"منو يكدر يشتريها؟".. المجمّعات السكنية للأغنياء وغاسلي الأموال
22 آب 2023
حين بدأ العراق بتشييد المجمعات السكنية قبل أعوام عدة فقط، كان الهدف المعلن هو حل أزمة السكن، لكن الأراضي والعقارات تحوّلت إلى مخزن للقيمة لمن يمتلك المال بدلاً من الاحتفاظ بالسيولة النقدية.. عن مجمعات سكنية تُبنى للأغنياء وغاسلي الأموال..
يحاول سليمان سعدون، الموظف في وزارة التجارة، منذ أربع سنوات الحصول على إحدى الوحدات السكنية للخلاص من “لعنة الإيجار” كما يسميها، لكن من دون فائدة.
فراتب الرجل لا يكاد يكفيه حتى آخر الشهر، ويضطر بسببه للعمل كسائق سيارة أجرة لتغطية مصاريف عائلته المكونة من ستة أشخاص.
تابع سعدون جميع الفرص المعروضة على مواقع التواصل الاجتماعي والشركات الإلكترونية، وبعد التواصل معهم اتضح له أن من المستحيل الحصول على وحدة سكنية في بغداد لأسعارها الفلكية، فتوجه إلى المجمعات السكنية على أطراف العاصمة، لكنها هي الأخرى كانت مقدمتها أكثر من إمكانيته المتواضعة.
“وعدتنا الحكومة وهيأة الاستثمار بحلول لأزمة السكن التي نعاني منها، لكن نجد في كثير من المجمعات السكنية مقدمة مالية عالية وأقساطاً شهرية كبيرة، فكيف يتوقعون أن نسدد تلك المبالغ؟” يقول سعدون لـ”جمّار”.
لا تبدو أغلب أسعار المجمعات السكنية كما وعدت هيأة الاستثمار في متناول الطبقة المتوسطة ومحدودي الدخل، ففي منطقة الزعفرانية التي تعد ذات أغلبية من محدودي الدخل، بلغ سعر المتر المربع الواحد في مجمع سكني لشقق بمساحة 158 متراً مربعاً، والذي يتم بناؤه حالياً، مليوناً و350 ألف دينار (نحو 880 دولاراً وفقاً لسعر الصرف في السوق وقت نشر هذا التقرير)، ويتم التسديد على شكل ست دفعات بين كل دفعة وأخرى خمسة أشهر.
ويتجاوز سعر الشقة بمساحة 133 متراً مربعاً في مجمع دار السلام السكني 200 مليون دينار، ويحتاج رب العائلة مبلغ 50 مليون دينار كمقدمة لشرائها، فيما تبلغ الدُفعات الشهرية مليوناً ونصف مليون دينار، أما الشقة بمساحة 200 متر مربع فكلفتها تتجاوز 300 مليون دينار بدفعة أولى تبلغ 78 مليون دينار وقسط شهري يتجاوز مليوني دينار.
ومع تزايد أعداد المشاريع السكنية التي تروج دعاياتها لحياة من “الرفاهية” في قلب العاصمة بغداد، تتصاعد الأصوات المنادية بالرقابة على منح الرخص الاستثمارية والأراضي “المميزة” وتشديد الرقابة على الأسعار “الفلكية” التي تباع بها الوحدات السكنية.
وكمثال على دعايات المجمعات، دعاية مجمع النسيم السكني في بغداد التي تتحدث عن توفير “شقق عصرية صممت لتحقق كافة متطلبات العائلة العراقية من حيث الراحة والرفاهية مدى العمر”، ودعاية مجمع دار السلام السكني المتضمنة توفير “كل متطلبات الحياة من راحة ورفاهية وسكينة”.
مخزن نقود
حين بدأ العراق بتشييد المجمعات السكنية قبل أعوام عدة فقط، كان الهدف المعلن هو حل أزمة السكن المتجذرة، فالعراق بحسب عبد الزهرة الهنداوي المتحدث، باسم وزارة التخطيط، “بحاجة لبناء مليونين ونصف مليون وحدة سكنية لحل أزمته”.
لكن هذه المشاريع المنتشرة بشكل كبير في أنحاء بغداد والمحافظات الأخرى “لن تحل أزمة السكن” كما تقول سلام سميسم الخبيرة الاقتصادية.
وبحسب سميسم، لم يحصد المواطن العراقي البسيط من هذا التوسع بالاستثمار في قطاع السكن سوى الارتفاع الجنوني بأسعار العقارات والأراضي لمحدودية العرض وزيادة الطلب.
ويعود السبب في ذلك إلى تحوّل الأراضي والعقارات إلى مخزن للقيمة لمن يمتلك المال بدلاً من الاحتفاظ بالسيولة النقدية، وفقاً للخبيرة الاقتصادية.
وتبدأ أسعار أرخص المجمعات السكنية من ألف دولار للمتر الواحد في المناطق النائية على أطراف بغداد، ليصل سعر المتر الواحد في قلب العاصمة إلى ستة آلاف دولار.
وبما أن الهدف من هذه المجمعات السكنية، كما تقول الخبيرة، ربحيٌّ بحت، فالنتيجة ارتفاع أسعار الوحدات السكنية وتحولها إلى مكان جاذب لمن يمتلك الأموال وقادر على دفع أسعار الترف الذي تقدمه تلك المشاريع، وهي ليست في متناول المواطن العادي الذي يُفترض أن تلك المشاريع وجدت من أجله.
وفي رأي سميسم، فإن أصحاب تلك المشاريع “ليسوا مستثمرين بل أشخاص لديهم فائض مالي كبير، ولم يتمكن أيٌّ منهم من تهريبه إلى خارج العراق لأسباب عديدة بعضها يتعلق بالعقوبات الأمريكية وإجراءات غسل الأموال أو أسباب أخرى، فبدأوا باستغلال أموالهم داخل العراق”.
أزمة “متجذرة“
يأتي هذا في ظل أزمة سكن متجذرة في العراق منذ ثمانينيات القرن الماضي عندما توقفت مشاريع قطاع الإسكان بعد دخول البلاد في حرب الثماني سنوات مع إيران، بحسب الهنداوي.
“أزمة السكن أفرزت أكثر من خمسة آلاف تجمّع عشوائي في عموم العراق، ألف منها في العاصمة بغداد، و700 تجمع في البصرة ونينوى لكل منهما، فيما تعد كربلاء والنجف الأقل بعدد 98 و99 على التوالي، ويقطن في تلك العشوائيات ثلاثة ملايين و400 ألف إنسان”، يقول الهنداوي لـ”جمّار”.
وتزداد هذه الأزمة في كل عام بنحو 200 ألف وحدة سنوياً إذا ما تم حساب الزيادة السنوية بعدد السكان في العراق.
وتستدعي هذه الأزمة وضع حلول جذرية، منها إقرار قانون خاص بالعشوائيات يتم حالياً صياغته من قبل الحكومة لعرضه على مجلس النواب، استناداً للهنداوي.
وتشير سميسم إلى أن أزمة السكن في العراق أنتجت تبعات خطيرة على طبيعة الحياة، ذلك أن العشوائيات التي نتجت عنها تفتقر إلى أساسيات الحياة، كما برزت ظاهرة تقسيم الملكيات حتى وصلت مساحات عدد كبير من البيوت إلى 50 متراً مربعاً أو أقل، وهذا يؤدي إلى تشويه المدن وتراجع مستوى الخدمات وبالتالي نوعية الحياة التي يستحقها المواطن.
غسل أموال وامتيازات “قانونية“
لا تستبعد الخبيرة الاقتصادية وجود الفساد في تحويل المشاريع السكنية إلى الشركات، انطلاقاً من واقع عدم سهولة حصول المستثمر أو رجل الأعمال العادي على هذه الاستثناءات والأراضي في تلك المواقع المميزة، والتي يصل أسعار بعضها إلى نصف مليون دولار أميركي.
أما الرقابة على تلك المشاريع فتعد غير مرضية، كما تذكر سميسم، فبعض المشاريع أعلنت عن سعر المتر بـ700 دولار، وما أن أنهت المرحلة الأولى حتى ضاعفت الأسعار، وهناك مشاريع أخرى تسلم القائمون عليها الأموال وتلكؤوا في التنفيذ من دون أن يحاسبهم أحد.
“لذلك نقول إن الفساد الإداري أو النفوذ السياسي له بصمة في عمل تلك الشركات، فلا أحد يعاقبها أو يتابعها فعلياً” تضيف سميسم.
ويتطابق رأي وليد السهلاني، عضو مجلس النواب العراقي، مع الخبيرة الاقتصادية، فهو الآخر يستبعد أن تكون مشاريع المجمعات السكنية التي تحال عبر الاستثمار، وخصوصاً التي يتم بناؤها في بغداد، “جزءاً من حل مشكلة السكن في العراق”.
فالعراق، كما يقول السهلاني، يعاني من تراكم العجز في عدد الوحدات السكنية التي يفترض أن يتم بناؤها سنوياً، والتي يجب أن تتناسب مع الزيادة السكانية السنوية.
“أما أسعارها فباهظة جداً ولا تتناسب مع حجم دخول المواطنين” يقول السهلاني لـ”جمّار”.
ووفقاً للنائب، يتم منح الأراضي مجاناً أو بأسعار رخيصة جداً لأصحاب الشركات الذين يبيعون أمتارها بآلاف الدولارات بعد بناء المجمعات فيها.
ويبين السهلاني أن العراق يحتاج إلى أربعة ملايين وحدة سكنية لحل أزمة السكن، “وهذا رقم كبير جداً ليس من السهل تنفيذه على المدى القصير”.
ويرجع المشكلة إلى قانون الاستثمار الذي قدم تسهيلات كبيرة للمستثمرين، وأحياناً يتم منح الأرض بأسعار بخسة أو مجاناً من أجل تنفيذ المشاريع السكنية، “كما يفترض أن يتم توزيع جزء من الوحدات السكنية مجاناً ولكن هذا لا يتم تنفيذه”.
وبدا عضو مجلس النواب مستاءً من ترك أمر تقدير سعر الوحدة السكنية في المشاريع السكنية للمستثمر: “لابد من وضع شروط معينة في ما يتعلق بالأرباح، فمن غير المعقول أن يترك أمر البيع للمستثمر فقط، فهناك أرباح خيالية تفوق تصور العقل”.
مزايا قانون الاستثمار
منح قانون الاستثمار العراقي مميزات واستثناءات عديدة، بحسب مثنى الغانمي المتحدث باسم هيأة الاستثمار، وذلك ضمن المادة 10 من قانون رقم 13 لسنة 2006 المعدل.
وتوفر هذه المادة العديد من المزايا والضمانات للمستثمر العراقي أو الأجنبي، منها حق تملك الأراضي والعقارات العائدة للدولة ببدل تحدد أسس احتسابه وفق نظام خاص، وله حق تملك الأراضي والعقارات العائدة للقطاعين المختلط والخاص لغرض إقامة مشاريع الإسكان حصراً”.
كما منح المستثمرين الحق في إقامة مشاريع الإسكان استثناءً من أحكام قانون بيع وإيجار أموال الدولة رقم 32 لسنة 1986 أو أي قانون آخر يحل محله.
ونصت المادة 15 من القانون على أن “يتمتع المشروع الحاصل على إجازة الاستثمار من الهيأة بالإعفاء من الضرائب والرسوم لمدة عشر سنوات من تاريخ بدء التشغيل”، وهي قابلة للتمديد إلى 15 عاماً إذا كانت نسبة الاستثمار العراقي 50 بالمئة.
الحل في بناء “مجمعات جديدة“
ويبدو أن الحكومة العراقية عاجزة عن حل مشكلة الأسعار المبالغ فيها للوحدات السكنية، ولذلك أعلنت عن عرض فرص استثمارية جديدة لبناء مجمعات سكنية خاصة بذوي الدخل المحدود والطبقة المتوسطة.
وذكر الغانمي أن عمل هيأة الاستثمار يتعلق ببضعة مشاريع فقط منها مجمع بسماية، أكبر المشاريع السكنية الاستثمارية، والذي يجذب الطبقة الوسطى العراقية.
“الهيأة جادة في العمل على تفعيل آليات السوق لتحديد الأسعار، في بيئة سليمة تضمن حقوق المستثمر والمستهلك معاً، إذ أن البرنامج الحكومي الحالي يدعم بقوة ملف الاستثمار في البلاد، وأن التوجه الراهن منصب على إنشاء مدن جديدة على غرار مدينة بسماية” يقول الغانمي.
ولم نحصل من المتحدث على إجابات تتعلق بأسعار الأراضي التي تم منحها للمستثمرين كون هذا الأمر “يتعلق بالدائرة الاقتصادية والفنية”.
أما أسعار الوحدات المبالغ بها، فيتم العمل حالياً على “تشكيل لجنة لمتابعة الموضوع، وتأشير من لا يلتزم بالأسعار المثبتة بدراسة الجدوى الاقتصادية للمشروع” وفقاً للغانمي.
ولم يتضمن قانون الاستثمار تحديد أسعار البيع، تاركاً الأمر للمنافسة بين المستثمرين، إلا أن القانون يمنع المضاربة بالأسعار بعد اختيار الشركة الاستثمارية.
“للأثرياء فقط“
استفتى “جمّار” عدداً من أهالي بغداد بشأن قدرتهم على شراء الوحدات السكنية في المجمعات التي يتم بناؤها حالياً، وكان أغلب المشاركين ينتقدون الأسعار المبالغ بها لتلك الوحدات كونها خارج قدرة أي شخص من ذوي الدخل المحدود والمتوسط.
ولا تملك هيأة الاستثمار إحصائية بعدد المجمعات السكنية المنشأة في العراق منذ 2003 حتى الآن، وما تمكن “جمّار” من إحصائه هو 46 مجمعاً سكنياً في بغداد وحدها.
كما ليس معروفاً عدد ومساحات الأراضي الممنوحة لإقامة مجمعات سكنية في مختلف مدن العراق، إذ أن جهات قطاعية كثيرة تمنح تلك الأراضي، كما أن كل محافظة مسؤولة عن منح الأراضي لبناء المجمعات، ما يجعل حصرها وإحصاءها صعبا.
وهناك وعود من الحكومة بتنفيذ 15 مجمعاً سكنياً في كل محافظة تكون مناسبة لذوي الدخل المحدود، غير أنها لم تحرز خطوات ملموسة في هذه المشاريع حتى الآن.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
دكتاتورية وذكورية: التمثيل النسائي في البرلمان العراقي
08 أكتوبر 2024
العلاقات العراقية الصينية: محصلة الماضي والحاضر ورهان المستقبل
06 أكتوبر 2024
معضلة الزعامة الدينية عند سنة العراق: لماذا لم يصنعوا مرجعية؟
04 أكتوبر 2024
الرئيس الإيراني في بغداد: زيارة بزشكيان "السياحية" إلى العراق
01 أكتوبر 2024
يحاول سليمان سعدون، الموظف في وزارة التجارة، منذ أربع سنوات الحصول على إحدى الوحدات السكنية للخلاص من “لعنة الإيجار” كما يسميها، لكن من دون فائدة.
فراتب الرجل لا يكاد يكفيه حتى آخر الشهر، ويضطر بسببه للعمل كسائق سيارة أجرة لتغطية مصاريف عائلته المكونة من ستة أشخاص.
تابع سعدون جميع الفرص المعروضة على مواقع التواصل الاجتماعي والشركات الإلكترونية، وبعد التواصل معهم اتضح له أن من المستحيل الحصول على وحدة سكنية في بغداد لأسعارها الفلكية، فتوجه إلى المجمعات السكنية على أطراف العاصمة، لكنها هي الأخرى كانت مقدمتها أكثر من إمكانيته المتواضعة.
“وعدتنا الحكومة وهيأة الاستثمار بحلول لأزمة السكن التي نعاني منها، لكن نجد في كثير من المجمعات السكنية مقدمة مالية عالية وأقساطاً شهرية كبيرة، فكيف يتوقعون أن نسدد تلك المبالغ؟” يقول سعدون لـ”جمّار”.
لا تبدو أغلب أسعار المجمعات السكنية كما وعدت هيأة الاستثمار في متناول الطبقة المتوسطة ومحدودي الدخل، ففي منطقة الزعفرانية التي تعد ذات أغلبية من محدودي الدخل، بلغ سعر المتر المربع الواحد في مجمع سكني لشقق بمساحة 158 متراً مربعاً، والذي يتم بناؤه حالياً، مليوناً و350 ألف دينار (نحو 880 دولاراً وفقاً لسعر الصرف في السوق وقت نشر هذا التقرير)، ويتم التسديد على شكل ست دفعات بين كل دفعة وأخرى خمسة أشهر.
ويتجاوز سعر الشقة بمساحة 133 متراً مربعاً في مجمع دار السلام السكني 200 مليون دينار، ويحتاج رب العائلة مبلغ 50 مليون دينار كمقدمة لشرائها، فيما تبلغ الدُفعات الشهرية مليوناً ونصف مليون دينار، أما الشقة بمساحة 200 متر مربع فكلفتها تتجاوز 300 مليون دينار بدفعة أولى تبلغ 78 مليون دينار وقسط شهري يتجاوز مليوني دينار.
ومع تزايد أعداد المشاريع السكنية التي تروج دعاياتها لحياة من “الرفاهية” في قلب العاصمة بغداد، تتصاعد الأصوات المنادية بالرقابة على منح الرخص الاستثمارية والأراضي “المميزة” وتشديد الرقابة على الأسعار “الفلكية” التي تباع بها الوحدات السكنية.
وكمثال على دعايات المجمعات، دعاية مجمع النسيم السكني في بغداد التي تتحدث عن توفير “شقق عصرية صممت لتحقق كافة متطلبات العائلة العراقية من حيث الراحة والرفاهية مدى العمر”، ودعاية مجمع دار السلام السكني المتضمنة توفير “كل متطلبات الحياة من راحة ورفاهية وسكينة”.
مخزن نقود
حين بدأ العراق بتشييد المجمعات السكنية قبل أعوام عدة فقط، كان الهدف المعلن هو حل أزمة السكن المتجذرة، فالعراق بحسب عبد الزهرة الهنداوي المتحدث، باسم وزارة التخطيط، “بحاجة لبناء مليونين ونصف مليون وحدة سكنية لحل أزمته”.
لكن هذه المشاريع المنتشرة بشكل كبير في أنحاء بغداد والمحافظات الأخرى “لن تحل أزمة السكن” كما تقول سلام سميسم الخبيرة الاقتصادية.
وبحسب سميسم، لم يحصد المواطن العراقي البسيط من هذا التوسع بالاستثمار في قطاع السكن سوى الارتفاع الجنوني بأسعار العقارات والأراضي لمحدودية العرض وزيادة الطلب.
ويعود السبب في ذلك إلى تحوّل الأراضي والعقارات إلى مخزن للقيمة لمن يمتلك المال بدلاً من الاحتفاظ بالسيولة النقدية، وفقاً للخبيرة الاقتصادية.
وتبدأ أسعار أرخص المجمعات السكنية من ألف دولار للمتر الواحد في المناطق النائية على أطراف بغداد، ليصل سعر المتر الواحد في قلب العاصمة إلى ستة آلاف دولار.
وبما أن الهدف من هذه المجمعات السكنية، كما تقول الخبيرة، ربحيٌّ بحت، فالنتيجة ارتفاع أسعار الوحدات السكنية وتحولها إلى مكان جاذب لمن يمتلك الأموال وقادر على دفع أسعار الترف الذي تقدمه تلك المشاريع، وهي ليست في متناول المواطن العادي الذي يُفترض أن تلك المشاريع وجدت من أجله.
وفي رأي سميسم، فإن أصحاب تلك المشاريع “ليسوا مستثمرين بل أشخاص لديهم فائض مالي كبير، ولم يتمكن أيٌّ منهم من تهريبه إلى خارج العراق لأسباب عديدة بعضها يتعلق بالعقوبات الأمريكية وإجراءات غسل الأموال أو أسباب أخرى، فبدأوا باستغلال أموالهم داخل العراق”.
أزمة “متجذرة“
يأتي هذا في ظل أزمة سكن متجذرة في العراق منذ ثمانينيات القرن الماضي عندما توقفت مشاريع قطاع الإسكان بعد دخول البلاد في حرب الثماني سنوات مع إيران، بحسب الهنداوي.
“أزمة السكن أفرزت أكثر من خمسة آلاف تجمّع عشوائي في عموم العراق، ألف منها في العاصمة بغداد، و700 تجمع في البصرة ونينوى لكل منهما، فيما تعد كربلاء والنجف الأقل بعدد 98 و99 على التوالي، ويقطن في تلك العشوائيات ثلاثة ملايين و400 ألف إنسان”، يقول الهنداوي لـ”جمّار”.
وتزداد هذه الأزمة في كل عام بنحو 200 ألف وحدة سنوياً إذا ما تم حساب الزيادة السنوية بعدد السكان في العراق.
وتستدعي هذه الأزمة وضع حلول جذرية، منها إقرار قانون خاص بالعشوائيات يتم حالياً صياغته من قبل الحكومة لعرضه على مجلس النواب، استناداً للهنداوي.
وتشير سميسم إلى أن أزمة السكن في العراق أنتجت تبعات خطيرة على طبيعة الحياة، ذلك أن العشوائيات التي نتجت عنها تفتقر إلى أساسيات الحياة، كما برزت ظاهرة تقسيم الملكيات حتى وصلت مساحات عدد كبير من البيوت إلى 50 متراً مربعاً أو أقل، وهذا يؤدي إلى تشويه المدن وتراجع مستوى الخدمات وبالتالي نوعية الحياة التي يستحقها المواطن.
غسل أموال وامتيازات “قانونية“
لا تستبعد الخبيرة الاقتصادية وجود الفساد في تحويل المشاريع السكنية إلى الشركات، انطلاقاً من واقع عدم سهولة حصول المستثمر أو رجل الأعمال العادي على هذه الاستثناءات والأراضي في تلك المواقع المميزة، والتي يصل أسعار بعضها إلى نصف مليون دولار أميركي.
أما الرقابة على تلك المشاريع فتعد غير مرضية، كما تذكر سميسم، فبعض المشاريع أعلنت عن سعر المتر بـ700 دولار، وما أن أنهت المرحلة الأولى حتى ضاعفت الأسعار، وهناك مشاريع أخرى تسلم القائمون عليها الأموال وتلكؤوا في التنفيذ من دون أن يحاسبهم أحد.
“لذلك نقول إن الفساد الإداري أو النفوذ السياسي له بصمة في عمل تلك الشركات، فلا أحد يعاقبها أو يتابعها فعلياً” تضيف سميسم.
ويتطابق رأي وليد السهلاني، عضو مجلس النواب العراقي، مع الخبيرة الاقتصادية، فهو الآخر يستبعد أن تكون مشاريع المجمعات السكنية التي تحال عبر الاستثمار، وخصوصاً التي يتم بناؤها في بغداد، “جزءاً من حل مشكلة السكن في العراق”.
فالعراق، كما يقول السهلاني، يعاني من تراكم العجز في عدد الوحدات السكنية التي يفترض أن يتم بناؤها سنوياً، والتي يجب أن تتناسب مع الزيادة السكانية السنوية.
“أما أسعارها فباهظة جداً ولا تتناسب مع حجم دخول المواطنين” يقول السهلاني لـ”جمّار”.
ووفقاً للنائب، يتم منح الأراضي مجاناً أو بأسعار رخيصة جداً لأصحاب الشركات الذين يبيعون أمتارها بآلاف الدولارات بعد بناء المجمعات فيها.
ويبين السهلاني أن العراق يحتاج إلى أربعة ملايين وحدة سكنية لحل أزمة السكن، “وهذا رقم كبير جداً ليس من السهل تنفيذه على المدى القصير”.
ويرجع المشكلة إلى قانون الاستثمار الذي قدم تسهيلات كبيرة للمستثمرين، وأحياناً يتم منح الأرض بأسعار بخسة أو مجاناً من أجل تنفيذ المشاريع السكنية، “كما يفترض أن يتم توزيع جزء من الوحدات السكنية مجاناً ولكن هذا لا يتم تنفيذه”.
وبدا عضو مجلس النواب مستاءً من ترك أمر تقدير سعر الوحدة السكنية في المشاريع السكنية للمستثمر: “لابد من وضع شروط معينة في ما يتعلق بالأرباح، فمن غير المعقول أن يترك أمر البيع للمستثمر فقط، فهناك أرباح خيالية تفوق تصور العقل”.
مزايا قانون الاستثمار
منح قانون الاستثمار العراقي مميزات واستثناءات عديدة، بحسب مثنى الغانمي المتحدث باسم هيأة الاستثمار، وذلك ضمن المادة 10 من قانون رقم 13 لسنة 2006 المعدل.
وتوفر هذه المادة العديد من المزايا والضمانات للمستثمر العراقي أو الأجنبي، منها حق تملك الأراضي والعقارات العائدة للدولة ببدل تحدد أسس احتسابه وفق نظام خاص، وله حق تملك الأراضي والعقارات العائدة للقطاعين المختلط والخاص لغرض إقامة مشاريع الإسكان حصراً”.
كما منح المستثمرين الحق في إقامة مشاريع الإسكان استثناءً من أحكام قانون بيع وإيجار أموال الدولة رقم 32 لسنة 1986 أو أي قانون آخر يحل محله.
ونصت المادة 15 من القانون على أن “يتمتع المشروع الحاصل على إجازة الاستثمار من الهيأة بالإعفاء من الضرائب والرسوم لمدة عشر سنوات من تاريخ بدء التشغيل”، وهي قابلة للتمديد إلى 15 عاماً إذا كانت نسبة الاستثمار العراقي 50 بالمئة.
الحل في بناء “مجمعات جديدة“
ويبدو أن الحكومة العراقية عاجزة عن حل مشكلة الأسعار المبالغ فيها للوحدات السكنية، ولذلك أعلنت عن عرض فرص استثمارية جديدة لبناء مجمعات سكنية خاصة بذوي الدخل المحدود والطبقة المتوسطة.
وذكر الغانمي أن عمل هيأة الاستثمار يتعلق ببضعة مشاريع فقط منها مجمع بسماية، أكبر المشاريع السكنية الاستثمارية، والذي يجذب الطبقة الوسطى العراقية.
“الهيأة جادة في العمل على تفعيل آليات السوق لتحديد الأسعار، في بيئة سليمة تضمن حقوق المستثمر والمستهلك معاً، إذ أن البرنامج الحكومي الحالي يدعم بقوة ملف الاستثمار في البلاد، وأن التوجه الراهن منصب على إنشاء مدن جديدة على غرار مدينة بسماية” يقول الغانمي.
ولم نحصل من المتحدث على إجابات تتعلق بأسعار الأراضي التي تم منحها للمستثمرين كون هذا الأمر “يتعلق بالدائرة الاقتصادية والفنية”.
أما أسعار الوحدات المبالغ بها، فيتم العمل حالياً على “تشكيل لجنة لمتابعة الموضوع، وتأشير من لا يلتزم بالأسعار المثبتة بدراسة الجدوى الاقتصادية للمشروع” وفقاً للغانمي.
ولم يتضمن قانون الاستثمار تحديد أسعار البيع، تاركاً الأمر للمنافسة بين المستثمرين، إلا أن القانون يمنع المضاربة بالأسعار بعد اختيار الشركة الاستثمارية.
“للأثرياء فقط“
استفتى “جمّار” عدداً من أهالي بغداد بشأن قدرتهم على شراء الوحدات السكنية في المجمعات التي يتم بناؤها حالياً، وكان أغلب المشاركين ينتقدون الأسعار المبالغ بها لتلك الوحدات كونها خارج قدرة أي شخص من ذوي الدخل المحدود والمتوسط.
ولا تملك هيأة الاستثمار إحصائية بعدد المجمعات السكنية المنشأة في العراق منذ 2003 حتى الآن، وما تمكن “جمّار” من إحصائه هو 46 مجمعاً سكنياً في بغداد وحدها.
كما ليس معروفاً عدد ومساحات الأراضي الممنوحة لإقامة مجمعات سكنية في مختلف مدن العراق، إذ أن جهات قطاعية كثيرة تمنح تلك الأراضي، كما أن كل محافظة مسؤولة عن منح الأراضي لبناء المجمعات، ما يجعل حصرها وإحصاءها صعبا.
وهناك وعود من الحكومة بتنفيذ 15 مجمعاً سكنياً في كل محافظة تكون مناسبة لذوي الدخل المحدود، غير أنها لم تحرز خطوات ملموسة في هذه المشاريع حتى الآن.