حسن مطلك.. كيف قارَعَ "البَطح الاجتماعي" والسُلطات؟
17 تموز 2024
"أنا وحيد ومُتعَب ومعزول، لسبب واحد، هو أنه ليس لي أشباه".. محسن الرملي يكتب سيرة حسن مطلك، الأديب والفنان، الذي قارع "البَطح الاجتماعي" والسُلطات بالفن والكتابة.. والروح..
يصِف لوركا، الأديب الإسباني الذي قتلَته الدكتاتورية وهو في ريعان شبابه وإبداعه؛ “الروح المبدعة” بأنها كالسائر على حَبل، لا خيار أمامه، إما تكريس كل طاقاته الذهنية والجسدية ليُبدع في السير على الحبل أو السقوط والموت، أي أن الإبداع يعني الحياة نفسها بالنسبة للمبدع.. فما بالك بحبل مُحاط بالنيران من كل الجهات، كما هو الحال مع لوركا العراقي حسن مطلك، الذي قتلَته الدكتاتورية وهو في ريعان شبابه وإبداعه، والذي منذ أن انتبه إلى موهبته طفلاً، حاربه الجميع بضراوة؛ الأب والعائلة والمجتمع القروي والمديني والسلطة التي أعدمته شنقاً، في بغداد، بتاريخ 18 تموز 1990 الساعة السابعة مساءً، وهو في التاسعة والعشرين من عمره، بعد ستة أشهر من أنواع التعذيب الوحشي، حاكمَته وفق قواعد مزاجها الدموي، في (محكمة الثورة) المُرعبة، بلا دفاع ولا محاماة، وبلا أية قوانين أو ضوابط تتعلق بحقوق الإنسان، ومنعَت أهله حتى من السؤال عنه، فكانت أمه العجوز تكتفي بالجلوس أمام نافذة البيت، ليل نهار، مُنتظِرة قدومه، مكتفية بالدعاء والبكاء والتدخين، حالمة بعودته.. إلى أن أعادوه إليها جثة هامدة، مع تحذيرات صارمة من إقامة أي مأتم أو عزاء له.
كان حسن مطلك فناناً (رسم، خط، نحت، كاريكاتير، تصميم ومَسرح)، وأديباً (شِعر، قصة، رواية، يوميات ومقالات نقدية). ولِد في قرية (سُديرة أو اِسديرة) التابعة لقضاء الشرقاط، شمالي العراق، بتاريخ 14 أيلول 1961 وفق سجلات المدرسة الابتدائية، لا وفق سجلات دوائر النفوس، التي تلاعبت بمواليد ملايين العراقيين باستخفاف عجيب. كان طفلاً هادئاً، مُسالماً، رقيقاً، شارد الذهن، متأمِلاً بصمت مُقلِق لعائلته، إلى أن اكتشف موهبته، وهو في الصف الرابع الابتدائي، حين كلَّف المعلم الطلاب برسم لوحة بعنوان (الراعي)، فانطلق يبحث عن الرعاة في حقول وبراري قريته، وعن تلك الذكرى، يقول، في حوار أُجري معه وهو في الثامنة عشرة من عمره، “رحتُ أرسم كل الغَنم باهتمام، ولونتها باهتمام، ففرِح المعلم برسمي كثيراً وشجعني بأن أهداني علبة ألوان، فواصلتُ الرسم.. وهكذا اخترتُ طريق الفن، وإن كان هذا الاختيار فوق طاقتي، شيء ليس لي مقدرة على رفضه. قوة تنبع من داخلي، ثورة، تدفعني إلى أن أُنفذ هذه الأشياء، وأن أحس بها وأُصورها، قوة ما، دفعتني إلى أن أرسم، وهكذا كان اختياري فوق إرادتي، وإن كان اختياراً صعباً”. ومن حينها، دخل في صراع مرير مع محيطه، ففي رأيه “إن حَرب الأديب ضد السُّلطة، بكل أشكالها، هي حرب دائمة”، وبدأت أُولى حروبه ضد ما كان يُسميه “البَطح الاجتماعي”، أي ضد ضغوط محاولات تركيعه وثنيه عما يريد، فتوجهه إلى الفن، وهو ابن رجل دين وعشيرة، في مجتمع قروي، كان صادماً “لأنني أتيت بشيء جديد، شيء لم يعرفه هذا المجتمع، أعتقد بأنني أول رسام في هذه المنطقة، وقد جئتهم بشيء كهذا لأول مرة، أقصد الرسم، فمن الطبيعي أن ألاقي صعوبة، كل شيء جديد يُطرح سيلاقي مصاعب ويلاقي الرفض. كان تأثير الأهل أكثر، عرقلوا مسيرتي منذ البداية، منعوني من الرسم ومن كل ما يتعلق به، عندما نفدت كل الأوراق الموجودة عندي، لم يعطوني نقوداً لكي أشتري أوراقاً، فماذا فعلت؟ رحتُ أرسم على الحيطان وعلى الأرضيات الرطبة، ومزقتُ أغلفة الكُتب كي أرسم عليها، كنتُ طفلاً.. ومع كل هذا، استمررت، أريد أن أحقق هذه الأشياء التي تفور في داخلي، أن أُجسدها، أريد أن أراها بعينيّ، فاستمررتُ أرسم واستمرَّت العَرقلة، ووصلتُ إلى مرحلة متقدمة، اِزداد وعيي، وازدادت معرفة الناس بي كرسام، فأخذ أهلي يُضايقونني أكثر، يمنعوني من الرسم ويضربونني.. لكنني بقيت صامداً… بعد ذلك، مررتُ بفترة من الخمول، بسبب المعارضة الشديدة والمعوقات المجتمعية، ولكن، سرعان ما عادت الثورة في داخلي من جديد، فصرتُ أرسم بكل قوة، وأُعارض بكل قوة.. وأتحمَّل الضَرب والإهانة.. وأتحمَّل كل شيء، ناضلتُ نضالاً مريراً في سبيل هدفي وما أُريد أن أعيشه والمبدأ الذي أؤمن به، ولكن بشكل محدود، لأن حريتي مُقيَّدة، مثل الحلزون؛ يتحرك ضمن قوقعة محدّدة، لا يستطيع التحرك خارجها، مع ذلك، أحسستُ، بشكل ما، أني مسرور وسعيد لأنني أعيش معاناة، والمعاناة خلَقَت مني فناناً ناضجاً، والمعاناة هي التي تخلق الرجال”.
كان حلم حسن مطلك أن يدرس في (أكاديمية الفنون الجميلة)، لكن معارضة أهله الشديدة حالت دون ذلك “الناس هنا يعتبرون الفن شيئاً جديداً، ثورة أو تمرداً ضد عالمهم، يعتبرونه خُروجاً عن الخط الأخلاقي والخط الديني.. وأشياء من هذا القبيل. يعتبرونه كبِدعة.. أو مُنافياً للدين والأخلاق، لكن ما أراه أنا، هو أني أعدّ الفن تَصوّفاً عظيماً، اِتصالاً هائلاً بالطبيعة وبالله، فالفنان عندما يرسم شجرة أو يرسم جبلاً أو يرسم هذه المخلوقات التي تحيط به، التي خلقها الله، فهو يكون أكثر التصاقاً بالطبيعة وأكثر إحساساً، إذ يكون أكثر اتصالاً وأقرب إلى الله، هذا هو رأيي، أما أن يُقال إن الفن مُنافٍ للخط الأخلاقي، فهذا غير وارِد، وبالطبع؛ يوجد هناك من يُسيء للفن باسم الفن”. كان حسن مطلك يتفهم ذهنية المجتمع الذي تقمعه، ولذا فهو لم يتَخلَّ عنه وعن الالتزام بقضاياه: “أنا أعتبر الفن خطا أخلاقيا، والفنان فيه ملتزم بما يتعلق بالمجتمع الذي يعيش فيه، الفنان حساس كجناح فراشة، يتألم لآلام الواقع الذي يعيشه، ويحاول أن يثور مع الناس إذا ثاروا، يتألم معهم إذا تألموا ويفرح إذا فرحوا”.
جاء تفتُّح وعي حسن مطلك تجاه ذاته ومحيطه الاجتماعي والعالَم، مع ومن خلال الرسم، وكانت مواجهاته والصعوبات التي مر بها قاسية، بحكم رفض محيطه لمواهبه وأفكاره وأفعاله، الأمر الذي أثَّر كثيراً على شخصيته ورؤيته، وبالتالي تقوية وعيه وسمة المقاومة والتحدي والتمرد فيه. يقول: “لم أستطع تحقيق أُمنيتي بدراسة الفن، فبقيتُ سنة كاملة بلا دراسة، ولكن رغم هذا، فحتى وإن ذهبتُ إلى أصعب مجال، وحتى إن تم سَوقي إلى الخدمة العسكرية الإلزامية، فسوف يبقى الفن أُمنيتي، ولابد أن أحققها. هذا الطريق الذي بدأتُ به وآمنت به، لابد أن أستمر فيه حتى النهاية.. إلى أن أنتصر، رغماً عن كل العَقبات”. كان يزداد إصراراً واجتهاداً وعِناداً وتحملاً وتصدياً لما يلاقيه، “إنها قصة البَطح الاجتماعي العشائري ضِدي ــــ أنا ــــ كشخص (عاق وساقط ومنحرف وغريب ومعقد وطفل) في نظركم جميعاً، بما في ذلك أصحاب الوعي الذين تناسوا الدفاع عن فكرة نبيلة… إنها بداية طريفة لقصة هزليّة، أنا كاتبها وبطلها وضحيتها. إنني أبسَط مما تُصورون، وأكبر مما تظنون”.
قاده شغفه الكبير بالرسم إلى تطوير معارفه فيه عبر القراءة عنه، ثم قادته قراءاته عن الرسم إلى قراءة الآداب، فاكتشف ذاته وطاقاته بشكل أكبر وأفضل.. حتى وجد نفسه وتوازنه واقفاً على ساقين متساويين، هما الرسم والكتابة.
توجه إلى دراسة علم النفس في جامعة الموصل، فأحب الموصل وأحب إحدى بناتها وأحب علم النفس، معتبراً إياه رافداً جوهرياً في تعميق نصوصه. تفتحت مواهبه هناك أكثر، حيث أقام معرضاً للوحاته، قال عنه أُستاذه في الرسم، الفنان الرائد ضِرار القَدّو، “إن هذا الفنان يُبشر بميلاد مسيرة فنية جديدة”. كما شارك الفنان الموصلي أكرم الياس بكر، في أكثر من عمل ومعرض لرسوم الكاريكاتير، وقال عنه: “كان حسن مطلك رساماً كاريكاتيرياً. ويدعو نفسه باسم آخر مُضحك هو (نسح كلطم ناظور) وهو كناية، وقراءة مقلوبة، عن اسمه (حسن مطلك روضان) ويوقع به على لوحاته الكاريكاتيرية التي يرسمها معي في معارض الجامعة.. تلك الرسوم التي أبكت الطلبة أكثر مما أضحكتهم في ذلك الزمن الغابر. زمن بداية الحروب”.
عام 1981 نشر حسن مُطلك أول قصة له (الحاجز) في صحيفة (الحدباء) الموصلية، العدد 62، ولنجاحها، طالبوه بأخرى، فنشر قصة (الاكتظاظ) في العدد 65، وكتب الدكتور عمر الطالب أول مقال عنه، يُطري أسلوبه، ويُبشر به كاتباً… وبعد ثلاثين عاماً، كان الدكتور عمر الطالب أول من يترأس لجنة مناقشة لأول أطروحة دكتوراه عن الخطاب الروائي عند حسن مطلك.
عام 1982 أصدر مع زملائه مجلة (المُرَبّي)، وكان مُصمماً لغلافها ولرسومها الداخلية والمشرف الفني عليها. يقول سكرتير تحريرها الكاتب فارس السردار، “كانت تجربة غاية في التفرد والمغامرة… مع (المُرَبّي) اندفع حسن مطلك ينجز أشياءه بصمت، لا أذكر أني سألته أمراً إلا ووجدته منجزَاً. هنا اقتحم النقد الأدبي والتنظير في الفن التشكيلي من خلال نصين أحدهما (قراءة في موسم الهجرة للشمال) للطيب صالح مع محمد نجيب، والآخر (الفنان التشكيلي بين الإقرار بالالتحام والنزوع نحو التمرد). كان واضحا في هذا النص أن حسن قدم رؤاه في الجمال والفلسفة والفن التشكيلي، وأفصح عن مرجعية تمرده”.
يقول حسن، “التمرد يكمن في اللحظة التي يكتشف الفنان فيها جمال الشيء فينقله بأية أداة بصرية أم صوتية أم حركية، لا بالصورة التي سبقت الاكتشاف، إنما التي جاءت بعده”. ويقول أيضاً، “إن الفنان ينظُر غالبا إلى الأشياء كتحديات سهلة الخضوع والاستسلام، وهذا يُفسر شعوره الدائم بالعنفوان والقوة”. كانت لحظة حُب، تجمع في بؤرتها جهداً مثمراً وحثيثاً، وحروفاً هطلت من سحب بيضاء طرزتها صبوات، تطفئ أسئلة، وتعود فتشعلها. في هذا الوقت بالذات، كان حسن مطلك قد بدأ يُوغل في تجربته التشكيلية ويؤصلها. تنطفئ الساعات في مرسم الجامعة، لتضيء مساحات من قطع القماش المؤطَّر بالألوان التي تتركها فرشاة حسن بجرأة مذهلة. كان حسن يحاول أن يؤسس شيئاً”.
أصبحت حساسية حسن مطلك عالية تجاه كل شيء. “إنكَ لا تدري ــــ يا صديقي ــــ شيئاً عن الغربة التي أعيشها بينكم.. كغربة المُصاب بمرضٍ معدٍ، وليس لي ذنب سوى أنني أكثر حساسيّة. أنا وحيد ومُتعَب ومعزول، لسبب واحد، هو أنه ليس لي أشباه”. وكان يضيق ذرعاً بكل أشكال السُلطات؛ البيروقراطية والأكاديمية والاجتماعية والسياسية والثقافية، فيتمرد عليها وعلى الأساليب التقليدية في الفنون والآداب، وصار هاجس التحرر منها مُتجذراً فيه، يقول، “أمامي إرهاب اِجتماعي ضد الفن ولصالح المال، لصالح الكذب والمساومة”. “كنتُ يومها مهزوماً تحت وطأة البَطح الاجتماعي واللذة المزيَّفة التي نشعُر بها جميعاً حين نسلم ضميرنا الخاص إلى الجماعة، وقررتُ ذات يوم، أن أنتصر لنفسي المفرَدة، لأنني ــــ وبكثير من الغرور ــــ أرى ألا شريك لي على مستوى الاعتزاز بقدسية نفسي كإنسان واعٍ”. إلا أن توقه لتحرره الفردي لم يكن فردياً حقاً، لأنه لم يفصله يوماً عن توقه لتحرير محيطه، تحرير وطنه، يقول، “أغار على وطني.. الذي كُلما قارنتُ أدبه بآداب الشعوب اكتأبتُ.. ودفعني ذلك للقراءة والكتابة.. وستبقى تلك الغيرة تنهشني حتى أحقق ما يحققه كاتب عظيم لوطنه.. أو أهلك دون هذا الأمر”. ولشدة توقه للحرية وشدة حبه لوطنه، كتبنا على شاهدة قبره، عباراته هذه: “أغار على وطني… اِشتقتُ إلى الحرية من أجل الذود عن الحرية”.
أنهى حسن مطلك دراسته الجامعية عام 1983 وسِيق لأداء الخدمة العسكرية الإلزامية، “أُعلِن لكم عن فجيعة صغيرة، غير مُحزنة.. بل مُفتِّتة.. لقد دَمّرَتني العسكرية، حيث لا راحة بال ولا نفس.. لا حق للعقل ولا حق للجسد ـــ هنا الشتائم… لقد كنتُ أدّعي المعاناة والآن أعيشها”، ونُقل إلى جبهات الحرب المُستعرة بين العراق وإيران، إلى ساحات حرب حقيقية، زجته السلطة في أتونها، وسط النيران والموت، “الحرب أكلَت نفسي وأكلَت محيطي”.
وفي رسالة بعثها إلى أهله من (هور الحويزة) يقول، “.. طبعاً ليس هناك أي راحة لنا هنا: السَهر، والواجبات وحَفر الخنادق، وإنقاذ الجرحى وإخلاء الشهداء.. ولا نعلم ما الذي سيجري بعد ساعة. ولكن اِطمَئنوا، كل شيء بيد الله… أرجو أن تعملوا ما بوسعكم للاتصال بالذين تعرفونهم لغرض نقلي إلى أي مكان”. ولكنه رفض فرصة النقل حين جاءت إليه مشروطة من قِبل السُلطة، ففي جزيرة (أم الرصاص)، عرض عليه عبد الأمير معلة، أحد كبار المسؤولين الثقافيين الزائرين للجبهات، ببدلات عسكرية زيتونية اللون، لالتقاط الصور من أجل الإعلام، أن يكتب مباشرة لتمجيد (القائد)، أو على الأقل، أن يرسمه في لوحة بورتريه كبيرة، كالتي كانت شائعة في تلك الأعوام، وتملأ كل ساحات وشوارع ومباني ودوائر البلد من شماله إلى جنوبه، وتعهَّد له، إن فعَل، فسوف ينقله من الجبهات إلى بغداد ليمضي بقية خدمته الإلزامية في إحدى دوائر ومؤسسات إعلامها وفنونها، لكن حسن اعتذر عن ذلك قائلاً بأنه لا يعرف، وبالطبع فهم المسؤول المثقف بأن ترجمة “لا أعرف” هي “لا أريد”، فرَبَّت على كتفه وقال: “فكِّر بالأمر”، وهو على يقين من أن هذا الشاب الذي برز اسمه حديثاً بنصوص مغايرة ومختلفة، لن يفعل، فهو شخص مُغاير ومُختلف، مِثل نصوصه.
يقول حسن مطلك، إن “المُتسَلِّط يرى العالَم أبيض وأسود، يرى العالَم من دون ألوان.. بلا معنى، أي يستهين بالعالَم لأنه لا يرى ألوانه الحقيقية، يراه مجرَّداً من الألوان، إذاً فهو مُجرّد من الحِس، على الأقل حِس البَصر.. والبَصر يعني الإبصار. إذاً فهو لا يمتلك رؤية للعالم، أي أنه يرى ولكنه لا يُبصر.” وإن “رجال السُلطَة حمير، ورأس السلطة حمار ينهق ليل نهار ويلبس فروة الأسد”.
وبعد تسرحه من الجيش، وانضمامه إلى سلك التعليم في المدارس والمعاهد، عاود العمل بشكل أكثف على مشاريعه الإبداعية، وبروحية التوق نفسها للتغيير والتمرد على السائد، في الأدب والمجتمع. “أكتشفُ الآن، أن الذي يُحركني في كل سلوكي هو الغضب”. “الكتابة المُخلِصة، هي.. الاحتراق، الإبداع والخلق والابتعاد عن الزيف والمؤسسات والدعاية والشهرة.. الاسم لا يهمني، إنما العمل، نوعيته”، فكتب ونشر العديد من القصص المختلفة شكلاً ومضموناً، وراح يعمل بلا كلل على روايته (دابادا)، “أُريد رواية بمستوى مكوك الفضائية (تشالنجر)… وسأعمل هنا، في عزلتي القاسية التي أتعرض فيها يومياً إلى البطح الاجتماعي، وأُصبح هدفاً لمسدسات العشائر في لحظات الأعراس، سأعمل على إزالة القشرة الناعمة عن الأدب”، وفيها يتعرض لنقد السلطات أيضاً بقوة ورمزية، فما زالت معركته معها مستمرة، وبالطبع، رفضت المؤسسات الثقافية في العراق نشرها، فنشَرها في بيروت على حسابه الخاص، وهي الكتاب الوحيد الذي أصدره في حياته، بينما قمتُ أنا بنشر أعماله الأخرى بعد رحيله بأعوام، ومنها: (الأعمال القصصية)، رواية (قوة الضحك في أُورا)، ديوان (أنا وأنتِ والبلاد)، (العين إلى الداخل) كتابة حُرة ويوميات، (الكتابة وقوفاً) تأملات في فن الروايةً، (كتاب الحُب.. ظِلالهن على الأرض) شهادة تصف العشق انطلاقاً من تجربته الخاصة، (أعراس الكُرة الأرضية)، كتاب شذرات، يضم أهم أقواله، وسنُصدر هذا العام كتاباً آخر له، بعنوان (أنا مُعلِّم نفْسي)، يضم رسائله والحوارات معه ونصوصاً أخرى. وتتميز مجمل أعماله بعمق التأملات والمعاني، بقوة اللغة وجمالها، وبتوظيفها العالي لتقنيات الحداثة والتجريب، مما يجعل أغلبها عصيّة على القارئ العادي، لأنها أعمال غير عادية، لا تمنح نفسها بسهولة، وتتطلب قراءتها أكثر من مرة، لأن قارئها سيكتشف شيئاً جديداً مع كل قراءة جديدة.
في ثمانينيات القرن الماضي، الكاتب الشهيد حسن مطلك (الذي يغسل السيارة) مع أصدقائه وأبناء قريته: الكاتب الشهيد إبراهيم حسن ناصر، صاحب رواية “شواطئ الدم.. شواطئ الملح”، (الذي يقف أعلى التلة)، والنقيب الشهيد صالح جاسم جرو (الذي اشترك مع حسن في المحاولة الانقلابية 1990، وأُعدِم رمياً بالرصاص، لأنه عسكري).
ورغم كل ما أنجزه وهو في أول انطلاقته الإبداعية، فإنه لم يكن راضياً عن حال وطنه، ويردد: “أُريد أن أحقق حلمي في التأثير على الواقع.. هل أستطيع؟ المعاناة، الغربة، الصراع، مقابل الجهل، التخلف، العشائرية، الدكتاتورية والاضطهاد السياسي.. الموروث الاجتماعي والنفسي.. أمام كل هذا الركام الهائل”. “أُريد أن أخرُج إلى الرجولة والعمل القاتل، عمل الكتابة.. أخرُج إلى المسؤولية. أُريد الحرية”. وكان يرى بأن السكوت لم يعد ممكناً على بقاء الدكتاتور الطاغي، بعد أن انتهت الحرب، حيث كان الأمر يتطلب التركيز على الدفاع عن الوطن وتحمل كل شيء من أجله، وأن ما يحاول الدكتاتور من ترويجه لنية التغيير السياسي والانفتاح في الحريات والديمقراطية، إنما هو محض أكاذيب، وهي لا تعفيه من المحاسبة عما ارتكبه من جرائم وتخريب للبلاد وزجها في هذه الحرب. ويذكُر، “عن دكتاتورية الدولة، هناك رواية اسمها (العجلة الحمراء) في عدة مجلدات، كتبها روائي اسمه (سولجينيتسن) يعيش خارج بلاده، وقد حصل على جائزة نوبل للآداب.. في هذه الرواية يتحدّث عن ثورة روسيا منذ سنة ١٩١٧م، ولحدّ الآن. إنَّ في الاتحاد السوفيتي أشد أنواع الديكتاتوريات، فالمواطن هناك أينما يَفتح المذياع يَسمع: هنا موسكو! ولا يعرف عن أخبار العالَم إلا ما تَسمح به السُلطة”. كما يردد ضاحكاً: “أتذكّر كلمةً للروائي (حَنا مينة) يقول فيها: يبدو أنني أكتب لمصلحة السُلطة؛ وإلا فما الذي يفسر بقائي حياً حتى الآن!؟”.
كان حسن مطلك يُعبر عن سخطه من النظام الحاكم في كل المواقف والمناسبات بجرأة تصدم سامعيها، لشدة ما عُرف عن بطش النظام حينها بكل من ينتقده بكلمة، “قريبة هي الساعة التي سأقول فيها لكل شيء: وداعاً”، وهكذا إلى أن اشترك، مع مجموعة من أصدقائه الضباط، بالإعداد لمحاولة قلب نظام الحكم، وكان يقول، “الكتابة موقف (في السلب والإيجاب) والموقف كلام يتحوّل إلى فعل، فكيف نكتُب عن الاختيار إذا كنا عبيداً؟”. ومثلما حدث مع شاهين، بطل روايته؛ “قد نُجرب نحن قَتلاً بائساً أو قتلاً غير ناجح، لأننا نَستخدم المدية بشكل مقلوب، وإن كانت كل هذه الحالات تُعتبر حالة ثورية ضد السُلطات”. فشلت المحاولة، ورفض حسن مطلك الهرب خارج بلاده، فتم اعتقاله في صبيحة السابع من كانون الثاني 1990 من أمام مدرسته وطلابه، ولم يعد بعدها إلا جثة هامدة، وصرخت حبيبته هُدى، “كيف هدأت تلك الروح العنيدة! كيف؟! وقد كان يقول لي ويردد دائماً: “أنا الذي لا يهدأ أبداً”.. وها هو بهذا الهدوء والسكون الأبدي..!!؟”
لا، لم تهدأ تلك الروح العنيدة يا هدى.. فقد ظلت تتحرك بيننا بعنفوان، تمدنا بألوان رسم الكلمات والمعاني، “الفنان وردة يقطفها الناس ليتمتعوا بعطرها وجمالها”، ويواصل الشباب قراءة أعماله، ومحاولات فك ألغازها وتتبع خطواته، حتى أن أحد الشباب القادمين من ديرته للمشاركة في ثورة تشرين 2019، اتصل بي، وأقسَم بأنه قد رأى حسن مطلك بينهم، في (ساحة التحرير) يهتف للحرية، إلا أنه لم يكن متأكداً من أنه قد رآه في الواقع أم في الحلم.. ولكن لا فرق، فحسن مطلك يقول: “بالحلم يَتَجَدَّد كل شيء”.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
يصِف لوركا، الأديب الإسباني الذي قتلَته الدكتاتورية وهو في ريعان شبابه وإبداعه؛ “الروح المبدعة” بأنها كالسائر على حَبل، لا خيار أمامه، إما تكريس كل طاقاته الذهنية والجسدية ليُبدع في السير على الحبل أو السقوط والموت، أي أن الإبداع يعني الحياة نفسها بالنسبة للمبدع.. فما بالك بحبل مُحاط بالنيران من كل الجهات، كما هو الحال مع لوركا العراقي حسن مطلك، الذي قتلَته الدكتاتورية وهو في ريعان شبابه وإبداعه، والذي منذ أن انتبه إلى موهبته طفلاً، حاربه الجميع بضراوة؛ الأب والعائلة والمجتمع القروي والمديني والسلطة التي أعدمته شنقاً، في بغداد، بتاريخ 18 تموز 1990 الساعة السابعة مساءً، وهو في التاسعة والعشرين من عمره، بعد ستة أشهر من أنواع التعذيب الوحشي، حاكمَته وفق قواعد مزاجها الدموي، في (محكمة الثورة) المُرعبة، بلا دفاع ولا محاماة، وبلا أية قوانين أو ضوابط تتعلق بحقوق الإنسان، ومنعَت أهله حتى من السؤال عنه، فكانت أمه العجوز تكتفي بالجلوس أمام نافذة البيت، ليل نهار، مُنتظِرة قدومه، مكتفية بالدعاء والبكاء والتدخين، حالمة بعودته.. إلى أن أعادوه إليها جثة هامدة، مع تحذيرات صارمة من إقامة أي مأتم أو عزاء له.
كان حسن مطلك فناناً (رسم، خط، نحت، كاريكاتير، تصميم ومَسرح)، وأديباً (شِعر، قصة، رواية، يوميات ومقالات نقدية). ولِد في قرية (سُديرة أو اِسديرة) التابعة لقضاء الشرقاط، شمالي العراق، بتاريخ 14 أيلول 1961 وفق سجلات المدرسة الابتدائية، لا وفق سجلات دوائر النفوس، التي تلاعبت بمواليد ملايين العراقيين باستخفاف عجيب. كان طفلاً هادئاً، مُسالماً، رقيقاً، شارد الذهن، متأمِلاً بصمت مُقلِق لعائلته، إلى أن اكتشف موهبته، وهو في الصف الرابع الابتدائي، حين كلَّف المعلم الطلاب برسم لوحة بعنوان (الراعي)، فانطلق يبحث عن الرعاة في حقول وبراري قريته، وعن تلك الذكرى، يقول، في حوار أُجري معه وهو في الثامنة عشرة من عمره، “رحتُ أرسم كل الغَنم باهتمام، ولونتها باهتمام، ففرِح المعلم برسمي كثيراً وشجعني بأن أهداني علبة ألوان، فواصلتُ الرسم.. وهكذا اخترتُ طريق الفن، وإن كان هذا الاختيار فوق طاقتي، شيء ليس لي مقدرة على رفضه. قوة تنبع من داخلي، ثورة، تدفعني إلى أن أُنفذ هذه الأشياء، وأن أحس بها وأُصورها، قوة ما، دفعتني إلى أن أرسم، وهكذا كان اختياري فوق إرادتي، وإن كان اختياراً صعباً”. ومن حينها، دخل في صراع مرير مع محيطه، ففي رأيه “إن حَرب الأديب ضد السُّلطة، بكل أشكالها، هي حرب دائمة”، وبدأت أُولى حروبه ضد ما كان يُسميه “البَطح الاجتماعي”، أي ضد ضغوط محاولات تركيعه وثنيه عما يريد، فتوجهه إلى الفن، وهو ابن رجل دين وعشيرة، في مجتمع قروي، كان صادماً “لأنني أتيت بشيء جديد، شيء لم يعرفه هذا المجتمع، أعتقد بأنني أول رسام في هذه المنطقة، وقد جئتهم بشيء كهذا لأول مرة، أقصد الرسم، فمن الطبيعي أن ألاقي صعوبة، كل شيء جديد يُطرح سيلاقي مصاعب ويلاقي الرفض. كان تأثير الأهل أكثر، عرقلوا مسيرتي منذ البداية، منعوني من الرسم ومن كل ما يتعلق به، عندما نفدت كل الأوراق الموجودة عندي، لم يعطوني نقوداً لكي أشتري أوراقاً، فماذا فعلت؟ رحتُ أرسم على الحيطان وعلى الأرضيات الرطبة، ومزقتُ أغلفة الكُتب كي أرسم عليها، كنتُ طفلاً.. ومع كل هذا، استمررت، أريد أن أحقق هذه الأشياء التي تفور في داخلي، أن أُجسدها، أريد أن أراها بعينيّ، فاستمررتُ أرسم واستمرَّت العَرقلة، ووصلتُ إلى مرحلة متقدمة، اِزداد وعيي، وازدادت معرفة الناس بي كرسام، فأخذ أهلي يُضايقونني أكثر، يمنعوني من الرسم ويضربونني.. لكنني بقيت صامداً… بعد ذلك، مررتُ بفترة من الخمول، بسبب المعارضة الشديدة والمعوقات المجتمعية، ولكن، سرعان ما عادت الثورة في داخلي من جديد، فصرتُ أرسم بكل قوة، وأُعارض بكل قوة.. وأتحمَّل الضَرب والإهانة.. وأتحمَّل كل شيء، ناضلتُ نضالاً مريراً في سبيل هدفي وما أُريد أن أعيشه والمبدأ الذي أؤمن به، ولكن بشكل محدود، لأن حريتي مُقيَّدة، مثل الحلزون؛ يتحرك ضمن قوقعة محدّدة، لا يستطيع التحرك خارجها، مع ذلك، أحسستُ، بشكل ما، أني مسرور وسعيد لأنني أعيش معاناة، والمعاناة خلَقَت مني فناناً ناضجاً، والمعاناة هي التي تخلق الرجال”.
كان حلم حسن مطلك أن يدرس في (أكاديمية الفنون الجميلة)، لكن معارضة أهله الشديدة حالت دون ذلك “الناس هنا يعتبرون الفن شيئاً جديداً، ثورة أو تمرداً ضد عالمهم، يعتبرونه خُروجاً عن الخط الأخلاقي والخط الديني.. وأشياء من هذا القبيل. يعتبرونه كبِدعة.. أو مُنافياً للدين والأخلاق، لكن ما أراه أنا، هو أني أعدّ الفن تَصوّفاً عظيماً، اِتصالاً هائلاً بالطبيعة وبالله، فالفنان عندما يرسم شجرة أو يرسم جبلاً أو يرسم هذه المخلوقات التي تحيط به، التي خلقها الله، فهو يكون أكثر التصاقاً بالطبيعة وأكثر إحساساً، إذ يكون أكثر اتصالاً وأقرب إلى الله، هذا هو رأيي، أما أن يُقال إن الفن مُنافٍ للخط الأخلاقي، فهذا غير وارِد، وبالطبع؛ يوجد هناك من يُسيء للفن باسم الفن”. كان حسن مطلك يتفهم ذهنية المجتمع الذي تقمعه، ولذا فهو لم يتَخلَّ عنه وعن الالتزام بقضاياه: “أنا أعتبر الفن خطا أخلاقيا، والفنان فيه ملتزم بما يتعلق بالمجتمع الذي يعيش فيه، الفنان حساس كجناح فراشة، يتألم لآلام الواقع الذي يعيشه، ويحاول أن يثور مع الناس إذا ثاروا، يتألم معهم إذا تألموا ويفرح إذا فرحوا”.
جاء تفتُّح وعي حسن مطلك تجاه ذاته ومحيطه الاجتماعي والعالَم، مع ومن خلال الرسم، وكانت مواجهاته والصعوبات التي مر بها قاسية، بحكم رفض محيطه لمواهبه وأفكاره وأفعاله، الأمر الذي أثَّر كثيراً على شخصيته ورؤيته، وبالتالي تقوية وعيه وسمة المقاومة والتحدي والتمرد فيه. يقول: “لم أستطع تحقيق أُمنيتي بدراسة الفن، فبقيتُ سنة كاملة بلا دراسة، ولكن رغم هذا، فحتى وإن ذهبتُ إلى أصعب مجال، وحتى إن تم سَوقي إلى الخدمة العسكرية الإلزامية، فسوف يبقى الفن أُمنيتي، ولابد أن أحققها. هذا الطريق الذي بدأتُ به وآمنت به، لابد أن أستمر فيه حتى النهاية.. إلى أن أنتصر، رغماً عن كل العَقبات”. كان يزداد إصراراً واجتهاداً وعِناداً وتحملاً وتصدياً لما يلاقيه، “إنها قصة البَطح الاجتماعي العشائري ضِدي ــــ أنا ــــ كشخص (عاق وساقط ومنحرف وغريب ومعقد وطفل) في نظركم جميعاً، بما في ذلك أصحاب الوعي الذين تناسوا الدفاع عن فكرة نبيلة… إنها بداية طريفة لقصة هزليّة، أنا كاتبها وبطلها وضحيتها. إنني أبسَط مما تُصورون، وأكبر مما تظنون”.
قاده شغفه الكبير بالرسم إلى تطوير معارفه فيه عبر القراءة عنه، ثم قادته قراءاته عن الرسم إلى قراءة الآداب، فاكتشف ذاته وطاقاته بشكل أكبر وأفضل.. حتى وجد نفسه وتوازنه واقفاً على ساقين متساويين، هما الرسم والكتابة.
توجه إلى دراسة علم النفس في جامعة الموصل، فأحب الموصل وأحب إحدى بناتها وأحب علم النفس، معتبراً إياه رافداً جوهرياً في تعميق نصوصه. تفتحت مواهبه هناك أكثر، حيث أقام معرضاً للوحاته، قال عنه أُستاذه في الرسم، الفنان الرائد ضِرار القَدّو، “إن هذا الفنان يُبشر بميلاد مسيرة فنية جديدة”. كما شارك الفنان الموصلي أكرم الياس بكر، في أكثر من عمل ومعرض لرسوم الكاريكاتير، وقال عنه: “كان حسن مطلك رساماً كاريكاتيرياً. ويدعو نفسه باسم آخر مُضحك هو (نسح كلطم ناظور) وهو كناية، وقراءة مقلوبة، عن اسمه (حسن مطلك روضان) ويوقع به على لوحاته الكاريكاتيرية التي يرسمها معي في معارض الجامعة.. تلك الرسوم التي أبكت الطلبة أكثر مما أضحكتهم في ذلك الزمن الغابر. زمن بداية الحروب”.
عام 1981 نشر حسن مُطلك أول قصة له (الحاجز) في صحيفة (الحدباء) الموصلية، العدد 62، ولنجاحها، طالبوه بأخرى، فنشر قصة (الاكتظاظ) في العدد 65، وكتب الدكتور عمر الطالب أول مقال عنه، يُطري أسلوبه، ويُبشر به كاتباً… وبعد ثلاثين عاماً، كان الدكتور عمر الطالب أول من يترأس لجنة مناقشة لأول أطروحة دكتوراه عن الخطاب الروائي عند حسن مطلك.
عام 1982 أصدر مع زملائه مجلة (المُرَبّي)، وكان مُصمماً لغلافها ولرسومها الداخلية والمشرف الفني عليها. يقول سكرتير تحريرها الكاتب فارس السردار، “كانت تجربة غاية في التفرد والمغامرة… مع (المُرَبّي) اندفع حسن مطلك ينجز أشياءه بصمت، لا أذكر أني سألته أمراً إلا ووجدته منجزَاً. هنا اقتحم النقد الأدبي والتنظير في الفن التشكيلي من خلال نصين أحدهما (قراءة في موسم الهجرة للشمال) للطيب صالح مع محمد نجيب، والآخر (الفنان التشكيلي بين الإقرار بالالتحام والنزوع نحو التمرد). كان واضحا في هذا النص أن حسن قدم رؤاه في الجمال والفلسفة والفن التشكيلي، وأفصح عن مرجعية تمرده”.
يقول حسن، “التمرد يكمن في اللحظة التي يكتشف الفنان فيها جمال الشيء فينقله بأية أداة بصرية أم صوتية أم حركية، لا بالصورة التي سبقت الاكتشاف، إنما التي جاءت بعده”. ويقول أيضاً، “إن الفنان ينظُر غالبا إلى الأشياء كتحديات سهلة الخضوع والاستسلام، وهذا يُفسر شعوره الدائم بالعنفوان والقوة”. كانت لحظة حُب، تجمع في بؤرتها جهداً مثمراً وحثيثاً، وحروفاً هطلت من سحب بيضاء طرزتها صبوات، تطفئ أسئلة، وتعود فتشعلها. في هذا الوقت بالذات، كان حسن مطلك قد بدأ يُوغل في تجربته التشكيلية ويؤصلها. تنطفئ الساعات في مرسم الجامعة، لتضيء مساحات من قطع القماش المؤطَّر بالألوان التي تتركها فرشاة حسن بجرأة مذهلة. كان حسن يحاول أن يؤسس شيئاً”.
أصبحت حساسية حسن مطلك عالية تجاه كل شيء. “إنكَ لا تدري ــــ يا صديقي ــــ شيئاً عن الغربة التي أعيشها بينكم.. كغربة المُصاب بمرضٍ معدٍ، وليس لي ذنب سوى أنني أكثر حساسيّة. أنا وحيد ومُتعَب ومعزول، لسبب واحد، هو أنه ليس لي أشباه”. وكان يضيق ذرعاً بكل أشكال السُلطات؛ البيروقراطية والأكاديمية والاجتماعية والسياسية والثقافية، فيتمرد عليها وعلى الأساليب التقليدية في الفنون والآداب، وصار هاجس التحرر منها مُتجذراً فيه، يقول، “أمامي إرهاب اِجتماعي ضد الفن ولصالح المال، لصالح الكذب والمساومة”. “كنتُ يومها مهزوماً تحت وطأة البَطح الاجتماعي واللذة المزيَّفة التي نشعُر بها جميعاً حين نسلم ضميرنا الخاص إلى الجماعة، وقررتُ ذات يوم، أن أنتصر لنفسي المفرَدة، لأنني ــــ وبكثير من الغرور ــــ أرى ألا شريك لي على مستوى الاعتزاز بقدسية نفسي كإنسان واعٍ”. إلا أن توقه لتحرره الفردي لم يكن فردياً حقاً، لأنه لم يفصله يوماً عن توقه لتحرير محيطه، تحرير وطنه، يقول، “أغار على وطني.. الذي كُلما قارنتُ أدبه بآداب الشعوب اكتأبتُ.. ودفعني ذلك للقراءة والكتابة.. وستبقى تلك الغيرة تنهشني حتى أحقق ما يحققه كاتب عظيم لوطنه.. أو أهلك دون هذا الأمر”. ولشدة توقه للحرية وشدة حبه لوطنه، كتبنا على شاهدة قبره، عباراته هذه: “أغار على وطني… اِشتقتُ إلى الحرية من أجل الذود عن الحرية”.
أنهى حسن مطلك دراسته الجامعية عام 1983 وسِيق لأداء الخدمة العسكرية الإلزامية، “أُعلِن لكم عن فجيعة صغيرة، غير مُحزنة.. بل مُفتِّتة.. لقد دَمّرَتني العسكرية، حيث لا راحة بال ولا نفس.. لا حق للعقل ولا حق للجسد ـــ هنا الشتائم… لقد كنتُ أدّعي المعاناة والآن أعيشها”، ونُقل إلى جبهات الحرب المُستعرة بين العراق وإيران، إلى ساحات حرب حقيقية، زجته السلطة في أتونها، وسط النيران والموت، “الحرب أكلَت نفسي وأكلَت محيطي”.
وفي رسالة بعثها إلى أهله من (هور الحويزة) يقول، “.. طبعاً ليس هناك أي راحة لنا هنا: السَهر، والواجبات وحَفر الخنادق، وإنقاذ الجرحى وإخلاء الشهداء.. ولا نعلم ما الذي سيجري بعد ساعة. ولكن اِطمَئنوا، كل شيء بيد الله… أرجو أن تعملوا ما بوسعكم للاتصال بالذين تعرفونهم لغرض نقلي إلى أي مكان”. ولكنه رفض فرصة النقل حين جاءت إليه مشروطة من قِبل السُلطة، ففي جزيرة (أم الرصاص)، عرض عليه عبد الأمير معلة، أحد كبار المسؤولين الثقافيين الزائرين للجبهات، ببدلات عسكرية زيتونية اللون، لالتقاط الصور من أجل الإعلام، أن يكتب مباشرة لتمجيد (القائد)، أو على الأقل، أن يرسمه في لوحة بورتريه كبيرة، كالتي كانت شائعة في تلك الأعوام، وتملأ كل ساحات وشوارع ومباني ودوائر البلد من شماله إلى جنوبه، وتعهَّد له، إن فعَل، فسوف ينقله من الجبهات إلى بغداد ليمضي بقية خدمته الإلزامية في إحدى دوائر ومؤسسات إعلامها وفنونها، لكن حسن اعتذر عن ذلك قائلاً بأنه لا يعرف، وبالطبع فهم المسؤول المثقف بأن ترجمة “لا أعرف” هي “لا أريد”، فرَبَّت على كتفه وقال: “فكِّر بالأمر”، وهو على يقين من أن هذا الشاب الذي برز اسمه حديثاً بنصوص مغايرة ومختلفة، لن يفعل، فهو شخص مُغاير ومُختلف، مِثل نصوصه.
يقول حسن مطلك، إن “المُتسَلِّط يرى العالَم أبيض وأسود، يرى العالَم من دون ألوان.. بلا معنى، أي يستهين بالعالَم لأنه لا يرى ألوانه الحقيقية، يراه مجرَّداً من الألوان، إذاً فهو مُجرّد من الحِس، على الأقل حِس البَصر.. والبَصر يعني الإبصار. إذاً فهو لا يمتلك رؤية للعالم، أي أنه يرى ولكنه لا يُبصر.” وإن “رجال السُلطَة حمير، ورأس السلطة حمار ينهق ليل نهار ويلبس فروة الأسد”.
وبعد تسرحه من الجيش، وانضمامه إلى سلك التعليم في المدارس والمعاهد، عاود العمل بشكل أكثف على مشاريعه الإبداعية، وبروحية التوق نفسها للتغيير والتمرد على السائد، في الأدب والمجتمع. “أكتشفُ الآن، أن الذي يُحركني في كل سلوكي هو الغضب”. “الكتابة المُخلِصة، هي.. الاحتراق، الإبداع والخلق والابتعاد عن الزيف والمؤسسات والدعاية والشهرة.. الاسم لا يهمني، إنما العمل، نوعيته”، فكتب ونشر العديد من القصص المختلفة شكلاً ومضموناً، وراح يعمل بلا كلل على روايته (دابادا)، “أُريد رواية بمستوى مكوك الفضائية (تشالنجر)… وسأعمل هنا، في عزلتي القاسية التي أتعرض فيها يومياً إلى البطح الاجتماعي، وأُصبح هدفاً لمسدسات العشائر في لحظات الأعراس، سأعمل على إزالة القشرة الناعمة عن الأدب”، وفيها يتعرض لنقد السلطات أيضاً بقوة ورمزية، فما زالت معركته معها مستمرة، وبالطبع، رفضت المؤسسات الثقافية في العراق نشرها، فنشَرها في بيروت على حسابه الخاص، وهي الكتاب الوحيد الذي أصدره في حياته، بينما قمتُ أنا بنشر أعماله الأخرى بعد رحيله بأعوام، ومنها: (الأعمال القصصية)، رواية (قوة الضحك في أُورا)، ديوان (أنا وأنتِ والبلاد)، (العين إلى الداخل) كتابة حُرة ويوميات، (الكتابة وقوفاً) تأملات في فن الروايةً، (كتاب الحُب.. ظِلالهن على الأرض) شهادة تصف العشق انطلاقاً من تجربته الخاصة، (أعراس الكُرة الأرضية)، كتاب شذرات، يضم أهم أقواله، وسنُصدر هذا العام كتاباً آخر له، بعنوان (أنا مُعلِّم نفْسي)، يضم رسائله والحوارات معه ونصوصاً أخرى. وتتميز مجمل أعماله بعمق التأملات والمعاني، بقوة اللغة وجمالها، وبتوظيفها العالي لتقنيات الحداثة والتجريب، مما يجعل أغلبها عصيّة على القارئ العادي، لأنها أعمال غير عادية، لا تمنح نفسها بسهولة، وتتطلب قراءتها أكثر من مرة، لأن قارئها سيكتشف شيئاً جديداً مع كل قراءة جديدة.
في ثمانينيات القرن الماضي، الكاتب الشهيد حسن مطلك (الذي يغسل السيارة) مع أصدقائه وأبناء قريته: الكاتب الشهيد إبراهيم حسن ناصر، صاحب رواية “شواطئ الدم.. شواطئ الملح”، (الذي يقف أعلى التلة)، والنقيب الشهيد صالح جاسم جرو (الذي اشترك مع حسن في المحاولة الانقلابية 1990، وأُعدِم رمياً بالرصاص، لأنه عسكري).
ورغم كل ما أنجزه وهو في أول انطلاقته الإبداعية، فإنه لم يكن راضياً عن حال وطنه، ويردد: “أُريد أن أحقق حلمي في التأثير على الواقع.. هل أستطيع؟ المعاناة، الغربة، الصراع، مقابل الجهل، التخلف، العشائرية، الدكتاتورية والاضطهاد السياسي.. الموروث الاجتماعي والنفسي.. أمام كل هذا الركام الهائل”. “أُريد أن أخرُج إلى الرجولة والعمل القاتل، عمل الكتابة.. أخرُج إلى المسؤولية. أُريد الحرية”. وكان يرى بأن السكوت لم يعد ممكناً على بقاء الدكتاتور الطاغي، بعد أن انتهت الحرب، حيث كان الأمر يتطلب التركيز على الدفاع عن الوطن وتحمل كل شيء من أجله، وأن ما يحاول الدكتاتور من ترويجه لنية التغيير السياسي والانفتاح في الحريات والديمقراطية، إنما هو محض أكاذيب، وهي لا تعفيه من المحاسبة عما ارتكبه من جرائم وتخريب للبلاد وزجها في هذه الحرب. ويذكُر، “عن دكتاتورية الدولة، هناك رواية اسمها (العجلة الحمراء) في عدة مجلدات، كتبها روائي اسمه (سولجينيتسن) يعيش خارج بلاده، وقد حصل على جائزة نوبل للآداب.. في هذه الرواية يتحدّث عن ثورة روسيا منذ سنة ١٩١٧م، ولحدّ الآن. إنَّ في الاتحاد السوفيتي أشد أنواع الديكتاتوريات، فالمواطن هناك أينما يَفتح المذياع يَسمع: هنا موسكو! ولا يعرف عن أخبار العالَم إلا ما تَسمح به السُلطة”. كما يردد ضاحكاً: “أتذكّر كلمةً للروائي (حَنا مينة) يقول فيها: يبدو أنني أكتب لمصلحة السُلطة؛ وإلا فما الذي يفسر بقائي حياً حتى الآن!؟”.
كان حسن مطلك يُعبر عن سخطه من النظام الحاكم في كل المواقف والمناسبات بجرأة تصدم سامعيها، لشدة ما عُرف عن بطش النظام حينها بكل من ينتقده بكلمة، “قريبة هي الساعة التي سأقول فيها لكل شيء: وداعاً”، وهكذا إلى أن اشترك، مع مجموعة من أصدقائه الضباط، بالإعداد لمحاولة قلب نظام الحكم، وكان يقول، “الكتابة موقف (في السلب والإيجاب) والموقف كلام يتحوّل إلى فعل، فكيف نكتُب عن الاختيار إذا كنا عبيداً؟”. ومثلما حدث مع شاهين، بطل روايته؛ “قد نُجرب نحن قَتلاً بائساً أو قتلاً غير ناجح، لأننا نَستخدم المدية بشكل مقلوب، وإن كانت كل هذه الحالات تُعتبر حالة ثورية ضد السُلطات”. فشلت المحاولة، ورفض حسن مطلك الهرب خارج بلاده، فتم اعتقاله في صبيحة السابع من كانون الثاني 1990 من أمام مدرسته وطلابه، ولم يعد بعدها إلا جثة هامدة، وصرخت حبيبته هُدى، “كيف هدأت تلك الروح العنيدة! كيف؟! وقد كان يقول لي ويردد دائماً: “أنا الذي لا يهدأ أبداً”.. وها هو بهذا الهدوء والسكون الأبدي..!!؟”
لا، لم تهدأ تلك الروح العنيدة يا هدى.. فقد ظلت تتحرك بيننا بعنفوان، تمدنا بألوان رسم الكلمات والمعاني، “الفنان وردة يقطفها الناس ليتمتعوا بعطرها وجمالها”، ويواصل الشباب قراءة أعماله، ومحاولات فك ألغازها وتتبع خطواته، حتى أن أحد الشباب القادمين من ديرته للمشاركة في ثورة تشرين 2019، اتصل بي، وأقسَم بأنه قد رأى حسن مطلك بينهم، في (ساحة التحرير) يهتف للحرية، إلا أنه لم يكن متأكداً من أنه قد رآه في الواقع أم في الحلم.. ولكن لا فرق، فحسن مطلك يقول: “بالحلم يَتَجَدَّد كل شيء”.