بدلات "العدل" تجلب الأمراض في العراق: بعد التحقيق بدأت "الحكة"  

حسن الناصري

27 تموز 2024

إذا ارتديت إحدى بدلات مراكز التحقيق في العراق، فاحتمال إصابتك بإحدى الأمراض الجلدية مثل الجرب واردة... فبعد التحقيق، تبدأ الحكة.. عن "البدلات الموبوءة" في مراكز السجون ومراكز التحقيق في العراق..

في مساء 23 آب 2022 اُلقي القبض على “ع. م” من قبل مكافحة إجرام الناصرية، بموجب مذكرة إلقاء صادرة عن محكمة تحقيق بغداد الجديدة، بتهمة التؤاطو في حادثة سرقة في العاصمة.  

أربعة عشر يوماً كانت كفيلة باستكمال أوراق الموقوف التحقيقية، ونقله من الناصرية إلى مكتب بغداد الجديدة لمكافحة الإجرام، لكن من دون ارتداء البدلة الصفراء، التي عادة ما يرتديها الموقوفون في مثل هذه الظروف. 

يرتشف “ع. م” ذو السابعة والثلاثين عاماً قليلا من الماء، ثم يرخي ظهره على مقعد كرسي داخل مقهىً شعبيّ وسط مدينة الناصرية، مركز محافظة ذي قار، ليعاود حديثه، “ما أن وصلت إلى مكتب مكافحة الإجرام في بغداد الجديدة حتى أجبرني الحراس على ارتداء بدلة الاعتقال، ذات اللون الأصفر، قبل مثولي أمام ضابط تحقيق المكتب، بهدف تدوين أقوالي”. 

لا يُخفي الشاب حزنه الشديد وهو يتذكر كيف جرى توقيفه، ويصف كيف أعادوه إلى غرفة الاحتجاز التي كانت “رطبة جداً ومتهالكة، وتفوح منها رائحة العفن، ويتكدس فيها أكثر من 12 موقوفاً”.  

في التاسع من أيلول من العام نفسه، استدعي “ع. م” أمام قاضي تحقيق محكمة بغداد الجديدة، وطُلب منه ارتداء بدلة صفراء، أحضرت له من أحد مخازن البدلات، وكانت تفوح منها روائح كريهة. 

بعد 21 يوماً من الاحتجاز، حصل “ع. م” على براءته؛ لكنّه حصل أيضاً على التهاب الأذن الخارجية، أخبره الطبيب المختص أن الالتهاب ناجم عن “عدوى بكتيرية حادة في الجلد”، يقول “ع. م” إنها بسبب تلوث البدلة الصفراء، والأيام التي قضاها في غرفة الاحتجاز. 

بدلات من الشورجة  

لا تتردد أسرار أحمد، مسؤولة رابطة ذوي السجناء في العراق، عن الإقرار بتفشي العديد من الأمراض الجلدية، كالجرب وكذلك ما يعرف بالأقراص النارية (الحزام الناري)، وأمراض التدرّن، نتيجة الاكتظاظ في السجون، وارتداء البدلات “التي لا تتوفر فيها أبسط مقومات النظافة”، وتضيف لجمّار، أن “السجون العراقية تعاني من نقص حاد في الأدوية وتفشي الإصابة بالفشل الكلوي”. 

تقول مسؤولة رابطة ذوي السجناء في العراق إن عوائل السجناء هي من تشتري البدلات لهم من محال الخياطة في الباب الشرقي، أو الشورجة وسط بغداد، أو في الأسواق الشعبية الأخرى، بأسعار تتراوح بين 25-30 ألف دينار، وحين يُسلّمها ذوو المعتقل إلى إدارة السجن “يُعاد بيعها للسجناء مقابل 50 – 70 ألف دينار”، مشيرة إلى أن “إدارة السجون لم تقم بتسليم البدلات للسجناء منذ سنوات”. 

وفقاً لمسؤولة رابطة السجناء، فإن العديد من السجون ومواقع الاحتجاز تفتقر إلى المستلزمات الطبية، ولا تتوفر فيها مستوصفات صحية، وعادة ما تتذرع إداراتها بعدم التزام وزارة الصحة بتجهيزها بالأدوية والكوادر الطبية. 

“سجون التاجي، والناصرية المركزي، وأبو غريب، من أكثر السجون الملوّثة في العراق، بالدرجة الأولى”، تقول أسرار محمد، وتتحدث عن العديد من المناشدات التي تصل الرابطة من داخل السجون، تتضمن حالات بالإصابة للعديد من السجناء بتحسسات جلدية كثيفة في مناطق مختلفة من الجسم، بسبب إن إدارات تلك السجون لم تكافح هذه الظاهرة”. 

الرابطة وثّقت كذلك “نقصاً كبيراً” في أغطية النوم، واضطرار السجناء للنوم على الأرض، إلى جانب انعدام توفر السخانات، وبالتالي عدم قدرة السجين على الاستحمام”. كذلك تقول الرابطة -اعتماداً على  شهادات ذوي السجناء- أن  بعض السجون تعتمد على الآبار في توفير مياه الشرب والطبخ للسجناء، وتؤكد أنها وثّقت إصابات عديدة داخل تلك السجون. 

الإصابات بالأمراض الجلدية بين السجناء التي وثقتها رابطة ذوي السجناء في العراق. 

وثق تقرير مفوضية حقوق الإنسان عام 2020 انتشار الأمراض المعدية والجلدية وحالات التحسس الجلدي، بسبب الاكتظاظ في أغلب السجون ومواقف التوقيف الاحتياطي، وعدم توفر العلاجات الضرورية وقلّة التشميس، كما هو الحال في سجون التاجي والكرخ والبصرة، وكان ذلك آخر التقارير الحكومية العلنية عن السجون، الصادرة عن المفوضية التي تم حلّها لاحقاً. 

التدوير قائم   

“أسكن في بيت مؤجر وأعاني من ضائقة مالية خانقة، تدفعني لبيع مفردات البطاقة التموينية في سبيل تأمين علاج زوجي السجين”، تروي أمّ قصي تفاصيل حياتها اليومية بعد اعتقال زوجها عام  2015 أثناء معارك تحرير مدينة الرمادي، وكانت تهمته هي “مبايعة تنظيم داعش”. 

بعد قضاء أبو قصي (53 عاماً) ثماني سنوات من مدة محكوميته في سجن مطار بغداد، أُصيب بمرض جلدي أسفر عن طفح جلدي وبقع قشرية، يسمّى داء “الصدفيّة“. 

تقول أم قصي إن إصابة زوجها بهذا المرض تطوّرت إلى إصابته بسرطان الجلد، بحسب تشخيص الأطباء خارج السجن، الذين عاينوا حالته من خلال الصور والفيديوهات، وتعزو أمّ قصي تطور حالة زوجها إلى انعدام النظافة داخل السجن، وإهمال صحة النزلاء، وقِدم الأغطية والفُرِش التي يستعملونها داخل مراكز التوقيف.  

بحسب أمّ قصي إنّ “إدارة السجن لا توفر البدلات والملابس للسجناء، وترفض بين الحين والآخر استلام البدلات والملابس التي يرسلها ذوو السجناء، ما يبقيهم عرضة لأمراض جلدية متواصلة، نتيجة استمرار ارتدائهم الملابس نفسها”. 

وهو ما حصل مع أم قصي نفسها. 

يقرُّ علي البياتي، عضو مفوضية حقوق الإنسان السابق، بوقوع ظاهرة تدوير البدلات بين النزلاء والموقوفين، وتفشّي الأمراض الجلدية، واكتظاظ السجون التي “تصل إلى 3 أضعاف الطاقة الاستيعابية لها”، معبراً عن “أسفه في أن اللجان الرقابية التي تزور السجون لم تأخذ بنظر الاهتمام تدوير بدلات النزلاء، ولم يجر التأكيد على مكافحتها، وهذا بحد ذاته يمثل انتهاكاً لحقوق الإنسان”. 

تدني مستويات النظافة والرعاية الصحية وعدم الاهتمام بجانب البدلات وغسلها، فاقم من الأمراض الجلدية، وهذا بحسب البياتي “يتقاطع مع الحقوق التي كفلها الدستور في مواده 15، 17، 30، 37 التي تعنى بالحريات والحقوق الأساسية للموقوفين في السجون، وتؤكد على حمايتها”. 

بحسب إحصائية وزارة العدل لعام 2023، بلغ عدد الموقوفين والمحكومين لكافة الاقسام (61686) موقوفاً ومحكوماً، وهذا العدد لا يشمل من أُطلق سراحهم خلال العام نفسه، والذي كشفت رئاسة الجمهورية أن عددهم 7894 سجيناً وموقوفاً.  

وفقاً للبياتي، فإن السجون العراقية تعاني من مشكلة في التبعية الإدارية بما يخالف المادة 1/أولاً من قانون إصلاح النزلاء والمودعين رقم 14 لسنة 2018، الذي أكد على أن تكون إدارة السجون تابعة لوزارة العدل والداخلية حصراً، وإن تواجد مراكز احتجاز وتوقيف تابعة لجهاز مكافحة الإرهاب ووزارة الدفاع والمخابرات والأمن الوطني، تؤثر سلباً على حقوق السجناء، لكون القوانين تختلف من وزارة إلى أخرى ومن إدارة إلى أخرى، وكذلك الأنظمة والتعليمات التي تنظم حقوق المحكومين والوافدين. 

فساد ممنهج داخل السجون  

كامل أمين، المتحدث السابق باسم وزارة العدل، يؤكد لـ”جمار” وقوع العديد من عمليات التجهيز الوهمية وغير الحقيقية لبدلات السجناء، وحالات تدوير للبدلات، ما يسبب أمراضا جلدية جراء ذلك. 

ولا يستبعد أمين الذي أُحيل إلى التقاعد أواخر عام  2023، وجود شبهات فساد في عمليات تجهيز البدلات، خصوصاً والوزارة تتعامل مع هذا العدد الكبير من السجناء. 

“الوزارة اعتادت سابقاً على شراء قماش البدلات ويتم خياطتها داخل السجون بورش خاصة وعبر السجناء أنفسهم”، لكن وزارة العدل بحسبه مرت في أزمات مالية بعد عام 2003، وهذه الأزمات حالت دون تجهيز السجون بشكل كامل، بالتالي اضطر بعض النزلاء للاستعانة بذويهم في توفير البدلات أو الملابس. 

يقول أمين إنه يُفترض توزيع البدلات مرتين في السنة على السجناء، شتائي وصيفي، ويلزم السجناء بلبسها عند بدء الدوام الرسمي صباحاً، والخروج إلى التشميس، وكذلك خلال المشاركة في الورش والمدارس داخل السجون، وحتى في حالة الزيارة العائلية، وبعد انتهاء هذه الفترة والدخول إلى العنابر من حق السجناء ارتداء الملابس الأخرى التي توفر لهم. 

وفي الوقت الذي يشير أمين إلى أن “وزارة العدل ملزمة في توفير كسوة الملابس الصيفية والشتوية للسجناء بما فيها الملابس الداخلية وكل مستلزمات السجين”، يوثق تقرير مفوضية حقوق الإنسان عدم قيام الإدارات السجنية لوزارة العدل في بغداد والمحافظات بتجهيز النزلاء والمودعين بالبدلات السجنية والملابس الداخلية بواقع مرتين في السنة، الأمر الذي يؤثر على توفير شروط صحية مناسبة. 

ووفق الشهادات والمقابلات التي أجريناها، فإن “تدوير البدلات” ما يزال يستخدم إلى اليوم. 

ألوان السجناء 

تختلف البدلات الخاصة بالسجناء من حيث ألوانها، فالبدلات داخل العنابر أو الدوام الرسمي والتشميس هي باللون الجوزي، أما بدلات المحكومين بالإعدام فعادة ما تكون ذات لون أحمر، كما تستخدم البدلات الصفراء للموقوفين في مراكز التوقيف التابعة لوزارة الداخلية، وبدلات سجن الأحداث تكون باللون السمائي أو الأزرق. 

بحسب مصدر رفيع المستوى في وزارة العدل العراقية، رفض الإشارة إلى اسمه، “فإن السجناء ملزمون بارتداء تلك البدلات حال دخولهم سجون وزارة العدل”. 

ينفي مقداد الموسوي، المتحدث باسم وزارة الداخلية، وقوع ظاهرة تدوير بدلات النزلاء، مبيناً أن الأجهزة الرقابية التابعة لوزارته لم تسجل أي شكوى تتعلق بتلوث البدلات أو تسببها في “اضطرابات جلدية” لبعض الموقوفين.  

الموسوي يقول إن “الوزارة تمتلك كوادر طبية وصحية مهمتها إجراء الفحص المستمر على جميع السجناء في مختلف مراكز الاحتجاز”، ويعتقد بأن إثارة ملف بدلات النزلاء “يندرج في إطار اللغط الإعلامي” بحسب وصفه.  

وأشار إلى أن “خطة الوزارة في توزيع البدلات على مراكز التوقيف تكون حسب الأعداد الموجودة في كل موقف، وتعليمات الوزارة بهذا الشأن “واضحة وصريحة” وهي منع تدوير البدلات حال انتهاء مدة الاستخدام.    

ما يقوله المتحدث باسم وزارة الداخلية يتناقض مع ما يكشفه مصدر أمني لجمّار، مهمته الإشراف على مركز احتجاز في ذي قار، الذي نفى تزويد مراكز الاحتجاز ببدلات جديدة للنزلاء منذ عام  2021، “بل العكس، فجميع البدلات التي تستخدم من قبل الموقوفين يتم تخزينها في دواليب خاصة بالموقف دون غسلها أو تعقيمها ويعاد استخدامها فور عرض موقوف جديد على المحكمة”، وبحسب المصدر، تتراوح أعداد البدلات في كل مركز ما بين 100 – 150 بدلة، فيما يبلغ الوجود الفعلي للموقوفين داخل مراكز الاحتجاز ما بين 150 – 200 موقوفاً في المتوسط، كما أن بعض مراكز التوقيف لا تستخدم البدلات الصفراء، ويتم إرسال الموقوف إلى المحكمة دون ارتداء البدلة لشحتها”..  

نفى المصدر الأمني، الذي يحتك بالسجناء خلال أيام عمله، وجود عمّال أو أعمال نظافة داخل مراكز الاحتجاز. وهذا ما ذكره كذلك تقرير مفوضية حقوق الإنسان عام 2020، الذي أشار إلى أن جميع السجون ومواقف التوقيف الاحتياطي تفتقر إلى وجود مكائن غسيل الملابس باستثناء سجني (سوسة الفيدرالي والناصرية)، كما أكد التقرير أن جميع مرافق التوقيف لم توفر الملابس والبدلات والأفرشة والأغطية للنزلاء، ويعتمدون في توفيرها على ذوي النزلاء المودعين والموقوفين، كما أن تلك الأفرشة والأغطية لا يجري استبدالها، وأغلبها قديمة ومتهرئة في عموم السجون المركزية.  

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

في مساء 23 آب 2022 اُلقي القبض على “ع. م” من قبل مكافحة إجرام الناصرية، بموجب مذكرة إلقاء صادرة عن محكمة تحقيق بغداد الجديدة، بتهمة التؤاطو في حادثة سرقة في العاصمة.  

أربعة عشر يوماً كانت كفيلة باستكمال أوراق الموقوف التحقيقية، ونقله من الناصرية إلى مكتب بغداد الجديدة لمكافحة الإجرام، لكن من دون ارتداء البدلة الصفراء، التي عادة ما يرتديها الموقوفون في مثل هذه الظروف. 

يرتشف “ع. م” ذو السابعة والثلاثين عاماً قليلا من الماء، ثم يرخي ظهره على مقعد كرسي داخل مقهىً شعبيّ وسط مدينة الناصرية، مركز محافظة ذي قار، ليعاود حديثه، “ما أن وصلت إلى مكتب مكافحة الإجرام في بغداد الجديدة حتى أجبرني الحراس على ارتداء بدلة الاعتقال، ذات اللون الأصفر، قبل مثولي أمام ضابط تحقيق المكتب، بهدف تدوين أقوالي”. 

لا يُخفي الشاب حزنه الشديد وهو يتذكر كيف جرى توقيفه، ويصف كيف أعادوه إلى غرفة الاحتجاز التي كانت “رطبة جداً ومتهالكة، وتفوح منها رائحة العفن، ويتكدس فيها أكثر من 12 موقوفاً”.  

في التاسع من أيلول من العام نفسه، استدعي “ع. م” أمام قاضي تحقيق محكمة بغداد الجديدة، وطُلب منه ارتداء بدلة صفراء، أحضرت له من أحد مخازن البدلات، وكانت تفوح منها روائح كريهة. 

بعد 21 يوماً من الاحتجاز، حصل “ع. م” على براءته؛ لكنّه حصل أيضاً على التهاب الأذن الخارجية، أخبره الطبيب المختص أن الالتهاب ناجم عن “عدوى بكتيرية حادة في الجلد”، يقول “ع. م” إنها بسبب تلوث البدلة الصفراء، والأيام التي قضاها في غرفة الاحتجاز. 

بدلات من الشورجة  

لا تتردد أسرار أحمد، مسؤولة رابطة ذوي السجناء في العراق، عن الإقرار بتفشي العديد من الأمراض الجلدية، كالجرب وكذلك ما يعرف بالأقراص النارية (الحزام الناري)، وأمراض التدرّن، نتيجة الاكتظاظ في السجون، وارتداء البدلات “التي لا تتوفر فيها أبسط مقومات النظافة”، وتضيف لجمّار، أن “السجون العراقية تعاني من نقص حاد في الأدوية وتفشي الإصابة بالفشل الكلوي”. 

تقول مسؤولة رابطة ذوي السجناء في العراق إن عوائل السجناء هي من تشتري البدلات لهم من محال الخياطة في الباب الشرقي، أو الشورجة وسط بغداد، أو في الأسواق الشعبية الأخرى، بأسعار تتراوح بين 25-30 ألف دينار، وحين يُسلّمها ذوو المعتقل إلى إدارة السجن “يُعاد بيعها للسجناء مقابل 50 – 70 ألف دينار”، مشيرة إلى أن “إدارة السجون لم تقم بتسليم البدلات للسجناء منذ سنوات”. 

وفقاً لمسؤولة رابطة السجناء، فإن العديد من السجون ومواقع الاحتجاز تفتقر إلى المستلزمات الطبية، ولا تتوفر فيها مستوصفات صحية، وعادة ما تتذرع إداراتها بعدم التزام وزارة الصحة بتجهيزها بالأدوية والكوادر الطبية. 

“سجون التاجي، والناصرية المركزي، وأبو غريب، من أكثر السجون الملوّثة في العراق، بالدرجة الأولى”، تقول أسرار محمد، وتتحدث عن العديد من المناشدات التي تصل الرابطة من داخل السجون، تتضمن حالات بالإصابة للعديد من السجناء بتحسسات جلدية كثيفة في مناطق مختلفة من الجسم، بسبب إن إدارات تلك السجون لم تكافح هذه الظاهرة”. 

الرابطة وثّقت كذلك “نقصاً كبيراً” في أغطية النوم، واضطرار السجناء للنوم على الأرض، إلى جانب انعدام توفر السخانات، وبالتالي عدم قدرة السجين على الاستحمام”. كذلك تقول الرابطة -اعتماداً على  شهادات ذوي السجناء- أن  بعض السجون تعتمد على الآبار في توفير مياه الشرب والطبخ للسجناء، وتؤكد أنها وثّقت إصابات عديدة داخل تلك السجون. 

الإصابات بالأمراض الجلدية بين السجناء التي وثقتها رابطة ذوي السجناء في العراق. 

وثق تقرير مفوضية حقوق الإنسان عام 2020 انتشار الأمراض المعدية والجلدية وحالات التحسس الجلدي، بسبب الاكتظاظ في أغلب السجون ومواقف التوقيف الاحتياطي، وعدم توفر العلاجات الضرورية وقلّة التشميس، كما هو الحال في سجون التاجي والكرخ والبصرة، وكان ذلك آخر التقارير الحكومية العلنية عن السجون، الصادرة عن المفوضية التي تم حلّها لاحقاً. 

التدوير قائم   

“أسكن في بيت مؤجر وأعاني من ضائقة مالية خانقة، تدفعني لبيع مفردات البطاقة التموينية في سبيل تأمين علاج زوجي السجين”، تروي أمّ قصي تفاصيل حياتها اليومية بعد اعتقال زوجها عام  2015 أثناء معارك تحرير مدينة الرمادي، وكانت تهمته هي “مبايعة تنظيم داعش”. 

بعد قضاء أبو قصي (53 عاماً) ثماني سنوات من مدة محكوميته في سجن مطار بغداد، أُصيب بمرض جلدي أسفر عن طفح جلدي وبقع قشرية، يسمّى داء “الصدفيّة“. 

تقول أم قصي إن إصابة زوجها بهذا المرض تطوّرت إلى إصابته بسرطان الجلد، بحسب تشخيص الأطباء خارج السجن، الذين عاينوا حالته من خلال الصور والفيديوهات، وتعزو أمّ قصي تطور حالة زوجها إلى انعدام النظافة داخل السجن، وإهمال صحة النزلاء، وقِدم الأغطية والفُرِش التي يستعملونها داخل مراكز التوقيف.  

بحسب أمّ قصي إنّ “إدارة السجن لا توفر البدلات والملابس للسجناء، وترفض بين الحين والآخر استلام البدلات والملابس التي يرسلها ذوو السجناء، ما يبقيهم عرضة لأمراض جلدية متواصلة، نتيجة استمرار ارتدائهم الملابس نفسها”. 

وهو ما حصل مع أم قصي نفسها. 

يقرُّ علي البياتي، عضو مفوضية حقوق الإنسان السابق، بوقوع ظاهرة تدوير البدلات بين النزلاء والموقوفين، وتفشّي الأمراض الجلدية، واكتظاظ السجون التي “تصل إلى 3 أضعاف الطاقة الاستيعابية لها”، معبراً عن “أسفه في أن اللجان الرقابية التي تزور السجون لم تأخذ بنظر الاهتمام تدوير بدلات النزلاء، ولم يجر التأكيد على مكافحتها، وهذا بحد ذاته يمثل انتهاكاً لحقوق الإنسان”. 

تدني مستويات النظافة والرعاية الصحية وعدم الاهتمام بجانب البدلات وغسلها، فاقم من الأمراض الجلدية، وهذا بحسب البياتي “يتقاطع مع الحقوق التي كفلها الدستور في مواده 15، 17، 30، 37 التي تعنى بالحريات والحقوق الأساسية للموقوفين في السجون، وتؤكد على حمايتها”. 

بحسب إحصائية وزارة العدل لعام 2023، بلغ عدد الموقوفين والمحكومين لكافة الاقسام (61686) موقوفاً ومحكوماً، وهذا العدد لا يشمل من أُطلق سراحهم خلال العام نفسه، والذي كشفت رئاسة الجمهورية أن عددهم 7894 سجيناً وموقوفاً.  

وفقاً للبياتي، فإن السجون العراقية تعاني من مشكلة في التبعية الإدارية بما يخالف المادة 1/أولاً من قانون إصلاح النزلاء والمودعين رقم 14 لسنة 2018، الذي أكد على أن تكون إدارة السجون تابعة لوزارة العدل والداخلية حصراً، وإن تواجد مراكز احتجاز وتوقيف تابعة لجهاز مكافحة الإرهاب ووزارة الدفاع والمخابرات والأمن الوطني، تؤثر سلباً على حقوق السجناء، لكون القوانين تختلف من وزارة إلى أخرى ومن إدارة إلى أخرى، وكذلك الأنظمة والتعليمات التي تنظم حقوق المحكومين والوافدين. 

فساد ممنهج داخل السجون  

كامل أمين، المتحدث السابق باسم وزارة العدل، يؤكد لـ”جمار” وقوع العديد من عمليات التجهيز الوهمية وغير الحقيقية لبدلات السجناء، وحالات تدوير للبدلات، ما يسبب أمراضا جلدية جراء ذلك. 

ولا يستبعد أمين الذي أُحيل إلى التقاعد أواخر عام  2023، وجود شبهات فساد في عمليات تجهيز البدلات، خصوصاً والوزارة تتعامل مع هذا العدد الكبير من السجناء. 

“الوزارة اعتادت سابقاً على شراء قماش البدلات ويتم خياطتها داخل السجون بورش خاصة وعبر السجناء أنفسهم”، لكن وزارة العدل بحسبه مرت في أزمات مالية بعد عام 2003، وهذه الأزمات حالت دون تجهيز السجون بشكل كامل، بالتالي اضطر بعض النزلاء للاستعانة بذويهم في توفير البدلات أو الملابس. 

يقول أمين إنه يُفترض توزيع البدلات مرتين في السنة على السجناء، شتائي وصيفي، ويلزم السجناء بلبسها عند بدء الدوام الرسمي صباحاً، والخروج إلى التشميس، وكذلك خلال المشاركة في الورش والمدارس داخل السجون، وحتى في حالة الزيارة العائلية، وبعد انتهاء هذه الفترة والدخول إلى العنابر من حق السجناء ارتداء الملابس الأخرى التي توفر لهم. 

وفي الوقت الذي يشير أمين إلى أن “وزارة العدل ملزمة في توفير كسوة الملابس الصيفية والشتوية للسجناء بما فيها الملابس الداخلية وكل مستلزمات السجين”، يوثق تقرير مفوضية حقوق الإنسان عدم قيام الإدارات السجنية لوزارة العدل في بغداد والمحافظات بتجهيز النزلاء والمودعين بالبدلات السجنية والملابس الداخلية بواقع مرتين في السنة، الأمر الذي يؤثر على توفير شروط صحية مناسبة. 

ووفق الشهادات والمقابلات التي أجريناها، فإن “تدوير البدلات” ما يزال يستخدم إلى اليوم. 

ألوان السجناء 

تختلف البدلات الخاصة بالسجناء من حيث ألوانها، فالبدلات داخل العنابر أو الدوام الرسمي والتشميس هي باللون الجوزي، أما بدلات المحكومين بالإعدام فعادة ما تكون ذات لون أحمر، كما تستخدم البدلات الصفراء للموقوفين في مراكز التوقيف التابعة لوزارة الداخلية، وبدلات سجن الأحداث تكون باللون السمائي أو الأزرق. 

بحسب مصدر رفيع المستوى في وزارة العدل العراقية، رفض الإشارة إلى اسمه، “فإن السجناء ملزمون بارتداء تلك البدلات حال دخولهم سجون وزارة العدل”. 

ينفي مقداد الموسوي، المتحدث باسم وزارة الداخلية، وقوع ظاهرة تدوير بدلات النزلاء، مبيناً أن الأجهزة الرقابية التابعة لوزارته لم تسجل أي شكوى تتعلق بتلوث البدلات أو تسببها في “اضطرابات جلدية” لبعض الموقوفين.  

الموسوي يقول إن “الوزارة تمتلك كوادر طبية وصحية مهمتها إجراء الفحص المستمر على جميع السجناء في مختلف مراكز الاحتجاز”، ويعتقد بأن إثارة ملف بدلات النزلاء “يندرج في إطار اللغط الإعلامي” بحسب وصفه.  

وأشار إلى أن “خطة الوزارة في توزيع البدلات على مراكز التوقيف تكون حسب الأعداد الموجودة في كل موقف، وتعليمات الوزارة بهذا الشأن “واضحة وصريحة” وهي منع تدوير البدلات حال انتهاء مدة الاستخدام.    

ما يقوله المتحدث باسم وزارة الداخلية يتناقض مع ما يكشفه مصدر أمني لجمّار، مهمته الإشراف على مركز احتجاز في ذي قار، الذي نفى تزويد مراكز الاحتجاز ببدلات جديدة للنزلاء منذ عام  2021، “بل العكس، فجميع البدلات التي تستخدم من قبل الموقوفين يتم تخزينها في دواليب خاصة بالموقف دون غسلها أو تعقيمها ويعاد استخدامها فور عرض موقوف جديد على المحكمة”، وبحسب المصدر، تتراوح أعداد البدلات في كل مركز ما بين 100 – 150 بدلة، فيما يبلغ الوجود الفعلي للموقوفين داخل مراكز الاحتجاز ما بين 150 – 200 موقوفاً في المتوسط، كما أن بعض مراكز التوقيف لا تستخدم البدلات الصفراء، ويتم إرسال الموقوف إلى المحكمة دون ارتداء البدلة لشحتها”..  

نفى المصدر الأمني، الذي يحتك بالسجناء خلال أيام عمله، وجود عمّال أو أعمال نظافة داخل مراكز الاحتجاز. وهذا ما ذكره كذلك تقرير مفوضية حقوق الإنسان عام 2020، الذي أشار إلى أن جميع السجون ومواقف التوقيف الاحتياطي تفتقر إلى وجود مكائن غسيل الملابس باستثناء سجني (سوسة الفيدرالي والناصرية)، كما أكد التقرير أن جميع مرافق التوقيف لم توفر الملابس والبدلات والأفرشة والأغطية للنزلاء، ويعتمدون في توفيرها على ذوي النزلاء المودعين والموقوفين، كما أن تلك الأفرشة والأغطية لا يجري استبدالها، وأغلبها قديمة ومتهرئة في عموم السجون المركزية.