"إنهم يحتقرونكم".. عمر نزار حر ونور زهير سعيد 

و

15 آب 2024

بلغ احتقار السلطة للمجتمع العراقي إلى حدّ أنّها لن تضحّي بأيٍّ من رجالها التافهين، ولو كـ"كبش فداء"، وهو ما كانت المافيات الصغيرة لتفعله إذا ما أرادت مسايرة المجتمعات التي تعمل في مناطقها.. إذاً، عمر نزار حر، ونور زهير سعيد.

حدثان في نهار 14 آب كشفا كيف تكون العدالة وسيرها ومسارها في العراق.  

قضايا قتل المتظاهرين والمعترضين على سياسات أحزاب السلطة، تنتهي كما انتهت قضية عمر نزار. أما قضايا نهب المال العام، فنهايتها مفتوحة على طريقة قضية سرقة القرن، التي أعلن القضاء أن المتهم الأشهر فيها، نور زهير، لم يحضر إلى المحكمة! 

كيف يتحوّل حكم بالمؤبّد إلى براءة وإطلاق سراح؟ في قضايا جنائية كبرى، تمسّ الأمن القومي العراقي في قضية عمر نزار الآن، ومثلها في حالة المتهم بقتل هشام الهاشمي – من قرار بالإعدام إلى إفراج فوري!  

تناقضُ القرارات في القضايا فاضح، ويكشف إلى أيّ مدىً تأخذ الأحكام القضائية في العراق شكلاً ونسقاً اعتباطياً، فكيف يمكن أن يُحكَم على متهم بالمؤبد، ويُستأنف الحكم، فيُفرج عنه بسهولة! أيّ أدلة وقرائن اطلع عليها من حكموا بالمؤبد أولاً، ثم بالإفراج تالياً، والمعروف أن إطلاق الأحكام ثم قلبها رأساً على عقب في القضايا الجنائية يحتاج أدلّةً وحججاً رصينة ووثيقة وواضحة! 

ثمّ في قضية جنائية أخرى لا يحضر المتهم الرئيسي – بأكبر سرقة أموال عامة – إلى المحكمة؛ من أجل محاكمته، ولا يُعرَف بالأساس، ما هي حيثيات الصفقة القانونية/السياسية التي أتاحت لمتهم أن يكون خارج السجن، أو ربَّما خارج العراق كلّه فيما محاكمته ما زالت جارية!  

هذه أحكام وقرارات قضائية اتُّخُذت على مسافات زمنية متقاربة، خلال عام، وحدثان خلال يوم واحد، حُكِمَ فيها على عمر نزار بالبراءة، وتخلّف نور زهير عن محاكمته.  

هل هي مصادفة أم أنّ هذا هو مسار العدالة “الطبيعي” في عراق القتلة والفاسدين؟ 

   

عمر نزار حر 

في تشرين الثاني 2019، وعند مقتربات جسر الزيتون، كان شباب الناصرية نائمين في خيام الاعتصام، ويستعدون ليوم آخر من الاحتجاج على الفساد، عندما فتحت “قوات أمنيّة” النار عليهم. قُتل أكثر من 80 شاباً، وأصيب ما يزيد عن 300، في واحدة من أكثر المجازر دموية التي تعرَّض لها شباب تشرين. 

في إفادات “مكتوبة بخط اليد”، لضبّاط من الفوج الثاني في قوات الرد السريع، يقول ضابط اسمه “بلال”، إنَّ الضابط عمر نزار، عندما قال له عناصر حمايته إنّ المتظاهرين على جسر الزيتون “يشتموننا”، أمرهم بإطلاق الرصاص عليهم “بس مو گصه”. 

وكلمة “گصه”، التي ظهرت صريحاً في الإفادات، هي تصحيف لكلمة “گِصِي” في اللهجة العراقية، وتعني إطلاق النار بشكل مباشر.  

الضابط بلال يسرد في إفادته التي نشرتها منظمة “إنهاء الإفلات من العقاب”، إنه لم يشاهد إطلاق رصاص بهذه الكثافة حتى في معارك الموصل، وأنّ عمر نزار أخبره “شخصياً” أنه استنفد كل الرصاص الذي معه، لذلك انسحب من جسر الزيتون.   

جميل الشمري، الذي كان يقود خلية الأزمة في ذي قار، والمتهم كذلك بقضية مجزرة جسر الزيتون، تحدّث عن الدور المباشر للضابط عمر نزار في إطلاق النار، وكذلك القادة الأمنيين، بحسب ما تظهر “إفادات التحقيق” المكتوبة بخط اليد.   

ولكن؛ هل أطلق عمر نزار النار على كل أولئك القتلى؟ بالتأكيد لا. فهو أحد “القَتَلَة” لكنه ليس “جميعهم”.  

الوثائق الرسمية المسربة عن المجزرة، تكشف عن اشتراك الأفواج الأول والثاني والثالث، بالإضافة إلى قوات مكافحة الشغب، بإطلاق النار على المتظاهرين في شارع وجسر الزيتون، ورُبَما هناك قوات أخرى غير نظامية، مثل “الطرف الثالث” الذي قتل المتظاهرين في بغداد.  

اقرأ أيضاً

أهالي قتلى تشرين في طريق بحثهم عن العدالة: نواجه تهديدات كل يوم 

لكن مجزرة “جسر الزيتون” لم تكن المرة الأولى التي يبرز فيها اسم الضابط عمر نزار كمتهم في انتهاكات للقانون وحقوق الإنسان. ففي معركة الموصل عام 2017، وثّق الصحفي علي أركادي انتهاكات اغتصاب وقتل وسرقة، وكان الضابط عمر نزار بطل هذه الانتهاكات، مع فوجه في قوات الرد السريع. 

نشر أركادي صوراً وفيديوهات تدين عمر نزار، أثارت ضجّة في كل العالم، إلا في العراق، الذي منح الضابط ترقية، فيما اضطر المصوّر الصحفي إلى ترك بلاده طالباً اللجوء في الخارج. 

ورغم توفر كل هذه الأدلة المصورة بشأن تورط نزار في انتهاكات الاغتصاب في معركة الموصل، إلا أنه حصل على براءة وترقية، وربما لذلك عرف أن انتهاكه للقانون مرة أخرى لن يدخله السجن، أو يقصيه عن منصبه الذي استغلّه لإصدار الأوامر وإطلاق النار على المتظاهرين في جسر الزيتون، وكان على حق، فأمس في الناصرية حصل على إطلاق سراح بعد حكم بالمؤبد، يعرف أنّه ابن هذا النظام الذي يستطيع تبرئته، وإخراجه من السجن بجرّة قلم. 

عمر نزار وغيره من المجرمين المتنفذين جرّبوا القانون الجنائي والقضاء، وعرفوا أنّ مساره لن يفضي بهم إلى أيّ حبس، فلماذا يكفون عن الانتهاكات إذن؟! 

ونور زهير سعيد 

سرقة الأمانات الضريبية المعروفة بـ”سرقة القرن”، المقدّرة مبالغها بنحو 2.5 مليار دولار، على أقلّ تقدير، أظهرتها السلطات الرسمية منذ بداياتها كحدث منفرد، يحصل في منطقة معزولة، لا أحد يجدر به الوصول إليه.  

على الرغم من أن هذه السرقة باتت فضيحة على مستويات عديدة في العراق منذ انكشافها، مُظهِرة إلى أي مدى يمكن المضي بنهب أموال الدولة من دون عناء.  

المتورطون فيها هم شبكة واسعة من رجال أعمال وسياسيين بارزين ومسؤولين في الدولة، عُرفت وكُشفت أسماء بعضهم، وكان على رأسهم نور زهير، وأحاط الشك بهيثم الجبوري النائب والمستشار الحكومي السابق؛ شك سرعان ما تأكد لاحقاً. 

أُخلي سبيل، نور زهير وهيثم الجبوري، على أساس مقايضة بإعادة الأموال المسروقة. خرج نور زهير ليعيش في قصوره وبيوته المتوزعة في بغداد، ولم يمر بمراكز التوقيف الملوّثة بالأمراض الجلدية، دون أن يقدم القضاء وقضاته سبباً واحداً مقنعاً لمنح كل هذه الاستثناءات والتسهيلات لمتهمين في قضيّة سرقة القرن، في الوقت الذي لا تزال الإجراءات القانونية والقضائية عالقة! 

وعد مصطفى الكاظمي، رئيس الوزراء الأسبق، ومثله رئيس الوزراء الحالي، محمد السوداني، وكذلك القضاء ومؤسسات النزاهة والأمن، كلهم وعدوا بوضع جميع من تورّط بسرقة القرن في السجون. بيد أن نور زهير حتى لم يحضر المحاكمة المتهم فيها بقضية جنائية، علماً أن التخلف عن المحاكمة هو بحد ذاته يعتبر انتهاكاً للقانون! 

أثبت التحقيق في القضيّة والتعامل مع الجناة بعد ذلك توافقاً بين أغلب مؤسسات الدولة والقائمين عليها، على السكوت عن فضيحة مُجلجلة، تخلخل كل ركن من أركان أيّ دولة تضع لنفسها القليل من الاحترام. 

سكت الجميع. قوى سياسية متورطة ومتواطئة، مؤسسات حكومية، أفراد كانوا شهوداً على السرقة، شبكة محققين، وقضاة توصلوا إلى تسويات مريبة مع المتورطين، وبرلمان أصدر تقريراً مهلهلاً، حُذفت منه أسماء المتورطين الكبار.  

من يتذكر أو يذكر شاكر الزبيدي، الذي كان مديراً عاماً لهيئة الضرائب؟ لا أحد. ومن يتذكر أو يتحدث عن “الحريق” الذي حدث في تشرين الثاني 2020؟ أيضاً لا أحد! 

  

تغوّل الأفراد واحتقار المجتمع  

إذا لم تكن مشاهد القتل الموثّقة، والإفادات الخطيّة، والتحقيقات، والاعترافات وحكم محكمة جنايات ذي قار، وشهادات الضحايا وعوائلهم، أدلّةً كافية لإصدار حكم المؤبد على عمر نزار، فما هي الأدلة التي اعتمدتها محكمة التمييز لبراءته؟ 

وإذا لم تكن مئات الوثائق الحكومية التي تكشف التلاعب بأموال الأمانات الضريبية، والاعترافات والشهادات التي بثتها وسائل الإعلام، والتحقيقات التي أجريت، أدلّة كافية، على جمع عشرات المتورطين ومحاسبتهم، فما هو القضاء؟ وما هي الدولة؟ 

إن كان عمر نزار “بريئاً” ولم يقتل المواطنين في نينوى وذي قار. فمن قتلهم؟ أليس هذا هو السؤال الذي يجب طرحه على القضاء العادل؟ وعلى الدولة صاحبة السيادة؟ من قتل الشباب في مجزرة جسر الزيتون؟ نريد أن نعرف.    

ومن تورّط في سرقة القرن؟ أيُّ كبار وصغار شاركوا وانتفعوا وكيف؟ لماذا استبعدت الأسماء الكبيرة من التحقيق، وكيف أتمَّ القضاء صفقات مع المتورطين بالسرقات؟  

هل السلطة القضائية في العراق مستقلة، أم مثلها مثل السلطتين التشريعية والتنفيذية، باتت محكومة بالمصالح السياسية والطائفية لأفراد ينتهكون القانون مرة تلو الأخرى، عارفين أن القضاء سيحميهم، ولن يحمي المجتمع المعجون بخيسة أفعالهم. 

اقرأ أيضاً

السلطة حينما واجهت شباب تشرين: إباحة القتل لإدامة النظام

هل قانون العقوبات وغيره من القوانين التي من المفترض أن يحتكم لها القضاء العراقي في دفاعه عن المصلحة العامة بات سارياً فقط على المهمشين من أبناء وبنات المجتمع، التي تعج بهم السجون العراقية، السجون بلغت طاقتها الاستيعابية 300 بالمئة كما يقول خالد شواني، وزير العدل.  

هل يراجع القضاء العراقي نفسه بعد تحوله إلى مؤسسة بات قلب الأحكام التي تصدرها محاكمه المتراتبة، جزءاً من مسار عدالة “طبيعي” للمتورطين المتنفذين في جرائم ضخمة؟ هل يُسائل نفسه عن كفاءة سلطاته في البت في مثل هذه القضايا، وعن مراجعها في وضع أحكامها. هل ما زال العراقيون يثقون بنزاهة واستقلالية القضاء العراقي؟ 

تكمن في القضيتين إهانة مباشرة للمجتمع ككل، ذلك أن التغوّل في السيطرة المطلقة على مؤسسات الدولة، وإطلاق اليد والسراح لأبشع المتورطين، آذت وأهانت المجتمع وكرامة وحرية وممتلكات ومستقبل أفراده، لكنها المرّة الأولى؟ لا. 

بلغ احتقار السلطة للمجتمع الذي تحكمه حدّ أنّها لن تضحّي بأيّ من رجالها التافهين، ولو كـ”كبش فداء”، وهو ما كانت المافيات الصغيرة لتفعله، إذا ما أرادت مسايرة المجتمعات التي تعمل في مناطقها.  

  

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

حدثان في نهار 14 آب كشفا كيف تكون العدالة وسيرها ومسارها في العراق.  

قضايا قتل المتظاهرين والمعترضين على سياسات أحزاب السلطة، تنتهي كما انتهت قضية عمر نزار. أما قضايا نهب المال العام، فنهايتها مفتوحة على طريقة قضية سرقة القرن، التي أعلن القضاء أن المتهم الأشهر فيها، نور زهير، لم يحضر إلى المحكمة! 

كيف يتحوّل حكم بالمؤبّد إلى براءة وإطلاق سراح؟ في قضايا جنائية كبرى، تمسّ الأمن القومي العراقي في قضية عمر نزار الآن، ومثلها في حالة المتهم بقتل هشام الهاشمي – من قرار بالإعدام إلى إفراج فوري!  

تناقضُ القرارات في القضايا فاضح، ويكشف إلى أيّ مدىً تأخذ الأحكام القضائية في العراق شكلاً ونسقاً اعتباطياً، فكيف يمكن أن يُحكَم على متهم بالمؤبد، ويُستأنف الحكم، فيُفرج عنه بسهولة! أيّ أدلة وقرائن اطلع عليها من حكموا بالمؤبد أولاً، ثم بالإفراج تالياً، والمعروف أن إطلاق الأحكام ثم قلبها رأساً على عقب في القضايا الجنائية يحتاج أدلّةً وحججاً رصينة ووثيقة وواضحة! 

ثمّ في قضية جنائية أخرى لا يحضر المتهم الرئيسي – بأكبر سرقة أموال عامة – إلى المحكمة؛ من أجل محاكمته، ولا يُعرَف بالأساس، ما هي حيثيات الصفقة القانونية/السياسية التي أتاحت لمتهم أن يكون خارج السجن، أو ربَّما خارج العراق كلّه فيما محاكمته ما زالت جارية!  

هذه أحكام وقرارات قضائية اتُّخُذت على مسافات زمنية متقاربة، خلال عام، وحدثان خلال يوم واحد، حُكِمَ فيها على عمر نزار بالبراءة، وتخلّف نور زهير عن محاكمته.  

هل هي مصادفة أم أنّ هذا هو مسار العدالة “الطبيعي” في عراق القتلة والفاسدين؟ 

   

عمر نزار حر 

في تشرين الثاني 2019، وعند مقتربات جسر الزيتون، كان شباب الناصرية نائمين في خيام الاعتصام، ويستعدون ليوم آخر من الاحتجاج على الفساد، عندما فتحت “قوات أمنيّة” النار عليهم. قُتل أكثر من 80 شاباً، وأصيب ما يزيد عن 300، في واحدة من أكثر المجازر دموية التي تعرَّض لها شباب تشرين. 

في إفادات “مكتوبة بخط اليد”، لضبّاط من الفوج الثاني في قوات الرد السريع، يقول ضابط اسمه “بلال”، إنَّ الضابط عمر نزار، عندما قال له عناصر حمايته إنّ المتظاهرين على جسر الزيتون “يشتموننا”، أمرهم بإطلاق الرصاص عليهم “بس مو گصه”. 

وكلمة “گصه”، التي ظهرت صريحاً في الإفادات، هي تصحيف لكلمة “گِصِي” في اللهجة العراقية، وتعني إطلاق النار بشكل مباشر.  

الضابط بلال يسرد في إفادته التي نشرتها منظمة “إنهاء الإفلات من العقاب”، إنه لم يشاهد إطلاق رصاص بهذه الكثافة حتى في معارك الموصل، وأنّ عمر نزار أخبره “شخصياً” أنه استنفد كل الرصاص الذي معه، لذلك انسحب من جسر الزيتون.   

جميل الشمري، الذي كان يقود خلية الأزمة في ذي قار، والمتهم كذلك بقضية مجزرة جسر الزيتون، تحدّث عن الدور المباشر للضابط عمر نزار في إطلاق النار، وكذلك القادة الأمنيين، بحسب ما تظهر “إفادات التحقيق” المكتوبة بخط اليد.   

ولكن؛ هل أطلق عمر نزار النار على كل أولئك القتلى؟ بالتأكيد لا. فهو أحد “القَتَلَة” لكنه ليس “جميعهم”.  

الوثائق الرسمية المسربة عن المجزرة، تكشف عن اشتراك الأفواج الأول والثاني والثالث، بالإضافة إلى قوات مكافحة الشغب، بإطلاق النار على المتظاهرين في شارع وجسر الزيتون، ورُبَما هناك قوات أخرى غير نظامية، مثل “الطرف الثالث” الذي قتل المتظاهرين في بغداد.  

اقرأ أيضاً

أهالي قتلى تشرين في طريق بحثهم عن العدالة: نواجه تهديدات كل يوم 

لكن مجزرة “جسر الزيتون” لم تكن المرة الأولى التي يبرز فيها اسم الضابط عمر نزار كمتهم في انتهاكات للقانون وحقوق الإنسان. ففي معركة الموصل عام 2017، وثّق الصحفي علي أركادي انتهاكات اغتصاب وقتل وسرقة، وكان الضابط عمر نزار بطل هذه الانتهاكات، مع فوجه في قوات الرد السريع. 

نشر أركادي صوراً وفيديوهات تدين عمر نزار، أثارت ضجّة في كل العالم، إلا في العراق، الذي منح الضابط ترقية، فيما اضطر المصوّر الصحفي إلى ترك بلاده طالباً اللجوء في الخارج. 

ورغم توفر كل هذه الأدلة المصورة بشأن تورط نزار في انتهاكات الاغتصاب في معركة الموصل، إلا أنه حصل على براءة وترقية، وربما لذلك عرف أن انتهاكه للقانون مرة أخرى لن يدخله السجن، أو يقصيه عن منصبه الذي استغلّه لإصدار الأوامر وإطلاق النار على المتظاهرين في جسر الزيتون، وكان على حق، فأمس في الناصرية حصل على إطلاق سراح بعد حكم بالمؤبد، يعرف أنّه ابن هذا النظام الذي يستطيع تبرئته، وإخراجه من السجن بجرّة قلم. 

عمر نزار وغيره من المجرمين المتنفذين جرّبوا القانون الجنائي والقضاء، وعرفوا أنّ مساره لن يفضي بهم إلى أيّ حبس، فلماذا يكفون عن الانتهاكات إذن؟! 

ونور زهير سعيد 

سرقة الأمانات الضريبية المعروفة بـ”سرقة القرن”، المقدّرة مبالغها بنحو 2.5 مليار دولار، على أقلّ تقدير، أظهرتها السلطات الرسمية منذ بداياتها كحدث منفرد، يحصل في منطقة معزولة، لا أحد يجدر به الوصول إليه.  

على الرغم من أن هذه السرقة باتت فضيحة على مستويات عديدة في العراق منذ انكشافها، مُظهِرة إلى أي مدى يمكن المضي بنهب أموال الدولة من دون عناء.  

المتورطون فيها هم شبكة واسعة من رجال أعمال وسياسيين بارزين ومسؤولين في الدولة، عُرفت وكُشفت أسماء بعضهم، وكان على رأسهم نور زهير، وأحاط الشك بهيثم الجبوري النائب والمستشار الحكومي السابق؛ شك سرعان ما تأكد لاحقاً. 

أُخلي سبيل، نور زهير وهيثم الجبوري، على أساس مقايضة بإعادة الأموال المسروقة. خرج نور زهير ليعيش في قصوره وبيوته المتوزعة في بغداد، ولم يمر بمراكز التوقيف الملوّثة بالأمراض الجلدية، دون أن يقدم القضاء وقضاته سبباً واحداً مقنعاً لمنح كل هذه الاستثناءات والتسهيلات لمتهمين في قضيّة سرقة القرن، في الوقت الذي لا تزال الإجراءات القانونية والقضائية عالقة! 

وعد مصطفى الكاظمي، رئيس الوزراء الأسبق، ومثله رئيس الوزراء الحالي، محمد السوداني، وكذلك القضاء ومؤسسات النزاهة والأمن، كلهم وعدوا بوضع جميع من تورّط بسرقة القرن في السجون. بيد أن نور زهير حتى لم يحضر المحاكمة المتهم فيها بقضية جنائية، علماً أن التخلف عن المحاكمة هو بحد ذاته يعتبر انتهاكاً للقانون! 

أثبت التحقيق في القضيّة والتعامل مع الجناة بعد ذلك توافقاً بين أغلب مؤسسات الدولة والقائمين عليها، على السكوت عن فضيحة مُجلجلة، تخلخل كل ركن من أركان أيّ دولة تضع لنفسها القليل من الاحترام. 

سكت الجميع. قوى سياسية متورطة ومتواطئة، مؤسسات حكومية، أفراد كانوا شهوداً على السرقة، شبكة محققين، وقضاة توصلوا إلى تسويات مريبة مع المتورطين، وبرلمان أصدر تقريراً مهلهلاً، حُذفت منه أسماء المتورطين الكبار.  

من يتذكر أو يذكر شاكر الزبيدي، الذي كان مديراً عاماً لهيئة الضرائب؟ لا أحد. ومن يتذكر أو يتحدث عن “الحريق” الذي حدث في تشرين الثاني 2020؟ أيضاً لا أحد! 

  

تغوّل الأفراد واحتقار المجتمع  

إذا لم تكن مشاهد القتل الموثّقة، والإفادات الخطيّة، والتحقيقات، والاعترافات وحكم محكمة جنايات ذي قار، وشهادات الضحايا وعوائلهم، أدلّةً كافية لإصدار حكم المؤبد على عمر نزار، فما هي الأدلة التي اعتمدتها محكمة التمييز لبراءته؟ 

وإذا لم تكن مئات الوثائق الحكومية التي تكشف التلاعب بأموال الأمانات الضريبية، والاعترافات والشهادات التي بثتها وسائل الإعلام، والتحقيقات التي أجريت، أدلّة كافية، على جمع عشرات المتورطين ومحاسبتهم، فما هو القضاء؟ وما هي الدولة؟ 

إن كان عمر نزار “بريئاً” ولم يقتل المواطنين في نينوى وذي قار. فمن قتلهم؟ أليس هذا هو السؤال الذي يجب طرحه على القضاء العادل؟ وعلى الدولة صاحبة السيادة؟ من قتل الشباب في مجزرة جسر الزيتون؟ نريد أن نعرف.    

ومن تورّط في سرقة القرن؟ أيُّ كبار وصغار شاركوا وانتفعوا وكيف؟ لماذا استبعدت الأسماء الكبيرة من التحقيق، وكيف أتمَّ القضاء صفقات مع المتورطين بالسرقات؟  

هل السلطة القضائية في العراق مستقلة، أم مثلها مثل السلطتين التشريعية والتنفيذية، باتت محكومة بالمصالح السياسية والطائفية لأفراد ينتهكون القانون مرة تلو الأخرى، عارفين أن القضاء سيحميهم، ولن يحمي المجتمع المعجون بخيسة أفعالهم. 

اقرأ أيضاً

السلطة حينما واجهت شباب تشرين: إباحة القتل لإدامة النظام

هل قانون العقوبات وغيره من القوانين التي من المفترض أن يحتكم لها القضاء العراقي في دفاعه عن المصلحة العامة بات سارياً فقط على المهمشين من أبناء وبنات المجتمع، التي تعج بهم السجون العراقية، السجون بلغت طاقتها الاستيعابية 300 بالمئة كما يقول خالد شواني، وزير العدل.  

هل يراجع القضاء العراقي نفسه بعد تحوله إلى مؤسسة بات قلب الأحكام التي تصدرها محاكمه المتراتبة، جزءاً من مسار عدالة “طبيعي” للمتورطين المتنفذين في جرائم ضخمة؟ هل يُسائل نفسه عن كفاءة سلطاته في البت في مثل هذه القضايا، وعن مراجعها في وضع أحكامها. هل ما زال العراقيون يثقون بنزاهة واستقلالية القضاء العراقي؟ 

تكمن في القضيتين إهانة مباشرة للمجتمع ككل، ذلك أن التغوّل في السيطرة المطلقة على مؤسسات الدولة، وإطلاق اليد والسراح لأبشع المتورطين، آذت وأهانت المجتمع وكرامة وحرية وممتلكات ومستقبل أفراده، لكنها المرّة الأولى؟ لا. 

بلغ احتقار السلطة للمجتمع الذي تحكمه حدّ أنّها لن تضحّي بأيّ من رجالها التافهين، ولو كـ”كبش فداء”، وهو ما كانت المافيات الصغيرة لتفعله، إذا ما أرادت مسايرة المجتمعات التي تعمل في مناطقها.