"الاقتصاد الميليشياوي": بورتريه لتخلّف القطاع المصرفي 

محمد حلو

01 آب 2023

الطبقة السياسيّة تسيطر بشكل كامل على الثروة، وتُعيد تدوير الأموال المنهوبة بغسلها في مشاريع كالمطاعم والمدارس والجامعات الأهلية، وتمثل المصارف الباب الأوسع في عمليّة تبييض الدولارات المنهوبة.. بورتريه لتخلّف القطاع المصرفي والاقتصاد العشوائي..

يجادل الباحثون والأكاديميون بشأن هوية وشكل النظام الاقتصادي في العراق، إذا ما كان اقتصاد سوق حر كما جاء بالدستور، أم أنه نظام اقتصادي مختلط أقرب إلى الاشتراكي؟ وفي الحقيقة، هو لا هذا ولا ذاك، وإنما “اقتصاد ميليشياوي”. 

فالطبقة السياسية تسيطر، بشكل كامل، على الثروة، وتُعيد تدوير الأموال المنهوبة بغسلها في مشاريع كالمطاعم والمدارس والجامعات الأهلية، بيد أن المصارف، في هذه المعادلة، تمثّل الباب الأوسع في عمليّة تبييض الدولارات المنهوبة، وحتّى التربّح من خلال شراء الدولار من نافذة بيع العملة في البنك المركزي، والتي تتيح لمُلاّكها والمتعاونين معها من الطبقة السياسية تحقيق أرباح كبيرة. 

ماكنة غسيل الجارة 

تلتصق بالعديد من المصارف تُهم تمويل الإرهاب وتهريب الدولار من العراق، وخاصة إلى إيران التي تُضيِّق عليها العقوبات الأمريكية خناق التحرك المالي. 

وقد تأسست بعض المصارف الأهليّة لهذا الغرض بالأساس، ما يجعلها عرضة بشكل مباشر لعقوبات وزارة الخزانة الأمريكية.  

ومنذ إجبار البنك المركزي العراقي على دخول (Swift)، وهو نظام تدقيق عالمي يتطلّب تفاصيل دقيقة عن كل حوالة مالية خارجية، ظهرت الحوالات الوهمية للمصارف. 

ونهاية عام 2022، استبعد البنك المركزي 4 مصارف أهلية من مزاد بيع العملة وهي الأنصاري، والشرق الأوسط، والقابض، وآسيا، على خلفية توجيهات وتحذيرات من وزارة الخزانة الأمريكية بأن هذه المصارف تقوم بتهريب العملة. 

وفي 19 تموز 2023، استبعد أيضاً 14 مصرفاً عراقياً، غالبها إسلامية، نتيجة لتورطها في عمليات غسيل أموال ومعاملات احتيالية؛ علماً أن العقوبات الأمريكية على المصارف العراقية لا تلزم الحكومة بإغلاقها، بل تتمثل بحرمانها من الوصول إلى الدولار والتعامل به، داخلياً وخارجياً.  

لكن منع دخول المصارف إلى مزاد بيع العملة يؤدي، بالضرورة، إلى رفع الطلب على الدولار الأمريكي، وهو ما يدفع إلى ارتفاع سعر صرفه مقابل الدينار العراقي، فيرتفع معه المستوى العام للأسعار.  

اختلال هيكلي  

تخضع المصارف الحكومية في العراق لإدارة وزارة المالية والبنك المركزي، وتمتلك ما نسبته 78.6 بالمئة من أصول القطاع المصرفي، وتسيطر على 84 بالمئة من الائتمان المدفوع نقداً، كما أن لديها 87 بالمئة من إجمالي الودائع.  

يساعد في هذا الانتشار شبكةُ الفروع الواسعة للمصارف الحكومية في جميع أنحاء البلاد، إذ أنها تشكل نحو 45.5 بالمئة من إجمالي عدد فروع المصارف، ويمنح الضمان الحكومي للمصارف الحكومية الغلبة بالهيمنة. رغم ذلك، فإن المصارف الحكومية تشكل حوالي 9 بالمئة فقط من إجمالي عدد المصارف في العراق، فمن أصل 70 مصرفاً عاملاً في العراق، يمتلك القطاع الخاص 63 واحداً منها. 

بالمقابل، يبلغ عدد المصارف الخاصة المحلية 51 مصرفاً، بالإضافة إلى ذلك يوجد 12 مصرفاً أجنبياً. وتمتلك البنوك الخاصة 74.2 بالمئة من رأس المال المصرفي، والتي تمثل 13,360 مليار دينار عراقي، ومع ذلك فإن هذه المصارف بعيدة بمسافة عن البنوك الحكومية المهيمنة على السوق. 

مصارف تهيمن 

تُشير بيانات البنك المركزي إلى أن مجموع ودائع القطاع المصرفي العراقي وصلت إلى نحو 129 مليار دينار عام 2022، بينما بلغ مجموع رؤوس أموال المصارف العاملة في العراق 17,879 مليار دينار، محققة نسبة نمو 1 بالمئة عن نهاية عام 2021.  

وقد بلغ حجم الموجودات المجمّعة للمصارف العاملة في العراق نحو 198,581 مليار دينار عام 2022، محققة نسبة نمو 16,8 بالمئة عن نهاية عام 2021، ووصل مجمل الائتمان النقدي الممنوح من قبل المصارف إلى نحو 60,576 مليار دينار عام 2022، بنسبة نمو 14.3 بالمئة عن نهاية العام 2021.  

وتُسيطر 10 مصارف على 85.1 بالمئة من مجمل موجودات المصارف العراقية، وبما يصل إلى 168,960 مليار دينار نهاية عام 2022. كما بلغت الحصة السوقية لأكبر ثلاثة مصارف، العراقي للتجارة، الرافدين، الرشيد، نحو 74.8 بالمئة من إجمالي موجودات القطاع المصرفي العراقي.  

في الواقع، يعدُّ عددُ المصارف في العراق كبيراً جداً، وهو أيضاً لا يتناسب مع حجم وطبيعة الاقتصاد العراقي الذي يبلغ ناتجه المحلي الإجمالي 264 مليار دولار. 

فعلى سبيل المثال، يبلغ عدد المصارف في تركيا 54 مصرفاً تقترن بناتج محليّ إجمالي يتجاوز 905 مليارات دولار، وفي السعودية، التي تشترك نسبياً في الخصائص الريعية مع العراق، هناك 24 مصرفاً عاملاً، وبناتج محلي إجمالي بنحو 833 مليار دولار.  

تُظهر المقارنة أن غالبية المصارف في العراق لا تسهم في النشاط الاقتصادي الحقيقي، إذ أنها أُوجدت لأهداف سياسية من جانب، ولتحقيق أرباح هائلة من نافذة بيع العملة الأجنبية لدى البنك المركزي، من جانب آخر.  

إزاء هذا، فليس مستغرباً أن يكون القطاع المصرفي العراقي متخلّفاً بهيكليته، وذلك نتيجة للضعف والارتباك في عدد غير قليل من التعليمات التي يصدرها البنك المركزي العراقي، ومن ثم يسحبها أو يعدّلها بعد أيام، علاوة على تدنّي كفاءة الرقابة المصرفية ولا مهنيّتها، بل عدم جديتها في الكثير من الأحيان. 

مصارف إسلامية.. محاباة القانون  

من أصل 63 مصرفاً تجارياً خاصاً، هناك 30 مصرفاً إسلامياً استغلّ أصحابها المادة 4 (1) من قانون المصارف الإسلامية رقم 43 لسنة 2015 الخاصة بتأسيسها. 

يسمح القانون بتأسيس المصرف الإسلامي برأس مال قدره 100 مليار دينار على أن يُرفع إلى 250 مليار دينار بعد ثلاث سنوات، ويدفع المصرف كل عام 50 مليار دينار. بالمقابل، يُفرض على المصرف التجاري غير الإسلامي رأس مال حدّه الأدنى 250 مليار دينار كشرط للحصول على رخصة العمل. 

تحصل المصارف الإسلامية أيضاً على إعفاءات ضريبية كبيرة، لا تنالها المصارف التجارية الخاصة. وليس مستغرباً أن تستحوذ المصارف الإسلامية على 50 بالمئة من الحصة السوقية للمصارف الخاصة. 

اللا خدمات المصرفية الإلكترونية  

دخل القطاع المصرفي في العراق عام 2003 محطماً، لكن الوعود لإخراجه معافى كانت في أوجها، وقد بدأ البنك المركزي، بالفعل، العمل على تنشيط القطاع المالي، واعتمد غرفة المقاصة الآلية النقدية، ونظام التسوية الإجمالية الآنية عام 2006. وعام 2014، شرع بوضع لوائح الدفع بالتجزئة (الدفع بالكارت)، بعد أن أتمّ بناء بنيته التحتية، وصار عدد البطاقات الإلكترونية يتزايد بعد صدور قرار مجلس الوزراء رقم 281 لسنة 2017 الخاص بتوطين رواتب العاملين في المؤسسات الحكومية. 

ارتفع عدد البطاقات المصرفية من 6.4 مليون بطاقة في عام 2017 إلى 14.9 مليون بطاقة نهاية عام 2021. وبلغت نقاط البيع (POS) نحو 8329 نقطة، بينما بلغ عدد الصرافات الآلية (ATM) نحو 1566 جهازاً. 

رغم ذلك، فإن تعاملات الأفراد المالية الالكترونية بقيت منخفضة بالمقارنة مع دول مجاورة للعراق. فحسب مؤشر صندوق النقد الدولي الذي يحصي عدد أجهزة ATM، هناك 5.35 أجهزة لكل 100 ألف نسمة في العراق، بينما تبلغ في تركيا 82.31 جهازاً، وفي الكويت 78.56، وفي السعودية 66.75، وفي الأردن 30.56، وفي مصر 22.06 جهازاً لكل 100 ألف نسمة.  

يعتمد العراق بشكل كبير على النقد في التعاملات المالية اليومية، ويكتنز العراقيون 77 بالمئة من الأموال، وهذا كلُّه نتيجة لانعدام الثقة في النظام المصرفي.  

لا ينظر الناسُ إلى المصارف على أنها مكان آمن لإيواء أموالهم، وهناك العديد من الأسباب لذلك، أحدها هو ضعف وشُحّ الخدمات التي تقدمها المؤسسات المالية للأفراد، كما أنها لا تجذب روّاد الأعمال والشركات. إضافة إلى ذلك فإن أسعار الفائدة المرتفعة وضمانات السداد الهائلة ومتطلبات الضمان الواجبة والتوغّل الضعيف في السوق، تعمل جميعها على وقف نمو القطاع المصرفي، وبالتالي اقتصاد العراق وعَيْشِ سكّانه.   

السياسات الحكومية.. الضياع 

جاء محمد شياع السوداني، وجلس على كرسيّ رئاسة الوزراء، كرئيس حكومة جديد، لكن فقرات برنامجه لإدارة البلاد، الذي كتبه وفريقه، لم يأت بأي جديد. 

أكد السوداني، في برنامجه، أن حكومته ستعمل على “إصلاح النظام المصرفي (..) بما يوفر قاعدة حقيقية وفاعلة للنهوض بالاقتصاد العراقي”، وبالتالي، وفق برنامج الحكومة، “تنشيط الاستثمار من خلال إعادة هيكلة ومكننة المصارف الحكومية وإعادة النظر بعملها، وتحفيز المصارف الخاصة وتمكينها لتكون قادرة على دعم الاستثمار والتنمية بشكل حقيقي”. 

ما ورد في هذه الفقرة ضمن البرنامج الحكومي، ليس سوى تكرار لبرامج الحكومات السابقة.  

إذ لا آليات واضحة لتطبيق الإصلاحات والانتقال إلى قطاع مصرفي يساهم بعملية التنمية الاقتصادية، والانتقال بحياة السكان إلى مستوى أفضل ممّا هم فيه. 

ودعاية “الدينار هو الأقوى”، التي حاول رئيس الوزراء بثها عبر الإعلام، لطمأنة الشارع من تذبذب سعر الصرف، لا يمكن نزعها من سياق التخبط والتردي الحكوميّين بإدارة القطاع النقدي وأزماته.  

كما لا يمكن اعتبار حملات تبرئة حكومة السوداني ومن خلفها من المسؤولية إلّا كمحاولة يائسة؛ فالدينار يضعف كلّ يوم، وتكاليف المعيشة والمستوى العام للأسعار يستمرّان بالتصاعد، وابتكارات تهريب الدولار تزداد حيلة. 

استقى هذا المقال معلومات من كتاب فلاح حسن ثويني الموجز في تطور النقود والمصارف في العراق مطبعة الرفاه، بغداد، 2010، وعلى التقرير الاقتصادي السنوي 2021 الصادر عن دائرة الإحصاء والأبحاث، والنشرة الإحصائية السنوية ٢٠٢٢ الصادرة عن البنك المركزي. 

* تنشر هذه المادة بالشراكة مع الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية ”نيريج“. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

يجادل الباحثون والأكاديميون بشأن هوية وشكل النظام الاقتصادي في العراق، إذا ما كان اقتصاد سوق حر كما جاء بالدستور، أم أنه نظام اقتصادي مختلط أقرب إلى الاشتراكي؟ وفي الحقيقة، هو لا هذا ولا ذاك، وإنما “اقتصاد ميليشياوي”. 

فالطبقة السياسية تسيطر، بشكل كامل، على الثروة، وتُعيد تدوير الأموال المنهوبة بغسلها في مشاريع كالمطاعم والمدارس والجامعات الأهلية، بيد أن المصارف، في هذه المعادلة، تمثّل الباب الأوسع في عمليّة تبييض الدولارات المنهوبة، وحتّى التربّح من خلال شراء الدولار من نافذة بيع العملة في البنك المركزي، والتي تتيح لمُلاّكها والمتعاونين معها من الطبقة السياسية تحقيق أرباح كبيرة. 

ماكنة غسيل الجارة 

تلتصق بالعديد من المصارف تُهم تمويل الإرهاب وتهريب الدولار من العراق، وخاصة إلى إيران التي تُضيِّق عليها العقوبات الأمريكية خناق التحرك المالي. 

وقد تأسست بعض المصارف الأهليّة لهذا الغرض بالأساس، ما يجعلها عرضة بشكل مباشر لعقوبات وزارة الخزانة الأمريكية.  

ومنذ إجبار البنك المركزي العراقي على دخول (Swift)، وهو نظام تدقيق عالمي يتطلّب تفاصيل دقيقة عن كل حوالة مالية خارجية، ظهرت الحوالات الوهمية للمصارف. 

ونهاية عام 2022، استبعد البنك المركزي 4 مصارف أهلية من مزاد بيع العملة وهي الأنصاري، والشرق الأوسط، والقابض، وآسيا، على خلفية توجيهات وتحذيرات من وزارة الخزانة الأمريكية بأن هذه المصارف تقوم بتهريب العملة. 

وفي 19 تموز 2023، استبعد أيضاً 14 مصرفاً عراقياً، غالبها إسلامية، نتيجة لتورطها في عمليات غسيل أموال ومعاملات احتيالية؛ علماً أن العقوبات الأمريكية على المصارف العراقية لا تلزم الحكومة بإغلاقها، بل تتمثل بحرمانها من الوصول إلى الدولار والتعامل به، داخلياً وخارجياً.  

لكن منع دخول المصارف إلى مزاد بيع العملة يؤدي، بالضرورة، إلى رفع الطلب على الدولار الأمريكي، وهو ما يدفع إلى ارتفاع سعر صرفه مقابل الدينار العراقي، فيرتفع معه المستوى العام للأسعار.  

اختلال هيكلي  

تخضع المصارف الحكومية في العراق لإدارة وزارة المالية والبنك المركزي، وتمتلك ما نسبته 78.6 بالمئة من أصول القطاع المصرفي، وتسيطر على 84 بالمئة من الائتمان المدفوع نقداً، كما أن لديها 87 بالمئة من إجمالي الودائع.  

يساعد في هذا الانتشار شبكةُ الفروع الواسعة للمصارف الحكومية في جميع أنحاء البلاد، إذ أنها تشكل نحو 45.5 بالمئة من إجمالي عدد فروع المصارف، ويمنح الضمان الحكومي للمصارف الحكومية الغلبة بالهيمنة. رغم ذلك، فإن المصارف الحكومية تشكل حوالي 9 بالمئة فقط من إجمالي عدد المصارف في العراق، فمن أصل 70 مصرفاً عاملاً في العراق، يمتلك القطاع الخاص 63 واحداً منها. 

بالمقابل، يبلغ عدد المصارف الخاصة المحلية 51 مصرفاً، بالإضافة إلى ذلك يوجد 12 مصرفاً أجنبياً. وتمتلك البنوك الخاصة 74.2 بالمئة من رأس المال المصرفي، والتي تمثل 13,360 مليار دينار عراقي، ومع ذلك فإن هذه المصارف بعيدة بمسافة عن البنوك الحكومية المهيمنة على السوق. 

مصارف تهيمن 

تُشير بيانات البنك المركزي إلى أن مجموع ودائع القطاع المصرفي العراقي وصلت إلى نحو 129 مليار دينار عام 2022، بينما بلغ مجموع رؤوس أموال المصارف العاملة في العراق 17,879 مليار دينار، محققة نسبة نمو 1 بالمئة عن نهاية عام 2021.  

وقد بلغ حجم الموجودات المجمّعة للمصارف العاملة في العراق نحو 198,581 مليار دينار عام 2022، محققة نسبة نمو 16,8 بالمئة عن نهاية عام 2021، ووصل مجمل الائتمان النقدي الممنوح من قبل المصارف إلى نحو 60,576 مليار دينار عام 2022، بنسبة نمو 14.3 بالمئة عن نهاية العام 2021.  

وتُسيطر 10 مصارف على 85.1 بالمئة من مجمل موجودات المصارف العراقية، وبما يصل إلى 168,960 مليار دينار نهاية عام 2022. كما بلغت الحصة السوقية لأكبر ثلاثة مصارف، العراقي للتجارة، الرافدين، الرشيد، نحو 74.8 بالمئة من إجمالي موجودات القطاع المصرفي العراقي.  

في الواقع، يعدُّ عددُ المصارف في العراق كبيراً جداً، وهو أيضاً لا يتناسب مع حجم وطبيعة الاقتصاد العراقي الذي يبلغ ناتجه المحلي الإجمالي 264 مليار دولار. 

فعلى سبيل المثال، يبلغ عدد المصارف في تركيا 54 مصرفاً تقترن بناتج محليّ إجمالي يتجاوز 905 مليارات دولار، وفي السعودية، التي تشترك نسبياً في الخصائص الريعية مع العراق، هناك 24 مصرفاً عاملاً، وبناتج محلي إجمالي بنحو 833 مليار دولار.  

تُظهر المقارنة أن غالبية المصارف في العراق لا تسهم في النشاط الاقتصادي الحقيقي، إذ أنها أُوجدت لأهداف سياسية من جانب، ولتحقيق أرباح هائلة من نافذة بيع العملة الأجنبية لدى البنك المركزي، من جانب آخر.  

إزاء هذا، فليس مستغرباً أن يكون القطاع المصرفي العراقي متخلّفاً بهيكليته، وذلك نتيجة للضعف والارتباك في عدد غير قليل من التعليمات التي يصدرها البنك المركزي العراقي، ومن ثم يسحبها أو يعدّلها بعد أيام، علاوة على تدنّي كفاءة الرقابة المصرفية ولا مهنيّتها، بل عدم جديتها في الكثير من الأحيان. 

مصارف إسلامية.. محاباة القانون  

من أصل 63 مصرفاً تجارياً خاصاً، هناك 30 مصرفاً إسلامياً استغلّ أصحابها المادة 4 (1) من قانون المصارف الإسلامية رقم 43 لسنة 2015 الخاصة بتأسيسها. 

يسمح القانون بتأسيس المصرف الإسلامي برأس مال قدره 100 مليار دينار على أن يُرفع إلى 250 مليار دينار بعد ثلاث سنوات، ويدفع المصرف كل عام 50 مليار دينار. بالمقابل، يُفرض على المصرف التجاري غير الإسلامي رأس مال حدّه الأدنى 250 مليار دينار كشرط للحصول على رخصة العمل. 

تحصل المصارف الإسلامية أيضاً على إعفاءات ضريبية كبيرة، لا تنالها المصارف التجارية الخاصة. وليس مستغرباً أن تستحوذ المصارف الإسلامية على 50 بالمئة من الحصة السوقية للمصارف الخاصة. 

اللا خدمات المصرفية الإلكترونية  

دخل القطاع المصرفي في العراق عام 2003 محطماً، لكن الوعود لإخراجه معافى كانت في أوجها، وقد بدأ البنك المركزي، بالفعل، العمل على تنشيط القطاع المالي، واعتمد غرفة المقاصة الآلية النقدية، ونظام التسوية الإجمالية الآنية عام 2006. وعام 2014، شرع بوضع لوائح الدفع بالتجزئة (الدفع بالكارت)، بعد أن أتمّ بناء بنيته التحتية، وصار عدد البطاقات الإلكترونية يتزايد بعد صدور قرار مجلس الوزراء رقم 281 لسنة 2017 الخاص بتوطين رواتب العاملين في المؤسسات الحكومية. 

ارتفع عدد البطاقات المصرفية من 6.4 مليون بطاقة في عام 2017 إلى 14.9 مليون بطاقة نهاية عام 2021. وبلغت نقاط البيع (POS) نحو 8329 نقطة، بينما بلغ عدد الصرافات الآلية (ATM) نحو 1566 جهازاً. 

رغم ذلك، فإن تعاملات الأفراد المالية الالكترونية بقيت منخفضة بالمقارنة مع دول مجاورة للعراق. فحسب مؤشر صندوق النقد الدولي الذي يحصي عدد أجهزة ATM، هناك 5.35 أجهزة لكل 100 ألف نسمة في العراق، بينما تبلغ في تركيا 82.31 جهازاً، وفي الكويت 78.56، وفي السعودية 66.75، وفي الأردن 30.56، وفي مصر 22.06 جهازاً لكل 100 ألف نسمة.  

يعتمد العراق بشكل كبير على النقد في التعاملات المالية اليومية، ويكتنز العراقيون 77 بالمئة من الأموال، وهذا كلُّه نتيجة لانعدام الثقة في النظام المصرفي.  

لا ينظر الناسُ إلى المصارف على أنها مكان آمن لإيواء أموالهم، وهناك العديد من الأسباب لذلك، أحدها هو ضعف وشُحّ الخدمات التي تقدمها المؤسسات المالية للأفراد، كما أنها لا تجذب روّاد الأعمال والشركات. إضافة إلى ذلك فإن أسعار الفائدة المرتفعة وضمانات السداد الهائلة ومتطلبات الضمان الواجبة والتوغّل الضعيف في السوق، تعمل جميعها على وقف نمو القطاع المصرفي، وبالتالي اقتصاد العراق وعَيْشِ سكّانه.   

السياسات الحكومية.. الضياع 

جاء محمد شياع السوداني، وجلس على كرسيّ رئاسة الوزراء، كرئيس حكومة جديد، لكن فقرات برنامجه لإدارة البلاد، الذي كتبه وفريقه، لم يأت بأي جديد. 

أكد السوداني، في برنامجه، أن حكومته ستعمل على “إصلاح النظام المصرفي (..) بما يوفر قاعدة حقيقية وفاعلة للنهوض بالاقتصاد العراقي”، وبالتالي، وفق برنامج الحكومة، “تنشيط الاستثمار من خلال إعادة هيكلة ومكننة المصارف الحكومية وإعادة النظر بعملها، وتحفيز المصارف الخاصة وتمكينها لتكون قادرة على دعم الاستثمار والتنمية بشكل حقيقي”. 

ما ورد في هذه الفقرة ضمن البرنامج الحكومي، ليس سوى تكرار لبرامج الحكومات السابقة.  

إذ لا آليات واضحة لتطبيق الإصلاحات والانتقال إلى قطاع مصرفي يساهم بعملية التنمية الاقتصادية، والانتقال بحياة السكان إلى مستوى أفضل ممّا هم فيه. 

ودعاية “الدينار هو الأقوى”، التي حاول رئيس الوزراء بثها عبر الإعلام، لطمأنة الشارع من تذبذب سعر الصرف، لا يمكن نزعها من سياق التخبط والتردي الحكوميّين بإدارة القطاع النقدي وأزماته.  

كما لا يمكن اعتبار حملات تبرئة حكومة السوداني ومن خلفها من المسؤولية إلّا كمحاولة يائسة؛ فالدينار يضعف كلّ يوم، وتكاليف المعيشة والمستوى العام للأسعار يستمرّان بالتصاعد، وابتكارات تهريب الدولار تزداد حيلة. 

استقى هذا المقال معلومات من كتاب فلاح حسن ثويني الموجز في تطور النقود والمصارف في العراق مطبعة الرفاه، بغداد، 2010، وعلى التقرير الاقتصادي السنوي 2021 الصادر عن دائرة الإحصاء والأبحاث، والنشرة الإحصائية السنوية ٢٠٢٢ الصادرة عن البنك المركزي. 

* تنشر هذه المادة بالشراكة مع الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية ”نيريج“.