الوصفة السرّية للرد على متحرش 

ماري   بُرهان

14 أيلول 2024

"اي وضعية تفضلين"، "يا فلم تحبّين"، "حسيت ترتاحين"، "المسألة طبيعية"، "دزيتها بالغلط".. ستخبرين أحدهم أنكِ تعرّضتِ لتحرش إلكتروني، ومثل هذه الجمل البشعة ستكون أدلة، ولكن سيقولون "يمعودة حظريه"، ولكن ليس عليك الاكتفاء بالحظر. الوصفة السرية للرد على مُتحرّش..

لسنواتٍ عديدة ظننتُ أنني من ذوات الحظ الجيد، إذ لم تطل يد متحرش جسدي، كغالبية صديقاتي وقريباتي، أما اللفظي فأصبح من مُسلَّمَات الحياة اليومية، نتجرّعه مع أصوات الباعة الجوالة في الشوارع، ونوهم آذاننا ألا تصغي السمع فهي “مخطئة”. 

لكن ماذا عن الفضاء الإلكتروني؟ كيف نقنع أعيننا أن تغض الطرف عن مشاهد التحرش الإلكتروني، من “أنت حلوة” و”صوتج يشتت أكبر واحد”، إلى “شنو وضعيتج المفضلة”، وليس انتهاءً بصورة “عضو منتصب”، لأن التحرش قصة لا تنتهي. 

“إلا اكصلكياه”  

كانت الساعة تشير إلى الثانية صباحاً، حين عرض أحد الزملاء من عملي السابق، تعاوناً جديداً.  ترددتُ بتوبيخه عن الساعة المتأخرة كون الجميع بعد رمضان يستمر بالعمل لساعات متأخرة. كما أنه معروف بتديّنه وسمعته الطيبة، لذا أجبت على عرضه وطلبت أن يرسل الملف.  

بدل أن يرسل ملفاً أرسل صورة، وللمرة الأولى ينقذني ضعف الإنترنت. بدأت الصورة تُحمِّل وخلف دائرة التحميل شاشة ضبابية بلون ورديّ، شككتُ بما قد تكون، لذا فور تحميلها أغمضت عيني ووضعتُ يدي على الشاشة لأرى فقط جزءاً صغيراً من الزاوية وبعينين شبه مفتوحتين لمحت بجامته الزيتونية ثم شعيرات وجزء لحم منتفخ، تيقنتُ من شكي. 

اقرأ أيضاً

هاتفكِ سلاحكِ: عراقيات ضد التحرش

كانت صورة عضوه! أخذ الأمر مني دقائق لأستوعب. ارتعبت وقرفت حدّ الغثيان، لكن حينما مسح الرسائل للطرفين استفزني تصرّفه، كأنه يقول سأرسل لك عضوي لأتباهى بما أمتلك، إن أعجبك تعالي وإن لم يعجبك اشتميني وقومي بحظري، مثل السابقات غيرك، ثم نامي وانسي ما حصل لأختار أخرى جديدة، هيَّا لا تضيعي وقتي.  

كم مرة فعل الشيء ذاته! ربما مع قاصر، فتاة تعاني هشاشة نفسية، ربما طفل. لذا استجمعت شجاعتي وقررت أن ألعب لعبة يخاف منها المتحرش. 

“مو تدلل إلا أكصلكياه”، “تره سكرنت”، وهدّدته بأني سجلت فعلته، وسأشتكي عليه وأفضحه. استمر بحذف الرسائل للطرفين ليخفي الدليل، الخاصية اللعينة في تليغرام، لملمت بكائي وبدل شتمه والاكتفاء بحظره أرسلت إيموجي يضحك وكتبت له، “مسكين ظل احذف كلها أدلة ضدك”.  

لخوفه أخذ يتصل ويتوسل أن أسمعه فقط، فقد أرسل الصورة بشكل خاطئ، ووصف نفسه بأنه كان غير واعٍ. لم أفهم عبارة “غير واعٍ”، هل سار في نومه وخلع بيجامته وأرسل الصورة! العذر أقبح من الفعل كما تقول جدتي. أغلقت هاتفي ليشعر بالخوف أكثر. 

“يمعودة متحرش” 

ستخبرين أحدهم أنك تعرضتِ لتحرش إلكتروني، سيقولون “يمعودة حظريه”، كما كان ردّ أغلب من عرفتهم، وكما فعلت 36 بالمئة من النساء العربيات، اللواتي تعرضن للعنف الإلكتروني، بحسب تقرير “العنف ضد المرأة في الفضاء الرقمي: رؤى من دراسة متعددة الأقطار في الدول العربية”، الصادر عن هيئة الأمم المتحدة للمرأة. 

بحسب تقرير الأمم المتحدة، فإنّ 49 بالمئة من مستخدمات الإنترنت في المنطقة العربية أعربن عن عدم شعورهن بالأمان من التحرش الإلكتروني، ونُصحت 36 بالمئة من النساء من الدول العربية اللائي تعرضن للعنف الإلكتروني بأن يتجاهلن الواقعة، و23 بالمئة تم إلقاء اللوم عليهن، و21 بالمئة قيل لهن أن يحذفن حسابات التواصل الاجتماعي الخاصة بهن. 

اعترف أكثر من واحد بين كل ثلاثة رجال تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاماً شملهم الاستطلاع في المنطقة العربية بأنهم ارتكبوا شكلاً من أشكال العنف الإلكتروني ضد النساء، وعند سؤالهم عن أسباب ارتكابهم للعنف عبر الإنترنت ضد المرأة، اتضح أن السبب الأول في ذلك، وفقاً لما قاله الجناة، “لأنه حقهم” (26 بالمئة). وقال 23 بالمئة آخرون إنهم ارتكبوا أعمال عنف إلكتروني “بغرض التسلية”. 

كما كشفت الدراسة أن الشكل الأكثر شيوعاً للعنف الإلكتروني والذي يؤثر على النساء في المنطقة هو تلقي “صور أو رموز غير مرغوب فيها ذات محتوى جنسي” (43 بالمئة)؛ تليها “مكالمات هاتفية مزعجة، محاولات تواصل غير لائقة أو غير مرحب بها” (38 بالمئة) ثم “تلقي رسائل مهينة و/ أو بغيضة” (35 بالمئة). كذلك فإنّ 22 بالمئة من النساء اللائي تعرضن للعنف عبر الإنترنت تعرضن “للابتزاز الجنسي المباشر”. 

بحسب نور جاجان، الإخصائية النفسية، يُعزى سبب انتشار التحرش الالكتروني إلى سهولة وصول المتحرش للضحايا، نتيجة وفرة المواقع الإلكترونية، التي سهّلت ظهور نزعة التحرش وممارسته لديهم، مع وجود مبرر بداخلهم. “لا أحد سيعرفني أو يكشفني بسهولة”، أو “أستطيع حذف الحساب”، أو “أقدر على فعل كل شيء وراء هذه الشاشة التي تحميني وحتى بحسابات وهمية”. 

تقول شيرين (24) عاماً، وهي ناشطة نسوية وأخصائية نفسية، لم تسلم من المتحرشين المتطفلين وطلباتهم الجنسية على فيسبوك رغم حسابها الخاص، لذا حذفت حسابها وانتقلت لاستخدام انستغرام.  

وكون شيرين أخصائية نفسية وتشارك بعض المعلومات عن الصحة الجنسية الإنجابية في حساب الانستغرام، تلقت رسائل من أشخاص يكتبون لها مغامراتهم وقدراتهم الجنسية ليس بغرض الاستشارة، بل بغرض استعراض مهاراتهم فقط، مما جعلها تتوقف عن نشر هذا النوع من المحتوى. 

عام 2017، أجرت منظمة العفو الدولية استطلاعاً شمل 4 آلاف امرأة من ثماني دول ووجدت أن 76 بالمئة من النساء اللواتي تعرضن للإساءة على وسائل التواصل الاجتماعي قيدن استخدامهن لهذه المواقع، وتوقفت 32 بالمئة عن التعبير عن آرائهن حول بعض القضايا.  

كانت عائلتي ترفض العمل خارج البيت لذا اتجهتُ للعمل عن بُعد، لكن بعد فترة قصيرة أجبرت على تركه نتيجة مضايقات المدير الذي بدأ بجملة “هاي صورتج؟ أنت حلوة” في البداية شعرت أنه مجرد إطراء، ولكنه سرعان ما تحوّل إلى كلمات غزل خارج سياق العمل، لذا حذفت صورتي تجنباً لكلامه؛ واكتفيت بالرد الرسمي والاتصال في حالة الطوارئ؛ لكنه بدأ برمي كلمات مثل “صوتج الدافي يشتت أكبر واحد”.  

وقتها وقعتُ بدوامة شعور بالذنب، أراجع كل يوم الدردشة وأجلد ذاتي؛ أين اخطأت، هل نسيت أن أقول “أستاذ”، هل صدر مني شيء خاطئ؟ متناسية تماماً أني لم أفعل شيئاً.  

ترى نور جاجان، أن شعور الذنب سيلازم الضحية نتيجة إلقاء اللوم عليها من المحيط، “بالتحرش الالكتروني راح يكولون هي ليش عدها انستكرام وفيسبوك.. ليش عدها ناس حافظة صورتها، وإذا مو صورتها، ليش حاطة هاي الصورة”، يبررون أنها ربما تضع صوراً مغرية أو أي حجج أخرى ليبرروا ويفسروا تحرشهم.  

بالتالي فأن الضحية تفقد الثقة بنفسها، وتشعر بالتقصير تجاه الشكل الذي يجب أن تكونه لترضي عائلتها ومجتمعها، مما يؤثر على استخدامها لهذه المواقع ويحد من تفاعلها وطاقتها الإبداعية في المجتمع. 

نريدج جوهرة أو حتكونين عاهرة”  

في الشارع سنكون المُلامات، “شنو لابسه، صوجها أكيد، شعدها طالعة بين الزلم”، وغالباً سنُحرم من الخروج بدل معاقبة المتحرش.  

في الفضاء الالكتروني كذلك، إذ غالباً ما يُطعن بأخلاق الفتيات اللواتي يستعملن مواقع تواصل ويشاركن يومياتهن، أو حتى من يستعملن هواتف ذكية، فكيف إذا بُحن بما يتعرضن له!  

مؤخراً انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي فديو للقاء مع فتاة مراهقة، تقول تلك الفتاة، “أمي وأبويه وأخويه محافظين عليه من كل الجهات يعني التلفون عدهم خط أحمر”، فترد المراسلة التي تملك جميع مواقع التواصل، “أحسن… كلش فرحت شفت بنية بـ2024 ما عدها موبايل”.  

اقرأ أيضاً

“نص ردن”.. الملابس ليست وصفاً لأخلاق المرأة في الصيف 

كأن الأمية الالكترونية هي الحل للحفاظ على أمن النساء، وبالطبع تنحصر المسألة عليهن فقط. تغمر الفرحة المراسلة والمخرج من خلف الكاميرا، ويطلبون من هذه الفتاة، التي هي ضحية عائلة تستخدم أسلوب المنع  بدل التوجيه السوي، كليشة نصائح للفتيات ليحذون حذوها وأهلها. تكمل حوارها وتقول، “أهلي يكلولي نريدج تطلعين جوهرة”. 

هذا الفيديو ليس الوحيد من نوعه، فدائماً ستجد أحد المشاهير يشكك في أخلاقيات النساء اللواتي يستعملن مواقع التواصل، بل ووصل حد التهديد بالعنف الجسدي وإطلاق ألفاظ بذيئة عليهن والحث على ضربهن واستخدام “النعال” معهن لأنهن غير شريفات، كعاهد العراقي الذي ظهر في أكثر من مقطع وهو يهدد مستخدمات مواقع التواصل واصفاً إياهن بـ”أمهات الكالكسي والايفون والهواوي.. المو شريفات”. 

“ها ضحكج الحجي”  

ما قام به عاهد العراقي، والمراسلة، وإن كان بدرجة أقل، يعرف بـSlut-shaming أي التعهير أو التحقير أو الوصم بالعهر.  

تعرفه الكاتبة النسوية ليندا لوين بأنه الفعل المتعمد لوصف امرأة بالعاهرة أو المومس، أو تشويه سمعتها بعبارات جنسية بنية إحراجها، أو إذلالها، أو تخويفها، أو تحقيرها بسبب أفعال، أو سلوكيات تعتبر جزءاً طبيعياً من جنسانية النساء. 

ينحصر الوعي الجنسي في مجتمعنا بالرجال، أما اللواتي يفهمن الإيحاءات الجنسية أو يتحدثن عن الجنس، فسيوصمن بالعاهرات أو “الخبرة”، سيخوّل الرجال أنفسهم بتقديم طلبات جنسية. وقد يحدث هذا بشكل أكبر في الفضاء الالكتروني، فمجرد تعليق صغير على فيديو في مواقع التواصل بهذا السياق ستمتلئ خانة الرسائل بأبطال يستعرضون قدراتهم وربما أعضاءهم الجنسية.  

وهذا ما حصل لشيرين، فبعد أن قامت بالتعليق على مقطع فيديو لأحد المشاهير العراقيين المعروف باستخدامه إيحاءات جنسية في سياق نكاته، مصطفى الحجي، تلقت رسائل من رجال لا تعرفهم “ها ضحكج الحجي”، أو يستخدمون إيحاءات بمدلول جنسي مقتبسة من عبارات الحجي. 

كما تلقت رسائل من أكثر من ستة شباب يطلبون إقامة علاقة جنسية معها ”نريد ننام وياج”، ويسألونها بشكل مباشر ”اي وضعية تفضلين”، “يا فلم تحبين”، حينما علقت لإحدى صانعات الترفيه العراقية (ممثلة إباحية)، ورغم كون الفيديو والتعليق لا يمت للجنس بصلة، بحسب وصفها. 

وفق دراسة نشرت عام 2019 في مجلة البحث الجنسي الأمريكية، خضع فيها 1,087 رجل للدراسة، اعترف حوالي نصفهم بإرسال صور غير مطلوبة من الطرف الآخر لأعضائهم.   

هذا النوع من التحرش يسمى بالتحديد “Cyberflashing”، أي إرسال صورة جنسية، ويعرف على أنه تحرش جنسي الكتروني.  

وغالباً ما يعتقد أن الغرض أو الدافع من هذا السلوك هو كراهيتهم للنساء/تمييزهم ضدهن، ورغبتهم في إثارة غضبهن أو إحراجهِن أو التعبير عن عدائهم تجاههن، فرض الهيمنة عليهن أو نوع من السادية.  

 لكن بحسب الدراسة فإن الدافع الأكثر شيوعاً أنهم يأملون الحصول على صور مماثلة أو تفاعلات جنسية مقابل فعلهم هذا، تليها الرغبة في إثارة المتلقي. إذ أفاد حوالي 18 بالمئة منهم بإرسال صور غير مرغوب فيها لرضاهم الشخصي.  

ووافق حوالي 10 بالمئة على خيار “إرسال صور الأعضاء يمنحني شعوراً بالتحكم على الشخص الذي أرسلتها إليه”، ووافق حوالي 6 بالمئة على “أشعر بالكراهية تجاه النساء وإرسال صور الأعضاء التناسلية يرضيني”. 

ابتزاز عاطفي”  

عادة تطولنا هذه الانتهاكات من الغرباء، لكن فجأة سيقرر زميلنا في العمل أو صديقنا حتى؛ بخلع بنطاله كما حدث مع سرى. في هكذا موقف ربما، سنلجأ لشريكنا الذي أحببناه واخترنا أن نأمنه على حُبنا ومشاعرنا وكرامتنا، وأن يكون اليد التي تطمئن في حال وقوع هذا الرعب، لكن ماذا إذا قرر خلع بنطاله! 

قد تكون مناقشة رغبات الجنس بين الشركاء أمراً صحياً في العلاقات الحميمة، وسهل الإنترنت إقامة علاقة جنسية رضائية، والرضائية هي مرادف القبول/ الموافقة (Consent) وتُعطى لمرة واحدة، ويُمكن سحبها في أي لحظة حال أراد أحد الأطراف ذلك. ومع كل فعل أو حديث ذي طابع جنسي يجب الحصول على الموافقة مرة أخرى، في حال انتهاك هذا الشرط يتحوّل الفعل إلى اعتداء، أو تحرش جنسي.   

لكن مفهوم الرضائية ضبابي بعض الشيء في مجتمعاتنا، نتيجة عدم وجود خبرات كافية في طريقة التعامل مع أشكال العلاقات الموجودة خارج إطار الزواج، خاصة النساء اللواتي نشأن على فكرة الطاعة أمام رغبات الشريك فيخضعن، غير مدركات لمعنى الرضائية أو حتى حدود شخصية، خوفاً من فقدان شركائهن الذين يمارسون الابتزاز العاطفي معهن فينخرطن بعلاقات غير سوية هرباً من واقعهن. 

رغم مرور أربع سنوات على ما عاشته آية (23) عاماً، ترتجف وتغلبها الدموع وهي تعيد سرد ما حدث لها. ما بين الثامنة عشر والتاسعة عشر انخرطت بعلاقة حب الكترونية، ليبدأ شريكها بإرساله صور عضوه ومقاطع جنسية لإثارتها، في البداية رفضت. لكن نتيجة خصامه عند الرفض وتهديده المستمر بتركها وخوفها من فقدانه سرعان ما تحولت إلى “أداة لشهوته”، بحسب وصفها.  

انصاعت لرغباته في ممارسة الجنس الالكتروني، وعاشت صراعاً نفسياً، غلبها شعور العار واشمئزاز من نفسها، وعانت من الاكتئاب لسنوات بعدها، ولم تكن تدرك أنها تتعرض للابتزاز العاطفي والتحرش لمدة سنة ونصف. 

قد تكون رسل (25) عاماً، عاشت ضعف تجربة آية، إذ تعرضت لتحرش جنسي من قريبها وهي طفلة فكتمت ألمها لسنوات واخفته عن كل من تعرفهم حتى باحت لشريكها عن جرحها، لكن بدل احتضانها واحتوائها تحول حديثهم تدريجياً حول الجنس.  

بدأ بإرسال مقاطع وصور جنسية ثم صورة “عضوه المنتصب من خلف ملابسه”، وحينما سألته عن سبب تحوله المفاجئ هذا ورفضها لتصرفه تذرع “حسيت ترتاحين”. 

 لم تعرف كيف تحمي حدودها، وبعد تشجيع إحدى صديقاتها لإيقافه، قلب الطاولة عليها وادّعى أنّها كذبت واختلقت مسألة التحرَّش لتغطي رغبتها بإقامة علاقة جنسية الكترونية معه، وهكذا بدأ بابتزازها عاطفياً بأنها من فضحت سر حبهما حينما ناقشت أمرهما الشخصي مع “شخص غريب”، لتدخل بعدها متاهة الصراع النفسي، “وبدال ما أعالج مشكلتي السابقة صار عندي مشكلة جديدة احتاج أعالجها”. 

“ردت شخص الجأ إله 

ترى جاجان أن فترة المراهقة وطريقة توجيه العائلة لاستخدام مواقع التواصل سيؤثر مستقبلاً على تعامل الفرد في هكذا مواقف. ولا تتفق مع فكرة حرمانهم أو منعهم من مواقع التواصل ولا الإباحة التامة، بل ترى الحل بالتوجيه السوي تحت الرقابة الأبوية لمساعدتهم على معرفة وتجنب علامات الخطر المحتملة في الفضاء الالكتروني، بالتالي سيدرك المراهق حدوده ويحميها ويتعلم قول “لا” و”نعم”، حسب منفعته، وكيف يتفاعل ويستجيب مع المواقف باتزان، وهذا بالطبع لا ينتج إلا في بيئة عائلية آمنة وسوية تتبع لغة الحوار. 

أما إذا كانت بيئة التنشئة مضطربة مع استخدام القسوة والعنف وإساءة تتزامن مع تحولات وتقلبات المراهق الهرمونية؛ ستؤثر عليه مستقبلاً ولن يستطيع التصرف كشخص راشد، بل سيكون عرضة للاستغلال كونه يفتقد للنضج العاطفي. 

“بس جنت أريد شخص الجأ اله… من مشاكل البيت”، تفسر رسل سبب بقائها في تلك العلاقة السامة. 

رغبة كُلٍ من آية ورسل بالهروب من مشاكل العائلة والبيئة غير السوية التي يعشن بها جعلتهن فريسة سهلة للابتزاز العاطفي والتحرش الالكتروني، البيئة ذاتها التي لم يلجأن إليها في محنتهن، كون عائلاتهن تفتقد لغة الحوار، وتعلق رُسل أن عائلتها ترفض مسألة التواصل مع رجل؛ فكيف بإقامة علاقة معه ثم تتعرض لتحرش، لذا أرعبتها فكرة إخبارهم.  

كانت ردود واستجابة كُل من رسل وآية متشابهة، لم يلجأن للعائلة نهائياً. امتنعن عن قول “لا” خوفاً من ابتزازهن ومعرفة عائلاتهن. لكن في الحقيقة لم يقم أيٌّ من شركائهن السابقين بتهديدهن بالعائلة أو الابتزاز، لكن طريقة التنشئة أثرت على تعاملهن واستجابتهن للموقف. وهذا ما تؤكده جاجان بأن الضحايا يجبرن على الخضوع أمام التحرش والابتزاز بملء إرادتهن، والذي قد يتطوّر من الكتروني إلى الواقع نتيجة غياب بيئة آمنة تلجأ الضحية إليها، فيعشن في وهم الخوف ويصبحن أسيراته.  

بحسب جاجان فإن الضحية ستعاني من اضطرابات نفسية قد تستمر على المدى الطويل، وسيلازمها الشعور بالخوف والتوتر والقلق وفقدان الثقة بالنفس والآخرين، والشعور الدائم بالذنب. 

تشوّه منظور العلاقات بالنسبة إلى آية، وعانت من اكتئاب لازمها سنتين اضطرها لمراجعة أخصائية نفسية، أما رُسل فتعاني حتى اليوم من نوبات هلع، وفقدت ثقتها بالأشخاص مثلما حدث مع آية وشيرين. 

فقدان الثقة هو الحالة الأكثر شيوعاً، مما يؤدي إلى اكتئاب وقلق وتوتر وشعور دائم بعدم الأمان، كما ينخفض الاستحقاق الذاتي للضحية فتشعر أنها غير مؤهلة بما فيه الكفاية للانخراط بالمجتمع، وستشعر دوماً بأنها محاصرة وغير قادرة على التعبير عن آرائها وتوجهاتها بحرية.  

وقد يصل التحرش لمرحلة الابتزاز الالكتروني فتتعرض إلى صدمات أكبر، بالتالي تتوقف علاقاتهم العملية أو حتى الأسرية. وتحكي جاجان عن حالة إحدى مراجعاتها، وكانت تحت سن الثامنة عشر، عندما تعرضت لتحرش وتطور إلى ابتزاز الكتروني، جعلها تترك المدرسة، ولم يفهم أهلها السبب، انعزلت وأُصيبت بالاكتئاب. وراجعت كحالة اكتئاب، لكن وبعد جلسات عدة اكتشفت جاجان جذر مشكلتها، هناك متحرش. الذي استمر بتهديدها وجعلها تشعر بالذنب لامتلاكها حساب انستغرام. 

بعد رحلة تعافٍ طويلة، استطاعت عائلة الفتاة تقديم شكوى ضد المتحرش، ودخل السجن. وتعافت الفتاة من الصدمات وعادت لحياتها، لكن كم ضحية مثلها موجودة؟  

“ماذا لو اشتكينا؟” أو “البهذلة كافية”  

لم يذكر الدستور العراقي مفردة تحرش، ويعالج قضايا التحرش وفق المادة 400 من قانون العقوبات، التي نصت على أن “من ارتكب مع شخص، ذكراً أو أنثى، أفعالاً مخلّةً بالحياء بغير رضاه أو رضاها، يعاقَب بالحبس مدةً لا تزيد على سنة، وبغرامة لا تزيد على مئة دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين”. 

يعاقَب بالحبس مدةً لا تزيد على ثلاثة أشهر، وبغرامة لا تزيد على ثلاثين ديناراً أو بإحدى هاتين العقوبتين، من طلب أموراً مخالفةً للآداب من آخر، ذكراً كان أو أنثى. 

فيما تضع دول كثيرة نصوصاً واضحة ورادعة للتحرش الالكتروني، لكن المشرع العراقي ما زال في الرجع البعيد، لم يواكب حتى تطور القوانين التي تذكر التحرش بشكل صريح. 

وقد يفسر هذا غياب الإحصائيات الرسمية عن التحرش الإلكتروني، وتعامل السلطات بشكل تقليدي مع جرائم العنف الالكتروني بشكل عام. 

اقرأ أيضاً

“أنتِ نازكة”.. ماذا سألوكم في مقابلة العمل؟ 

يرى محمد جمعة، الخبير القانوني، من خلال خبرته التي تجاوزت 18 عاماً، أن “حالات التحرش الالكتروني تزداد”، وكخبير يواجه العديد من الأسئلة والاستشارات عن التحرش، لكن بالمقابل هناك شحّة في الشكاوى.  

يعزو أسباب عدم لجوء الضحايا للقانون، إلى الخوف من المجتمع، وعدم الثقة بالإجراءات القضائية والقانونية، وفكرتهم حول تهاون القانون أو صعوبة الإجراءات، ومنهم من يستخف بأهمية الشكوى.  

“ما جنت أدري اصلا أكدر اشتكي” تقول رسل إنها لم تكن تعرف في ذلك السن الصغير أنها تستطيع اللجوء للقضاء، وجميع الضحايا الآخرون لم يلجؤوا للقانون تحت مبررات “ماكو فايدة”، “الإجراءات صعبة”، “خفت من أهلي”، لكن بحسب جمعة جميعها أسباب واهية تملأ عقل الضحية نتيجة قلة الوعي القانوني فلا تلجأ للقانون. 

يشدد جمعة رغم موقفه الدائم من انتقاد القوانين، على ضرورة الشكوى إذ يوجد بصيص أمل، على حد تعبيره “على الأقل يتبهذل” لتسترد جزءا من كرامتها. 

 يروي إحدى القصص التي واجهته كمحامٍ، في إحدى قضايا التحرش ورغم أن الجاني بسبب وساطاته لم يُحبس؛ لكن إجباره على المثول أمام المحكمة عشرات المرات كمتحرش والتوسط والتوسل لمعارفه جعلته يقول “انعل ابو فلانه خلتني اتوسط”. 

ما أزعجه أن الفعل الذي ربما كرره عشرات المرات، والفتاة التي استضعفها جعلته يقف في قاعة المحكمة، “فلان المتحرش”. شفي غليل موكلته حينما سمعت هذه الجملة، وبحسب رواية جمعة، قالت “هي الكلمة ريحتني حتى لو طلع”. 

بالنسبة لجمعة، يرى المتحرش ضحيته بعين صغيرة، “مستضعف المقابل”، سأتحرش بها ولن تتجرأ على الشكوى، لكن حينما تقررين الشكوى لن تأخذي حقك وتستردين كرامتك فقط، بل ستحمين مئات النساء من الموقف نفسه، إن ردعته سيخاف مما سيقاسيه نتيجة شجاعتك؛ لذا لا تقولي “ما بيه حيل”، “ماكو فايدة”، فكثير من قضايا التحرش نجحت في محاسبة المتحرشين وسجنهم. 

عقوبة التحرش 6 أشهر، وإذا كرر فعلته سنة، قد تكون الإجراءات مطولة ومتعبة لكن إذا الشخص استمر بالإجراءات سيأخذ القانون مجراه، الشخص غير المختص سيشعر بأنها متعبة لكن تستحق الاستمرار. 

هناك طرق أخرى قد تستعملها الفتيات للقصاص من المتحرشين، كنشرها في صفحات متخصصة بالإشهار والفضيحة، لكن هذه الطريقة غير آمنة، إذ قد يتحولون لمبتزين. 

يؤكد جمعة على إمكانية القبض على المتحرش إذا كان حسابه ليس وهمياً، وبما أننا نتكلم عن وسائل الكترونية فيجب الابتعاد عن “سكرين شوت”، أو تصوير الشاشة لسهولة تزييفها، لذا فدليل القبض يجب أن يكون كالآتي: 

امسكي هاتفك الذي يحتوي على محادثة التحرش، واجلبي هاتفاً آخر، ثم قومي بتصوير مقطعاً فيديوياً يحوي تفاصيل تثبت وتدلي ببيانات المتحرش، مثلاً إذا كان على الواتساب اخرجي من التطبيق وادخلي إليه، ومن ثم رقمه وكذلك بالفيسبوك أو أي منصة تواصل أخرى، ليكون لديك دليل قوي، وخالٍ من التلاعب، ثم قومي بتوكيل محامٍ أو الشكوى مباشرة.  

“محد يسلم منه” 

لا يقتصر خطر التحرش الالكتروني على النساء فقط، بل ويطول القاصرين والرجال. بحسب إحدى المنظمات المتخصصة بالدفاع عن حقوق الأطفال فإن الجرائم الجنسية ضد الأطفال ارتفعت أكثر من 15 مرة في الولايات المتحدة منذ عام 1988، وأن شبكة الانترنت زادت الأمر سوءاً. 

وسط ضجيج كافتريا الجامعة، انتبه محمد (21) عاماً، لنغمة إشعارات هاتف اخته ذات الرابعة عشر الذي استعاره كون هاتفه تعطل منذ ليلتين، كان الإشعار طلب قبول صورة من خاصية النقل بين أجهزة ايفون “Air drop”، وافق محمد بداعي الفضول لتظهر ثلاث صور، عضو رجل، وضعية جنسية، ثدي امرأة. ارتعب محمد من فكرة أن اخته ذات الرابعة عشر كانت سترى هذه الصور، “اجاني شعور محد يسلم من التحرش”. 

كذلك فإن الرجال يتعرضون للتحرش من الرجال، يروي أحمد (27) عاماً، أنه وبعد إضافته لشخص على أحد منصات التواصل، بدأ بالتودّد وخوض نقاشات بغية التعرف، ثم أرسل مقاطع جنسية يمارسها رجلان “مثلية”، وقال إنه يميل للرجال “أحب الولد”. 

غلب “شعور الاشمئزاز وعدم الأمان” على أحمد، ويصف أن بعد هذا الموقف أصبح يحذر من الغرباء وبصعوبة يثق بهم، تكونت فكرة لديه أن أي شخص قد يعيد الفعل ذاته. 

لم يراجع أحمد طبيباً نفسياً، ولم يشتك قانونياً خوفاً من معرفة محيطه، وأن تمس رجولته، لذا اكتفى بالبوح لصديقه ليرد صديقه أن “المسألة طبيعة”، والكثير يعرضون عليه هذا النوع من الطلبات، ويكتفي بحظرهم وينهي الموضوع.  

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

لسنواتٍ عديدة ظننتُ أنني من ذوات الحظ الجيد، إذ لم تطل يد متحرش جسدي، كغالبية صديقاتي وقريباتي، أما اللفظي فأصبح من مُسلَّمَات الحياة اليومية، نتجرّعه مع أصوات الباعة الجوالة في الشوارع، ونوهم آذاننا ألا تصغي السمع فهي “مخطئة”. 

لكن ماذا عن الفضاء الإلكتروني؟ كيف نقنع أعيننا أن تغض الطرف عن مشاهد التحرش الإلكتروني، من “أنت حلوة” و”صوتج يشتت أكبر واحد”، إلى “شنو وضعيتج المفضلة”، وليس انتهاءً بصورة “عضو منتصب”، لأن التحرش قصة لا تنتهي. 

“إلا اكصلكياه”  

كانت الساعة تشير إلى الثانية صباحاً، حين عرض أحد الزملاء من عملي السابق، تعاوناً جديداً.  ترددتُ بتوبيخه عن الساعة المتأخرة كون الجميع بعد رمضان يستمر بالعمل لساعات متأخرة. كما أنه معروف بتديّنه وسمعته الطيبة، لذا أجبت على عرضه وطلبت أن يرسل الملف.  

بدل أن يرسل ملفاً أرسل صورة، وللمرة الأولى ينقذني ضعف الإنترنت. بدأت الصورة تُحمِّل وخلف دائرة التحميل شاشة ضبابية بلون ورديّ، شككتُ بما قد تكون، لذا فور تحميلها أغمضت عيني ووضعتُ يدي على الشاشة لأرى فقط جزءاً صغيراً من الزاوية وبعينين شبه مفتوحتين لمحت بجامته الزيتونية ثم شعيرات وجزء لحم منتفخ، تيقنتُ من شكي. 

اقرأ أيضاً

هاتفكِ سلاحكِ: عراقيات ضد التحرش

كانت صورة عضوه! أخذ الأمر مني دقائق لأستوعب. ارتعبت وقرفت حدّ الغثيان، لكن حينما مسح الرسائل للطرفين استفزني تصرّفه، كأنه يقول سأرسل لك عضوي لأتباهى بما أمتلك، إن أعجبك تعالي وإن لم يعجبك اشتميني وقومي بحظري، مثل السابقات غيرك، ثم نامي وانسي ما حصل لأختار أخرى جديدة، هيَّا لا تضيعي وقتي.  

كم مرة فعل الشيء ذاته! ربما مع قاصر، فتاة تعاني هشاشة نفسية، ربما طفل. لذا استجمعت شجاعتي وقررت أن ألعب لعبة يخاف منها المتحرش. 

“مو تدلل إلا أكصلكياه”، “تره سكرنت”، وهدّدته بأني سجلت فعلته، وسأشتكي عليه وأفضحه. استمر بحذف الرسائل للطرفين ليخفي الدليل، الخاصية اللعينة في تليغرام، لملمت بكائي وبدل شتمه والاكتفاء بحظره أرسلت إيموجي يضحك وكتبت له، “مسكين ظل احذف كلها أدلة ضدك”.  

لخوفه أخذ يتصل ويتوسل أن أسمعه فقط، فقد أرسل الصورة بشكل خاطئ، ووصف نفسه بأنه كان غير واعٍ. لم أفهم عبارة “غير واعٍ”، هل سار في نومه وخلع بيجامته وأرسل الصورة! العذر أقبح من الفعل كما تقول جدتي. أغلقت هاتفي ليشعر بالخوف أكثر. 

“يمعودة متحرش” 

ستخبرين أحدهم أنك تعرضتِ لتحرش إلكتروني، سيقولون “يمعودة حظريه”، كما كان ردّ أغلب من عرفتهم، وكما فعلت 36 بالمئة من النساء العربيات، اللواتي تعرضن للعنف الإلكتروني، بحسب تقرير “العنف ضد المرأة في الفضاء الرقمي: رؤى من دراسة متعددة الأقطار في الدول العربية”، الصادر عن هيئة الأمم المتحدة للمرأة. 

بحسب تقرير الأمم المتحدة، فإنّ 49 بالمئة من مستخدمات الإنترنت في المنطقة العربية أعربن عن عدم شعورهن بالأمان من التحرش الإلكتروني، ونُصحت 36 بالمئة من النساء من الدول العربية اللائي تعرضن للعنف الإلكتروني بأن يتجاهلن الواقعة، و23 بالمئة تم إلقاء اللوم عليهن، و21 بالمئة قيل لهن أن يحذفن حسابات التواصل الاجتماعي الخاصة بهن. 

اعترف أكثر من واحد بين كل ثلاثة رجال تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاماً شملهم الاستطلاع في المنطقة العربية بأنهم ارتكبوا شكلاً من أشكال العنف الإلكتروني ضد النساء، وعند سؤالهم عن أسباب ارتكابهم للعنف عبر الإنترنت ضد المرأة، اتضح أن السبب الأول في ذلك، وفقاً لما قاله الجناة، “لأنه حقهم” (26 بالمئة). وقال 23 بالمئة آخرون إنهم ارتكبوا أعمال عنف إلكتروني “بغرض التسلية”. 

كما كشفت الدراسة أن الشكل الأكثر شيوعاً للعنف الإلكتروني والذي يؤثر على النساء في المنطقة هو تلقي “صور أو رموز غير مرغوب فيها ذات محتوى جنسي” (43 بالمئة)؛ تليها “مكالمات هاتفية مزعجة، محاولات تواصل غير لائقة أو غير مرحب بها” (38 بالمئة) ثم “تلقي رسائل مهينة و/ أو بغيضة” (35 بالمئة). كذلك فإنّ 22 بالمئة من النساء اللائي تعرضن للعنف عبر الإنترنت تعرضن “للابتزاز الجنسي المباشر”. 

بحسب نور جاجان، الإخصائية النفسية، يُعزى سبب انتشار التحرش الالكتروني إلى سهولة وصول المتحرش للضحايا، نتيجة وفرة المواقع الإلكترونية، التي سهّلت ظهور نزعة التحرش وممارسته لديهم، مع وجود مبرر بداخلهم. “لا أحد سيعرفني أو يكشفني بسهولة”، أو “أستطيع حذف الحساب”، أو “أقدر على فعل كل شيء وراء هذه الشاشة التي تحميني وحتى بحسابات وهمية”. 

تقول شيرين (24) عاماً، وهي ناشطة نسوية وأخصائية نفسية، لم تسلم من المتحرشين المتطفلين وطلباتهم الجنسية على فيسبوك رغم حسابها الخاص، لذا حذفت حسابها وانتقلت لاستخدام انستغرام.  

وكون شيرين أخصائية نفسية وتشارك بعض المعلومات عن الصحة الجنسية الإنجابية في حساب الانستغرام، تلقت رسائل من أشخاص يكتبون لها مغامراتهم وقدراتهم الجنسية ليس بغرض الاستشارة، بل بغرض استعراض مهاراتهم فقط، مما جعلها تتوقف عن نشر هذا النوع من المحتوى. 

عام 2017، أجرت منظمة العفو الدولية استطلاعاً شمل 4 آلاف امرأة من ثماني دول ووجدت أن 76 بالمئة من النساء اللواتي تعرضن للإساءة على وسائل التواصل الاجتماعي قيدن استخدامهن لهذه المواقع، وتوقفت 32 بالمئة عن التعبير عن آرائهن حول بعض القضايا.  

كانت عائلتي ترفض العمل خارج البيت لذا اتجهتُ للعمل عن بُعد، لكن بعد فترة قصيرة أجبرت على تركه نتيجة مضايقات المدير الذي بدأ بجملة “هاي صورتج؟ أنت حلوة” في البداية شعرت أنه مجرد إطراء، ولكنه سرعان ما تحوّل إلى كلمات غزل خارج سياق العمل، لذا حذفت صورتي تجنباً لكلامه؛ واكتفيت بالرد الرسمي والاتصال في حالة الطوارئ؛ لكنه بدأ برمي كلمات مثل “صوتج الدافي يشتت أكبر واحد”.  

وقتها وقعتُ بدوامة شعور بالذنب، أراجع كل يوم الدردشة وأجلد ذاتي؛ أين اخطأت، هل نسيت أن أقول “أستاذ”، هل صدر مني شيء خاطئ؟ متناسية تماماً أني لم أفعل شيئاً.  

ترى نور جاجان، أن شعور الذنب سيلازم الضحية نتيجة إلقاء اللوم عليها من المحيط، “بالتحرش الالكتروني راح يكولون هي ليش عدها انستكرام وفيسبوك.. ليش عدها ناس حافظة صورتها، وإذا مو صورتها، ليش حاطة هاي الصورة”، يبررون أنها ربما تضع صوراً مغرية أو أي حجج أخرى ليبرروا ويفسروا تحرشهم.  

بالتالي فأن الضحية تفقد الثقة بنفسها، وتشعر بالتقصير تجاه الشكل الذي يجب أن تكونه لترضي عائلتها ومجتمعها، مما يؤثر على استخدامها لهذه المواقع ويحد من تفاعلها وطاقتها الإبداعية في المجتمع. 

نريدج جوهرة أو حتكونين عاهرة”  

في الشارع سنكون المُلامات، “شنو لابسه، صوجها أكيد، شعدها طالعة بين الزلم”، وغالباً سنُحرم من الخروج بدل معاقبة المتحرش.  

في الفضاء الالكتروني كذلك، إذ غالباً ما يُطعن بأخلاق الفتيات اللواتي يستعملن مواقع تواصل ويشاركن يومياتهن، أو حتى من يستعملن هواتف ذكية، فكيف إذا بُحن بما يتعرضن له!  

مؤخراً انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي فديو للقاء مع فتاة مراهقة، تقول تلك الفتاة، “أمي وأبويه وأخويه محافظين عليه من كل الجهات يعني التلفون عدهم خط أحمر”، فترد المراسلة التي تملك جميع مواقع التواصل، “أحسن… كلش فرحت شفت بنية بـ2024 ما عدها موبايل”.  

اقرأ أيضاً

“نص ردن”.. الملابس ليست وصفاً لأخلاق المرأة في الصيف 

كأن الأمية الالكترونية هي الحل للحفاظ على أمن النساء، وبالطبع تنحصر المسألة عليهن فقط. تغمر الفرحة المراسلة والمخرج من خلف الكاميرا، ويطلبون من هذه الفتاة، التي هي ضحية عائلة تستخدم أسلوب المنع  بدل التوجيه السوي، كليشة نصائح للفتيات ليحذون حذوها وأهلها. تكمل حوارها وتقول، “أهلي يكلولي نريدج تطلعين جوهرة”. 

هذا الفيديو ليس الوحيد من نوعه، فدائماً ستجد أحد المشاهير يشكك في أخلاقيات النساء اللواتي يستعملن مواقع التواصل، بل ووصل حد التهديد بالعنف الجسدي وإطلاق ألفاظ بذيئة عليهن والحث على ضربهن واستخدام “النعال” معهن لأنهن غير شريفات، كعاهد العراقي الذي ظهر في أكثر من مقطع وهو يهدد مستخدمات مواقع التواصل واصفاً إياهن بـ”أمهات الكالكسي والايفون والهواوي.. المو شريفات”. 

“ها ضحكج الحجي”  

ما قام به عاهد العراقي، والمراسلة، وإن كان بدرجة أقل، يعرف بـSlut-shaming أي التعهير أو التحقير أو الوصم بالعهر.  

تعرفه الكاتبة النسوية ليندا لوين بأنه الفعل المتعمد لوصف امرأة بالعاهرة أو المومس، أو تشويه سمعتها بعبارات جنسية بنية إحراجها، أو إذلالها، أو تخويفها، أو تحقيرها بسبب أفعال، أو سلوكيات تعتبر جزءاً طبيعياً من جنسانية النساء. 

ينحصر الوعي الجنسي في مجتمعنا بالرجال، أما اللواتي يفهمن الإيحاءات الجنسية أو يتحدثن عن الجنس، فسيوصمن بالعاهرات أو “الخبرة”، سيخوّل الرجال أنفسهم بتقديم طلبات جنسية. وقد يحدث هذا بشكل أكبر في الفضاء الالكتروني، فمجرد تعليق صغير على فيديو في مواقع التواصل بهذا السياق ستمتلئ خانة الرسائل بأبطال يستعرضون قدراتهم وربما أعضاءهم الجنسية.  

وهذا ما حصل لشيرين، فبعد أن قامت بالتعليق على مقطع فيديو لأحد المشاهير العراقيين المعروف باستخدامه إيحاءات جنسية في سياق نكاته، مصطفى الحجي، تلقت رسائل من رجال لا تعرفهم “ها ضحكج الحجي”، أو يستخدمون إيحاءات بمدلول جنسي مقتبسة من عبارات الحجي. 

كما تلقت رسائل من أكثر من ستة شباب يطلبون إقامة علاقة جنسية معها ”نريد ننام وياج”، ويسألونها بشكل مباشر ”اي وضعية تفضلين”، “يا فلم تحبين”، حينما علقت لإحدى صانعات الترفيه العراقية (ممثلة إباحية)، ورغم كون الفيديو والتعليق لا يمت للجنس بصلة، بحسب وصفها. 

وفق دراسة نشرت عام 2019 في مجلة البحث الجنسي الأمريكية، خضع فيها 1,087 رجل للدراسة، اعترف حوالي نصفهم بإرسال صور غير مطلوبة من الطرف الآخر لأعضائهم.   

هذا النوع من التحرش يسمى بالتحديد “Cyberflashing”، أي إرسال صورة جنسية، ويعرف على أنه تحرش جنسي الكتروني.  

وغالباً ما يعتقد أن الغرض أو الدافع من هذا السلوك هو كراهيتهم للنساء/تمييزهم ضدهن، ورغبتهم في إثارة غضبهن أو إحراجهِن أو التعبير عن عدائهم تجاههن، فرض الهيمنة عليهن أو نوع من السادية.  

 لكن بحسب الدراسة فإن الدافع الأكثر شيوعاً أنهم يأملون الحصول على صور مماثلة أو تفاعلات جنسية مقابل فعلهم هذا، تليها الرغبة في إثارة المتلقي. إذ أفاد حوالي 18 بالمئة منهم بإرسال صور غير مرغوب فيها لرضاهم الشخصي.  

ووافق حوالي 10 بالمئة على خيار “إرسال صور الأعضاء يمنحني شعوراً بالتحكم على الشخص الذي أرسلتها إليه”، ووافق حوالي 6 بالمئة على “أشعر بالكراهية تجاه النساء وإرسال صور الأعضاء التناسلية يرضيني”. 

ابتزاز عاطفي”  

عادة تطولنا هذه الانتهاكات من الغرباء، لكن فجأة سيقرر زميلنا في العمل أو صديقنا حتى؛ بخلع بنطاله كما حدث مع سرى. في هكذا موقف ربما، سنلجأ لشريكنا الذي أحببناه واخترنا أن نأمنه على حُبنا ومشاعرنا وكرامتنا، وأن يكون اليد التي تطمئن في حال وقوع هذا الرعب، لكن ماذا إذا قرر خلع بنطاله! 

قد تكون مناقشة رغبات الجنس بين الشركاء أمراً صحياً في العلاقات الحميمة، وسهل الإنترنت إقامة علاقة جنسية رضائية، والرضائية هي مرادف القبول/ الموافقة (Consent) وتُعطى لمرة واحدة، ويُمكن سحبها في أي لحظة حال أراد أحد الأطراف ذلك. ومع كل فعل أو حديث ذي طابع جنسي يجب الحصول على الموافقة مرة أخرى، في حال انتهاك هذا الشرط يتحوّل الفعل إلى اعتداء، أو تحرش جنسي.   

لكن مفهوم الرضائية ضبابي بعض الشيء في مجتمعاتنا، نتيجة عدم وجود خبرات كافية في طريقة التعامل مع أشكال العلاقات الموجودة خارج إطار الزواج، خاصة النساء اللواتي نشأن على فكرة الطاعة أمام رغبات الشريك فيخضعن، غير مدركات لمعنى الرضائية أو حتى حدود شخصية، خوفاً من فقدان شركائهن الذين يمارسون الابتزاز العاطفي معهن فينخرطن بعلاقات غير سوية هرباً من واقعهن. 

رغم مرور أربع سنوات على ما عاشته آية (23) عاماً، ترتجف وتغلبها الدموع وهي تعيد سرد ما حدث لها. ما بين الثامنة عشر والتاسعة عشر انخرطت بعلاقة حب الكترونية، ليبدأ شريكها بإرساله صور عضوه ومقاطع جنسية لإثارتها، في البداية رفضت. لكن نتيجة خصامه عند الرفض وتهديده المستمر بتركها وخوفها من فقدانه سرعان ما تحولت إلى “أداة لشهوته”، بحسب وصفها.  

انصاعت لرغباته في ممارسة الجنس الالكتروني، وعاشت صراعاً نفسياً، غلبها شعور العار واشمئزاز من نفسها، وعانت من الاكتئاب لسنوات بعدها، ولم تكن تدرك أنها تتعرض للابتزاز العاطفي والتحرش لمدة سنة ونصف. 

قد تكون رسل (25) عاماً، عاشت ضعف تجربة آية، إذ تعرضت لتحرش جنسي من قريبها وهي طفلة فكتمت ألمها لسنوات واخفته عن كل من تعرفهم حتى باحت لشريكها عن جرحها، لكن بدل احتضانها واحتوائها تحول حديثهم تدريجياً حول الجنس.  

بدأ بإرسال مقاطع وصور جنسية ثم صورة “عضوه المنتصب من خلف ملابسه”، وحينما سألته عن سبب تحوله المفاجئ هذا ورفضها لتصرفه تذرع “حسيت ترتاحين”. 

 لم تعرف كيف تحمي حدودها، وبعد تشجيع إحدى صديقاتها لإيقافه، قلب الطاولة عليها وادّعى أنّها كذبت واختلقت مسألة التحرَّش لتغطي رغبتها بإقامة علاقة جنسية الكترونية معه، وهكذا بدأ بابتزازها عاطفياً بأنها من فضحت سر حبهما حينما ناقشت أمرهما الشخصي مع “شخص غريب”، لتدخل بعدها متاهة الصراع النفسي، “وبدال ما أعالج مشكلتي السابقة صار عندي مشكلة جديدة احتاج أعالجها”. 

“ردت شخص الجأ إله 

ترى جاجان أن فترة المراهقة وطريقة توجيه العائلة لاستخدام مواقع التواصل سيؤثر مستقبلاً على تعامل الفرد في هكذا مواقف. ولا تتفق مع فكرة حرمانهم أو منعهم من مواقع التواصل ولا الإباحة التامة، بل ترى الحل بالتوجيه السوي تحت الرقابة الأبوية لمساعدتهم على معرفة وتجنب علامات الخطر المحتملة في الفضاء الالكتروني، بالتالي سيدرك المراهق حدوده ويحميها ويتعلم قول “لا” و”نعم”، حسب منفعته، وكيف يتفاعل ويستجيب مع المواقف باتزان، وهذا بالطبع لا ينتج إلا في بيئة عائلية آمنة وسوية تتبع لغة الحوار. 

أما إذا كانت بيئة التنشئة مضطربة مع استخدام القسوة والعنف وإساءة تتزامن مع تحولات وتقلبات المراهق الهرمونية؛ ستؤثر عليه مستقبلاً ولن يستطيع التصرف كشخص راشد، بل سيكون عرضة للاستغلال كونه يفتقد للنضج العاطفي. 

“بس جنت أريد شخص الجأ اله… من مشاكل البيت”، تفسر رسل سبب بقائها في تلك العلاقة السامة. 

رغبة كُلٍ من آية ورسل بالهروب من مشاكل العائلة والبيئة غير السوية التي يعشن بها جعلتهن فريسة سهلة للابتزاز العاطفي والتحرش الالكتروني، البيئة ذاتها التي لم يلجأن إليها في محنتهن، كون عائلاتهن تفتقد لغة الحوار، وتعلق رُسل أن عائلتها ترفض مسألة التواصل مع رجل؛ فكيف بإقامة علاقة معه ثم تتعرض لتحرش، لذا أرعبتها فكرة إخبارهم.  

كانت ردود واستجابة كُل من رسل وآية متشابهة، لم يلجأن للعائلة نهائياً. امتنعن عن قول “لا” خوفاً من ابتزازهن ومعرفة عائلاتهن. لكن في الحقيقة لم يقم أيٌّ من شركائهن السابقين بتهديدهن بالعائلة أو الابتزاز، لكن طريقة التنشئة أثرت على تعاملهن واستجابتهن للموقف. وهذا ما تؤكده جاجان بأن الضحايا يجبرن على الخضوع أمام التحرش والابتزاز بملء إرادتهن، والذي قد يتطوّر من الكتروني إلى الواقع نتيجة غياب بيئة آمنة تلجأ الضحية إليها، فيعشن في وهم الخوف ويصبحن أسيراته.  

بحسب جاجان فإن الضحية ستعاني من اضطرابات نفسية قد تستمر على المدى الطويل، وسيلازمها الشعور بالخوف والتوتر والقلق وفقدان الثقة بالنفس والآخرين، والشعور الدائم بالذنب. 

تشوّه منظور العلاقات بالنسبة إلى آية، وعانت من اكتئاب لازمها سنتين اضطرها لمراجعة أخصائية نفسية، أما رُسل فتعاني حتى اليوم من نوبات هلع، وفقدت ثقتها بالأشخاص مثلما حدث مع آية وشيرين. 

فقدان الثقة هو الحالة الأكثر شيوعاً، مما يؤدي إلى اكتئاب وقلق وتوتر وشعور دائم بعدم الأمان، كما ينخفض الاستحقاق الذاتي للضحية فتشعر أنها غير مؤهلة بما فيه الكفاية للانخراط بالمجتمع، وستشعر دوماً بأنها محاصرة وغير قادرة على التعبير عن آرائها وتوجهاتها بحرية.  

وقد يصل التحرش لمرحلة الابتزاز الالكتروني فتتعرض إلى صدمات أكبر، بالتالي تتوقف علاقاتهم العملية أو حتى الأسرية. وتحكي جاجان عن حالة إحدى مراجعاتها، وكانت تحت سن الثامنة عشر، عندما تعرضت لتحرش وتطور إلى ابتزاز الكتروني، جعلها تترك المدرسة، ولم يفهم أهلها السبب، انعزلت وأُصيبت بالاكتئاب. وراجعت كحالة اكتئاب، لكن وبعد جلسات عدة اكتشفت جاجان جذر مشكلتها، هناك متحرش. الذي استمر بتهديدها وجعلها تشعر بالذنب لامتلاكها حساب انستغرام. 

بعد رحلة تعافٍ طويلة، استطاعت عائلة الفتاة تقديم شكوى ضد المتحرش، ودخل السجن. وتعافت الفتاة من الصدمات وعادت لحياتها، لكن كم ضحية مثلها موجودة؟  

“ماذا لو اشتكينا؟” أو “البهذلة كافية”  

لم يذكر الدستور العراقي مفردة تحرش، ويعالج قضايا التحرش وفق المادة 400 من قانون العقوبات، التي نصت على أن “من ارتكب مع شخص، ذكراً أو أنثى، أفعالاً مخلّةً بالحياء بغير رضاه أو رضاها، يعاقَب بالحبس مدةً لا تزيد على سنة، وبغرامة لا تزيد على مئة دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين”. 

يعاقَب بالحبس مدةً لا تزيد على ثلاثة أشهر، وبغرامة لا تزيد على ثلاثين ديناراً أو بإحدى هاتين العقوبتين، من طلب أموراً مخالفةً للآداب من آخر، ذكراً كان أو أنثى. 

فيما تضع دول كثيرة نصوصاً واضحة ورادعة للتحرش الالكتروني، لكن المشرع العراقي ما زال في الرجع البعيد، لم يواكب حتى تطور القوانين التي تذكر التحرش بشكل صريح. 

وقد يفسر هذا غياب الإحصائيات الرسمية عن التحرش الإلكتروني، وتعامل السلطات بشكل تقليدي مع جرائم العنف الالكتروني بشكل عام. 

اقرأ أيضاً

“أنتِ نازكة”.. ماذا سألوكم في مقابلة العمل؟ 

يرى محمد جمعة، الخبير القانوني، من خلال خبرته التي تجاوزت 18 عاماً، أن “حالات التحرش الالكتروني تزداد”، وكخبير يواجه العديد من الأسئلة والاستشارات عن التحرش، لكن بالمقابل هناك شحّة في الشكاوى.  

يعزو أسباب عدم لجوء الضحايا للقانون، إلى الخوف من المجتمع، وعدم الثقة بالإجراءات القضائية والقانونية، وفكرتهم حول تهاون القانون أو صعوبة الإجراءات، ومنهم من يستخف بأهمية الشكوى.  

“ما جنت أدري اصلا أكدر اشتكي” تقول رسل إنها لم تكن تعرف في ذلك السن الصغير أنها تستطيع اللجوء للقضاء، وجميع الضحايا الآخرون لم يلجؤوا للقانون تحت مبررات “ماكو فايدة”، “الإجراءات صعبة”، “خفت من أهلي”، لكن بحسب جمعة جميعها أسباب واهية تملأ عقل الضحية نتيجة قلة الوعي القانوني فلا تلجأ للقانون. 

يشدد جمعة رغم موقفه الدائم من انتقاد القوانين، على ضرورة الشكوى إذ يوجد بصيص أمل، على حد تعبيره “على الأقل يتبهذل” لتسترد جزءا من كرامتها. 

 يروي إحدى القصص التي واجهته كمحامٍ، في إحدى قضايا التحرش ورغم أن الجاني بسبب وساطاته لم يُحبس؛ لكن إجباره على المثول أمام المحكمة عشرات المرات كمتحرش والتوسط والتوسل لمعارفه جعلته يقول “انعل ابو فلانه خلتني اتوسط”. 

ما أزعجه أن الفعل الذي ربما كرره عشرات المرات، والفتاة التي استضعفها جعلته يقف في قاعة المحكمة، “فلان المتحرش”. شفي غليل موكلته حينما سمعت هذه الجملة، وبحسب رواية جمعة، قالت “هي الكلمة ريحتني حتى لو طلع”. 

بالنسبة لجمعة، يرى المتحرش ضحيته بعين صغيرة، “مستضعف المقابل”، سأتحرش بها ولن تتجرأ على الشكوى، لكن حينما تقررين الشكوى لن تأخذي حقك وتستردين كرامتك فقط، بل ستحمين مئات النساء من الموقف نفسه، إن ردعته سيخاف مما سيقاسيه نتيجة شجاعتك؛ لذا لا تقولي “ما بيه حيل”، “ماكو فايدة”، فكثير من قضايا التحرش نجحت في محاسبة المتحرشين وسجنهم. 

عقوبة التحرش 6 أشهر، وإذا كرر فعلته سنة، قد تكون الإجراءات مطولة ومتعبة لكن إذا الشخص استمر بالإجراءات سيأخذ القانون مجراه، الشخص غير المختص سيشعر بأنها متعبة لكن تستحق الاستمرار. 

هناك طرق أخرى قد تستعملها الفتيات للقصاص من المتحرشين، كنشرها في صفحات متخصصة بالإشهار والفضيحة، لكن هذه الطريقة غير آمنة، إذ قد يتحولون لمبتزين. 

يؤكد جمعة على إمكانية القبض على المتحرش إذا كان حسابه ليس وهمياً، وبما أننا نتكلم عن وسائل الكترونية فيجب الابتعاد عن “سكرين شوت”، أو تصوير الشاشة لسهولة تزييفها، لذا فدليل القبض يجب أن يكون كالآتي: 

امسكي هاتفك الذي يحتوي على محادثة التحرش، واجلبي هاتفاً آخر، ثم قومي بتصوير مقطعاً فيديوياً يحوي تفاصيل تثبت وتدلي ببيانات المتحرش، مثلاً إذا كان على الواتساب اخرجي من التطبيق وادخلي إليه، ومن ثم رقمه وكذلك بالفيسبوك أو أي منصة تواصل أخرى، ليكون لديك دليل قوي، وخالٍ من التلاعب، ثم قومي بتوكيل محامٍ أو الشكوى مباشرة.  

“محد يسلم منه” 

لا يقتصر خطر التحرش الالكتروني على النساء فقط، بل ويطول القاصرين والرجال. بحسب إحدى المنظمات المتخصصة بالدفاع عن حقوق الأطفال فإن الجرائم الجنسية ضد الأطفال ارتفعت أكثر من 15 مرة في الولايات المتحدة منذ عام 1988، وأن شبكة الانترنت زادت الأمر سوءاً. 

وسط ضجيج كافتريا الجامعة، انتبه محمد (21) عاماً، لنغمة إشعارات هاتف اخته ذات الرابعة عشر الذي استعاره كون هاتفه تعطل منذ ليلتين، كان الإشعار طلب قبول صورة من خاصية النقل بين أجهزة ايفون “Air drop”، وافق محمد بداعي الفضول لتظهر ثلاث صور، عضو رجل، وضعية جنسية، ثدي امرأة. ارتعب محمد من فكرة أن اخته ذات الرابعة عشر كانت سترى هذه الصور، “اجاني شعور محد يسلم من التحرش”. 

كذلك فإن الرجال يتعرضون للتحرش من الرجال، يروي أحمد (27) عاماً، أنه وبعد إضافته لشخص على أحد منصات التواصل، بدأ بالتودّد وخوض نقاشات بغية التعرف، ثم أرسل مقاطع جنسية يمارسها رجلان “مثلية”، وقال إنه يميل للرجال “أحب الولد”. 

غلب “شعور الاشمئزاز وعدم الأمان” على أحمد، ويصف أن بعد هذا الموقف أصبح يحذر من الغرباء وبصعوبة يثق بهم، تكونت فكرة لديه أن أي شخص قد يعيد الفعل ذاته. 

لم يراجع أحمد طبيباً نفسياً، ولم يشتك قانونياً خوفاً من معرفة محيطه، وأن تمس رجولته، لذا اكتفى بالبوح لصديقه ليرد صديقه أن “المسألة طبيعة”، والكثير يعرضون عليه هذا النوع من الطلبات، ويكتفي بحظرهم وينهي الموضوع.