمة، مبرراً ذلك بأن إيجار شقق متاحة لهذا الغرض ليس سهلاً، إلا أن الحل الأمثل بحسبه، هو أن تقترب أسعار العقارات من الحد المعقول الذي يسمح للشباب بشراء أماكنهم الخاصة. 

اقرأ أيضاً

“تغليف من الرأس إلى القدم”.. الرقباء والرقيبات في “بيت العيال” 

على الجانب الآخر، يقول أحد مرتادي هذه الشقق، إنّها فخ، “مرة تواعدت مع حبيبتي، وحجزنا لمدة ساعة، بـ40 ألف دينار، وحين وصلنا في الموعد المحدد، وجدنا أن الشقة حجزت من قبل شخص آخر، دفع أكثر مني 10 آلاف دينار”. 

مع ذلك يعتقد الكثير من الشباب، أنه حل يرضي جميع الأطراف، فيما لو مضت العملية كما هو متفق عليه، لكنّ الأمر قد يكون وسيلة للابتزاز أيضاً، أحد زبائن هذه الشقق يقول إن صاحب الشقة اقترح عليه ألا يدفع له مقابل أن يوفر له امرأة!

 المخاطر لا تنتهي، فحين تدخل لمجموعات الفيسبوك التي تجمع المؤجرين بالمستأجرين، ستجد العديد من القصص التي يكتبها ممن وقعوا في مشكلات، هناك من يقول انه تم تصويره وابتزازه. 

الـ “ماكو مكان” والقرارات المصيرية  

تعجّ الحياة العراقية بالمفارقات عن تلك الأزمة، يقول رامي إن صديقه كان لفترة طويلة يبحث عن مكان ليلتقي بحبيبته، وحين حصل على المكان، ذهب بسيارته، ولم يجد أسفل البناية مكاناً لركن سيارته، معلقاً على ذلك، “حتى السيارات ما عدها مكان”. 

مقابل ذلك، تتخذ قرارات مصيرية نتيجة لأزمة المكان، فقد دفع حمادة (45 عاماً)، ابنته البالغة من العمر 18 عاماً إلى الزواج، لأنه كان يسكن داخل غرفة صغيرة في منزل والده، وليس لديه مكان خاص لممارسة الحياة الحميمية مع زوجته، يقول، “صرت جد بسبب أزمة المكان، زوجت بنتي لأنه ما عدنا غرفة لها”، على العكس منه سرمد الذي يتم سؤاله عن سبب زواجه دون حب أو رغبة في زوجته، “والله تزوجت لأنه عدنا غرفة بالبيت، ليش تظل فارغة”. 

حبيبة أحمد تكره السياسة، وتحاول دائماً إبعاده عن كل ما له علاقة بالشأن السياسي. فكرا في إيجاد مكان لقضاء أوقات حلوة، وسط عملية البحث عن مكان، والتفكر، قال لها أحمد، “حبيبتي العراق الشكبره ما بي مترين ابوسج بيهن”، يقول غضبت وقالت، “حتى من نريد نتباوس تفكر بالعراق بيك مرض مو بيدك”، ثم أغلقت الهاتف بوجهه.