"همزين ابنج طالع على أبوه": كيف يتحوّل لون بشرتنا من هويّة إلى أداة تنمر؟ 

سجى هاشم

19 أيلول 2024

كنتُ في عامي العاشر عندما سمعت لأول مرة إحدى الفتيات تقول ببراءة إن لوني غير جميل، أو بتعبيرها "محلو". راحت تسألني إن كنت أستحمُّ يومياً، لأن بشرتي بدت داكنة لها. لم أفهم في ذلك الوقت ماذا يعني أن تكون الفتاة بيضاء أم سمراء أم "سودة وزركة".. كيف يتحوّل لون بشرتنا من هويّة إلى أداة تنمُّر؟

في سيارة الأجرة المتجّهة إلى العمل، يعلو صوت فيروز من المذياع وهي تنصح إحدى المحبوبات: 

“ردي منديلك ردي، 

بيضا والشمس حده 

بكرا بيجي محبوبك  

ويلائيكي مسودي” 

نصحُ فيروز للحبيبة بردّ المنديل الذي تستخدمه للحماية من الشمس إلى تغطية وجهها لأنها “بيضا” كي لا تكتسب لون الشمس، فيجدها المحبوب “سوداء” أو “مسودي”، أعاد إلى ذهني كلمات المدح التي عجَّت بها طفولتنا؛ تلك التي كانت ترفع جمال المرأة البيضاء ورقتها إلى مصاف الآلهة، وتجعلها رمزاً للرقة والنقاء، حتى بات الجميع يظن بأن لون البشرة الأبيض هو معيار الجمال، وكأن ما دونه هو مجرد ظلال باهتة، وأشخاص لا نصيب لهم ولهن من الجمال.. وحتى قد تكون نحساً لمن يمتلكها! 

الحل السحري  

كنتُ في عامي العاشر عندما سمعت لأول مرة إحدى الفتيات تقول ببراءة الطفولة إن لوني غير جميل، أو بتعبيرها “محلو”. 

راحت تسألني إن كنت أستحمّ يومياً، لأن بشرتي بدت داكنة لها. لم أفهم في ذلك الوقت ماذا يعني أن تكون الفتاة بيضاء أم سمراء أم “سودة وزركة”، كما أصبحت أسمعها مع مرور الأعوام. 

في الحي الذي كنت أعيش فيه، دأبت النساء -رغم عدم تصريحهن بالأمر علانية- على امتداح جمال بعض بنات الحي الصغيرات اللاعبات أمام بيوتهن، فيما تجاهلن غيرهن في إشارة غير معلنة إلى أنهن لا ينتمين إلى المقياس السري للجمال الذي تداوله الجميع بصمت.  

اقرأ أيضاً

النباتيون في العراق.. العيش مع “التنمر” الاجتماعي و”المنيو الفقير”

في لحظة بريئة، همستْ لي صديقتي سهاد -أجمل فتيات الحي “البيضاء”- أثناء لعبنا “التوكي” بأن السرَّ في لون بشرتها الناصع هو أنها تغسل وجهها عشرين مرة بالصابون يومياً. أخبرتني بأنني إن فعلت ذلك سأصبح بيضاء مثلها، وربما حتى أكثر بياضاً. 

فتحت عينيَّ على اتساعهما محاولة استيعاب الأمر، ثم ركضت بسرعة إلى المنزل لكي أجرب الوصفة السحرية للجمال، وبعد إكمال عدد الغسلات العشرين، لم أحصل سوى على عينين حمراوين وعُطاس مستمر بسبب كمية الصابون الذي عشّش في أنفي لأيام، بينما كانت ضحكات الفتيات ترتفع من سذاجتي حتى استمرت هذه الحكاية “المضحكة” تتردّد لسنوات عدة. 

مجرّد مزاح  

كثير من الفرضيات تحدّثت عن الفوارق الجسمانية التي تمتع  بها أبناء حضارات العراق ومن ضمنها لون البشرة، فيُعتقد أن السومريين والأكديين -الذين كانوا يستقرون في مناطق الوسط والجنوب من السهل الرسوبي العراقي- كانوا يتمتعون بلون بشرة متوسط (أي الأسمر أو القمحي)، وهذا قد يكون مرتبطاً ارتباطاً مباشراً بالمناخ الحار وتأثير أشعة الشمس على صبغة البشرة التي تحوّلت إلى لون داكن،  أما الآشوريون والكلدان فقد يرجح أن لون بشرتهم فاتح (أبيض) نتيجة للجو البارد في مناطق تواجدهم شمال العراق. بيد أن هذه التقسيمات بالألوان بين المناطق لم تستمر طويلاً لتمتزج وتتداخل مع موجات الهجرة من الجزيرة العربية والشام وإفريقيا، والاحتلالات من أقصى آسيا وأوروبا، وما تبعها من استقرار بعض هذه الأقوام في البلد وامتزاجهم بالعراقيين، وهو ما حوّل المجتمع إلى باليت ألوان متنوّع. 

ولكن بالرغم من التنوع لم يستطع الأفراد ان يتخلصوا من لوثة التمييز، حيث كانت عقدة اللون الأبيض متجذرة في المجتمع، عصية على الاستئصال أو حتى على تخفيف وطأتها. 

زمن الحصار، في التسعينيات، ولقلة نوافذ المعرفة والاطلاع لم تنتشر مفردة “تنمر”، على الرغم من حضور الفعل وشيوعه في المجتمع عبر ألقاب اتسمت بالتمييز والتنمر بين الأصدقاء في الشارع، التلاميذ في المدارس، وحتى من الأهل؛ ألقاب كلها صنفت على أنه مزاح و”شقى”. 

فهل كان مزاحاً فعلاً؟ وهل كل من “يحظى” بأحد هذه الألقاب يجتاز أو يشفى من شعور الانتقاص والتمييز ضده، الذي يرافقه حتى بعد مرور سنوات عدة؟ 

الأهل هم الأساس 

يذكر معهد الإحصاء التابع لليونسكو، المعنيّ ببيانات التنمية المستدامة في مجال التعليم، أن حوالي 250 مليون طفل يتعرضون للتنمّر حول العالم. أي أن ما يعادل نحو 30 بالمئة من الأطفال والمراهقين يتعرضون للتنمر في المدارس مرة شهرياً، بنحو 32 بالمئة بين البنين و28 بين البنات

بدأتُ باختبار هذا السلوك المتكرر والمؤذي في سن الثالثة عشرة، في مرحلة تبدأ الفتيات فيها بالازدهار واكتشاف وإظهار جمالهن بشكل “غير ناضج”. 

هكذا بدأت بعض الفتيات بتجربة منتجات التبييض “توب شيرلي” التي شاع استخدامها آنذاك، حيث حرصت الأمهات على أن تضعه بناتهن يومياً، في محاولة منهن إلى إيصال بشرتهن إلى “درجة لونية” تضمن قبولهن في المجتمع، وربما فرصة للزواج لاحقاً، أو على الأقل لتجنب سخرية وتهامس الآخرين ضد لون بشرتهن.  

في تلك المرحلة وقعت أنا في حفرة تنمر وأحسست بشعوره لأول مرة، فلم أسلم من تهامس المراهقات حول لون بشرتي، وتعالت بعض الأصوات حتى قالت لي إحداهن “انت زركة وعبدة بعد ما نمشي وياج”؛ والعبد/ة هنا هي إشارة تمييزية عنصرية يستخدمها البعض -إلى يومنا هذا- ضد ذوي البشرة السمراء في العراق أو ما باتوا يعرفون بالإفروعراقيين والذين يعيش أغلبهم في البصرة جنوب العراق، ويعانون منذ عقود من تمييز مجتمعي وحكومي  كبير ضدهم بسبب لون بشرتهم، فلا يُعيّنون في مناصب عليا وترفض العائلات التزويج لهم أو منهم ويصعب على أغلب أطفالهم إكمال الدراسة بسبب التنمر الذي يعانونه ويمرون به خلال أعوامهم الدراسية. 

كانت “عبدة” كلمةً جديدةً على مسمعي. 

كلمة تناقلتها عائلة البنت ونقلتها لها لتوجهها لي ولأخريات مثلي كنوع من الإهانة. لم أدرك معناها في وقتها لكن كان إحساس التعرض للإقصاء فقط لكوني “مختلفة” بلون بشرتي هو ما جعلني أعجز عن الرد، وكأن حجراً كبيراً حشر في حلقي، أرغمني على الصمت وأسال دموعي فقط. 

مع مرور الأيام، أضيفت كلمات جديدة لوصف الألوان والملامح “غير البيضاء”.  

لم تخلُ أي جَمعَة للأقارب وبنات العائلة، وخصوصاً بحضور قريباتي اللواتي ورثن بشرة بيضاء ناصعة من أمهن وعيون ملونة من أبيهن المنحدر من جنوبي العراق، أسمر اللون بعيون خضراء ساطعة، كما يتميز كثر من أهل الجنوب، لم تخل من كلمات النقد والتنمر ضد مَن هُن لسن “مثلهن”، فكانوا يرددون كلمة “الجلحة” بدلاً من اسمي، كمزاح يعتبرن إياه عادياً ولا إساءة فيه سوى الاستدلال على لوني المختلف. 

وقعُ الكلمة عليّ كان كبيراً، حيث كنت أصاب بالإحراج والخجل، إلا أني لم أجرؤ على الإجابة ولو لمرة، لأخبرهن بالشروخ التي تصنعها كلماتهن والندوب التي تتركها في شخصيّتي. 

“الخبطة” هي الحل  

مع بلوغي وخروجي إلى العالم من أجل التعليم، خلقت كلمات التنمر والتجريح بداخلي شعوراً لا إرادياً بالاستفزاز، فوجدت نفسي على مدى سنوات أجلس في مقعد الدفاع عن النفس بشكل قد يصبح حاداً، وخلقت مني نسخة جديدة تختلف عن شخصيتي الحقيقيّة. كانت ردودي أقوى، واستبدلت التلعثم بالرد السريع، وحرقة الحلق إلى تصدٍّ ثابت، يتناسب مع الكلمات التي أسمعها. أصبحت أردّ أي مجاملة أو تلميح للون بشرتي للجميع بأن لوني “سومري” بلون الآلهة، فهل رأيتم آلهة تغيّر لونها من أجل البشر”؟ 

اقرأ أيضاً

أبٌ جديد 

لم يكن الأمر بهذه الحدة في أيام الجامعة، او ربما حدتي في الردود وجديتي في التعامل مع الجميع لم تجعلني هدفاً سهلاً للتنمّر مثلما كنت في سن أصغر، ولكن كانت تأتي الكلمات على شكل نصائح “جمالية” كما تنصح فيروز الفتاة “بردّ المنديل” . 

بعض الزميلات كُن ينصحنني بتجربة أحد منتجات التبيض، أو حتى أحد المراهم الطبية للجلد، التي لها “تأثير سحري” على لون البشرة، وبتجربة وضع مساحيق تجميل لم أكن استخدمها حينها، وأخذ بعضهن يبذلن جهداً في تعليمي حيلاً تجعل من بشرتي أفتح لوناً. 

حتى نصحتني إحدى خالاتي السمراوات، باعتباري أعيش مرحلة جديدة من حياتي كطالبة جامعية، ونصيحتها كانت أن اشتري “خبطة” من السوق الشعبي كانت مشهورة وقتها، وهي عبارة عن خليط من المراهم الجلدية الطبية التي تستخدم للأمراض الجلدية، ويتم خلطها من قبل أصحاب بسطات ومحال أدوات التجميل كمنتج سحري لتغيير لون البشرة، بغض النظر عن الضرر الذي تلحقه بالجلد. 

بحسب تعبير خالتي “كان لخبطة المراهم والدهون أن تجعلني (أضوي) من البياض”، وكانت تقسم أن وجه جارتها أصبح مثل “الكمر” لأنها استمرت على وضع الخبطة على وجهها لمدة شهر، ونصحتني بوضعها على وجهي ويدي ورقبتي أيضاً لكيلا يميز أحد اختلاف الألوان فيعرف أن سرّ “لوني الجديد” هو الخبطة! 

بيد أن الأمر لم يخلُ من المجاملة والمديح أيضاً للسمار. 

أول مرة اسمع فيها مديحاً للون بشرتي كان من قبل زميلة عملت معها في تجربتي الأولى في التلفزيون. كانت تذكرني باستمرار بأنها تتمنى أن تمتلك لون بشرة مشابهاً، حتى لقبتني “بقطعة الكاكاو”. 

كما كان لون بشرتي سبباً لاختياري من بين المتقدمات الأُخريات للعمل/ في التلفزيون، بحسب ما أبلغني مديري بعد سنوات من تركي العمل. بحسب قوله، كان يرى أن لون بشرتي مميز وقريب من لون الناس العاديين في عموم البلد، ولأن الفضائيات العراقية في وقتها لم توظف أي مراسل أو مراسلة “سمر”.  

لونك قد يجعلك مُجرماً 

في الوقت الذي بدأت بالرضى وبالاقتناع أن أدواتي للدفاع عن لوني “الأسمر” تنمو وتترسخ، وبالتالي بدأت كلمات التنمر والتجريح تتلاشى شيئاً فشيئاً، لم أتوقع أن شبح التنمُّر سيقف حاجزاً بيني وبين الارتباط والزواج. 

فحين اعتقدت أن الحب ممكن أن يتغلب على مصاعب تواجه اثنين يودان الاقتران ببعضهم بكامل وعيهم واختيارهم المسؤول، وقفت عائلة زوجي كالجدار بيننا. وضعوني على “مسطرة الألوان” كالتي يستخدمها الخياط حين يختار لون الأقمشة التي تتناسب وتتناسق مع بعضها ويستبعد التي يراها غير مناسبة ومتباعدة من وجه نظره؛ كان لوني دون مقاييس الجمال التي يرونها مناسبة لابنهم، وغير لائق بأن يكون أحد جزءاً من عائلتهم بـ”هذا اللون”، الذين خشوا أن يرثه أحد أحفادهم مستقبلاً.. كما لو أنني أحمل في بشرتي وباءً يهدد نقاءهم، وكأنهم يدرؤون شراً مجهولاً عن عائلتهم! 

وعلى الرغم من أن الزواج قد تمّ، إلا أن تحفظهم على لوني استمر لغاية اللحظة التي رأوا فيها حفيدهم الأول، الذي ورث لون بشرة أبيه “الأبيض”، فباتت عبارات المدح للطفل كلها حول لون بشرته “فدوة يخبل أبيضاني جنه ابوه، نسخة”، شاكرين الخالق على أنه طلع مثل أبيه، في إشارة واضحة إلى أن “لعنة” لون بشرتي لم تطل نسلهم هذه المرة، وكأني اجتزت الاختبار الأول لهم. 

ولكن يتردد في ذهني دائماً ماذا لو لم أنجح في الاختبار القادم؟ أو حين يطال عائلتي التنمُّر الممتد إلى خارج المنزل؟  

هناك، مرةً، حيث كنت أحمل ابني الذي لم يتجاوز عمره سبعة أشهر في أحد الأسواق، اقتربت منا سيدة حاولت أن تُلاطف الطفل فأثنت على رقته وبراءته ثم أضافت قائلة: 

“ابنج شكد حلو همزين طالع على أبوه”، في إشارة واضحة إلى اختلاف لونَي بشرتنا أنا ووالده. 

اقرأ أيضاً

أوجاع الطفل العراقي: حكوميّ.. أهليّ.. خارجيّ و”سكوة” 

في بعض الحالات لونك فقط قد يجعلك تدخل في تصنيف لم يخطر لك على بال، قد تصل للأجرام، فيعتقد البعض أن لون البشرة هو محدد للأخلاق، وقد كان الإحساس غريباً في إحدى المرات حين أخذ بائع في أحد محال بيع ملابس الأطفال البحث عن مكان “أم الولد” الذي كان منزعجاً ويبكي، ولكن عندما أخبرته انه ابني، لم يصدقني وأخذ ينظر لي وللطفل في نظرة يمكن أن تسمع ترددها بأن ما أقوله هو كذب وأن الطفل لا يشبهني. واستمر البائع بمراقبة كل تحركاتي وهو منهمك في البحث عن الأم، معتقداً انني أحاول اختطاف الطفل، وإثبات انه ابني، ولم يهدئ ويبتعد إلا حين ناداني الطفل “ماما” راكضاً نحو حضني. 

أمنية أخيرة  

قد أكون استطعت من فهم ذاتي واختلاف لون بشرتي والذي بدوره لعب دوراً مهماً في تشكيل شخصيتي وتصالحت مع فكرة الاختلاف التي امتلكها، من أن أصير جدار الصد الأول ضد أي تنمر قد يواجهه ابني، ولكن هل يمكنني أن أحلم بأن يحظى هو بمستقبل يستطيع فيه أن يختار شريكة حياته دون أن يخشى التنمر عليها أو على أبنائه؟ لا أعلم، ولكن اتأمل أن يكون هو وجيله أحراراً في اختلافاتهم متشابهين في حريتهم.  

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

في سيارة الأجرة المتجّهة إلى العمل، يعلو صوت فيروز من المذياع وهي تنصح إحدى المحبوبات: 

“ردي منديلك ردي، 

بيضا والشمس حده 

بكرا بيجي محبوبك  

ويلائيكي مسودي” 

نصحُ فيروز للحبيبة بردّ المنديل الذي تستخدمه للحماية من الشمس إلى تغطية وجهها لأنها “بيضا” كي لا تكتسب لون الشمس، فيجدها المحبوب “سوداء” أو “مسودي”، أعاد إلى ذهني كلمات المدح التي عجَّت بها طفولتنا؛ تلك التي كانت ترفع جمال المرأة البيضاء ورقتها إلى مصاف الآلهة، وتجعلها رمزاً للرقة والنقاء، حتى بات الجميع يظن بأن لون البشرة الأبيض هو معيار الجمال، وكأن ما دونه هو مجرد ظلال باهتة، وأشخاص لا نصيب لهم ولهن من الجمال.. وحتى قد تكون نحساً لمن يمتلكها! 

الحل السحري  

كنتُ في عامي العاشر عندما سمعت لأول مرة إحدى الفتيات تقول ببراءة الطفولة إن لوني غير جميل، أو بتعبيرها “محلو”. 

راحت تسألني إن كنت أستحمّ يومياً، لأن بشرتي بدت داكنة لها. لم أفهم في ذلك الوقت ماذا يعني أن تكون الفتاة بيضاء أم سمراء أم “سودة وزركة”، كما أصبحت أسمعها مع مرور الأعوام. 

في الحي الذي كنت أعيش فيه، دأبت النساء -رغم عدم تصريحهن بالأمر علانية- على امتداح جمال بعض بنات الحي الصغيرات اللاعبات أمام بيوتهن، فيما تجاهلن غيرهن في إشارة غير معلنة إلى أنهن لا ينتمين إلى المقياس السري للجمال الذي تداوله الجميع بصمت.  

اقرأ أيضاً

النباتيون في العراق.. العيش مع “التنمر” الاجتماعي و”المنيو الفقير”

في لحظة بريئة، همستْ لي صديقتي سهاد -أجمل فتيات الحي “البيضاء”- أثناء لعبنا “التوكي” بأن السرَّ في لون بشرتها الناصع هو أنها تغسل وجهها عشرين مرة بالصابون يومياً. أخبرتني بأنني إن فعلت ذلك سأصبح بيضاء مثلها، وربما حتى أكثر بياضاً. 

فتحت عينيَّ على اتساعهما محاولة استيعاب الأمر، ثم ركضت بسرعة إلى المنزل لكي أجرب الوصفة السحرية للجمال، وبعد إكمال عدد الغسلات العشرين، لم أحصل سوى على عينين حمراوين وعُطاس مستمر بسبب كمية الصابون الذي عشّش في أنفي لأيام، بينما كانت ضحكات الفتيات ترتفع من سذاجتي حتى استمرت هذه الحكاية “المضحكة” تتردّد لسنوات عدة. 

مجرّد مزاح  

كثير من الفرضيات تحدّثت عن الفوارق الجسمانية التي تمتع  بها أبناء حضارات العراق ومن ضمنها لون البشرة، فيُعتقد أن السومريين والأكديين -الذين كانوا يستقرون في مناطق الوسط والجنوب من السهل الرسوبي العراقي- كانوا يتمتعون بلون بشرة متوسط (أي الأسمر أو القمحي)، وهذا قد يكون مرتبطاً ارتباطاً مباشراً بالمناخ الحار وتأثير أشعة الشمس على صبغة البشرة التي تحوّلت إلى لون داكن،  أما الآشوريون والكلدان فقد يرجح أن لون بشرتهم فاتح (أبيض) نتيجة للجو البارد في مناطق تواجدهم شمال العراق. بيد أن هذه التقسيمات بالألوان بين المناطق لم تستمر طويلاً لتمتزج وتتداخل مع موجات الهجرة من الجزيرة العربية والشام وإفريقيا، والاحتلالات من أقصى آسيا وأوروبا، وما تبعها من استقرار بعض هذه الأقوام في البلد وامتزاجهم بالعراقيين، وهو ما حوّل المجتمع إلى باليت ألوان متنوّع. 

ولكن بالرغم من التنوع لم يستطع الأفراد ان يتخلصوا من لوثة التمييز، حيث كانت عقدة اللون الأبيض متجذرة في المجتمع، عصية على الاستئصال أو حتى على تخفيف وطأتها. 

زمن الحصار، في التسعينيات، ولقلة نوافذ المعرفة والاطلاع لم تنتشر مفردة “تنمر”، على الرغم من حضور الفعل وشيوعه في المجتمع عبر ألقاب اتسمت بالتمييز والتنمر بين الأصدقاء في الشارع، التلاميذ في المدارس، وحتى من الأهل؛ ألقاب كلها صنفت على أنه مزاح و”شقى”. 

فهل كان مزاحاً فعلاً؟ وهل كل من “يحظى” بأحد هذه الألقاب يجتاز أو يشفى من شعور الانتقاص والتمييز ضده، الذي يرافقه حتى بعد مرور سنوات عدة؟ 

الأهل هم الأساس 

يذكر معهد الإحصاء التابع لليونسكو، المعنيّ ببيانات التنمية المستدامة في مجال التعليم، أن حوالي 250 مليون طفل يتعرضون للتنمّر حول العالم. أي أن ما يعادل نحو 30 بالمئة من الأطفال والمراهقين يتعرضون للتنمر في المدارس مرة شهرياً، بنحو 32 بالمئة بين البنين و28 بين البنات

بدأتُ باختبار هذا السلوك المتكرر والمؤذي في سن الثالثة عشرة، في مرحلة تبدأ الفتيات فيها بالازدهار واكتشاف وإظهار جمالهن بشكل “غير ناضج”. 

هكذا بدأت بعض الفتيات بتجربة منتجات التبييض “توب شيرلي” التي شاع استخدامها آنذاك، حيث حرصت الأمهات على أن تضعه بناتهن يومياً، في محاولة منهن إلى إيصال بشرتهن إلى “درجة لونية” تضمن قبولهن في المجتمع، وربما فرصة للزواج لاحقاً، أو على الأقل لتجنب سخرية وتهامس الآخرين ضد لون بشرتهن.  

في تلك المرحلة وقعت أنا في حفرة تنمر وأحسست بشعوره لأول مرة، فلم أسلم من تهامس المراهقات حول لون بشرتي، وتعالت بعض الأصوات حتى قالت لي إحداهن “انت زركة وعبدة بعد ما نمشي وياج”؛ والعبد/ة هنا هي إشارة تمييزية عنصرية يستخدمها البعض -إلى يومنا هذا- ضد ذوي البشرة السمراء في العراق أو ما باتوا يعرفون بالإفروعراقيين والذين يعيش أغلبهم في البصرة جنوب العراق، ويعانون منذ عقود من تمييز مجتمعي وحكومي  كبير ضدهم بسبب لون بشرتهم، فلا يُعيّنون في مناصب عليا وترفض العائلات التزويج لهم أو منهم ويصعب على أغلب أطفالهم إكمال الدراسة بسبب التنمر الذي يعانونه ويمرون به خلال أعوامهم الدراسية. 

كانت “عبدة” كلمةً جديدةً على مسمعي. 

كلمة تناقلتها عائلة البنت ونقلتها لها لتوجهها لي ولأخريات مثلي كنوع من الإهانة. لم أدرك معناها في وقتها لكن كان إحساس التعرض للإقصاء فقط لكوني “مختلفة” بلون بشرتي هو ما جعلني أعجز عن الرد، وكأن حجراً كبيراً حشر في حلقي، أرغمني على الصمت وأسال دموعي فقط. 

مع مرور الأيام، أضيفت كلمات جديدة لوصف الألوان والملامح “غير البيضاء”.  

لم تخلُ أي جَمعَة للأقارب وبنات العائلة، وخصوصاً بحضور قريباتي اللواتي ورثن بشرة بيضاء ناصعة من أمهن وعيون ملونة من أبيهن المنحدر من جنوبي العراق، أسمر اللون بعيون خضراء ساطعة، كما يتميز كثر من أهل الجنوب، لم تخل من كلمات النقد والتنمر ضد مَن هُن لسن “مثلهن”، فكانوا يرددون كلمة “الجلحة” بدلاً من اسمي، كمزاح يعتبرن إياه عادياً ولا إساءة فيه سوى الاستدلال على لوني المختلف. 

وقعُ الكلمة عليّ كان كبيراً، حيث كنت أصاب بالإحراج والخجل، إلا أني لم أجرؤ على الإجابة ولو لمرة، لأخبرهن بالشروخ التي تصنعها كلماتهن والندوب التي تتركها في شخصيّتي. 

“الخبطة” هي الحل  

مع بلوغي وخروجي إلى العالم من أجل التعليم، خلقت كلمات التنمر والتجريح بداخلي شعوراً لا إرادياً بالاستفزاز، فوجدت نفسي على مدى سنوات أجلس في مقعد الدفاع عن النفس بشكل قد يصبح حاداً، وخلقت مني نسخة جديدة تختلف عن شخصيتي الحقيقيّة. كانت ردودي أقوى، واستبدلت التلعثم بالرد السريع، وحرقة الحلق إلى تصدٍّ ثابت، يتناسب مع الكلمات التي أسمعها. أصبحت أردّ أي مجاملة أو تلميح للون بشرتي للجميع بأن لوني “سومري” بلون الآلهة، فهل رأيتم آلهة تغيّر لونها من أجل البشر”؟ 

اقرأ أيضاً

أبٌ جديد 

لم يكن الأمر بهذه الحدة في أيام الجامعة، او ربما حدتي في الردود وجديتي في التعامل مع الجميع لم تجعلني هدفاً سهلاً للتنمّر مثلما كنت في سن أصغر، ولكن كانت تأتي الكلمات على شكل نصائح “جمالية” كما تنصح فيروز الفتاة “بردّ المنديل” . 

بعض الزميلات كُن ينصحنني بتجربة أحد منتجات التبيض، أو حتى أحد المراهم الطبية للجلد، التي لها “تأثير سحري” على لون البشرة، وبتجربة وضع مساحيق تجميل لم أكن استخدمها حينها، وأخذ بعضهن يبذلن جهداً في تعليمي حيلاً تجعل من بشرتي أفتح لوناً. 

حتى نصحتني إحدى خالاتي السمراوات، باعتباري أعيش مرحلة جديدة من حياتي كطالبة جامعية، ونصيحتها كانت أن اشتري “خبطة” من السوق الشعبي كانت مشهورة وقتها، وهي عبارة عن خليط من المراهم الجلدية الطبية التي تستخدم للأمراض الجلدية، ويتم خلطها من قبل أصحاب بسطات ومحال أدوات التجميل كمنتج سحري لتغيير لون البشرة، بغض النظر عن الضرر الذي تلحقه بالجلد. 

بحسب تعبير خالتي “كان لخبطة المراهم والدهون أن تجعلني (أضوي) من البياض”، وكانت تقسم أن وجه جارتها أصبح مثل “الكمر” لأنها استمرت على وضع الخبطة على وجهها لمدة شهر، ونصحتني بوضعها على وجهي ويدي ورقبتي أيضاً لكيلا يميز أحد اختلاف الألوان فيعرف أن سرّ “لوني الجديد” هو الخبطة! 

بيد أن الأمر لم يخلُ من المجاملة والمديح أيضاً للسمار. 

أول مرة اسمع فيها مديحاً للون بشرتي كان من قبل زميلة عملت معها في تجربتي الأولى في التلفزيون. كانت تذكرني باستمرار بأنها تتمنى أن تمتلك لون بشرة مشابهاً، حتى لقبتني “بقطعة الكاكاو”. 

كما كان لون بشرتي سبباً لاختياري من بين المتقدمات الأُخريات للعمل/ في التلفزيون، بحسب ما أبلغني مديري بعد سنوات من تركي العمل. بحسب قوله، كان يرى أن لون بشرتي مميز وقريب من لون الناس العاديين في عموم البلد، ولأن الفضائيات العراقية في وقتها لم توظف أي مراسل أو مراسلة “سمر”.  

لونك قد يجعلك مُجرماً 

في الوقت الذي بدأت بالرضى وبالاقتناع أن أدواتي للدفاع عن لوني “الأسمر” تنمو وتترسخ، وبالتالي بدأت كلمات التنمر والتجريح تتلاشى شيئاً فشيئاً، لم أتوقع أن شبح التنمُّر سيقف حاجزاً بيني وبين الارتباط والزواج. 

فحين اعتقدت أن الحب ممكن أن يتغلب على مصاعب تواجه اثنين يودان الاقتران ببعضهم بكامل وعيهم واختيارهم المسؤول، وقفت عائلة زوجي كالجدار بيننا. وضعوني على “مسطرة الألوان” كالتي يستخدمها الخياط حين يختار لون الأقمشة التي تتناسب وتتناسق مع بعضها ويستبعد التي يراها غير مناسبة ومتباعدة من وجه نظره؛ كان لوني دون مقاييس الجمال التي يرونها مناسبة لابنهم، وغير لائق بأن يكون أحد جزءاً من عائلتهم بـ”هذا اللون”، الذين خشوا أن يرثه أحد أحفادهم مستقبلاً.. كما لو أنني أحمل في بشرتي وباءً يهدد نقاءهم، وكأنهم يدرؤون شراً مجهولاً عن عائلتهم! 

وعلى الرغم من أن الزواج قد تمّ، إلا أن تحفظهم على لوني استمر لغاية اللحظة التي رأوا فيها حفيدهم الأول، الذي ورث لون بشرة أبيه “الأبيض”، فباتت عبارات المدح للطفل كلها حول لون بشرته “فدوة يخبل أبيضاني جنه ابوه، نسخة”، شاكرين الخالق على أنه طلع مثل أبيه، في إشارة واضحة إلى أن “لعنة” لون بشرتي لم تطل نسلهم هذه المرة، وكأني اجتزت الاختبار الأول لهم. 

ولكن يتردد في ذهني دائماً ماذا لو لم أنجح في الاختبار القادم؟ أو حين يطال عائلتي التنمُّر الممتد إلى خارج المنزل؟  

هناك، مرةً، حيث كنت أحمل ابني الذي لم يتجاوز عمره سبعة أشهر في أحد الأسواق، اقتربت منا سيدة حاولت أن تُلاطف الطفل فأثنت على رقته وبراءته ثم أضافت قائلة: 

“ابنج شكد حلو همزين طالع على أبوه”، في إشارة واضحة إلى اختلاف لونَي بشرتنا أنا ووالده. 

اقرأ أيضاً

أوجاع الطفل العراقي: حكوميّ.. أهليّ.. خارجيّ و”سكوة” 

في بعض الحالات لونك فقط قد يجعلك تدخل في تصنيف لم يخطر لك على بال، قد تصل للأجرام، فيعتقد البعض أن لون البشرة هو محدد للأخلاق، وقد كان الإحساس غريباً في إحدى المرات حين أخذ بائع في أحد محال بيع ملابس الأطفال البحث عن مكان “أم الولد” الذي كان منزعجاً ويبكي، ولكن عندما أخبرته انه ابني، لم يصدقني وأخذ ينظر لي وللطفل في نظرة يمكن أن تسمع ترددها بأن ما أقوله هو كذب وأن الطفل لا يشبهني. واستمر البائع بمراقبة كل تحركاتي وهو منهمك في البحث عن الأم، معتقداً انني أحاول اختطاف الطفل، وإثبات انه ابني، ولم يهدئ ويبتعد إلا حين ناداني الطفل “ماما” راكضاً نحو حضني. 

أمنية أخيرة  

قد أكون استطعت من فهم ذاتي واختلاف لون بشرتي والذي بدوره لعب دوراً مهماً في تشكيل شخصيتي وتصالحت مع فكرة الاختلاف التي امتلكها، من أن أصير جدار الصد الأول ضد أي تنمر قد يواجهه ابني، ولكن هل يمكنني أن أحلم بأن يحظى هو بمستقبل يستطيع فيه أن يختار شريكة حياته دون أن يخشى التنمر عليها أو على أبنائه؟ لا أعلم، ولكن اتأمل أن يكون هو وجيله أحراراً في اختلافاتهم متشابهين في حريتهم.