"حافلات لا تعرف الطريق وركّاب يهربون".. النقل العام من مدحت باشا إلى السوداني 

علي الأعرجي

20 أيار 2024

قصّة "الأمانة" و"المنشأة" و"الباص" و"الفورتات"، ولماذا نجح مدحت باشا في تأسيس النقل العام في بغداد وفشل من بعده في إدامته؟ عن حافلات لا تعرف الطريق وركّاب يهربون

 لم يكن هدف مدحت باشا، والي بغداد، من تأسيس أول شركة وخط للنقل العام في بغداد، يتشابه مع الهدف “القديم-المتجدد” لحكومات العراق الجديد، وتحديداً بعد عام 2013، فلم تكن هناك شوارع تخنقها وسائل النقل الخاصة، أو تبلغ ملكيتها بمعدل مركبة لكل فردين اثنين، كما يحدث الآن في العاصمة التي تضم أكثر من 8 ملايين نسمة، وتسير 4 ملايين عجلة في شوارعها التي لا تستوعب طاقتها سوى 6 بالمئة من عدد هذه السيارات.  

كانت الحمير والبغال والخيل هي الوسائل المعتمدة للنقل في بغداد، قبل أن يقوم والي بغداد مدحت باشا في عام 1889 بتأسيس أول شركة للنقل العام لتقوم بإنشاء خط “ترامواي”، وهو عبارة عن عربة خشبية تجرّها الخيول من ساحة الشهداء حتى الكاظمية. 

كان مدحت باشا قد قدّم خياراً جديداً وأكثر جدوى وتطوراً من وسائل النقل القديمة التي كان يعرفها البغداديون، وهو أمر كافٍ لجعل هذه الوسيلة خياراً جاذباً للزبائن والمستخدمين، فما كانت بذرة الباشا إلا أن تنمو بشكل أكبر في ما بعد وصولاً إلى قيام أثرياء بغداد بإنشاء شركات مشابهة توفر خيارات وخطوطاً جديدة لمناطق متعددة، من بينها “عرباين عارف أغا” التي ذهبت إلى تفعيل خطوط بين بغداد والمدن القريبة المحيطة بها مثل سامراء وكربلاء. 

 وفي عام 1938، أسست الدولة العراقية الملكيّة، مصلحة نقل الركاب وتم ربطها بأمانة بغداد واستوردت لها باصات نقل، وبسبب ارتباطها بأمانة بغداد كان العراقيون يطلقون على هذه الباصات اسم “الأمانة”، وكذلك سميت بالمصلحة بعد أن تحوّلت إلى مصلحة لنقل الركاب بعيداً عن الأمانة، وعندما تحوّلت إلى منشأة، أصبح الناس يطلقون على الباصات اسم المنشأة، وجميع هذه التسميات ما تزال دارجة حتى الآن. 

قرّرت الحكومة حينها شراء 100 باص إنكليزي، غير أن ظروف الحرب العالمية الثانية أخرت الصفقة، مما اضطر الدولة حينها لاستخدام وشراء مخلفات عجلات الجيش البريطاني وتركيب أبدان خشبية لها وتحويلها إلى باصات لنقل الركاب، قبل أن يصل 100 باص في عام 1951 نتيجة صفقة استيرادية، وحتى نهاية السبعينيات كان هناك أكثر من 90 خطاً، ولكل رقم دلالة على خط معين بنقطة انطلاق ووصول، فكان الباص رقم 1 ينطلق من باب المعظم إلى الأعظمية، و2 من ساحة التحرير وشارع الرشيد إلى باب المعظم، و3 من ساحة الميدان إلى الكاظمية وهكذا. 

عقد من المحاولات المرتبكة 

في أول خطوة لمسير عقد من المحاولات المتعثّرة، أعلنت وزارة النقل عام 2013 تسلّم دفعة كبيرة من الباصات ضمن عقد مع شركة البا هاوس لشراء 260 باصاً، لكن محاولات العراق الجديد لتفعيل النقل العام للسيطرة على الاختناقات المرورية وتزايد العجلات التي لم تعد تستوعبها شوارع بغداد، لم تلق رواجاً ونجاحاً كما حدث في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فبينما وفّرت وسائل النقل العام في ذلك الزمن بديلاً أكثر جودةً وجدوى عن التنقل بالوسائل القديمة، كان على حكومات العراق الجديد تقديم النقل العام كبديل أكثر تشجيعاً من أن يستخدم العراقيون عجلاتهم الخاصة، إلا أن ذلك لم يحدث، وهو ما كتب على المحاولات المستمرة بالموت المبكّر أو على الأقل المراوحة في المكان نفسه. 

التكسي النهري.. لكل وزير افتتاح 

منذ ذلك الحين، تعلن الحكومات العراقية المتعاقبة عن التوجّه لتفعيل النقل العام، وفتح خطوط جديدة وكذلك التوجه نحو تفعيل التكسي النهري، المشروع الذي يفتتحه كل وزير جديد لوزارة النقل ويتوقف بعد فترة وجيزة، وصلت لأن تكون 10 أيام فقط.  

في 9 آذار 2015 انطلق التكسي النهري في بغداد وظهر وزير النقل حينها باقر جبر صولاغ وهو يستقل أحد الزوارق، حيث كلف المشروع 20 مليار دينار لإنشاء 15 محطة انتظار من شمال العاصمة إلى جنوبها، إلا أنّ المشروع توقف بعد 10 أيام فقط، لدواعٍ أمنية غير معلنة، ولكن الحقيقة المعروفة حينها أن الدواعي الأمنية تتمثل بأن التنقل عبر النهر بين شمال وجنوب العاصمة سيتطلب الدخول إلى المنطقة المحرمة، الخضراء، وهو ما لا يمكن السماح به حينها ولسنوات طويلة. 

 باقر جبر الزبيدي أثناء افتتاح التكسي النهري الذي توقف بعد عشرة أيام من افتتاحه عام 2015. 

ومنذ ذلك الحين، تعلن الحكومات ووزارات النقل المتعاقبة تفعيل التكسي النهري في كل دورة حكومية جديدة، إلا أنه يعود للتوقف لأسباب أمنية أو لشحة المياه في نهر دجلة، ومن ثم يعد الإعلان عن انطلاق التكسي مرة أخرى في عام آخر وحقبة حكومية جديدة، ففي عام 2018 أُعلن عن انطلاق التكسي النهري مجدداً في حقبة وزير النقل كاظم فنجان الحمامي، ومن ثم في 2021 اطلع وزير النقل ناصر الشبلي على جهوزية التكسي النهري قبل انطلاق العمل به مجددا، وفي حزيران 2023 افتتح الوزير الجديد رزاق محيبس مشروع التكسي النهري من جديد، فيما أعلنت وزارة النقل مؤخراً عن خطة جديدة لتفعيل التكسي النهري من عدة مواقع على ضفتي نهر دجلة. 

لا توجد إحصائيات عن النقل النهري للأعوام 2015 وحتى 2023، سوى للأعوام 2019 و2020 و2021 أما بقية الأعوام، فالتكسي متوقف غالباً. 

ويتضح أن هناك 9580 راكباً لزوارق التكسي النهري في عام 2019، وانخفض العدد في 2020 إلى 2950 راكباً وهم في البصرة والنجف فقط، ما يعني أن التكسي متوقف في بغداد، أما في 2021 ارتفع الرقم إلى أكثر من 12 ألف راكب، وايضاً في البصرة والنجف فقط مع توقفه في بغداد، وفي عام 2022 عادت إحصائيات النقل النهري للاختفاء من تقارير وزارة النقل والنقل البحري أسوة بالأعوام ما قبل 2019، وذلك بسبب توقف المشروع. 

حافلات نصفها متوقف 

وبالعودة إلى باصات النقل العام، وعلى طريقة التكسي النهري، لا تمر دورة حكومية جديدة بوزارة النقل دون الإعلان عن افتتاح خطوط جديدة لتفعيل النقل العام، لكنها ومنذ تسلم وزارة النقل مئات الباصات منذ 2013، لم تتم صناعة فارق واضح، بل وتظهر الأرقام أن شيوع النقل العام يتدهور سنوياً. 

تقول وزارة النقل الحالية إن الخطوط المراد تشغيلها في بغداد تصل إلى 72 خطاً، وتم افتتاح 24 خطاً العام الماضي وتشغيل 3 خطوط هذا العام 2024. 

منذ عام 2011 كانت هناك أكثر من 1600 حافلة موجودة، وانخفضت تدريجياً وعادت للارتفاع مجدداً حتى بلغ عددها الأقصى أكثر من 1900 حافلة وذلك في عام 2018، وفي ذلك العام، كان عدد الحافلات العاملات 32 بالمئة من إجمالي الحافلات الموجودة كأدنى نسبة تشغيل مقارنة بباقي السنوات من 2011 وحتى 2022، حيث إنه طوال السنوات الأخرى كانت نسبة الحافلات العاملة تقريباً نصف إجمالي الحافلات الموجودة والنصف الآخر متوقف.  

اقرأ أيضاً

الرحلات العسيرة بـ”الجابك”: النقل والتنقّل في بغداد 

في عامي 2020 و2021، ارتفع عدد الحافلات العاملة إلى أكثر من 800 حافلة بالرغم من انخفاض عدد الحافلات الموجودة، وأصبحت نسبة الحافلات العاملة أكثر من 70 بالمئة من إجمالي الحافلات الموجودة، والمتوقفة 30 بالمئة. 

وبالرغم من أنه في عام 2022، كان لدى العراق أكثر من 1211 حافلة، إلا أن عدد الحافلات العاملة انخفض إلى 644 حافلة فقط، أي أن نسبة الحافلات العاملة عادت إلى 53 بالمئة، ما يعني أن نصفها خارج عن العمل. 

الركّاب يهربون 

من بين هذه الحافلات، وحتى 2022، هناك أكثر من 200 حافلة تعمل في داخل بغداد لوحدها وبعدد خطوط يبلغ حوالي 30 خطاً. 

وبلغ عدد الركاب في بغداد خلال عام 2022، أكثر من 4400 راكب، وفي 2021 كان عدد الركاب يبلغ أكثر من 2500 راكب، وفي 2020 كان عدد الركاب أكثر من 2100 راكب، وجاءت هذه الأرقام منخفضة بشكل كبير عما تم تسجيله في عام 2019 والذي بلغ عدد الركاب فيه داخل بغداد أكثر من 10600 راكب، وفي 2018 بلغ أكثر من 14 ألف راكب، وفي 2017 بلغ عدد الركاب أكثر من 16600 راكب، وفي 2016 أكثر من 13 ألف راكب، وفي 2015 نحو 17 ألف راكب. 

ويتضح أنه في أيام وباء “كورونا” وما بعده، أي حتى في عام 2022 الذي لم يشهد إغلاقاً وتم فتح حظر التجوال بالكامل، إلا أن عدد الركاب انخفض بنسبة 700 بالمئة مقارنة بأعوام ما قبل 2019. 

وتظهر الأرقام بشكل كبير كيفية فشل الحكومات المتعاقبة بتشغيل جميع الحافلات التي تمتلكها أي أن نصفها متوقف عن العمل، فضلا عن خسارة وتراجع مستمر للزبائن والركاب. 

ويمكن تفسير هذا التراجع مقارنة بازدهار النقل العام أواخر القرن التاسع عشر، بأن هذا القطاع أول انطلاقه كان قد قدم بديلاً مغرياً للركاب ونجح بالتنامي، لكن حكومات العراق الجديد استمرت بالتراجع في هذا المجال، لأنها لم تقدم بدائل مغرية تقنع المواطنين بترك عجلاتهم مقابل اللجوء إلى النقل العام، أو اتباع طرق “تضييق” غير مباشر على استخدام العجلات الخاصة أو استيرادها حتى. 

وبدلاً من ذلك، أصبح على من يستقل حافلات النقل العام، أن يستعد مسبقاً لقتل نحو 5 ساعات من يومه في طريقه بين عمله ومنزله ذهاباً وإياباً، أي أن ما يستغرقه في الطريق يعادل ساعات دوامه وعمله بالكامل تقريباً، بسبب الازدحامات الخانقة التي تقيد حركة الحافلات الكبيرة، فضلاً عن بطء حركتها وتوقفها المستمر في عدة محطات لنزول الراكبين بدلاً من إكمال وجهتها أو تحديد نقاط وقوف محددة. 

كانت الحكومات تجيء بالحافلات وترميها في الشوارع المختنقة، بدلاً من استحداث طرق خاصة لحافلات النقل العام، لتكون ميزة للحافلات عن غيرها من العجلات، بكونها لا تتوقف أبداً، وهو ما سيشجع المستخدمين على ترك عجلاتهم الخاصة والازدحامات الخانقة واللجوء إلى الحافلات التي لا تقف ولا ينازعها أحد في طريقها الخاص، كما تفعل بلدان العالم المختلفة التي تقدم مزايا عديدة لإقناع الناس باستخدام النقل العام، حتى أنها وصلت في بعض البلدان لتسيير النقل العام “مجانا” للراكبين، فقط للتخلص من الزخم المروري في شوارعها كما حصل في لوكسمبورغ عام 2020، كمثال فقط على الامتيازات الضرورية لإقناع الركاب بترك وسائل النقل الخاصة، أما في الحالة العراقية فيتطلب القضاء على أهم عقبة بوجه النقل العام والمتمثلة بتركها تعلق وسط العجلات الصغار وعدم إمكانية التحرك بحرية في شوارع مختنقة. 

المجسرات.. توسع عموديّ في المساحة ذاتها 

على طريقة حل أزمة السكن التي اعترفت الحكومة والجهات المؤسسية المعنية مؤخراً بفشلها، والمتمثلة بوضع المزيد من التجمعات السكانية بطوابق عالية وسط مناطق مزدحمة أساساً وسط العاصمة بغداد، تأتي فكرة المجسرات التي تصب حكومة السوداني جهودها ودعايتها الإعلامية عليها، متطابقة مع سيناريو حل أزمة السكن، وذلك بوضع “طوابق جديدة” تصعد عليها العجلات وسط تقاطعات وشوارع مزدحمة تلجأ إليها العجلات من كل حدب وصوب للذهاب إلى وجهة معينة، بدلاً من أن تفتتح الحكومة طرقاً جديدة تستوعب الزخم الكبير في عدد العجلات وإعطاء خيارات بديلة ومتعددة للوجهة المقصودة. 

نصف سيارات العراق على 2 بالمئة من طرقه 

اقرأ أيضاً

“ما يحدث ليس قدراً”: النساء بحاجة إلى مكان في وسائل النقل العام

حتى مطلع 2023، تمتلك العاصمة بغداد جنباً إلى جنب مع النجف، أقل أطوال بالطرق الرئيسية والفرعية المبلطة، حيث بلغت أطوال الطرق الرئيسية والفرعية (الداخلية) في بغداد 672 كيلومترا، من أصل ما تمتلكه المحافظات الاخرى إجمالاً والبالغة أكثر من 34 ألف كيلومتر، ما يعني أن العاصمة التي تحتوي على ربع عدد سكان البلاد، وتحتوي على قرابة نصف عدد السيارات الموجودة فيها، تحتوي على 2 بالمئة فقط من إجمالي الطرق الداخلية المبلطة كشوارع رئيسية وفرعية في العراق، كما تظهر أرقام الجهاز المركزي للإحصاء. 

هذه الأرقام كفيلة بإيضاح المشكلة الرئيسية، فبغداد لا تمتلك شوارع جديدة، وبدلاً من ذلك تتوجه الحكومة لفتح المزيد من المجسرات في الشوارع الموجودة ذاتها بدلاً من افتتاح شوارع جديدة وتوسيع المدينة المختنقة. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

 لم يكن هدف مدحت باشا، والي بغداد، من تأسيس أول شركة وخط للنقل العام في بغداد، يتشابه مع الهدف “القديم-المتجدد” لحكومات العراق الجديد، وتحديداً بعد عام 2013، فلم تكن هناك شوارع تخنقها وسائل النقل الخاصة، أو تبلغ ملكيتها بمعدل مركبة لكل فردين اثنين، كما يحدث الآن في العاصمة التي تضم أكثر من 8 ملايين نسمة، وتسير 4 ملايين عجلة في شوارعها التي لا تستوعب طاقتها سوى 6 بالمئة من عدد هذه السيارات.  

كانت الحمير والبغال والخيل هي الوسائل المعتمدة للنقل في بغداد، قبل أن يقوم والي بغداد مدحت باشا في عام 1889 بتأسيس أول شركة للنقل العام لتقوم بإنشاء خط “ترامواي”، وهو عبارة عن عربة خشبية تجرّها الخيول من ساحة الشهداء حتى الكاظمية. 

كان مدحت باشا قد قدّم خياراً جديداً وأكثر جدوى وتطوراً من وسائل النقل القديمة التي كان يعرفها البغداديون، وهو أمر كافٍ لجعل هذه الوسيلة خياراً جاذباً للزبائن والمستخدمين، فما كانت بذرة الباشا إلا أن تنمو بشكل أكبر في ما بعد وصولاً إلى قيام أثرياء بغداد بإنشاء شركات مشابهة توفر خيارات وخطوطاً جديدة لمناطق متعددة، من بينها “عرباين عارف أغا” التي ذهبت إلى تفعيل خطوط بين بغداد والمدن القريبة المحيطة بها مثل سامراء وكربلاء. 

 وفي عام 1938، أسست الدولة العراقية الملكيّة، مصلحة نقل الركاب وتم ربطها بأمانة بغداد واستوردت لها باصات نقل، وبسبب ارتباطها بأمانة بغداد كان العراقيون يطلقون على هذه الباصات اسم “الأمانة”، وكذلك سميت بالمصلحة بعد أن تحوّلت إلى مصلحة لنقل الركاب بعيداً عن الأمانة، وعندما تحوّلت إلى منشأة، أصبح الناس يطلقون على الباصات اسم المنشأة، وجميع هذه التسميات ما تزال دارجة حتى الآن. 

قرّرت الحكومة حينها شراء 100 باص إنكليزي، غير أن ظروف الحرب العالمية الثانية أخرت الصفقة، مما اضطر الدولة حينها لاستخدام وشراء مخلفات عجلات الجيش البريطاني وتركيب أبدان خشبية لها وتحويلها إلى باصات لنقل الركاب، قبل أن يصل 100 باص في عام 1951 نتيجة صفقة استيرادية، وحتى نهاية السبعينيات كان هناك أكثر من 90 خطاً، ولكل رقم دلالة على خط معين بنقطة انطلاق ووصول، فكان الباص رقم 1 ينطلق من باب المعظم إلى الأعظمية، و2 من ساحة التحرير وشارع الرشيد إلى باب المعظم، و3 من ساحة الميدان إلى الكاظمية وهكذا. 

عقد من المحاولات المرتبكة 

في أول خطوة لمسير عقد من المحاولات المتعثّرة، أعلنت وزارة النقل عام 2013 تسلّم دفعة كبيرة من الباصات ضمن عقد مع شركة البا هاوس لشراء 260 باصاً، لكن محاولات العراق الجديد لتفعيل النقل العام للسيطرة على الاختناقات المرورية وتزايد العجلات التي لم تعد تستوعبها شوارع بغداد، لم تلق رواجاً ونجاحاً كما حدث في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فبينما وفّرت وسائل النقل العام في ذلك الزمن بديلاً أكثر جودةً وجدوى عن التنقل بالوسائل القديمة، كان على حكومات العراق الجديد تقديم النقل العام كبديل أكثر تشجيعاً من أن يستخدم العراقيون عجلاتهم الخاصة، إلا أن ذلك لم يحدث، وهو ما كتب على المحاولات المستمرة بالموت المبكّر أو على الأقل المراوحة في المكان نفسه. 

التكسي النهري.. لكل وزير افتتاح 

منذ ذلك الحين، تعلن الحكومات العراقية المتعاقبة عن التوجّه لتفعيل النقل العام، وفتح خطوط جديدة وكذلك التوجه نحو تفعيل التكسي النهري، المشروع الذي يفتتحه كل وزير جديد لوزارة النقل ويتوقف بعد فترة وجيزة، وصلت لأن تكون 10 أيام فقط.  

في 9 آذار 2015 انطلق التكسي النهري في بغداد وظهر وزير النقل حينها باقر جبر صولاغ وهو يستقل أحد الزوارق، حيث كلف المشروع 20 مليار دينار لإنشاء 15 محطة انتظار من شمال العاصمة إلى جنوبها، إلا أنّ المشروع توقف بعد 10 أيام فقط، لدواعٍ أمنية غير معلنة، ولكن الحقيقة المعروفة حينها أن الدواعي الأمنية تتمثل بأن التنقل عبر النهر بين شمال وجنوب العاصمة سيتطلب الدخول إلى المنطقة المحرمة، الخضراء، وهو ما لا يمكن السماح به حينها ولسنوات طويلة. 

 باقر جبر الزبيدي أثناء افتتاح التكسي النهري الذي توقف بعد عشرة أيام من افتتاحه عام 2015. 

ومنذ ذلك الحين، تعلن الحكومات ووزارات النقل المتعاقبة تفعيل التكسي النهري في كل دورة حكومية جديدة، إلا أنه يعود للتوقف لأسباب أمنية أو لشحة المياه في نهر دجلة، ومن ثم يعد الإعلان عن انطلاق التكسي مرة أخرى في عام آخر وحقبة حكومية جديدة، ففي عام 2018 أُعلن عن انطلاق التكسي النهري مجدداً في حقبة وزير النقل كاظم فنجان الحمامي، ومن ثم في 2021 اطلع وزير النقل ناصر الشبلي على جهوزية التكسي النهري قبل انطلاق العمل به مجددا، وفي حزيران 2023 افتتح الوزير الجديد رزاق محيبس مشروع التكسي النهري من جديد، فيما أعلنت وزارة النقل مؤخراً عن خطة جديدة لتفعيل التكسي النهري من عدة مواقع على ضفتي نهر دجلة. 

لا توجد إحصائيات عن النقل النهري للأعوام 2015 وحتى 2023، سوى للأعوام 2019 و2020 و2021 أما بقية الأعوام، فالتكسي متوقف غالباً. 

ويتضح أن هناك 9580 راكباً لزوارق التكسي النهري في عام 2019، وانخفض العدد في 2020 إلى 2950 راكباً وهم في البصرة والنجف فقط، ما يعني أن التكسي متوقف في بغداد، أما في 2021 ارتفع الرقم إلى أكثر من 12 ألف راكب، وايضاً في البصرة والنجف فقط مع توقفه في بغداد، وفي عام 2022 عادت إحصائيات النقل النهري للاختفاء من تقارير وزارة النقل والنقل البحري أسوة بالأعوام ما قبل 2019، وذلك بسبب توقف المشروع. 

حافلات نصفها متوقف 

وبالعودة إلى باصات النقل العام، وعلى طريقة التكسي النهري، لا تمر دورة حكومية جديدة بوزارة النقل دون الإعلان عن افتتاح خطوط جديدة لتفعيل النقل العام، لكنها ومنذ تسلم وزارة النقل مئات الباصات منذ 2013، لم تتم صناعة فارق واضح، بل وتظهر الأرقام أن شيوع النقل العام يتدهور سنوياً. 

تقول وزارة النقل الحالية إن الخطوط المراد تشغيلها في بغداد تصل إلى 72 خطاً، وتم افتتاح 24 خطاً العام الماضي وتشغيل 3 خطوط هذا العام 2024. 

منذ عام 2011 كانت هناك أكثر من 1600 حافلة موجودة، وانخفضت تدريجياً وعادت للارتفاع مجدداً حتى بلغ عددها الأقصى أكثر من 1900 حافلة وذلك في عام 2018، وفي ذلك العام، كان عدد الحافلات العاملات 32 بالمئة من إجمالي الحافلات الموجودة كأدنى نسبة تشغيل مقارنة بباقي السنوات من 2011 وحتى 2022، حيث إنه طوال السنوات الأخرى كانت نسبة الحافلات العاملة تقريباً نصف إجمالي الحافلات الموجودة والنصف الآخر متوقف.  

اقرأ أيضاً

الرحلات العسيرة بـ”الجابك”: النقل والتنقّل في بغداد 

في عامي 2020 و2021، ارتفع عدد الحافلات العاملة إلى أكثر من 800 حافلة بالرغم من انخفاض عدد الحافلات الموجودة، وأصبحت نسبة الحافلات العاملة أكثر من 70 بالمئة من إجمالي الحافلات الموجودة، والمتوقفة 30 بالمئة. 

وبالرغم من أنه في عام 2022، كان لدى العراق أكثر من 1211 حافلة، إلا أن عدد الحافلات العاملة انخفض إلى 644 حافلة فقط، أي أن نسبة الحافلات العاملة عادت إلى 53 بالمئة، ما يعني أن نصفها خارج عن العمل. 

الركّاب يهربون 

من بين هذه الحافلات، وحتى 2022، هناك أكثر من 200 حافلة تعمل في داخل بغداد لوحدها وبعدد خطوط يبلغ حوالي 30 خطاً. 

وبلغ عدد الركاب في بغداد خلال عام 2022، أكثر من 4400 راكب، وفي 2021 كان عدد الركاب يبلغ أكثر من 2500 راكب، وفي 2020 كان عدد الركاب أكثر من 2100 راكب، وجاءت هذه الأرقام منخفضة بشكل كبير عما تم تسجيله في عام 2019 والذي بلغ عدد الركاب فيه داخل بغداد أكثر من 10600 راكب، وفي 2018 بلغ أكثر من 14 ألف راكب، وفي 2017 بلغ عدد الركاب أكثر من 16600 راكب، وفي 2016 أكثر من 13 ألف راكب، وفي 2015 نحو 17 ألف راكب. 

ويتضح أنه في أيام وباء “كورونا” وما بعده، أي حتى في عام 2022 الذي لم يشهد إغلاقاً وتم فتح حظر التجوال بالكامل، إلا أن عدد الركاب انخفض بنسبة 700 بالمئة مقارنة بأعوام ما قبل 2019. 

وتظهر الأرقام بشكل كبير كيفية فشل الحكومات المتعاقبة بتشغيل جميع الحافلات التي تمتلكها أي أن نصفها متوقف عن العمل، فضلا عن خسارة وتراجع مستمر للزبائن والركاب. 

ويمكن تفسير هذا التراجع مقارنة بازدهار النقل العام أواخر القرن التاسع عشر، بأن هذا القطاع أول انطلاقه كان قد قدم بديلاً مغرياً للركاب ونجح بالتنامي، لكن حكومات العراق الجديد استمرت بالتراجع في هذا المجال، لأنها لم تقدم بدائل مغرية تقنع المواطنين بترك عجلاتهم مقابل اللجوء إلى النقل العام، أو اتباع طرق “تضييق” غير مباشر على استخدام العجلات الخاصة أو استيرادها حتى. 

وبدلاً من ذلك، أصبح على من يستقل حافلات النقل العام، أن يستعد مسبقاً لقتل نحو 5 ساعات من يومه في طريقه بين عمله ومنزله ذهاباً وإياباً، أي أن ما يستغرقه في الطريق يعادل ساعات دوامه وعمله بالكامل تقريباً، بسبب الازدحامات الخانقة التي تقيد حركة الحافلات الكبيرة، فضلاً عن بطء حركتها وتوقفها المستمر في عدة محطات لنزول الراكبين بدلاً من إكمال وجهتها أو تحديد نقاط وقوف محددة. 

كانت الحكومات تجيء بالحافلات وترميها في الشوارع المختنقة، بدلاً من استحداث طرق خاصة لحافلات النقل العام، لتكون ميزة للحافلات عن غيرها من العجلات، بكونها لا تتوقف أبداً، وهو ما سيشجع المستخدمين على ترك عجلاتهم الخاصة والازدحامات الخانقة واللجوء إلى الحافلات التي لا تقف ولا ينازعها أحد في طريقها الخاص، كما تفعل بلدان العالم المختلفة التي تقدم مزايا عديدة لإقناع الناس باستخدام النقل العام، حتى أنها وصلت في بعض البلدان لتسيير النقل العام “مجانا” للراكبين، فقط للتخلص من الزخم المروري في شوارعها كما حصل في لوكسمبورغ عام 2020، كمثال فقط على الامتيازات الضرورية لإقناع الركاب بترك وسائل النقل الخاصة، أما في الحالة العراقية فيتطلب القضاء على أهم عقبة بوجه النقل العام والمتمثلة بتركها تعلق وسط العجلات الصغار وعدم إمكانية التحرك بحرية في شوارع مختنقة. 

المجسرات.. توسع عموديّ في المساحة ذاتها 

على طريقة حل أزمة السكن التي اعترفت الحكومة والجهات المؤسسية المعنية مؤخراً بفشلها، والمتمثلة بوضع المزيد من التجمعات السكانية بطوابق عالية وسط مناطق مزدحمة أساساً وسط العاصمة بغداد، تأتي فكرة المجسرات التي تصب حكومة السوداني جهودها ودعايتها الإعلامية عليها، متطابقة مع سيناريو حل أزمة السكن، وذلك بوضع “طوابق جديدة” تصعد عليها العجلات وسط تقاطعات وشوارع مزدحمة تلجأ إليها العجلات من كل حدب وصوب للذهاب إلى وجهة معينة، بدلاً من أن تفتتح الحكومة طرقاً جديدة تستوعب الزخم الكبير في عدد العجلات وإعطاء خيارات بديلة ومتعددة للوجهة المقصودة. 

نصف سيارات العراق على 2 بالمئة من طرقه 

اقرأ أيضاً

“ما يحدث ليس قدراً”: النساء بحاجة إلى مكان في وسائل النقل العام

حتى مطلع 2023، تمتلك العاصمة بغداد جنباً إلى جنب مع النجف، أقل أطوال بالطرق الرئيسية والفرعية المبلطة، حيث بلغت أطوال الطرق الرئيسية والفرعية (الداخلية) في بغداد 672 كيلومترا، من أصل ما تمتلكه المحافظات الاخرى إجمالاً والبالغة أكثر من 34 ألف كيلومتر، ما يعني أن العاصمة التي تحتوي على ربع عدد سكان البلاد، وتحتوي على قرابة نصف عدد السيارات الموجودة فيها، تحتوي على 2 بالمئة فقط من إجمالي الطرق الداخلية المبلطة كشوارع رئيسية وفرعية في العراق، كما تظهر أرقام الجهاز المركزي للإحصاء. 

هذه الأرقام كفيلة بإيضاح المشكلة الرئيسية، فبغداد لا تمتلك شوارع جديدة، وبدلاً من ذلك تتوجه الحكومة لفتح المزيد من المجسرات في الشوارع الموجودة ذاتها بدلاً من افتتاح شوارع جديدة وتوسيع المدينة المختنقة.