جردة بـ"الماكو".. ماذا أنجزت مجالس المحافظات الجديدة؟ 

آدم حسين

03 أيلول 2024

الحكومات المحليّة في المحافظات التأمت وحسمت المناصب داخل بعضها منذ ستة أشهر، وربّما حان الوقت للتساؤل عمّا أنجزته حتى الآن.. مقال مطول عن عمل مجالس المحافظات وتقلباتها منذ تأسيسها إلى اليوم..

نظرياً، مضى نحو ستة أشهر على بدء عمل مجالس المحافظات، التي عادت للحياة السياسية بعد توقف دام أربعة أعوام، لكن واقعياً هذه المجالس عاطلة عن العمل منذ عودتها حتى الآن. 

لم يكن المطلوب من هذه المجالس أكثر من أن تكون عاطلة حالياً، بمعنى أن لا تثير الغبار، وتؤجل المواجهة مع الجمهور. 

وتعرضت مجالس المحافظات منذ أول ظهور لها بعد انتخابات 2005 إلى انتقادات قاسية، مرة من الجمهور الذي ظن أنها حلقة فساد -وما زال يظن ذلك- ومرة أخرى من الأحزاب. 

وتلقت هذه المجالس اللكمات بدلاً من الأحزاب والحكومة الاتحادية في بغداد. 

اُحرق نحو 14 مبنىً لتلك المجالس في موجتي احتجاجات، وتعرض أعضاؤها إلى 34 حالة اغتيال، نجح منها 13. 

في المقابل، واجهت هذه المجالس تهم الفساد والتعاون مع الجماعات الإرهابية، فاعتقل عشرات من أعضائها بمثل هذه التهم، أشهرهم ليث الدليمي. 

التضحية بالمجالس 

حين تم تخفيف سقف مطالب المحتجين أثناء تظاهرات تشرين 2019 من تغيير النظام السياسي إلى إجراء إصلاحات، كانت أول حلقة تسقط في هذا النظام هي مجالس المحافظات. 

دور وكيل الأحزاب الذي لعبته تلك المجالس في مواجهة الجمهور في المحافظات هو من أطاح بها، كما حاول مجلس النواب حماية نفسه بحلها. 

في 28 تشرين الأول من تلك السنة، صوّت مجلس النواب على حلّ مجالس المحافظات والأقضية والنواحي من حيث المبدأ، لحين إجراء انتخابات في العام الذي يليه، لكن لم يحدث ذلك إلا بعد أربع سنوات. 

وبعد تصويته على حل مجالس المحافظات، منح مجلس النواب تخويلاً للمحافظين بإدارة الأمور المالية والإدارية في كل محافظة، على أن تتولى السلطة التشريعية الاتحادية الإشراف والمراقبة على المحافظين لحين إجراء الانتخابات. 

وصوّت مجلس النواب أيضاً على أن يقدم المحافظون موازناتهم المالية إلى اللجنة المالية النيابية. 

وبعد ذلك بشهر واحد، أقرّ المجلس مقترح قانون التعديل الثاني لقانون انتخابات مجالس المحافظات والأقضية رقم 12 لعام 2018. 

ونصَّ التعديل على “إنهاء عمل مجالس المحافظات غير المنتظمة في إقليم ومجالس الأقضية والنواحي الحالية التابعة لها”. 

وبموجب التعديل، “يقوم أعضاء مجلس النواب كلا قدر تعلق الأمر بالمحافظة التي يمثلها بممارسة الإشراف والرقابة على أعمال المحافظ ونائبيه في كل محافظة، وتقديم التوصيات اللازمة بشأنها لمجلس النواب”. 

وبموجب التعديل أيضاً، فإنه لن تجري انتخابات مجالس جديدة، بل سيقتصر الأمر على انتخاب الحكومات المحلية المتمثلة بالمحافظين ونوابهم. 

وكان من المقرر إجراء انتخابات المجالس المحلية في أيار 2018، لكنها أرجئت إلى أيلول 2018 ومن ثم إلى تشرين الأول 2019، ثم أرجئت بعد ذلك إلى نيسان 2020. 

وأخيراً أجريت الانتخابات في 18 كانون الأول 2023، وهو موعد تم تغييره بعد أن كان مقرراً في تشرين الثاني من السنة ذاتها. 

تعدّ مجالس المحافظات في العراق، وفقاً للدستور، بمثابة السلطة التشريعية والرقابية في كل محافظة، حيث لهذه المجالس المنتخبة الحق في إصدار التشريعات المحلية، بما يمكّنها من إدارة شؤونها وفق مبدأ اللامركزية الإدارية، من دون أن يتعارض ذلك مع الدستور والقوانين التي تندرج ضمن الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية. 

وتمتد الدورة الانتخابية لمجالس المحافظات العراقية أربع سنوات تبدأ مع أول جلسة لها، وفقاً لقانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم الصادر عام 2008. 

وتتمتع مجالس المحافظات بالاستقلال المالي، ويمثلها رئيسها أو من يخوله، وتخضع لرقابة مجلس النواب بشكل مباشر. 

للمجالس المحلية موازنات ممنوحة من قبل الحكومة الاتحادية، بحسب المعايير الدستورية التي صادق عليها مجلس النواب. 

كما يمكن للمجالس تحصيل إيرادات مالية جراء الخدمات التي تقدمها والمشاريع الاستثمارية الخاصة بكل محافظة، علاوة على الإيرادات المتحصلة من الرسوم والغرامات المحلية، والمفروضة وفقاً للدستور والقوانين الاتحادية النافذة. 

وبحسب المادة 122 من الدستور، تتكون المحافظات من عدد من الأقضية والنواحي والقرى، ويعد المحافظ الذي ينتخبه مجلس المحافظة، الرئيس التنفيذي الأعلى في المحافظة، لممارسة صلاحياته المخول بها من قبل المجلس، ولا يخضع مجلس المحافظة لسيطرة أو إشراف أي وزارة أو أي جهة غير مرتبطة بوزارة، وله مالية مستقلة. 

كما تفيد المادة 123 من الدستور بأنه يجوز تفويض سلطات الحكومة الاتحادية للمحافظات أو بالعكس، بموافقة الطرفين على أن ينظم ذلك بقانون. 

على أرض الواقع، تختلف العلاقة بين السلطات الاتحادية والحكومات المحلية عن الدستور، كما يقول منقذ داغر، مدير منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في مؤسسة جالوب الدولية والعضو في مجلس إدارة المؤسسة. 

يشير داغر إلى أن مجالس المحافظات علمياً وعملياً تجسيد للامركزية، وهي بالتالي تمثيل لإرادة الناخب الحقيقية على المستوى المحلي. 

ويلفت إلى أن كل الدول التي لديها حكومات محلية قوية هي دول قوية، مثل الولايات المتحدة وألمانيا والهند، فالحكومات المحلية هي المجس والمعيار لقوة الحكومة الاتحادية وفاعليتها. 

“في العراق لدينا المفهوم معكوس بسبب قرون من المركزية الشديدة، فنعتقد أن كل لامركزية تعني تهديداً لوحدة البلاد، وهذا غير صحيح، لأن المجالس المحلية هي تدريب للناخب المحلي لكي يحسن الاختيار في الانتخابات العامة” يضيف لـ”جمّار”. 

قلة المهتمين 

لم يهتم أغلب العراقيين بعودة المجالس المحلية، فقد قاطع انتخابات مجالس المحافظات أكثر من 18 مليون عراقي (العدد الكلي للعراقيين الذين يحق لهم التصويت أكثر من 25 مليوناً، وعدد المصوتين أقل من 7 ملايين بحسب بيانات مفوضية الانتخابات). 

هذه المقاطعة تشير إلى عدم اكتراث الجمهور بهذه المجالس التي تحيطها أخبار عن الفساد، وما أكد ذلك محاولة مجلس محافظة بغداد الجديد في أولى جلساته تخصيص أراضٍ لأعضائه. 

وفي جردة حساب أجراها موقع “جمار”، تبين أن هناك أكثر من 30 عضو مجلس محافظة اعتقلوا لأسباب مختلفة، أكثرها يتعلق بالفساد والإرهاب. 

أشهر هذه القضايا تتعلق بأحد رؤساء مجلس محافظة نينوى وستة أعضاء آخرين، إذ حكمت عليهم محكمة الجنايات في المحافظة عام 2010 بالسجن لمدة بلغ مجموعها 128 سنة. 

وجاءت هذه الأحكام على خلفية قضايا حققت فيها هيئة النزاهة تتعلق بفساد مالي بخصوص عقود مبرمة مع بعض شركات المقاولات بمبالغ ضخمة. 

أما أشهر حالات الاعتقال بتهمة الإرهاب، فهي قضية ليث الدليمي عضو مجلس محافظة بغداد السابق الذي اعتقل عام 2012. 

قال قائد شرطة بغداد في حينها إن الدليمي -وكان عضواً في مجلس محافظة بغداد عن ائتلاف العراقية بقيادة إياد علاوي- ينتمي لتنظيم القاعدة، وأنه متورط بعمليات قتل وتفجير في مناطق متعددة من بغداد، ومحاولة اغتيال كامل الزيدي رئيس مجلس محافظة بغداد الأسبق، بواسطة شبكة تضم 18 عضواً. 

بعد خمس سنوات أفرج عن الدليمي ثم فاز بمقعد في مجلس النواب في دورتي 2018 و2021 قبل إلغاء عضويته على خلفية قضية تزوير. 

كما أثارت أحداث أخرى غضب العراقيين على مجالس المحافظات، مثل شراء مجلس كربلاء في عام 2016، 54 سيارة دفع رباعي نوع تويوتا GXR لأعضائه، بحسب ما ذكر محتجون في حينها أمام مقر الحكومة المحلية في المحافظة. 

وفي العام ذاته، نشرت وسائل إعلام وثيقة تظهر رواتب ومخصصات 447 عضواً في مجالس المحافظات والتي تصل إلى 200 مليار دينار سنوياً (ما يعادل نحو 164 مليون دولار بحسب سعر الصرف في ذلك الحين)، فيما كانت البلاد تمر وقتئذ بأسوأ أزمة اقتصادية بعد 2003. 

الوثيقة بينت أن مصروفات الشاي والماء تحت بند “الضيافة” تكلف شهرياً 200 مليون دينار، بواقع 500 ألف دينار لكل عضو، ومثلها لوقود المركبات البالغ عددها نحو 900 سيارة لإجمالي أعضاء المجالس. 

في هذا السياق، ذكرت قناة الفلوجة في برنامج بث قبل سبعة أشهر من احتجاجات تشرين، أن أعضاء مجالس المحافظات يتسلمون 171 مليار دينار سنوياً كرواتب فقط. 

ووفق البرنامج الذي بث في شباط 2019، يتسلم 1200 موظف رواتبهم من الموازنة الاتحادية ومن مخصصات المحافظات “تحت مسميات حماية أو كاتب، لكن في النهاية المبالغ ستكون في جيب عضو مجلس المحافظة”. 

ونفى طه عبد الغني، عضو سابق في مجلس محافظ الأنبار، في برنامج تلفزيوني عام 2020 تسلم رواتب تقاعدية، مؤكداً أن مجالس المحافظات مؤسسات “غير هادرة للمال العام ولن تكلف الموازنة وليس لدى أعضائها حمايات أو سيارات أو امتيازات”. 

ويرى أعضاء مجالس المحافظات، خلال حوارات تلفزيونية وصحفية، أن أهمية وجودها تأتي من أن العراق دولة اتحادية تدار باللامركزية، وليست دولة ذات نظام رئاسي يتحكم بأطراف البلد من خلال المركز، معتبرين أن مجالس المحافظات تمثل الأذرع للحكومة الاتحادية والحكومات المحلية. 

ويتحدّث أعضاء تلك المجالس عن تأثيرهم على القرارات المحلية باعتبار أنهم أبناء المحافظات الذين يعلمون جيداً المشكلات في محافظاتهم ومكامن التقصير والخلل، ويرون أنه من خلال التعاون مع الأهالي يمكنهم وضع تصور أو رؤية مناسبة لإيجاد الحلول للمشكلات المحلية. 

ولا يجد أعضاء المجالس أن وظيفتهم تعنى بالسياسة وإنما بتقديم الخدمات، ويعتقدون أن الاعتراض على وجود هذه المجالس له أسباب سياسية، بداعي أن الكتل الكبيرة التي ينتمي إليها بعض المحافظين انتفعت من امتيازات وأموال كثيرة حصلوا عليها بسبب الفساد الذي انتشر أثناء غياب دور المراقب الذي كانت تلعبه المجالس. 

لحظة تشرين 

في احتجاجات تشرين الأول 2019، وهي الأكبر بعد 2003، قرر الجمهور مواجهة المسؤولين المحليين وبدأت القطيعة النهائية بين الطرفين. 

في أواخر تلك السنة تجمّع محتجون غاضبون في الناصرية لتهديم منزل جبار الموسوي رئيس اللجنة الأمنية في مجلس محافظة ذي قار والتابع لكتائب حزب الله، وقد كان المنزل قد أحرق قبل ذلك. 

الموسوي كان قد حرّض في تسجيل صوتي انتشر بعد ذلك، على مواجهة المتظاهرين، ووصفهم في التسجيل المنسوب إليه بأنهم “أسوأ من البعثيين”. 

أحضر المحتجون آنذاك خمس جرافات، حسبما تداول الإعلام، لتهديم البيت، فيما كانت حوادث اغتيال المتظاهرين تتصاعد. 

وكان محتجون غاضبون أحرقوا مبنى مجلس محافظة ذي قار، وأضرم آخرون النار بنحو 12 مرة أخرى في مجالس محافظات عدة أبرزها ذي قار والبصرة والديوانية، أثناء موجة تشرين واحتجاجات البصرة قبلها عام 2018. 

وعلى ذكر التسجيلات المسربة، أطاح في ذروة الاحتجاجات تسجيل آخر برعد الجبوري رئيس مجلس محافظة بابل يدعو فيه إلى قمع المتظاهرين. 

وقرر مجلس المحافظة في إثر ذلك، في تشرين الأول 2019، إقالة الجبوري بعد أن أكد أن التسجيل صحيح وعائد له. 

وكان التسجيل المسرب يظهر الصوت المنسوب للجبوري وهو يطلب التعامل بقوة مع المتظاهرين واعتقالهم حتى لو كان الاعتقال من دون صدور أوامر قبض. 

وادعى الجبوري وقتذاك أن “التسجيل مفبرك”، وأنه حث القوات الأمنية على التعامل مع المتظاهرين بـ”محبة وأخوية”. 

وقد أحرق منزله بعد ذلك. 

عقب ذلك التاريخ بنحو عامين، حكم على حسين البديري، العضو السابق في مجلس محافظة الديوانية، بالسجن تسع سنوات لـ”اعتدائه على متظاهرين”. 

وكان مجلس القضاء الأعلى أصدر مذكرة اعتقال في 2019 بحق البديري، العضو في منظمة بدر بزعامة هادي العامري، بعد اعتدائه هو وأفراد حمايته على المتظاهرين في المحافظة. 

ووثق شريط مصور انتشر في الأيام الأولى لانطلاق التظاهرات، البديري وهو يركض وراء المتظاهرين في المحافظة بغية ضربهم. 

وحاولت مجالس المحافظات في تلك الفترة رمي الكرة في ملعب الحكومة الاتحادية لامتصاص غضب المحتجين، كما رفضت قرار الحل الذي صدر عن مجلس النواب. 

ورفعت مجالس محافظات دعاوى أمام القضاء ضد قرار مجلس النواب إيقاف عملها. 

وقال سعد المطلبي، عضو مجلس محافظة بغداد السابق عن ائتلاف دولة القانون بزعامة نوري المالكي، في 2019 إن “المجلس استجاب لمطالب المتظاهرين بعدم رغبتهم بوجود مجالس المحافظات، لكن ذلك الإيقاف لا يعد قانونياً”. 

وفي العام ذاته، قرر سيدو جتو الرئيس السابق لمجلس محافظة نينوى، الطعن بقرار إيقاف عمل المجالس. 

خطة العودة 

بدأ إحياء فكرة عودة مجالس المحافظات بعد تراجع زخم الاحتجاجات في شباط 2020، من بوابة “مظلومية الأعضاء” الذين لم يحصلوا على رواتب، وعدم شرعية إلغاء المجالس. 

هدد رئيس مجلس محافظة سابق، في حينها، بأنه لن يسلم السيارات المخصصة للمجلس، بحسب تصريح لأحد المواقع المحلية. 

وقال جمال مولود، وهو رئيس السن لمجلس محافظة كركوك في ذلك الوقت، “ننتظر قرار المحكمة الاتحادية، إما أن تقضي بعودتنا إلى ممارسة مهامنا أو الإحالة إلى التقاعد”. 

وكان نواب وأعضاء حكومات محلية في عدد من المحافظات، طعنوا آنذاك بقرار مجلس النواب في 2019 حل مجالس المحافظات. 

وأصدرت المحكمة الاتحادية، يوم 17 كانون الأول 2019، حكماً بخصوص الطعون المقدمة إليها وقالت إن “النظر في الدعوى أصبح من ذي الموضوع بعد صدور قانون رقم 27 لعام 2017، لأن مجلس النواب صوت على التعديل الثاني لقانون الانتخابات ونص القانون على إنهاء عمل مجالس المحافظات ومجالس الأقضية والنواحي”. 

وقبل ذلك كان المطلبي اعتبر أن قرار حجب رواتب موظفي مجالس المحافظات يؤثر على آلاف الموظفين. 

وذكر في تصريحات سابقة أن وزارة المالية “حجبت رواتب الأعضاء وأبقت على رواتب المحافظين”. 

محمد الحلبوسي رئيس مجلس النواب في ذلك الوقت، أكد في 28 تشرين الأول 2019، أن قرار حل مجالس المحافظات قانوني ودستوري. 

الانقلاب حصل لاحقاً حين صدر قرار عن المحكمة الاتحادية نسف كل ما فعله مجلس النواب خلال احتجاجات تشرين. 

صدر القرار في حزيران 2021، ناصّاً على أن قرار بقاء مجالس المحافظات غير قانوني بسبب انتهاء الولاية، لكنه شدد على أن “إلغاء المجالس غير دستوري”. 

تعديل المقاس 

عقب قرار المحكمة الاتحادية الأخير، جاءت الخطوة الثانية بتعديل قانون الانتخابات المحلية، ليمهد لعودة مريحة إلى المجالس. 

وتعد مجالس المحافظات مجسات للأحزاب لمعرفة حجم شعبيتها، وخطوة تمهيدية قبل الانتخابات العامة التشريعية، وفق ما يقول محللون. 

كانت القوى الشيعية وقتذاك قد استوعبت درس انتخابات 2021، الذي حقق فيه التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر، الصدارة بـ73 مقعداً، قبل أن يتخلى الأخير عن مقاعده ويعتزل السياسة في صيف 2022. 

وعلى هذا الأساس، أعدت القوى السياسية، وبغياب الصدر، قانوناً على مقاسها بدلاً من الدوائر المفتوحة التي طبقت في انتخابات 2021، فيما رفض التيار آنذاك، والذي تحمس للنظام الانتخابي السابق، المشاركة في نقاشات أو إعطاء مقترحات حول القانون الجديد. 

في آذار 2023 وقبل تسعة أشهر من انتخابات مجالس المحافظات، صوت مجلس النواب على نظام “سانت ليغو”، الذي منح قوى الإطار التنسيقي بعد ذلك أكثر من 100 مقعد في 14 محافظة من أصل 15 أجريت فيها الانتخابات (لم يحصلوا على أي مقعد في الأنبار). 

النتائج المزعجة 

وبدت مقاطعة الصدريين للانتخابات المحلية التي جرت في 18 كانون الأول 2023، في الوهلة الأولى تصب لمصلحة الفريق الشيعي، الذي ربما أجرى حسابات خاطئة حين قسّم نفسه إلى قوائم متعددة وصلت إلى 12 قائمة في الانتخابات. 

كان هذا التقسيم هو فعل استباقي لمحاصرة الصدر وتقليل أصواته، لكن الأخير فاجأهم قبل شهر من الانتخابات بأنه لن يشارك فيها، بل حتى منع أنصاره من التصويت. 

أشارت أغلب التحليلات في وقت انسحاب الصدر، إلى أن الإطار بقوائمه المتعددة، سوف يحصل على نصيب الأسد. 

وحدث ذلك بالفعل، حيث سيطر التحالف الشيعي على أكثر من نصف مقاعد المجالس (أكثر من 150 مقعداً من أصل 280). 

لكن هذه النتائج مثلما رفعت أسهم القوى الشيعية، عززت رصيد الأحزاب السنية، وهو ما كان يخشاه زعماء الإطار. 

كان عمار الحكيم، رئيس تيار الحكمة، قد علق على قرار مقاطعة الصدر للانتخابات بالقول “عدم المشاركة ومنع الناس من المشاركة سيخلق نتائج غير متوازنة في تمثيل المكونات الاجتماعية، ولاسيما في المحافظات ذات التمثيل المكوناتي المتنوع”. 

وحمّل الحكيم في مؤتمر انتخابي آنذاك، فيما بدا وكأنه قراءة لما سيحدث لاحقاً في المحافظات، “دعاة منع الناس من المشاركة مسؤولية اختلال التوازن المكوناتي وحالة عدم الاستقرار التي ستترتب عليه”. 

بعد النتائج 

حين قسّم الإطار التنسيقي نفسه إلى 12 قائمة انتخابية، كان سيعود مرة أخرى إلى الاندماج بعد إعلان النتائج، ليعيد توزيع الحصص والمناصب داخل منظومته. 

وأعلن التحالف الشيعي ذلك صراحة في بيان مطلع آب 2023، قائلاً إنه سيشارك في الانتخابات بأكثر من قائمة، موضحاً أن “جميع القوائم ستلتئم ضمن تحالف واحد بعد الانتخابات”. 

لكن الوضع كان قد انفجر بعد ذلك حين حصل ثلاثة محافظين سابقين على المراتب الأولى بنتائج الانتخابات، وهم أسعد العيداني محافظ البصرة ونصيف الخطابي محافظ كربلاء ومحمد المياحي محافظ واسط. 

التحالف الشيعي (الإطار التنسيقي) سبق واتفق على منع عودة أي محافظ سابق، لكن كيف سيتصرف مع الأصوات الكبيرة التي حصل عليها هؤلاء الثلاثة؟ 

موافقة جزء من الإطار على عودة المحافظين الثلاثة أدى إلى انهيار الاتفاق السابق، وإعادة توزيع المناصب باتفاقيات جانبية. 

انفرد فالح الفياض، رئيس الحشد الشعبي وقائمة العقد الوطني، باتفاق مع أحمد الجبوري المعروف بين العراقيين بـ”أبي مازن” وصاحب النفوذ الواسع في محافظة صلاح الدين، يقضي بتقاسم الحكومة المحلية في المحافظة، ما أثار غضب عصائب أهل الحق بزعامة قيس الخزعلي. 

حصل الفياض على منصب رئيس مجلس محافظة صلاح الدين، وهددت العصائب بتقسيم المحافظة إلى شمالية وجنوبية رداً على الاتفاق، وهو ما سيفجر الوضع بعد ذلك في ديالى. 

تأخر حسم منصبي المحافظ في ميسان والديوانية بسبب نزاع بين منظمة بدر ونوري المالكي، قبل أن يُحسم المنصبان لبدر، ويزيد المالكي النار حطباً في ديالى. 

ذهبت العصائب ودولة القانون إلى ديالى، وبدر كانت المسيطرة على المحافظة منذ 2014. 

انسحبت العصائب بعد ذلك من الصراع في ديالى حين حصلت على منصب المحافظ في بابل، حيث مُنح لعدنان فيحان القيادي في الحركة. 

استمر الصراع بين بدر والمالكي على منصب محافظ ديالى، حتى حسم بشكل غير ودي مطلع آب الحالي، وفاز الأخير بالمنصب، فيما غضب أنصار المحافظ السابق مثنى التميمي المدعوم من بدر، وأغلقوا مقرات حكومية هناك. 

لم ينس الإطار وسط تلك الصراعات أن يلمح إلى أن التيار الصدري ربما كان وراء جزء من تلك الإشكاليات، وظن أن الصدريين المقاطعين صعّدوا أصوات السنة في ديالى، ما منع الشيعة من الحصول على أغلبية مريحة. 

كما تحدثت أطراف في الإطار، بحسب تسريبات من اجتماعات مغلقة وصلت لـ”جمّار”، عن أن الأصوات الصدرية ذهبت لصالح محمد المياحي في واسط. 

والمياحي كان قد قرر بعد 2021 أن ينضم إلى الصدر، لكنه لم يعتزل حين قاطع الأخير العملية السياسية في 2022. 

كما ظن الإطار التنسيقي أن جمهور التيار الصدري صوت لقوائم الحلبوسي في بغداد كما في ديالى، وهي ترجيحات لم تثبت صحتها حتى الآن.  

في المقابل، استمرت عقدة كركوك، فهي جزء من مشكلة انقسام العرب والكرد، وارتباط كل مجموعة باتفاقيات جانبية على مستوى مجلس النواب والمحافظات. 

وعلى الرغم من انتخاب حكومة محلية لكركوك في 11 آب 2024، إلا أنها لاقت اعتراضات ودعاوى طعن من قبل التركمان وجزء من العرب والكرد. 

وتسربت معلومات تفيد بأن أطراف كركوك الفائزة بالانتخابات تعثرت في اختيار المحافظ هناك بسبب ارتباط الموضوع باختيار بديل الحلبوسي لرئاسة مجلس النواب، وحسم منصب محافظ ديالى، حيث ترتبط المناصب الثلاثة بشبكة علاقات وتسويات معقدة. 

وبحسب صور لاحقة عن وقائع تشكيل حكومة كركوك في فندق الرشيد بالمنطقة الخضراء وسط بغداد، ظهر بافل طالباني رئيس الاتحاد الوطني الكردستاني جالساً مع ريان الكلداني القيادي المسيحي المقرب من الفصائل المسلحة الشيعية، يتوسطهما قيس الخزعلي، في إشارة إلى أن هذه اتفاقات عابرة للمحافظات. 

منع الاصطدام 

حتى الآن مضى نحو ستة أشهر على بدء عمل مجالس المحافظات الجديدة، وأغلب تلك المجالس بدأت فعلياً الاجتماعات الأولى في شباط الماضي، ويفترض أن تسير على طريق “لا تثير فيه الغبار”. 

تشير بعض المعلومات التي حصل عليها “جمّار” من أطراف سياسية، إلى أن الأحزاب طلبت من تلك المجالس “عدم الاصطدام بالجمهور” ريثما تتجدد الثقة بعد هزة تشرين. 

سكان المحافظات بدورهم لا يبدون مهتمين بمتابعة أخبار تلك المجالس، حتى الآن، وكأنها غير موجودة. 

ولدى أعضاء المجالس مبررات يقدمونها كلما سئلوا متى يقدمون عملاً ملموساً. 

على سبيل المثال، يقول علي جاسم عضو مجلس محافظة بغداد الحالي، إن “العاصمة من أكبر المحافظات من حيث عدد السكان والأصغر مساحة، وهناك تراكمات كبيرة خلفتها إخفاقات الحكومات المحلية المتعاقبة واجهتنا منذ باشرنا العمل في المجلس”. 

ويضيف جاسم لـ”جمّار” أن “أعضاء مجالس المحافظات أمام تحد كبير يشكله الجمهور ومناطقنا وأنفسنا وبرامجنا. أولوياتنا هي تغيير واقع مدينة بغداد من حيث الخدمات”. 

ويشير إلى أن “المهمة شاقة” لأن بغداد توسعت من حيث المساحة وزاد عدد سكانها، ما يفرض الحاجة إلى مراقبة الجهات التنفيذية بدقة. 

يشار إلى أن مجلس بغداد ذاته شهد أول خروج عن قاعدة عدم الاصطدام بالجمهور، التي يفترض أن تلتزم بها المجالس مؤقتاً. 

فقد تسربت وثيقة بعد مدة وجيزة من تشكيل المجلس تظهر طلب رئيسه تشكيل لجنة لتوزيع قطع أراض على الأعضاء. 

انتشرت صور الوثيقة كالنار في الهشيم. 

جاء في الوثيقة “لمقتضيات مصلحة العمل تقرر تشكيل لجنة من أعضاء مجلس محافظة بغداد (الدورة الرابعة) لغرض تخصيص قطع أراض سكنية لأعضاء المجلس وبحسب التعليمات المنصوص عليها والخاصة بامتيازات أعضاء مجالس المحافظات السابقين”. 

تدريجياً تم التراجع عن الطلب بعد موجة انتقادات. 

وقال عامر داود، وهو عضو في مجلس بغداد، إن الأراضي لـ”موظفي المجلس وليس للأعضاء”. 

فيما قدّم رائد حميد الهماش، رئيس لجنة النزاهة في مجلس محافظة بغداد، طلباً بالانسحاب من رئاسة لجنة تخصيص الأراضي السكنية، بحسب وثيقة سربت للإعلام. 

دكاكين وطائرات مسيرة   

خلال الأشهر الستة الأخيرة لم يظهر أي عمل واضح للمجالس باستثناء الخلافات. 

يصف مسعد الراجحي، عضو حركة امتداد، مجالس المحافظات بأنها “دكاكين تعمل لصالح الأحزاب التقليدية، والدليل لم تقدم إنجازاً منذ انتخابها لغاية اليوم”. 

وكانت “امتداد” المنبثقة عن احتجاجات تشرين، قد أعلنت في آب الماضي مقاطعتها الانتخابات المحلية بسبب تأخرها في انعقاد مؤتمرها العام الأول لانتخاب قيادة جديدة. 

أما الحزب الشيوعي، أحد أبرز الأطراف التي دعمت تظاهرات تشرين، فقد شارك في الانتخابات بأكثر من تحالف، وفاز تحالف “قيم المدني”، أحد التحالفات المشارك بها الحزب، بأربعة مقاعد في محافظتين. 

وضمن خلافات المجالس الجديدة، اتهم رئيس مجلس محافظة واسط أحد نواب الإطار التنسيقي بتهديده بالقتل بواسطة طائرة مسيرة. 

وبحسب وثيقة الدعوى التي تقدم بها علي سليمون رئيس المجلس، إلى الادعاء العام ضد النائب يوسف الكلابي في شباط الماضي، قام الكلابي بتهديد وترغيب عدد من أعضاء مجلس محافظة واسط وخاصة عن كتلة “واسط أجمل” التي يرأسها المحافظ محمد المياحي، بهدف استمالتهم تحت التهديد المباشر من أجل دعمه ليكون محافظاً لواسط. 

ونصت الدعوى على أن الكلابي، وهو نائب عن الإطار التنسيقي، هدد أعضاء مجلس محافظة واسط بشكل علني بالتصفية الجسدية من خلال الطائرات المسيرة. 

وكانت خلافات شديدة وقعت في تلك الفترة بين المحافظ المياحي من جهة، والكلابي ومحسن المندلاوي رئيس مجلس النواب بالوكالة من جهة أخرى، بسبب تشكيل الحكومة المحلية في واسط. 

أيضاً في نينوى انشغل مجلس المحافظة بعد حسم المناصب الرئيسية عقب الانتخابات، بأزمة اللجان وتغيير رؤساء الوحدات الإدارية. 

وأفاد أحمد العبد ربه عضو مجلس محافظة نينوى، في آذار الماضي، بوجود خلافات بين أعضاء المجلس على توزيع اللجان. 

وأشار إلى أن أعضاء تحالفات الإطار ومنشقين عن تحالفه (العزم) يسعون “للقفز” على حقوقهم في اللجان. 

وتدخلت الحكومة الاتحادية في بغداد لإيقاف التغييرات الإدارية في نينوى، التي تسببت بتعليق تحالف نينوى الموحدة (9 مقاعد) عضويته في المجلس، ورفض الحزب الديمقراطي الكردستاني تلك الإجراءات. 

وعدّ أعضاء الحزب الديمقراطي في مجلس نينوى، ما جرى “التفافاً على القانون والتوافقات السياسية”. 

تفجرت الأزمة بعد تصويت كتلة نينوى المستقبل (16 مقعداً من أصل 29 في مجلس المحافظة) على إقالة 20 رئيس وحدة إدارية من أصل 31 مسؤولاً كانوا قد قضوا سنوات طويلة في مناصبهم. 

ويقود الفياض والكلداني هذه الكتلة. 

ولاحقاً انفجر الوضع في جنوب العراق، حيث تعرض الاتفاق الهش الذي أبرمه الإطار التنسيقي لإدارة الحكومات المحلية بعد الانتخابات، إلى تصدعات، كما جرى في إقالة عبد الباقي العمري رئيس مجلس محافظة ذي قار المنتمي إلى كتلة أحمد الأسدي وزير العمل. 

العمري وعندما استجوبه مجلس المحافظة غيابياً -امتنع عن حضور جلسة الاستجواب لذرائع عدة- ومن ثم أقاله، خرج في مؤتمر صحفي ووصف ما يجري بأنه “انقلاب سياسي”. 

رئيس المجلس المقال قال بوضوح في المؤتمر إن ما يجري “سيؤثر على اتفاقات سياسية جرت في بغداد.. من سيتحمل ما سيجري؟”. 

والمشهد في ذي قار قد يتكرر في محافظة ثانية في الوسط والجنوب على وجه الخصوص، وفق ما يرجح مراقبون، بسبب محاولة إعادة توزيع قوى الإطار التنسيقي بين الحكومات المحلية عقب فشل بنود عدة في اتفاقاته الداخلية. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

نظرياً، مضى نحو ستة أشهر على بدء عمل مجالس المحافظات، التي عادت للحياة السياسية بعد توقف دام أربعة أعوام، لكن واقعياً هذه المجالس عاطلة عن العمل منذ عودتها حتى الآن. 

لم يكن المطلوب من هذه المجالس أكثر من أن تكون عاطلة حالياً، بمعنى أن لا تثير الغبار، وتؤجل المواجهة مع الجمهور. 

وتعرضت مجالس المحافظات منذ أول ظهور لها بعد انتخابات 2005 إلى انتقادات قاسية، مرة من الجمهور الذي ظن أنها حلقة فساد -وما زال يظن ذلك- ومرة أخرى من الأحزاب. 

وتلقت هذه المجالس اللكمات بدلاً من الأحزاب والحكومة الاتحادية في بغداد. 

اُحرق نحو 14 مبنىً لتلك المجالس في موجتي احتجاجات، وتعرض أعضاؤها إلى 34 حالة اغتيال، نجح منها 13. 

في المقابل، واجهت هذه المجالس تهم الفساد والتعاون مع الجماعات الإرهابية، فاعتقل عشرات من أعضائها بمثل هذه التهم، أشهرهم ليث الدليمي. 

التضحية بالمجالس 

حين تم تخفيف سقف مطالب المحتجين أثناء تظاهرات تشرين 2019 من تغيير النظام السياسي إلى إجراء إصلاحات، كانت أول حلقة تسقط في هذا النظام هي مجالس المحافظات. 

دور وكيل الأحزاب الذي لعبته تلك المجالس في مواجهة الجمهور في المحافظات هو من أطاح بها، كما حاول مجلس النواب حماية نفسه بحلها. 

في 28 تشرين الأول من تلك السنة، صوّت مجلس النواب على حلّ مجالس المحافظات والأقضية والنواحي من حيث المبدأ، لحين إجراء انتخابات في العام الذي يليه، لكن لم يحدث ذلك إلا بعد أربع سنوات. 

وبعد تصويته على حل مجالس المحافظات، منح مجلس النواب تخويلاً للمحافظين بإدارة الأمور المالية والإدارية في كل محافظة، على أن تتولى السلطة التشريعية الاتحادية الإشراف والمراقبة على المحافظين لحين إجراء الانتخابات. 

وصوّت مجلس النواب أيضاً على أن يقدم المحافظون موازناتهم المالية إلى اللجنة المالية النيابية. 

وبعد ذلك بشهر واحد، أقرّ المجلس مقترح قانون التعديل الثاني لقانون انتخابات مجالس المحافظات والأقضية رقم 12 لعام 2018. 

ونصَّ التعديل على “إنهاء عمل مجالس المحافظات غير المنتظمة في إقليم ومجالس الأقضية والنواحي الحالية التابعة لها”. 

وبموجب التعديل، “يقوم أعضاء مجلس النواب كلا قدر تعلق الأمر بالمحافظة التي يمثلها بممارسة الإشراف والرقابة على أعمال المحافظ ونائبيه في كل محافظة، وتقديم التوصيات اللازمة بشأنها لمجلس النواب”. 

وبموجب التعديل أيضاً، فإنه لن تجري انتخابات مجالس جديدة، بل سيقتصر الأمر على انتخاب الحكومات المحلية المتمثلة بالمحافظين ونوابهم. 

وكان من المقرر إجراء انتخابات المجالس المحلية في أيار 2018، لكنها أرجئت إلى أيلول 2018 ومن ثم إلى تشرين الأول 2019، ثم أرجئت بعد ذلك إلى نيسان 2020. 

وأخيراً أجريت الانتخابات في 18 كانون الأول 2023، وهو موعد تم تغييره بعد أن كان مقرراً في تشرين الثاني من السنة ذاتها. 

تعدّ مجالس المحافظات في العراق، وفقاً للدستور، بمثابة السلطة التشريعية والرقابية في كل محافظة، حيث لهذه المجالس المنتخبة الحق في إصدار التشريعات المحلية، بما يمكّنها من إدارة شؤونها وفق مبدأ اللامركزية الإدارية، من دون أن يتعارض ذلك مع الدستور والقوانين التي تندرج ضمن الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية. 

وتمتد الدورة الانتخابية لمجالس المحافظات العراقية أربع سنوات تبدأ مع أول جلسة لها، وفقاً لقانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم الصادر عام 2008. 

وتتمتع مجالس المحافظات بالاستقلال المالي، ويمثلها رئيسها أو من يخوله، وتخضع لرقابة مجلس النواب بشكل مباشر. 

للمجالس المحلية موازنات ممنوحة من قبل الحكومة الاتحادية، بحسب المعايير الدستورية التي صادق عليها مجلس النواب. 

كما يمكن للمجالس تحصيل إيرادات مالية جراء الخدمات التي تقدمها والمشاريع الاستثمارية الخاصة بكل محافظة، علاوة على الإيرادات المتحصلة من الرسوم والغرامات المحلية، والمفروضة وفقاً للدستور والقوانين الاتحادية النافذة. 

وبحسب المادة 122 من الدستور، تتكون المحافظات من عدد من الأقضية والنواحي والقرى، ويعد المحافظ الذي ينتخبه مجلس المحافظة، الرئيس التنفيذي الأعلى في المحافظة، لممارسة صلاحياته المخول بها من قبل المجلس، ولا يخضع مجلس المحافظة لسيطرة أو إشراف أي وزارة أو أي جهة غير مرتبطة بوزارة، وله مالية مستقلة. 

كما تفيد المادة 123 من الدستور بأنه يجوز تفويض سلطات الحكومة الاتحادية للمحافظات أو بالعكس، بموافقة الطرفين على أن ينظم ذلك بقانون. 

على أرض الواقع، تختلف العلاقة بين السلطات الاتحادية والحكومات المحلية عن الدستور، كما يقول منقذ داغر، مدير منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في مؤسسة جالوب الدولية والعضو في مجلس إدارة المؤسسة. 

يشير داغر إلى أن مجالس المحافظات علمياً وعملياً تجسيد للامركزية، وهي بالتالي تمثيل لإرادة الناخب الحقيقية على المستوى المحلي. 

ويلفت إلى أن كل الدول التي لديها حكومات محلية قوية هي دول قوية، مثل الولايات المتحدة وألمانيا والهند، فالحكومات المحلية هي المجس والمعيار لقوة الحكومة الاتحادية وفاعليتها. 

“في العراق لدينا المفهوم معكوس بسبب قرون من المركزية الشديدة، فنعتقد أن كل لامركزية تعني تهديداً لوحدة البلاد، وهذا غير صحيح، لأن المجالس المحلية هي تدريب للناخب المحلي لكي يحسن الاختيار في الانتخابات العامة” يضيف لـ”جمّار”. 

قلة المهتمين 

لم يهتم أغلب العراقيين بعودة المجالس المحلية، فقد قاطع انتخابات مجالس المحافظات أكثر من 18 مليون عراقي (العدد الكلي للعراقيين الذين يحق لهم التصويت أكثر من 25 مليوناً، وعدد المصوتين أقل من 7 ملايين بحسب بيانات مفوضية الانتخابات). 

هذه المقاطعة تشير إلى عدم اكتراث الجمهور بهذه المجالس التي تحيطها أخبار عن الفساد، وما أكد ذلك محاولة مجلس محافظة بغداد الجديد في أولى جلساته تخصيص أراضٍ لأعضائه. 

وفي جردة حساب أجراها موقع “جمار”، تبين أن هناك أكثر من 30 عضو مجلس محافظة اعتقلوا لأسباب مختلفة، أكثرها يتعلق بالفساد والإرهاب. 

أشهر هذه القضايا تتعلق بأحد رؤساء مجلس محافظة نينوى وستة أعضاء آخرين، إذ حكمت عليهم محكمة الجنايات في المحافظة عام 2010 بالسجن لمدة بلغ مجموعها 128 سنة. 

وجاءت هذه الأحكام على خلفية قضايا حققت فيها هيئة النزاهة تتعلق بفساد مالي بخصوص عقود مبرمة مع بعض شركات المقاولات بمبالغ ضخمة. 

أما أشهر حالات الاعتقال بتهمة الإرهاب، فهي قضية ليث الدليمي عضو مجلس محافظة بغداد السابق الذي اعتقل عام 2012. 

قال قائد شرطة بغداد في حينها إن الدليمي -وكان عضواً في مجلس محافظة بغداد عن ائتلاف العراقية بقيادة إياد علاوي- ينتمي لتنظيم القاعدة، وأنه متورط بعمليات قتل وتفجير في مناطق متعددة من بغداد، ومحاولة اغتيال كامل الزيدي رئيس مجلس محافظة بغداد الأسبق، بواسطة شبكة تضم 18 عضواً. 

بعد خمس سنوات أفرج عن الدليمي ثم فاز بمقعد في مجلس النواب في دورتي 2018 و2021 قبل إلغاء عضويته على خلفية قضية تزوير. 

كما أثارت أحداث أخرى غضب العراقيين على مجالس المحافظات، مثل شراء مجلس كربلاء في عام 2016، 54 سيارة دفع رباعي نوع تويوتا GXR لأعضائه، بحسب ما ذكر محتجون في حينها أمام مقر الحكومة المحلية في المحافظة. 

وفي العام ذاته، نشرت وسائل إعلام وثيقة تظهر رواتب ومخصصات 447 عضواً في مجالس المحافظات والتي تصل إلى 200 مليار دينار سنوياً (ما يعادل نحو 164 مليون دولار بحسب سعر الصرف في ذلك الحين)، فيما كانت البلاد تمر وقتئذ بأسوأ أزمة اقتصادية بعد 2003. 

الوثيقة بينت أن مصروفات الشاي والماء تحت بند “الضيافة” تكلف شهرياً 200 مليون دينار، بواقع 500 ألف دينار لكل عضو، ومثلها لوقود المركبات البالغ عددها نحو 900 سيارة لإجمالي أعضاء المجالس. 

في هذا السياق، ذكرت قناة الفلوجة في برنامج بث قبل سبعة أشهر من احتجاجات تشرين، أن أعضاء مجالس المحافظات يتسلمون 171 مليار دينار سنوياً كرواتب فقط. 

ووفق البرنامج الذي بث في شباط 2019، يتسلم 1200 موظف رواتبهم من الموازنة الاتحادية ومن مخصصات المحافظات “تحت مسميات حماية أو كاتب، لكن في النهاية المبالغ ستكون في جيب عضو مجلس المحافظة”. 

ونفى طه عبد الغني، عضو سابق في مجلس محافظ الأنبار، في برنامج تلفزيوني عام 2020 تسلم رواتب تقاعدية، مؤكداً أن مجالس المحافظات مؤسسات “غير هادرة للمال العام ولن تكلف الموازنة وليس لدى أعضائها حمايات أو سيارات أو امتيازات”. 

ويرى أعضاء مجالس المحافظات، خلال حوارات تلفزيونية وصحفية، أن أهمية وجودها تأتي من أن العراق دولة اتحادية تدار باللامركزية، وليست دولة ذات نظام رئاسي يتحكم بأطراف البلد من خلال المركز، معتبرين أن مجالس المحافظات تمثل الأذرع للحكومة الاتحادية والحكومات المحلية. 

ويتحدّث أعضاء تلك المجالس عن تأثيرهم على القرارات المحلية باعتبار أنهم أبناء المحافظات الذين يعلمون جيداً المشكلات في محافظاتهم ومكامن التقصير والخلل، ويرون أنه من خلال التعاون مع الأهالي يمكنهم وضع تصور أو رؤية مناسبة لإيجاد الحلول للمشكلات المحلية. 

ولا يجد أعضاء المجالس أن وظيفتهم تعنى بالسياسة وإنما بتقديم الخدمات، ويعتقدون أن الاعتراض على وجود هذه المجالس له أسباب سياسية، بداعي أن الكتل الكبيرة التي ينتمي إليها بعض المحافظين انتفعت من امتيازات وأموال كثيرة حصلوا عليها بسبب الفساد الذي انتشر أثناء غياب دور المراقب الذي كانت تلعبه المجالس. 

لحظة تشرين 

في احتجاجات تشرين الأول 2019، وهي الأكبر بعد 2003، قرر الجمهور مواجهة المسؤولين المحليين وبدأت القطيعة النهائية بين الطرفين. 

في أواخر تلك السنة تجمّع محتجون غاضبون في الناصرية لتهديم منزل جبار الموسوي رئيس اللجنة الأمنية في مجلس محافظة ذي قار والتابع لكتائب حزب الله، وقد كان المنزل قد أحرق قبل ذلك. 

الموسوي كان قد حرّض في تسجيل صوتي انتشر بعد ذلك، على مواجهة المتظاهرين، ووصفهم في التسجيل المنسوب إليه بأنهم “أسوأ من البعثيين”. 

أحضر المحتجون آنذاك خمس جرافات، حسبما تداول الإعلام، لتهديم البيت، فيما كانت حوادث اغتيال المتظاهرين تتصاعد. 

وكان محتجون غاضبون أحرقوا مبنى مجلس محافظة ذي قار، وأضرم آخرون النار بنحو 12 مرة أخرى في مجالس محافظات عدة أبرزها ذي قار والبصرة والديوانية، أثناء موجة تشرين واحتجاجات البصرة قبلها عام 2018. 

وعلى ذكر التسجيلات المسربة، أطاح في ذروة الاحتجاجات تسجيل آخر برعد الجبوري رئيس مجلس محافظة بابل يدعو فيه إلى قمع المتظاهرين. 

وقرر مجلس المحافظة في إثر ذلك، في تشرين الأول 2019، إقالة الجبوري بعد أن أكد أن التسجيل صحيح وعائد له. 

وكان التسجيل المسرب يظهر الصوت المنسوب للجبوري وهو يطلب التعامل بقوة مع المتظاهرين واعتقالهم حتى لو كان الاعتقال من دون صدور أوامر قبض. 

وادعى الجبوري وقتذاك أن “التسجيل مفبرك”، وأنه حث القوات الأمنية على التعامل مع المتظاهرين بـ”محبة وأخوية”. 

وقد أحرق منزله بعد ذلك. 

عقب ذلك التاريخ بنحو عامين، حكم على حسين البديري، العضو السابق في مجلس محافظة الديوانية، بالسجن تسع سنوات لـ”اعتدائه على متظاهرين”. 

وكان مجلس القضاء الأعلى أصدر مذكرة اعتقال في 2019 بحق البديري، العضو في منظمة بدر بزعامة هادي العامري، بعد اعتدائه هو وأفراد حمايته على المتظاهرين في المحافظة. 

ووثق شريط مصور انتشر في الأيام الأولى لانطلاق التظاهرات، البديري وهو يركض وراء المتظاهرين في المحافظة بغية ضربهم. 

وحاولت مجالس المحافظات في تلك الفترة رمي الكرة في ملعب الحكومة الاتحادية لامتصاص غضب المحتجين، كما رفضت قرار الحل الذي صدر عن مجلس النواب. 

ورفعت مجالس محافظات دعاوى أمام القضاء ضد قرار مجلس النواب إيقاف عملها. 

وقال سعد المطلبي، عضو مجلس محافظة بغداد السابق عن ائتلاف دولة القانون بزعامة نوري المالكي، في 2019 إن “المجلس استجاب لمطالب المتظاهرين بعدم رغبتهم بوجود مجالس المحافظات، لكن ذلك الإيقاف لا يعد قانونياً”. 

وفي العام ذاته، قرر سيدو جتو الرئيس السابق لمجلس محافظة نينوى، الطعن بقرار إيقاف عمل المجالس. 

خطة العودة 

بدأ إحياء فكرة عودة مجالس المحافظات بعد تراجع زخم الاحتجاجات في شباط 2020، من بوابة “مظلومية الأعضاء” الذين لم يحصلوا على رواتب، وعدم شرعية إلغاء المجالس. 

هدد رئيس مجلس محافظة سابق، في حينها، بأنه لن يسلم السيارات المخصصة للمجلس، بحسب تصريح لأحد المواقع المحلية. 

وقال جمال مولود، وهو رئيس السن لمجلس محافظة كركوك في ذلك الوقت، “ننتظر قرار المحكمة الاتحادية، إما أن تقضي بعودتنا إلى ممارسة مهامنا أو الإحالة إلى التقاعد”. 

وكان نواب وأعضاء حكومات محلية في عدد من المحافظات، طعنوا آنذاك بقرار مجلس النواب في 2019 حل مجالس المحافظات. 

وأصدرت المحكمة الاتحادية، يوم 17 كانون الأول 2019، حكماً بخصوص الطعون المقدمة إليها وقالت إن “النظر في الدعوى أصبح من ذي الموضوع بعد صدور قانون رقم 27 لعام 2017، لأن مجلس النواب صوت على التعديل الثاني لقانون الانتخابات ونص القانون على إنهاء عمل مجالس المحافظات ومجالس الأقضية والنواحي”. 

وقبل ذلك كان المطلبي اعتبر أن قرار حجب رواتب موظفي مجالس المحافظات يؤثر على آلاف الموظفين. 

وذكر في تصريحات سابقة أن وزارة المالية “حجبت رواتب الأعضاء وأبقت على رواتب المحافظين”. 

محمد الحلبوسي رئيس مجلس النواب في ذلك الوقت، أكد في 28 تشرين الأول 2019، أن قرار حل مجالس المحافظات قانوني ودستوري. 

الانقلاب حصل لاحقاً حين صدر قرار عن المحكمة الاتحادية نسف كل ما فعله مجلس النواب خلال احتجاجات تشرين. 

صدر القرار في حزيران 2021، ناصّاً على أن قرار بقاء مجالس المحافظات غير قانوني بسبب انتهاء الولاية، لكنه شدد على أن “إلغاء المجالس غير دستوري”. 

تعديل المقاس 

عقب قرار المحكمة الاتحادية الأخير، جاءت الخطوة الثانية بتعديل قانون الانتخابات المحلية، ليمهد لعودة مريحة إلى المجالس. 

وتعد مجالس المحافظات مجسات للأحزاب لمعرفة حجم شعبيتها، وخطوة تمهيدية قبل الانتخابات العامة التشريعية، وفق ما يقول محللون. 

كانت القوى الشيعية وقتذاك قد استوعبت درس انتخابات 2021، الذي حقق فيه التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر، الصدارة بـ73 مقعداً، قبل أن يتخلى الأخير عن مقاعده ويعتزل السياسة في صيف 2022. 

وعلى هذا الأساس، أعدت القوى السياسية، وبغياب الصدر، قانوناً على مقاسها بدلاً من الدوائر المفتوحة التي طبقت في انتخابات 2021، فيما رفض التيار آنذاك، والذي تحمس للنظام الانتخابي السابق، المشاركة في نقاشات أو إعطاء مقترحات حول القانون الجديد. 

في آذار 2023 وقبل تسعة أشهر من انتخابات مجالس المحافظات، صوت مجلس النواب على نظام “سانت ليغو”، الذي منح قوى الإطار التنسيقي بعد ذلك أكثر من 100 مقعد في 14 محافظة من أصل 15 أجريت فيها الانتخابات (لم يحصلوا على أي مقعد في الأنبار). 

النتائج المزعجة 

وبدت مقاطعة الصدريين للانتخابات المحلية التي جرت في 18 كانون الأول 2023، في الوهلة الأولى تصب لمصلحة الفريق الشيعي، الذي ربما أجرى حسابات خاطئة حين قسّم نفسه إلى قوائم متعددة وصلت إلى 12 قائمة في الانتخابات. 

كان هذا التقسيم هو فعل استباقي لمحاصرة الصدر وتقليل أصواته، لكن الأخير فاجأهم قبل شهر من الانتخابات بأنه لن يشارك فيها، بل حتى منع أنصاره من التصويت. 

أشارت أغلب التحليلات في وقت انسحاب الصدر، إلى أن الإطار بقوائمه المتعددة، سوف يحصل على نصيب الأسد. 

وحدث ذلك بالفعل، حيث سيطر التحالف الشيعي على أكثر من نصف مقاعد المجالس (أكثر من 150 مقعداً من أصل 280). 

لكن هذه النتائج مثلما رفعت أسهم القوى الشيعية، عززت رصيد الأحزاب السنية، وهو ما كان يخشاه زعماء الإطار. 

كان عمار الحكيم، رئيس تيار الحكمة، قد علق على قرار مقاطعة الصدر للانتخابات بالقول “عدم المشاركة ومنع الناس من المشاركة سيخلق نتائج غير متوازنة في تمثيل المكونات الاجتماعية، ولاسيما في المحافظات ذات التمثيل المكوناتي المتنوع”. 

وحمّل الحكيم في مؤتمر انتخابي آنذاك، فيما بدا وكأنه قراءة لما سيحدث لاحقاً في المحافظات، “دعاة منع الناس من المشاركة مسؤولية اختلال التوازن المكوناتي وحالة عدم الاستقرار التي ستترتب عليه”. 

بعد النتائج 

حين قسّم الإطار التنسيقي نفسه إلى 12 قائمة انتخابية، كان سيعود مرة أخرى إلى الاندماج بعد إعلان النتائج، ليعيد توزيع الحصص والمناصب داخل منظومته. 

وأعلن التحالف الشيعي ذلك صراحة في بيان مطلع آب 2023، قائلاً إنه سيشارك في الانتخابات بأكثر من قائمة، موضحاً أن “جميع القوائم ستلتئم ضمن تحالف واحد بعد الانتخابات”. 

لكن الوضع كان قد انفجر بعد ذلك حين حصل ثلاثة محافظين سابقين على المراتب الأولى بنتائج الانتخابات، وهم أسعد العيداني محافظ البصرة ونصيف الخطابي محافظ كربلاء ومحمد المياحي محافظ واسط. 

التحالف الشيعي (الإطار التنسيقي) سبق واتفق على منع عودة أي محافظ سابق، لكن كيف سيتصرف مع الأصوات الكبيرة التي حصل عليها هؤلاء الثلاثة؟ 

موافقة جزء من الإطار على عودة المحافظين الثلاثة أدى إلى انهيار الاتفاق السابق، وإعادة توزيع المناصب باتفاقيات جانبية. 

انفرد فالح الفياض، رئيس الحشد الشعبي وقائمة العقد الوطني، باتفاق مع أحمد الجبوري المعروف بين العراقيين بـ”أبي مازن” وصاحب النفوذ الواسع في محافظة صلاح الدين، يقضي بتقاسم الحكومة المحلية في المحافظة، ما أثار غضب عصائب أهل الحق بزعامة قيس الخزعلي. 

حصل الفياض على منصب رئيس مجلس محافظة صلاح الدين، وهددت العصائب بتقسيم المحافظة إلى شمالية وجنوبية رداً على الاتفاق، وهو ما سيفجر الوضع بعد ذلك في ديالى. 

تأخر حسم منصبي المحافظ في ميسان والديوانية بسبب نزاع بين منظمة بدر ونوري المالكي، قبل أن يُحسم المنصبان لبدر، ويزيد المالكي النار حطباً في ديالى. 

ذهبت العصائب ودولة القانون إلى ديالى، وبدر كانت المسيطرة على المحافظة منذ 2014. 

انسحبت العصائب بعد ذلك من الصراع في ديالى حين حصلت على منصب المحافظ في بابل، حيث مُنح لعدنان فيحان القيادي في الحركة. 

استمر الصراع بين بدر والمالكي على منصب محافظ ديالى، حتى حسم بشكل غير ودي مطلع آب الحالي، وفاز الأخير بالمنصب، فيما غضب أنصار المحافظ السابق مثنى التميمي المدعوم من بدر، وأغلقوا مقرات حكومية هناك. 

لم ينس الإطار وسط تلك الصراعات أن يلمح إلى أن التيار الصدري ربما كان وراء جزء من تلك الإشكاليات، وظن أن الصدريين المقاطعين صعّدوا أصوات السنة في ديالى، ما منع الشيعة من الحصول على أغلبية مريحة. 

كما تحدثت أطراف في الإطار، بحسب تسريبات من اجتماعات مغلقة وصلت لـ”جمّار”، عن أن الأصوات الصدرية ذهبت لصالح محمد المياحي في واسط. 

والمياحي كان قد قرر بعد 2021 أن ينضم إلى الصدر، لكنه لم يعتزل حين قاطع الأخير العملية السياسية في 2022. 

كما ظن الإطار التنسيقي أن جمهور التيار الصدري صوت لقوائم الحلبوسي في بغداد كما في ديالى، وهي ترجيحات لم تثبت صحتها حتى الآن.  

في المقابل، استمرت عقدة كركوك، فهي جزء من مشكلة انقسام العرب والكرد، وارتباط كل مجموعة باتفاقيات جانبية على مستوى مجلس النواب والمحافظات. 

وعلى الرغم من انتخاب حكومة محلية لكركوك في 11 آب 2024، إلا أنها لاقت اعتراضات ودعاوى طعن من قبل التركمان وجزء من العرب والكرد. 

وتسربت معلومات تفيد بأن أطراف كركوك الفائزة بالانتخابات تعثرت في اختيار المحافظ هناك بسبب ارتباط الموضوع باختيار بديل الحلبوسي لرئاسة مجلس النواب، وحسم منصب محافظ ديالى، حيث ترتبط المناصب الثلاثة بشبكة علاقات وتسويات معقدة. 

وبحسب صور لاحقة عن وقائع تشكيل حكومة كركوك في فندق الرشيد بالمنطقة الخضراء وسط بغداد، ظهر بافل طالباني رئيس الاتحاد الوطني الكردستاني جالساً مع ريان الكلداني القيادي المسيحي المقرب من الفصائل المسلحة الشيعية، يتوسطهما قيس الخزعلي، في إشارة إلى أن هذه اتفاقات عابرة للمحافظات. 

منع الاصطدام 

حتى الآن مضى نحو ستة أشهر على بدء عمل مجالس المحافظات الجديدة، وأغلب تلك المجالس بدأت فعلياً الاجتماعات الأولى في شباط الماضي، ويفترض أن تسير على طريق “لا تثير فيه الغبار”. 

تشير بعض المعلومات التي حصل عليها “جمّار” من أطراف سياسية، إلى أن الأحزاب طلبت من تلك المجالس “عدم الاصطدام بالجمهور” ريثما تتجدد الثقة بعد هزة تشرين. 

سكان المحافظات بدورهم لا يبدون مهتمين بمتابعة أخبار تلك المجالس، حتى الآن، وكأنها غير موجودة. 

ولدى أعضاء المجالس مبررات يقدمونها كلما سئلوا متى يقدمون عملاً ملموساً. 

على سبيل المثال، يقول علي جاسم عضو مجلس محافظة بغداد الحالي، إن “العاصمة من أكبر المحافظات من حيث عدد السكان والأصغر مساحة، وهناك تراكمات كبيرة خلفتها إخفاقات الحكومات المحلية المتعاقبة واجهتنا منذ باشرنا العمل في المجلس”. 

ويضيف جاسم لـ”جمّار” أن “أعضاء مجالس المحافظات أمام تحد كبير يشكله الجمهور ومناطقنا وأنفسنا وبرامجنا. أولوياتنا هي تغيير واقع مدينة بغداد من حيث الخدمات”. 

ويشير إلى أن “المهمة شاقة” لأن بغداد توسعت من حيث المساحة وزاد عدد سكانها، ما يفرض الحاجة إلى مراقبة الجهات التنفيذية بدقة. 

يشار إلى أن مجلس بغداد ذاته شهد أول خروج عن قاعدة عدم الاصطدام بالجمهور، التي يفترض أن تلتزم بها المجالس مؤقتاً. 

فقد تسربت وثيقة بعد مدة وجيزة من تشكيل المجلس تظهر طلب رئيسه تشكيل لجنة لتوزيع قطع أراض على الأعضاء. 

انتشرت صور الوثيقة كالنار في الهشيم. 

جاء في الوثيقة “لمقتضيات مصلحة العمل تقرر تشكيل لجنة من أعضاء مجلس محافظة بغداد (الدورة الرابعة) لغرض تخصيص قطع أراض سكنية لأعضاء المجلس وبحسب التعليمات المنصوص عليها والخاصة بامتيازات أعضاء مجالس المحافظات السابقين”. 

تدريجياً تم التراجع عن الطلب بعد موجة انتقادات. 

وقال عامر داود، وهو عضو في مجلس بغداد، إن الأراضي لـ”موظفي المجلس وليس للأعضاء”. 

فيما قدّم رائد حميد الهماش، رئيس لجنة النزاهة في مجلس محافظة بغداد، طلباً بالانسحاب من رئاسة لجنة تخصيص الأراضي السكنية، بحسب وثيقة سربت للإعلام. 

دكاكين وطائرات مسيرة   

خلال الأشهر الستة الأخيرة لم يظهر أي عمل واضح للمجالس باستثناء الخلافات. 

يصف مسعد الراجحي، عضو حركة امتداد، مجالس المحافظات بأنها “دكاكين تعمل لصالح الأحزاب التقليدية، والدليل لم تقدم إنجازاً منذ انتخابها لغاية اليوم”. 

وكانت “امتداد” المنبثقة عن احتجاجات تشرين، قد أعلنت في آب الماضي مقاطعتها الانتخابات المحلية بسبب تأخرها في انعقاد مؤتمرها العام الأول لانتخاب قيادة جديدة. 

أما الحزب الشيوعي، أحد أبرز الأطراف التي دعمت تظاهرات تشرين، فقد شارك في الانتخابات بأكثر من تحالف، وفاز تحالف “قيم المدني”، أحد التحالفات المشارك بها الحزب، بأربعة مقاعد في محافظتين. 

وضمن خلافات المجالس الجديدة، اتهم رئيس مجلس محافظة واسط أحد نواب الإطار التنسيقي بتهديده بالقتل بواسطة طائرة مسيرة. 

وبحسب وثيقة الدعوى التي تقدم بها علي سليمون رئيس المجلس، إلى الادعاء العام ضد النائب يوسف الكلابي في شباط الماضي، قام الكلابي بتهديد وترغيب عدد من أعضاء مجلس محافظة واسط وخاصة عن كتلة “واسط أجمل” التي يرأسها المحافظ محمد المياحي، بهدف استمالتهم تحت التهديد المباشر من أجل دعمه ليكون محافظاً لواسط. 

ونصت الدعوى على أن الكلابي، وهو نائب عن الإطار التنسيقي، هدد أعضاء مجلس محافظة واسط بشكل علني بالتصفية الجسدية من خلال الطائرات المسيرة. 

وكانت خلافات شديدة وقعت في تلك الفترة بين المحافظ المياحي من جهة، والكلابي ومحسن المندلاوي رئيس مجلس النواب بالوكالة من جهة أخرى، بسبب تشكيل الحكومة المحلية في واسط. 

أيضاً في نينوى انشغل مجلس المحافظة بعد حسم المناصب الرئيسية عقب الانتخابات، بأزمة اللجان وتغيير رؤساء الوحدات الإدارية. 

وأفاد أحمد العبد ربه عضو مجلس محافظة نينوى، في آذار الماضي، بوجود خلافات بين أعضاء المجلس على توزيع اللجان. 

وأشار إلى أن أعضاء تحالفات الإطار ومنشقين عن تحالفه (العزم) يسعون “للقفز” على حقوقهم في اللجان. 

وتدخلت الحكومة الاتحادية في بغداد لإيقاف التغييرات الإدارية في نينوى، التي تسببت بتعليق تحالف نينوى الموحدة (9 مقاعد) عضويته في المجلس، ورفض الحزب الديمقراطي الكردستاني تلك الإجراءات. 

وعدّ أعضاء الحزب الديمقراطي في مجلس نينوى، ما جرى “التفافاً على القانون والتوافقات السياسية”. 

تفجرت الأزمة بعد تصويت كتلة نينوى المستقبل (16 مقعداً من أصل 29 في مجلس المحافظة) على إقالة 20 رئيس وحدة إدارية من أصل 31 مسؤولاً كانوا قد قضوا سنوات طويلة في مناصبهم. 

ويقود الفياض والكلداني هذه الكتلة. 

ولاحقاً انفجر الوضع في جنوب العراق، حيث تعرض الاتفاق الهش الذي أبرمه الإطار التنسيقي لإدارة الحكومات المحلية بعد الانتخابات، إلى تصدعات، كما جرى في إقالة عبد الباقي العمري رئيس مجلس محافظة ذي قار المنتمي إلى كتلة أحمد الأسدي وزير العمل. 

العمري وعندما استجوبه مجلس المحافظة غيابياً -امتنع عن حضور جلسة الاستجواب لذرائع عدة- ومن ثم أقاله، خرج في مؤتمر صحفي ووصف ما يجري بأنه “انقلاب سياسي”. 

رئيس المجلس المقال قال بوضوح في المؤتمر إن ما يجري “سيؤثر على اتفاقات سياسية جرت في بغداد.. من سيتحمل ما سيجري؟”. 

والمشهد في ذي قار قد يتكرر في محافظة ثانية في الوسط والجنوب على وجه الخصوص، وفق ما يرجح مراقبون، بسبب محاولة إعادة توزيع قوى الإطار التنسيقي بين الحكومات المحلية عقب فشل بنود عدة في اتفاقاته الداخلية.