"النواب يتوسّطون للمواشي": الحمى النزفية.. عشائر فيروسية تلاحق الحيوانات والبشر
22 حزيران 2023
تواجه ذي قار حشرة شرسة تنقل فيروس الحمى النزفية، لكنها لا تملك إلا قلّة من الأطباء والفرق البيطرية لمواجهتها.. وهكذا ينتشر مرض قاتل على أيدي مربي أغنام وقصابين وطباخي ومستهلكي لحوم.. إلى حدٍ قد تواجه معه المحافظة شبح الإغلاق.. عن نواب يتوسّطون لمواشٍ مشتبه بمرضها وعن أفعال فيروس بالبشر والحيوان..
كل صباح، تمّر أصابع محمد صيّاح البدري في أجساد جواميسه واحدة بعد الأخرى.
وهو يُمرّر يده في شعر الجاموس، يحاول محمد التقاط القراد علّه يقي حيواناته إصابة الفيروس الذي يسبّب لها اضطرابات نزفية وحمى يمكن أن تتطور إلى حمى شديدة، أو الموت في حالات كثيرة.
البدري وجواميسه وكل محافظته في خطر.
يسكن الرجل في الدور القريبة من منطقة السبل في محافظة ذي قار، حيث يتفشّى فيروس الحمى النزفية الذي يفتك بالبشر والحيوانات، ويطيح بكثيرين مرضى أو موتى.
عشيرة فيروسات
تعرف الحمى النزفية باسم Viral hemorrhagic fever or VHFs))، وهي قد تنجم عن اجتماع خمس عائلات فيروسية مختلفة، لتشكّل باجتماعها عشيرة خطرة على حياة البشر والمواشي.
“قد تكون الحشرة اختفت هنا أو هناك، قد تكون القرادة اختبأت خلف أُذن الجاموسة أو على ظهرها”.
يُتاجر محمد بالماشيّة، وحركة ذهابِ وإيابِ الجواميس في حظيرته تزيد من خطر وصول “الحمّى النزفيّة” وانتشارها بين الدواب.
الرجل الذي بلغ 52 عاماً لا يتحدّث عن خطر الفايروس عليه، على الرغم من أنه قد يكون من الفئات التي قد يقتلها.
يمكن للحمى النزفيّة الانتقال بين الحيوانات أنفسها، والإنسان والحيوان، والبشر بينهم، وتصاب بعض القوارض أيضاً بالفيروس، ويمكنها نقله للإنسان.
تأتي الإصابة بالفيروس عبر المخالطة المباشرة مع المرضى، والملامسة المباشرة لسوائل جسم المرضى أو جثثهم، أو من خلال عمليّة ذبح الحيوانات المُصابة، أو استهلاك اللحوم النيئة من الحيوانات المصابة أو الحليب غير المبستر، كما التلامس المباشر مع القوارض أو استنشاق مواد ملوثة بفضلات القوارض أو ملامستها، وبالطبع لدغات البعوض أو القراد.
وتهدد الإصابة بالفيروس فئة واسعة من المجتمع، وبشكل أساس مربي الماشية كالأبقار والأغنام والماعز، والعاملين في مجال الجزارة (القصابين)، والفرق البيطرية والزراعية والبلدية وربات البيوت.
مكن للحمّى النزفية أن تصبح وباءً يسبّب نسبة وفيّات مرتفعة إذ لم يواجه بتدابير طبية استباقيّة مضادة مثل اللقاحات أو مضادات الفيروسات.
وذي قار في مرحلة حرجة من التفشي.
تاريخ الفيروس في العراق
على مدار أربعة عقود، لم تتوحّش الحمى النزفيّة في العراق كما يحصل اليوم.
كان الدكتور أنطوان صبر البنا، الأستاذ في كلية الطب البيطري بجامعة بغداد، أوّل من شخص حالة إصابة بالفيروس عام 1979.
رغم ذلك، كان المرض تحت السيطرة، إذ بين أعوام 1979 – 2000 لم تتجاوز إصابات الحمّى النزفيّة العشرات، ولم تظهر أي بيانات عن الفيروس حتّى عام 2009.
بعدها، صارت تظهر بعض الإصابات كل عام، لكنها لم تأخذ طابعاً جديّاً إلا بحلول عام 2019.
ذاك العام، أصاب الفيروس 111 إنساناً، وتسبّب بنحو 19 حالة وفاة، وأخذ عدّاد الإصابات من حينها يتصاعد؛ ففي عام 2022، بين الأول من كانون الثاني وأيار، سجل العراق على الأقلّ 212 إصابة و27 وفاة بالحمى النزفية، لكن ذي قار تقول إنها سجّلت لوحدها 40 حالة وفاة.
تعدّ ذي قار أكثر المحافظات المتضررة من الحمّى النزفية، إذ يسجّل فيها نحو 50 بالمئة من العدد الكلي للإصابات في العراق.
“إذا استمرت الإصابات بهذا الشكل”، يقول الدكتور حيدر علي حنتوش مسؤول شعبة الأمراض الانتقالية في ذي قار، “فنحن متجهون نحو التفشي”.
في حديثهما، يلمّح حنتوش والدكتور محمد عزيز مدير المستشفى البيطري إلى أن الفيروس حلّ مبكراً في ذي قار.
قال عزيز لـ”جمار” إن “ذي قار من أكثر المحافظات تضرراً بالجفاف الذي يعزز دورة حياة القراد”، أحد أبرز ناقلي المرض.
يتكيّف القراد مع أشد الظروف البيئية قسوة. وليكمل دورة حياته البالغة 3 أعوام بأحسن الأحوال، فإن عليه التغذّي على الدم. وتعتبر الأرياف التي يضربها الجفاف في ذي قار، جنّة لتكاثر هذه الحشرة المتوحشّة.
القرادة المُصابة تضع أي فيروس تحمله، ومن ضمنها الحمّى النزفية، في البيضة، لتلد أجنة تحمل عشائر من الفيروسات ترمي بنفسها على أي جسد يحمل دماً.
“للقراد قدرة على الانغراس 30 سم تحت الأرض، وبذلك يتجنّب كل أنواع المبيدات”، يشير عزيز إلى قدرة هذه الحشرة على التخفّي ونقل المرض بين الإنسان والحيوان وبين البشر لوحدهم، وبين الحيوانات.
“كما أن كمية القراد تحتم على الفرق الطبية العودة إلى المكان نفسه من 3 إلى 4 مرات (لتطهير الدواب)، والجهد المطلوب يحتاج مزيداً من الكوادر لمواجهة الأزمة”.
المشكلة ليست في القراد فقط!
لكن ناقل الفيروس ليس القراد وحده، فلدى ذي قار سجلٌّ حافل بالمخالفات البيئية، وإحداها الجزارة العشوائية التي تُفشّي الحمى النزفية، كونها بيئة مثالية لتنقل الفيروسات.
“أهم أسباب الحمّى النزفية يكمن بالذبح العشوائي للمواشي”، تقول وزارة الصحة، بينما تعلن وزارة الزراعة عجزها عن السيطرة على الذبح العشوائي في عموم العراق، لكنها، في الوقت ذاته، أبلغت المحافظات والجهات الأمنية ومديريات البلدية جميعها، بمنع ظاهرة الجزر العشوائي، كما منعت خروج اللحوم الحمراء من البؤر المرضية.
يستهلك الفرد في العراق نحو 12 كيلوغراماً من اللحوم الحمراء سنوياً، بحسب إحصائية لوزارة الزراعة عام 2020، وهذه اللحوم تأتي في غالبها من أجسام حيوانات منحورة في مجازر عشوائية.
“لا توجد مجازر نظامية في ذي قار سوى واحدة صغيرة تقع في قضاء سوق الشيوخ” جنوب شرق المحافظة، “أما مجزرة الناصرية التابعة لدائرة البلدية فهي مغلقة بأمر قضائي لعدم توفر المحددات البيئية المطلوبة”، قال كريم هاني، مدير بيئة ذي قار.
مجزرة الناصرية
تقع مجزرة الناصرية في شارع النهر المؤدي لناحية أور المكتظ بالتجمعات السكنية والبساتين، ويُشكّ بأنها تلوّث المياه.
لم يعد المبنى المخصص للذبح صالح للاستعمال، فمساحة البناية وقاعة الجزر غير مناسبتين، ولا يتوفّر مكان مناسب للطبيب البيطري المشرف على عملية الذبح.
ورغم الإيعاز بإغلاقها، فإنها استمرت بالعمل.
على مدار السنة، تبدأ المجزرة العمل في الساعة الثالثة فجراً وتغلق عند السابعة صباحاً.
“عدم توفر البديل هو ما يجعل أعمال المجزرة مستمرة”، قال علي عبد الستار، مدير بلدية الناصرية المسؤولة عن إدارة ومراقبة المجازر والحرص على إدامتها.
“الخطة الاستثمارية لعام 2023 لم تشمل بناء مجزرة جديدة”، ولذلك فإن البلدية تنتظر مستثمراً ليدير المجزرة.
تعترف بلدية الناصرية بعدم قدرتها على تنفيذ الإجراءات للحدّ من التلوّث الناجم عن ذبح المواشي، فهي لم توفّر مجزرة عصريّة تنحصر فيها عمليات جزر الحيوانات، كما أنها لم تتمكن من الحدّ من الجزر العشوائي في أحياء وساحات المدينة.
بحسب المعايير العالميّة، فإن كل 350 ألف فرد يتوجب أن تكون لهم مجزرة توفّر لهم الذبائح، لكن العراق لا يمتلك سوى مجازر معدودة أغلبها مخالف للمواصفات البيئية.
يبلغ عدد سكّان ذي قار أكثر من مليوني فرد.
وساطات للماشية
عند الفجر، يدخل الجزارون إلى محالهم ويُغلقون الأبواب خلفهم لينحروا المواشي، فقد بات مستهجناً اجتماعياً أن يجري الذبح أمام أبواب هذه المحال كما كان طوال الأعوام الماضية.
تحدثّنا إلى أكثر من قصاب، وقالوا جميعهم إنهم يتبعون تعليمات وزارتي الزراعة والصحة أثناء عملية الذبح، مثل استخدام الكمامة والكفوف الطبية والمياه الساخنة، فضلاً عن تأكيدهم على غسل الماشية بشكل مستمر وبإشراف طبيب بيطري.
رغم ذلك، فعملية ذبح هذه الماشية تخالف القانون، وهناك إجراءات ضدها تتخذها البلدية.
“الإجراء الرسمي بالنسبة لنا هو حجز المواشي التي كانت ستجزر بشكل غير قانوني”، قال علي عبد الستار، مدير بلدية الناصرية، كإجراء للحدّ من الذبح العشوائي.
بعد الحجز، تتحمّل البلدية مسؤوليتها، حتّى تعرضها للبيع في مزايدة علنية.
لكن لبعض المواشي حظوة، إذ تعاد لأصحابها الذين يمتلكون علاقات بالنواب، أو يستعطفونهم المساعدة.
“حين احتجزنا الماشية التي تذبح بطريقة عشوائية، وأردنا إحالتها للمزايدة، اتصل بنا بعض النواب والمسؤولين الحكوميين، مطالبين بإيقاف العملية تحت ذرائع معروفة، (مثل) أن المواشي عائدة لناس فقراء، طالبين منا أن نتعاطف معهم”.
البلدية لا تستطيع تحمّل تكاليف الحجز.
“تحتاج المواشي إلى الأعلاف والرعاية والاهتمام.. العلف قد يكلف مليون دينار، فمن يتحمل التكاليف؟”، تساءل عبد الستار.
نقص كوادر
مُقابل تصاعد إصابات الحمّى النزفية، فإن لا كوادر كافية لموجهة الفيروس، ونتيجة لذلك يُستعان بفرق من المتطوعين والهلال الأحمر.
لكن في هذا العام المتطوعين أقل.
“للحد من انتشار حشرة القراد يجب البدء بعملية رش حظائر المواشي بمواد كيمائية مُكافِحة، وهذا الأمر يتطلب جهداً كبيراً وعملاً واسعاً”، قال محمد عزيز، مدير المستشفى البيطري.
“العام الماضي أسهم الصليب الأحمر بفرق تطوعية إضافية بلغت 126 متطوعا بواقع 42 فريقاً، وهذا ضاعف من العمل فاتسعت رقعة مكافحة القراد”.
لكن العام الحالي، تقف 22 فرقة بيطرية كل واحدة منها تضم 3 أطباء وعجلة ويسمح لها باستئجار عامل، تقف هذه الفرق شبه وحيدة أمام الحمى النزفية وأسباب انتشارها.
“هذا العدد لا يتناسب مع حجم المواشي الموجودة”.
إضافة إلى المستشفى، تمتلك ذي قار نحو 26 مركزاً بيطرياً، وهو عدد قليل لا يتناسب مع حجم الماشية والأزمة، كما أن عدد الأطباء المخصصين لإدارة هذه المراكز هم 9 فقط، بحسب الدكتور باسم عبد الحسين، عميد كلية الطب البيطري في جامعة ذي قار.
نقص كبير، قد يتسع أكثر في المستقبل.
“بعد سنتين قد يفرغ المستشفى البيطري، لأن مواليد 1963 و1964 و1965 سيحالون على التقاعد، وجاءت حزمة تعيينات مرة واحدة في أيام حكومة إبراهيم الجعفري (عام 2005)، وحالياً التحق الأوائل من كليتنا بعد أن تحول المستشفى إلى تعليمي وهم 9 أشخاص”.
حسب عزيز، يجب أن يكون في كل مستوصف بيطري 10 فرق من الصحة والبلدية والسيارات والمبيدات.
الحلول وإلا الإغلاق
“حتى نقطع سلسلة الإصابات”، يقول الدكتور محمد عزيز، فإن هناك محورين أساسيين يجب العمل وفقهما، محور الرش ومحور الثقافة الصحية، “إذا استطعنا أن نثقف مربي الماشية والقصاب وربات البيوت هذا يعني أننا استطعنا منع الكثير من الإصابات”.
بالمقابل، يقترح باسم عبد الحسين، عميد كلية الطب البيطري في جامعة ذي قار إجراء اختبار عشوائي “Polling test”، لأنه من غير الممكن فحص جميع الحيوانات PCR.
“تؤخذ عينات وتجمع في اختبار واحد، وبعد ذلك نحدد أين ظهرت الإصابات، ويُركز على المكان الذي تظهر فيه الإصابات، بعد ذلك نبدأ بالفحص الفردي في المكان المحدد”.
وفق عبد الحسين، فإن هذه العملية تقلل التكاليف، وتقسم المحافظة إلى 30 أو 40 دائرة “zone”، ووفقاً لنتائج الفحوصات، تحدد البؤرة “focus.
“بالتأكيد هناك بؤرة في المحافظة (لانتشار فيروس الحمى النزفية) ويجب أن تحدد وتتم معالجتها”، قال عميد كلية الطب البيطري في جامعة ذي قار.
لكن الفيروسات حتّى في ظل هذه الإجراءات قد تنجو، لأن “لديها استراتيجية في الانتقال، بعض الأحيان تتكاثر داخل جسم الإنسان، حتى لو كانت مناعته قوية، ولكنها تظهر حين يصاب بمرض ثانٍ”.
حسب عزيز، فأن ظهور حالات أكثر قد يجبر الحكومة المحلية إلى غلق المحافظة بالكامل.
عندها “نتعامل مع كل الحيوانات على أنها مصابة، لأننا لا نعرف المصاب من غير المصاب، وهنا تصبح كلها مصابة بنظرنا حتى نحمي الناس والعاملين”.
* أُنتجت هذه المادة بدعم من برنامج تشِك غلوبال – مؤسسة ميدان.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
كل صباح، تمّر أصابع محمد صيّاح البدري في أجساد جواميسه واحدة بعد الأخرى.
وهو يُمرّر يده في شعر الجاموس، يحاول محمد التقاط القراد علّه يقي حيواناته إصابة الفيروس الذي يسبّب لها اضطرابات نزفية وحمى يمكن أن تتطور إلى حمى شديدة، أو الموت في حالات كثيرة.
البدري وجواميسه وكل محافظته في خطر.
يسكن الرجل في الدور القريبة من منطقة السبل في محافظة ذي قار، حيث يتفشّى فيروس الحمى النزفية الذي يفتك بالبشر والحيوانات، ويطيح بكثيرين مرضى أو موتى.
عشيرة فيروسات
تعرف الحمى النزفية باسم Viral hemorrhagic fever or VHFs))، وهي قد تنجم عن اجتماع خمس عائلات فيروسية مختلفة، لتشكّل باجتماعها عشيرة خطرة على حياة البشر والمواشي.
“قد تكون الحشرة اختفت هنا أو هناك، قد تكون القرادة اختبأت خلف أُذن الجاموسة أو على ظهرها”.
يُتاجر محمد بالماشيّة، وحركة ذهابِ وإيابِ الجواميس في حظيرته تزيد من خطر وصول “الحمّى النزفيّة” وانتشارها بين الدواب.
الرجل الذي بلغ 52 عاماً لا يتحدّث عن خطر الفايروس عليه، على الرغم من أنه قد يكون من الفئات التي قد يقتلها.
يمكن للحمى النزفيّة الانتقال بين الحيوانات أنفسها، والإنسان والحيوان، والبشر بينهم، وتصاب بعض القوارض أيضاً بالفيروس، ويمكنها نقله للإنسان.
تأتي الإصابة بالفيروس عبر المخالطة المباشرة مع المرضى، والملامسة المباشرة لسوائل جسم المرضى أو جثثهم، أو من خلال عمليّة ذبح الحيوانات المُصابة، أو استهلاك اللحوم النيئة من الحيوانات المصابة أو الحليب غير المبستر، كما التلامس المباشر مع القوارض أو استنشاق مواد ملوثة بفضلات القوارض أو ملامستها، وبالطبع لدغات البعوض أو القراد.
وتهدد الإصابة بالفيروس فئة واسعة من المجتمع، وبشكل أساس مربي الماشية كالأبقار والأغنام والماعز، والعاملين في مجال الجزارة (القصابين)، والفرق البيطرية والزراعية والبلدية وربات البيوت.
مكن للحمّى النزفية أن تصبح وباءً يسبّب نسبة وفيّات مرتفعة إذ لم يواجه بتدابير طبية استباقيّة مضادة مثل اللقاحات أو مضادات الفيروسات.
وذي قار في مرحلة حرجة من التفشي.
تاريخ الفيروس في العراق
على مدار أربعة عقود، لم تتوحّش الحمى النزفيّة في العراق كما يحصل اليوم.
كان الدكتور أنطوان صبر البنا، الأستاذ في كلية الطب البيطري بجامعة بغداد، أوّل من شخص حالة إصابة بالفيروس عام 1979.
رغم ذلك، كان المرض تحت السيطرة، إذ بين أعوام 1979 – 2000 لم تتجاوز إصابات الحمّى النزفيّة العشرات، ولم تظهر أي بيانات عن الفيروس حتّى عام 2009.
بعدها، صارت تظهر بعض الإصابات كل عام، لكنها لم تأخذ طابعاً جديّاً إلا بحلول عام 2019.
ذاك العام، أصاب الفيروس 111 إنساناً، وتسبّب بنحو 19 حالة وفاة، وأخذ عدّاد الإصابات من حينها يتصاعد؛ ففي عام 2022، بين الأول من كانون الثاني وأيار، سجل العراق على الأقلّ 212 إصابة و27 وفاة بالحمى النزفية، لكن ذي قار تقول إنها سجّلت لوحدها 40 حالة وفاة.
تعدّ ذي قار أكثر المحافظات المتضررة من الحمّى النزفية، إذ يسجّل فيها نحو 50 بالمئة من العدد الكلي للإصابات في العراق.
“إذا استمرت الإصابات بهذا الشكل”، يقول الدكتور حيدر علي حنتوش مسؤول شعبة الأمراض الانتقالية في ذي قار، “فنحن متجهون نحو التفشي”.
في حديثهما، يلمّح حنتوش والدكتور محمد عزيز مدير المستشفى البيطري إلى أن الفيروس حلّ مبكراً في ذي قار.
قال عزيز لـ”جمار” إن “ذي قار من أكثر المحافظات تضرراً بالجفاف الذي يعزز دورة حياة القراد”، أحد أبرز ناقلي المرض.
يتكيّف القراد مع أشد الظروف البيئية قسوة. وليكمل دورة حياته البالغة 3 أعوام بأحسن الأحوال، فإن عليه التغذّي على الدم. وتعتبر الأرياف التي يضربها الجفاف في ذي قار، جنّة لتكاثر هذه الحشرة المتوحشّة.
القرادة المُصابة تضع أي فيروس تحمله، ومن ضمنها الحمّى النزفية، في البيضة، لتلد أجنة تحمل عشائر من الفيروسات ترمي بنفسها على أي جسد يحمل دماً.
“للقراد قدرة على الانغراس 30 سم تحت الأرض، وبذلك يتجنّب كل أنواع المبيدات”، يشير عزيز إلى قدرة هذه الحشرة على التخفّي ونقل المرض بين الإنسان والحيوان وبين البشر لوحدهم، وبين الحيوانات.
“كما أن كمية القراد تحتم على الفرق الطبية العودة إلى المكان نفسه من 3 إلى 4 مرات (لتطهير الدواب)، والجهد المطلوب يحتاج مزيداً من الكوادر لمواجهة الأزمة”.
المشكلة ليست في القراد فقط!
لكن ناقل الفيروس ليس القراد وحده، فلدى ذي قار سجلٌّ حافل بالمخالفات البيئية، وإحداها الجزارة العشوائية التي تُفشّي الحمى النزفية، كونها بيئة مثالية لتنقل الفيروسات.
“أهم أسباب الحمّى النزفية يكمن بالذبح العشوائي للمواشي”، تقول وزارة الصحة، بينما تعلن وزارة الزراعة عجزها عن السيطرة على الذبح العشوائي في عموم العراق، لكنها، في الوقت ذاته، أبلغت المحافظات والجهات الأمنية ومديريات البلدية جميعها، بمنع ظاهرة الجزر العشوائي، كما منعت خروج اللحوم الحمراء من البؤر المرضية.
يستهلك الفرد في العراق نحو 12 كيلوغراماً من اللحوم الحمراء سنوياً، بحسب إحصائية لوزارة الزراعة عام 2020، وهذه اللحوم تأتي في غالبها من أجسام حيوانات منحورة في مجازر عشوائية.
“لا توجد مجازر نظامية في ذي قار سوى واحدة صغيرة تقع في قضاء سوق الشيوخ” جنوب شرق المحافظة، “أما مجزرة الناصرية التابعة لدائرة البلدية فهي مغلقة بأمر قضائي لعدم توفر المحددات البيئية المطلوبة”، قال كريم هاني، مدير بيئة ذي قار.
مجزرة الناصرية
تقع مجزرة الناصرية في شارع النهر المؤدي لناحية أور المكتظ بالتجمعات السكنية والبساتين، ويُشكّ بأنها تلوّث المياه.
لم يعد المبنى المخصص للذبح صالح للاستعمال، فمساحة البناية وقاعة الجزر غير مناسبتين، ولا يتوفّر مكان مناسب للطبيب البيطري المشرف على عملية الذبح.
ورغم الإيعاز بإغلاقها، فإنها استمرت بالعمل.
على مدار السنة، تبدأ المجزرة العمل في الساعة الثالثة فجراً وتغلق عند السابعة صباحاً.
“عدم توفر البديل هو ما يجعل أعمال المجزرة مستمرة”، قال علي عبد الستار، مدير بلدية الناصرية المسؤولة عن إدارة ومراقبة المجازر والحرص على إدامتها.
“الخطة الاستثمارية لعام 2023 لم تشمل بناء مجزرة جديدة”، ولذلك فإن البلدية تنتظر مستثمراً ليدير المجزرة.
تعترف بلدية الناصرية بعدم قدرتها على تنفيذ الإجراءات للحدّ من التلوّث الناجم عن ذبح المواشي، فهي لم توفّر مجزرة عصريّة تنحصر فيها عمليات جزر الحيوانات، كما أنها لم تتمكن من الحدّ من الجزر العشوائي في أحياء وساحات المدينة.
بحسب المعايير العالميّة، فإن كل 350 ألف فرد يتوجب أن تكون لهم مجزرة توفّر لهم الذبائح، لكن العراق لا يمتلك سوى مجازر معدودة أغلبها مخالف للمواصفات البيئية.
يبلغ عدد سكّان ذي قار أكثر من مليوني فرد.
وساطات للماشية
عند الفجر، يدخل الجزارون إلى محالهم ويُغلقون الأبواب خلفهم لينحروا المواشي، فقد بات مستهجناً اجتماعياً أن يجري الذبح أمام أبواب هذه المحال كما كان طوال الأعوام الماضية.
تحدثّنا إلى أكثر من قصاب، وقالوا جميعهم إنهم يتبعون تعليمات وزارتي الزراعة والصحة أثناء عملية الذبح، مثل استخدام الكمامة والكفوف الطبية والمياه الساخنة، فضلاً عن تأكيدهم على غسل الماشية بشكل مستمر وبإشراف طبيب بيطري.
رغم ذلك، فعملية ذبح هذه الماشية تخالف القانون، وهناك إجراءات ضدها تتخذها البلدية.
“الإجراء الرسمي بالنسبة لنا هو حجز المواشي التي كانت ستجزر بشكل غير قانوني”، قال علي عبد الستار، مدير بلدية الناصرية، كإجراء للحدّ من الذبح العشوائي.
بعد الحجز، تتحمّل البلدية مسؤوليتها، حتّى تعرضها للبيع في مزايدة علنية.
لكن لبعض المواشي حظوة، إذ تعاد لأصحابها الذين يمتلكون علاقات بالنواب، أو يستعطفونهم المساعدة.
“حين احتجزنا الماشية التي تذبح بطريقة عشوائية، وأردنا إحالتها للمزايدة، اتصل بنا بعض النواب والمسؤولين الحكوميين، مطالبين بإيقاف العملية تحت ذرائع معروفة، (مثل) أن المواشي عائدة لناس فقراء، طالبين منا أن نتعاطف معهم”.
البلدية لا تستطيع تحمّل تكاليف الحجز.
“تحتاج المواشي إلى الأعلاف والرعاية والاهتمام.. العلف قد يكلف مليون دينار، فمن يتحمل التكاليف؟”، تساءل عبد الستار.
نقص كوادر
مُقابل تصاعد إصابات الحمّى النزفية، فإن لا كوادر كافية لموجهة الفيروس، ونتيجة لذلك يُستعان بفرق من المتطوعين والهلال الأحمر.
لكن في هذا العام المتطوعين أقل.
“للحد من انتشار حشرة القراد يجب البدء بعملية رش حظائر المواشي بمواد كيمائية مُكافِحة، وهذا الأمر يتطلب جهداً كبيراً وعملاً واسعاً”، قال محمد عزيز، مدير المستشفى البيطري.
“العام الماضي أسهم الصليب الأحمر بفرق تطوعية إضافية بلغت 126 متطوعا بواقع 42 فريقاً، وهذا ضاعف من العمل فاتسعت رقعة مكافحة القراد”.
لكن العام الحالي، تقف 22 فرقة بيطرية كل واحدة منها تضم 3 أطباء وعجلة ويسمح لها باستئجار عامل، تقف هذه الفرق شبه وحيدة أمام الحمى النزفية وأسباب انتشارها.
“هذا العدد لا يتناسب مع حجم المواشي الموجودة”.
إضافة إلى المستشفى، تمتلك ذي قار نحو 26 مركزاً بيطرياً، وهو عدد قليل لا يتناسب مع حجم الماشية والأزمة، كما أن عدد الأطباء المخصصين لإدارة هذه المراكز هم 9 فقط، بحسب الدكتور باسم عبد الحسين، عميد كلية الطب البيطري في جامعة ذي قار.
نقص كبير، قد يتسع أكثر في المستقبل.
“بعد سنتين قد يفرغ المستشفى البيطري، لأن مواليد 1963 و1964 و1965 سيحالون على التقاعد، وجاءت حزمة تعيينات مرة واحدة في أيام حكومة إبراهيم الجعفري (عام 2005)، وحالياً التحق الأوائل من كليتنا بعد أن تحول المستشفى إلى تعليمي وهم 9 أشخاص”.
حسب عزيز، يجب أن يكون في كل مستوصف بيطري 10 فرق من الصحة والبلدية والسيارات والمبيدات.
الحلول وإلا الإغلاق
“حتى نقطع سلسلة الإصابات”، يقول الدكتور محمد عزيز، فإن هناك محورين أساسيين يجب العمل وفقهما، محور الرش ومحور الثقافة الصحية، “إذا استطعنا أن نثقف مربي الماشية والقصاب وربات البيوت هذا يعني أننا استطعنا منع الكثير من الإصابات”.
بالمقابل، يقترح باسم عبد الحسين، عميد كلية الطب البيطري في جامعة ذي قار إجراء اختبار عشوائي “Polling test”، لأنه من غير الممكن فحص جميع الحيوانات PCR.
“تؤخذ عينات وتجمع في اختبار واحد، وبعد ذلك نحدد أين ظهرت الإصابات، ويُركز على المكان الذي تظهر فيه الإصابات، بعد ذلك نبدأ بالفحص الفردي في المكان المحدد”.
وفق عبد الحسين، فإن هذه العملية تقلل التكاليف، وتقسم المحافظة إلى 30 أو 40 دائرة “zone”، ووفقاً لنتائج الفحوصات، تحدد البؤرة “focus.
“بالتأكيد هناك بؤرة في المحافظة (لانتشار فيروس الحمى النزفية) ويجب أن تحدد وتتم معالجتها”، قال عميد كلية الطب البيطري في جامعة ذي قار.
لكن الفيروسات حتّى في ظل هذه الإجراءات قد تنجو، لأن “لديها استراتيجية في الانتقال، بعض الأحيان تتكاثر داخل جسم الإنسان، حتى لو كانت مناعته قوية، ولكنها تظهر حين يصاب بمرض ثانٍ”.
حسب عزيز، فأن ظهور حالات أكثر قد يجبر الحكومة المحلية إلى غلق المحافظة بالكامل.
عندها “نتعامل مع كل الحيوانات على أنها مصابة، لأننا لا نعرف المصاب من غير المصاب، وهنا تصبح كلها مصابة بنظرنا حتى نحمي الناس والعاملين”.
* أُنتجت هذه المادة بدعم من برنامج تشِك غلوبال – مؤسسة ميدان.