أزمة المياه في العراق: تبرئة الأسلاف لا تنقذنا من "الفناء"
17 حزيران 2023
في الأسبوع الأول من أيار 2023، استضافت بغداد المؤتمر الدولي الثالث للمياه، والذي حمل شعار “شحة المياه، أهوار وادي الرافدين، بيئة شط العرب، مسؤولية الجميع”. كان هدف المؤتمر إيجاد بدائل وحلول ممكنة للتخفيف من آثار تغيّر المناخ، واستدامة بيئة الأهوار والأراضي الرطبة للحفاظ على النظام الايكولوجي والتنوع الإحيائي. لم يخلُ المؤتمر، بطبيعة الحال، من الكلام […]
في الأسبوع الأول من أيار 2023، استضافت بغداد المؤتمر الدولي الثالث للمياه، والذي حمل شعار “شحة المياه، أهوار وادي الرافدين، بيئة شط العرب، مسؤولية الجميع”. كان هدف المؤتمر إيجاد بدائل وحلول ممكنة للتخفيف من آثار تغيّر المناخ، واستدامة بيئة الأهوار والأراضي الرطبة للحفاظ على النظام الايكولوجي والتنوع الإحيائي.
لم يخلُ المؤتمر، بطبيعة الحال، من الكلام الإنشائي مثل “التثقيف ونشر الوعي لكافة مستخدمي المياه والمساهمين لغرض الاستخدام الرشيد لمصادر المياه وتقليل الضائعات”، فضلاً عن “تفعيل التعاون والتنسيق على المستويين الإقليمي والعالمي في مجال إدارة مصادر المياه”.
كان الملفت في كلمة محمد شياع السوداني، رئيس الحكومة العراقية، تركيزه على مسؤولية نظام صدام حسين الاستبدادي في الأزمة المائية غير المسبوقة التي تواجه العراق، “يعتقد الكثير أن مشكلة المياه في العراق ظهرت للوجود بعد سنة 2003، والحقيقة أن هذه الأزمة بدأت تدقّ ناقوس الخطر منذ ثمانينات القرن الماضي، لكن بسبب غياب الشفافية واحتكار المعلومة لم تتم مكاشفة الناس في حقيقة هذا الخطر القادم. كان من بين أهم الأسباب لهذه الأزمة هو السلوك العدائي وعدم تنظيم الوضع المائي مع دول الجوار أيام النظام الديكتاتوري”، قال محمد شياع السوداني.
وفيما كان رئيس الحكومة يبرّئ أسلافه من مسؤولية تفاقم الأزمة المائية في العراق عبر إلقاء اللوم على النظام السابق، هنأ غلام إسحاق زي، نائب الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة والمنسق الشؤون الإنسانية، العراق في كلمته، كونه الدولة الرائدة في المنطقة في الانضمام إلى اتفاقية الأمم المتحدة لحماية واستخدام المجاري المائية العابرة للحدود والبحيرات الدولية.
الانضمام للاتفاقية، برأي الموظف الدولي، يتيح فرصاً جديدة لتعزيز التعاون بشأن المياه العابرة للحدود وتعزيز السياسات والممارسات المائية الوطنية وتعزيز التعاون بين القطاعات ومشاركة الأطراف المعنية.
يحتاج كلام رئيس الحكومة العراقي والموظف الدولي إلى تدقيق من نواحٍ عدّة بما فيها السياق التاريخي للمسائل التي تطرقا لها دون المعرفة بأسباب تأخر العراق في ملف المياه.
تدهور بيئي بفعل فاعل
كان من الممكن أن يُلقي أي رئيس وزراء عراقي اللوم على النظام البائد بعد سقوطه بشهور أو سنوات معدودة، لكنّ السوداني هرب 20 عاماً إلى الوراء، متجنّباً الإشارة للنخبة الحاكمة الجديدة، ملقياً بمسؤولية الحال البيئية كلّها على صدام حسين، الذي لا يمكن إغفال حجم الدمار البيئي الذي تركته حروبه في البلاد، ولا يمكن في الوقت ذاته، التغافل عما آلت إليه مجمل النظم البيئية من التدهور بعد غزو العراق عام 2003، بما في ذلك أزمة المياه الخانقة وعجز الحكومات العراقية المتعاقبة في إيجاد حلول لها.
فخلال 20 سنة لم يضع الحكام الجدد المياه في أولويات إدارتهم السياسات والأمن الغذائي واستقرار المجتمعات، علاوة على تفاقم الفساد وتسليم الملف المائي إلى مسؤولين وإداريين ومفاوضين غير أكفاء.
والحال هذه، ليس مبالغة القول إن التدهور غير المسبوق في النظم البيئية والمائية في العراق حصل بفعل فاعل.
فحين بدأت ملامح الجفاف في العقد الأخير من القرن العشرين، كان نظام صدام في أضعف مراحل وجوده ويحاول جاهداً البقاء بأية وسيلة، فصار ملف البيئة والمياه من هامشيات السياسة الخارجية العراقية. أما داخلياً فتوقفت مشاريع الإصلاح والترميم في شبكات توزيع المياه وأنظمة الصرف الصحي، وذلك جراء الحصار الاقتصادي والأوضاع المزرية التي نجمت عنه.
ولكن ماذا عن النظام الجديد الذي حل بعد عام 2003، وكيف تعاملت الحكومات العراقية مع هذا الملف، وما هي النتائج التي توصل إليها المفاوض العراقي مع كل من تركيا وإيران، وما هي الإصلاحات في البنى التحية خلال 20 عاماً من الحكم؟ من المهم في هذا السياق تذكير رئيس الحكومة والموظف الدولي غلام إسحاق بمحطات مهمة خرجت أرفع الوفود العراقية منها خالية اليدين في مفاوضاتها مع الأتراك والإيرانيين.
دبلوماسية المياه الغائبة
في 15 تشرين الأول 2017، زار وفد عراقي برئاسة حيدر العبادي، رئيس الوزراء الأسبق، تركيا. كانت قضية المياه من بين القضايا المهمة التي حملها معه العبادي إلى تركيا بغية التفاوض بشأنها مع رجب طيب أردوغان، الرئيس التركي. أبلغ الرئيس التركي الوفد العراقي حينها، “لا تذكروا لي تسميات الأمم المتحدة بشأن الأنهار والحقوق المائية الدولية والمفاوضات حول المياه، لا تعترف تركيا بهذه التسميات التي عفا عليها الزمن”. وقد كشف وزير الموارد المائية الأسبق حسن الجنابي ذلك في مؤتمر الأمن الكوكبي بمدينة لاهاي الهولندية في شهر كانون الأول في العام ذاته.
اكتفت الحكومة العراقية، حينئذ، ببيان مقتضب حول اللقاء، “رؤية العراق لمستقبل المنطقة، وتوجهه الجديد في مرحلة ما بعد الانتصار على داعش، وحفظ وحدة العراق وسيادته الوطنية على كامل أراضيه..”، وأخفت بذلك المعلومات ليس عن الرأي العام فحسب، بل حتى عن المؤسسات المختصة بإدارة المياه في البلاد.
يقف كلام أردوغان بالضد من كل الاتفاقيات الدولية، بما في ذلك قانون المياه الدولي (اتفاقية 1997 لاستخدام المجاري المائية الدولية)، والذي لم توقع عليه تركيا. وفي هذا السياق، يجب “إعلام” الموظف الدولي السيد غلام إسحاق بأن العراق يقع في مصب جميع الأنهار الدولية، ولا يغير التزامه بمبادئ الاتفاقية المذكورة شيئاً البتة. تالياً، كان الأجدى به الإشارة إلى ضرورة التزام تركيا بمبادئ الاتفاقية التي تتضمن: أولاً، منع التأثيرات العابرة للحدود ومراقبتها والحد منها. ثانياً، ضمان الاستخدام العادل والمنصف للمياه المشتركة. ثالثاً، التعاون من خلال الاتفاقيات الثنائية أو متعددة الأطراف والهيئات المشتركة.
نهاية عام 2020، زار وفد حكومي آخر تركيا برئاسة مصطفى الكاظمي، رئيس الحكومة السابق. كان من المفترض تخصيص وقت كافٍ لبحث القضايا المتعلقة بالمياه، ولكن اكتفى أردوغان بتنظيم حفل غنائي “هابط” على شرف رئيس الوزراء، وأنهى كل شيء بتصريح مقتصب أشار فيه إلى عدم وجود مشكلات بشأن المياه بين البلدين.
سبق الكاظمي تلك الزيارةَ بشهرين في تشرين الأول 2020 بطرح مشروع سمي بـ”الورقة البيضاء” للإصلاح المالي والاقتصادي في العراق، إنما لم تشر إلى معالجة مشكلات المياه داخلياً سوى في فقرات مقتضبة وخجولة.
في ما يخص الجانب الإيراني، فلا يخفي المسؤولون العراقيون مخاوفهم من صعوبة التوصّل إلى حلول تُجنِّب تعطيش العراق. زار كاتب المقال صيف عام 2012 مهدي رشيد الحمداني، وزير الموارد المائية في مكتبه ببغداد، وسأله عن دبلوماسية المياه مع الجارة إيران. لم يخف المسؤول العراقي التجاهل الإيراني لجميع مطالب العراق المائية، مؤكداً على أن سياسات إيران المائية من جانب وخططه التشغيلية على الأنهر المشتركة من جانب آخر تؤذيان العراق.
المشكلة الرئيسية في ملف المياه، بحسب وزير الموارد المائية السابق، هي أن سلطات إيران المائية لا تزوّد العراق بالبيانات حول كميات إطلاق المياه، ولا عن الكميات الموجودة في الخزانات والمؤسسات التي أنشأتها على روافد نهر سيروان ونهري الكرخة والكارون من دون أخذ رأي الجانب العراقي في الحسبان. ولم ينس المسؤول العراقي في حديثه الإشارة إلى آثار تحويل مجاري حوض نهر سيروان الطبيعية إلى مناطق أخرى في إيران عبر أنفاق مائية اصطناعية، ما يلحق أضراراً كبيرة بالعراق والنظام البيئي للنهر.
السباحة في مياه ملوّثة
يستخدم العراقيون السباحة محل كلمة الاستحمام، وقد تعود جذورها إلى وفرة المياه في تاريخ بلدهم حيث كانوا يلجؤون الى الأنهار والمسطحات المائية العذبة كلما أرادوا الاستحمام؛ لكن أصبح من الصعب السباحة في الأنهار والأحواض المائية اليوم، لأنها ببساطة لم تعد عذبة، فهي ملوثة بالكامل، وتصل الخطورة إلى حدٍ حتى مياه الإسالة لا يستطيع المواطنون الاستحمام بها في الكثير من المدن والمناطق، لأنها ملوثة أيضاً وتسبب أمراضا جلدية متنوعة، ولا يمكن الحديث عن أنها صالحة للشرب في جميع الأحوال.
يأتي هذا كلّه نتيجة تفاقم العوامل الداخلية في إدارة الموارد المائية، والذي لا يقل تأثيراً عن العوامل الخارجية.
إن أسباباً مثل تلوث المياه وزيادة الطلب جراء نمو سكاني هائل والإدارة السيئة لهذا المورد الطبيعي الثمين، تترك آثاراً سلبية كثيرة على النظم البيئية والبشرية في العراق. وبما أن الإدارة الفعالة تعد جوهرية في مواجهة آثار أزمة المناخ وسياسات تركيا وإيران المائية الجائرة، من الضروري تذكير المسؤولين العراقيين بأن جزءاً من الحلول المناسبة للأزمة يكمن في الإدارة المستدامة للموارد الطبيعية -الموارد المائية تحديداً وسبل حمايتها من الهدر والتلوث- ما يتطلب إعادة رسم السياسات المائية بما يتناسب مع المتغيرات السكانية والاقتصادية والمناخية.
وفي السياق، يمكن الإشارة إلى أن المياه الثقيلة غير المعالجة، تعد التحدّي البيئي الأكبر أمام العراق. ففي ظل التوسع العمراني والاكتظاظ السكاني، تعاني جميع المدن العراقية من بنى تحتية قديمة ومتهالكة غير قادرة على استيعاب المخلفات البشرية، ما يدفع البلديات إلى التخلّص من المياه الثقيلة عبر تفريغها في الأنهار والأحواض المائية العذبة، لا سيما في نهر ديالى قرب العاصمة بغداد، وشط العرب في محافظة البصرة جنوبي العراق وجميع الأنهر المتفرعة عن دجلة والفرات جنوبي البلاد. ولا يشكل هذا الواقع البيئي المُزري الذي يتجنب المسؤولون العراقيون الحديث عنه، أخطاراً على المورد المائي وحده، بل على الصحة العامة للمجتمع، ولا سيما المجتمعات المهمشة والمعرضة للاعدالة البيئية.
من ناحية أخرى، تقوم البنى التحتية القديمة داخل المدن بتجميع مياه الأمطار والفيضانات من خلال شبكاتها التقليدية وتصريفها إلى المجاري، أما في خارج المدن فتتمثل وظيفة هذه البنى التحتية القديمة لليوم، بمنع أو حبس مياه الفيضانات في مكانها أو تغيير مجراها من أجل التخلص منها. وهي بمجملها لا تعد حلولاً مستدامة وضامنة لمستقبل البلاد. وتُظهر كلّ موجة مطرية قوية هشاشة هذه البنى التحتية القديمة وعدم قدرتها على الاستجابة.
المسألة السكانية
ونظراً للكثافة السكانية في المدن، خاصة في ظل توقعات ارتفاع عدد سكانها إلى 70 بالمئة بحلول عام 2050، سيتضاعف الطلب على المياه والبنى التحتية والخدمية. بالتالي، فإن أي غياب في الإدارة المستدامة والفَوتَرة والتقنين والعدالة الاجتماعية-البيئية في استخدام الموارد الطبيعية، سيخلق أزمات اقتصادية وصراعات اجتماعية من شأنها إحداث أشكال كثيرة من الفوضى والتصارع من أجل الحصول على المياه.
قصارى القول، إن الطفرة السكانية، التوسع العمراني، تغيّر أنماط الاستهلاك والتلوث، ناهيك عن العوامل المناخية وسياسات دول الجوار، تفاقم، كلها، أزمة المياه وإنتاج الغذاء في العراق، ما يقتضي وضع كل تلك الأسباب في حسبان الخطط البيئية المستدامة غير الموجودة حتى الآن. فحين نفكر بآثار تغيّر المناخ على الأجيال القادمة، علينا التفكير بعدد السكان الذين يأكلون، يتنقلون، يستهلكون الطاقة، يبنون، يشترون، يستخدمون ويهدرون… وكل ما يتعلق بحاجة الإنسان للحياة. وهي بمجملها نشاطات بشرية تتفاعل مع الدوافع الأساسية التي تؤدي إلى نفاد المياه، ما يدفعنا بالتالي إلى إعادة التفكير في المسألة السكانية ومعدلات الخصوبة، حيث يعاني أكثر من 25 في المئة من سكان العراق اليوم من الفقر.
تنذر سياسات الحكومة الحالية وسابقاتها، البيئية-المائية، بخطر لا مفرّ منه، يتفاقم بالتوازي مع مخاطر أخرى كتردي البنية التحتية الخدمية والتعليم والصحة العامة، وبالتالي، تصبح مهمة المواكبة والإصلاح أصعب كلّما مرّ الوقت.
ببساطة، هناك ضرورة ملحة بتغيير الدفّة العراقية نحو إستراتيجية طوارئ داخلياً وخارجياً، تضمن وجود المياه في العراق، وتتصرف، خارجياً، على أنها أولوية دبلوماسية، وتستغل البيئة والمياه كمورد ثمين لا يمكن استبداله بشيء، وإلا تعرضنا جميعاً للفناء.
* تنشر هذه المادة بالشراكة مع الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية ”نيريج”
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
في الأسبوع الأول من أيار 2023، استضافت بغداد المؤتمر الدولي الثالث للمياه، والذي حمل شعار “شحة المياه، أهوار وادي الرافدين، بيئة شط العرب، مسؤولية الجميع”. كان هدف المؤتمر إيجاد بدائل وحلول ممكنة للتخفيف من آثار تغيّر المناخ، واستدامة بيئة الأهوار والأراضي الرطبة للحفاظ على النظام الايكولوجي والتنوع الإحيائي.
لم يخلُ المؤتمر، بطبيعة الحال، من الكلام الإنشائي مثل “التثقيف ونشر الوعي لكافة مستخدمي المياه والمساهمين لغرض الاستخدام الرشيد لمصادر المياه وتقليل الضائعات”، فضلاً عن “تفعيل التعاون والتنسيق على المستويين الإقليمي والعالمي في مجال إدارة مصادر المياه”.
كان الملفت في كلمة محمد شياع السوداني، رئيس الحكومة العراقية، تركيزه على مسؤولية نظام صدام حسين الاستبدادي في الأزمة المائية غير المسبوقة التي تواجه العراق، “يعتقد الكثير أن مشكلة المياه في العراق ظهرت للوجود بعد سنة 2003، والحقيقة أن هذه الأزمة بدأت تدقّ ناقوس الخطر منذ ثمانينات القرن الماضي، لكن بسبب غياب الشفافية واحتكار المعلومة لم تتم مكاشفة الناس في حقيقة هذا الخطر القادم. كان من بين أهم الأسباب لهذه الأزمة هو السلوك العدائي وعدم تنظيم الوضع المائي مع دول الجوار أيام النظام الديكتاتوري”، قال محمد شياع السوداني.
وفيما كان رئيس الحكومة يبرّئ أسلافه من مسؤولية تفاقم الأزمة المائية في العراق عبر إلقاء اللوم على النظام السابق، هنأ غلام إسحاق زي، نائب الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة والمنسق الشؤون الإنسانية، العراق في كلمته، كونه الدولة الرائدة في المنطقة في الانضمام إلى اتفاقية الأمم المتحدة لحماية واستخدام المجاري المائية العابرة للحدود والبحيرات الدولية.
الانضمام للاتفاقية، برأي الموظف الدولي، يتيح فرصاً جديدة لتعزيز التعاون بشأن المياه العابرة للحدود وتعزيز السياسات والممارسات المائية الوطنية وتعزيز التعاون بين القطاعات ومشاركة الأطراف المعنية.
يحتاج كلام رئيس الحكومة العراقي والموظف الدولي إلى تدقيق من نواحٍ عدّة بما فيها السياق التاريخي للمسائل التي تطرقا لها دون المعرفة بأسباب تأخر العراق في ملف المياه.
تدهور بيئي بفعل فاعل
كان من الممكن أن يُلقي أي رئيس وزراء عراقي اللوم على النظام البائد بعد سقوطه بشهور أو سنوات معدودة، لكنّ السوداني هرب 20 عاماً إلى الوراء، متجنّباً الإشارة للنخبة الحاكمة الجديدة، ملقياً بمسؤولية الحال البيئية كلّها على صدام حسين، الذي لا يمكن إغفال حجم الدمار البيئي الذي تركته حروبه في البلاد، ولا يمكن في الوقت ذاته، التغافل عما آلت إليه مجمل النظم البيئية من التدهور بعد غزو العراق عام 2003، بما في ذلك أزمة المياه الخانقة وعجز الحكومات العراقية المتعاقبة في إيجاد حلول لها.
فخلال 20 سنة لم يضع الحكام الجدد المياه في أولويات إدارتهم السياسات والأمن الغذائي واستقرار المجتمعات، علاوة على تفاقم الفساد وتسليم الملف المائي إلى مسؤولين وإداريين ومفاوضين غير أكفاء.
والحال هذه، ليس مبالغة القول إن التدهور غير المسبوق في النظم البيئية والمائية في العراق حصل بفعل فاعل.
فحين بدأت ملامح الجفاف في العقد الأخير من القرن العشرين، كان نظام صدام في أضعف مراحل وجوده ويحاول جاهداً البقاء بأية وسيلة، فصار ملف البيئة والمياه من هامشيات السياسة الخارجية العراقية. أما داخلياً فتوقفت مشاريع الإصلاح والترميم في شبكات توزيع المياه وأنظمة الصرف الصحي، وذلك جراء الحصار الاقتصادي والأوضاع المزرية التي نجمت عنه.
ولكن ماذا عن النظام الجديد الذي حل بعد عام 2003، وكيف تعاملت الحكومات العراقية مع هذا الملف، وما هي النتائج التي توصل إليها المفاوض العراقي مع كل من تركيا وإيران، وما هي الإصلاحات في البنى التحية خلال 20 عاماً من الحكم؟ من المهم في هذا السياق تذكير رئيس الحكومة والموظف الدولي غلام إسحاق بمحطات مهمة خرجت أرفع الوفود العراقية منها خالية اليدين في مفاوضاتها مع الأتراك والإيرانيين.
دبلوماسية المياه الغائبة
في 15 تشرين الأول 2017، زار وفد عراقي برئاسة حيدر العبادي، رئيس الوزراء الأسبق، تركيا. كانت قضية المياه من بين القضايا المهمة التي حملها معه العبادي إلى تركيا بغية التفاوض بشأنها مع رجب طيب أردوغان، الرئيس التركي. أبلغ الرئيس التركي الوفد العراقي حينها، “لا تذكروا لي تسميات الأمم المتحدة بشأن الأنهار والحقوق المائية الدولية والمفاوضات حول المياه، لا تعترف تركيا بهذه التسميات التي عفا عليها الزمن”. وقد كشف وزير الموارد المائية الأسبق حسن الجنابي ذلك في مؤتمر الأمن الكوكبي بمدينة لاهاي الهولندية في شهر كانون الأول في العام ذاته.
اكتفت الحكومة العراقية، حينئذ، ببيان مقتضب حول اللقاء، “رؤية العراق لمستقبل المنطقة، وتوجهه الجديد في مرحلة ما بعد الانتصار على داعش، وحفظ وحدة العراق وسيادته الوطنية على كامل أراضيه..”، وأخفت بذلك المعلومات ليس عن الرأي العام فحسب، بل حتى عن المؤسسات المختصة بإدارة المياه في البلاد.
يقف كلام أردوغان بالضد من كل الاتفاقيات الدولية، بما في ذلك قانون المياه الدولي (اتفاقية 1997 لاستخدام المجاري المائية الدولية)، والذي لم توقع عليه تركيا. وفي هذا السياق، يجب “إعلام” الموظف الدولي السيد غلام إسحاق بأن العراق يقع في مصب جميع الأنهار الدولية، ولا يغير التزامه بمبادئ الاتفاقية المذكورة شيئاً البتة. تالياً، كان الأجدى به الإشارة إلى ضرورة التزام تركيا بمبادئ الاتفاقية التي تتضمن: أولاً، منع التأثيرات العابرة للحدود ومراقبتها والحد منها. ثانياً، ضمان الاستخدام العادل والمنصف للمياه المشتركة. ثالثاً، التعاون من خلال الاتفاقيات الثنائية أو متعددة الأطراف والهيئات المشتركة.
نهاية عام 2020، زار وفد حكومي آخر تركيا برئاسة مصطفى الكاظمي، رئيس الحكومة السابق. كان من المفترض تخصيص وقت كافٍ لبحث القضايا المتعلقة بالمياه، ولكن اكتفى أردوغان بتنظيم حفل غنائي “هابط” على شرف رئيس الوزراء، وأنهى كل شيء بتصريح مقتصب أشار فيه إلى عدم وجود مشكلات بشأن المياه بين البلدين.
سبق الكاظمي تلك الزيارةَ بشهرين في تشرين الأول 2020 بطرح مشروع سمي بـ”الورقة البيضاء” للإصلاح المالي والاقتصادي في العراق، إنما لم تشر إلى معالجة مشكلات المياه داخلياً سوى في فقرات مقتضبة وخجولة.
في ما يخص الجانب الإيراني، فلا يخفي المسؤولون العراقيون مخاوفهم من صعوبة التوصّل إلى حلول تُجنِّب تعطيش العراق. زار كاتب المقال صيف عام 2012 مهدي رشيد الحمداني، وزير الموارد المائية في مكتبه ببغداد، وسأله عن دبلوماسية المياه مع الجارة إيران. لم يخف المسؤول العراقي التجاهل الإيراني لجميع مطالب العراق المائية، مؤكداً على أن سياسات إيران المائية من جانب وخططه التشغيلية على الأنهر المشتركة من جانب آخر تؤذيان العراق.
المشكلة الرئيسية في ملف المياه، بحسب وزير الموارد المائية السابق، هي أن سلطات إيران المائية لا تزوّد العراق بالبيانات حول كميات إطلاق المياه، ولا عن الكميات الموجودة في الخزانات والمؤسسات التي أنشأتها على روافد نهر سيروان ونهري الكرخة والكارون من دون أخذ رأي الجانب العراقي في الحسبان. ولم ينس المسؤول العراقي في حديثه الإشارة إلى آثار تحويل مجاري حوض نهر سيروان الطبيعية إلى مناطق أخرى في إيران عبر أنفاق مائية اصطناعية، ما يلحق أضراراً كبيرة بالعراق والنظام البيئي للنهر.
السباحة في مياه ملوّثة
يستخدم العراقيون السباحة محل كلمة الاستحمام، وقد تعود جذورها إلى وفرة المياه في تاريخ بلدهم حيث كانوا يلجؤون الى الأنهار والمسطحات المائية العذبة كلما أرادوا الاستحمام؛ لكن أصبح من الصعب السباحة في الأنهار والأحواض المائية اليوم، لأنها ببساطة لم تعد عذبة، فهي ملوثة بالكامل، وتصل الخطورة إلى حدٍ حتى مياه الإسالة لا يستطيع المواطنون الاستحمام بها في الكثير من المدن والمناطق، لأنها ملوثة أيضاً وتسبب أمراضا جلدية متنوعة، ولا يمكن الحديث عن أنها صالحة للشرب في جميع الأحوال.
يأتي هذا كلّه نتيجة تفاقم العوامل الداخلية في إدارة الموارد المائية، والذي لا يقل تأثيراً عن العوامل الخارجية.
إن أسباباً مثل تلوث المياه وزيادة الطلب جراء نمو سكاني هائل والإدارة السيئة لهذا المورد الطبيعي الثمين، تترك آثاراً سلبية كثيرة على النظم البيئية والبشرية في العراق. وبما أن الإدارة الفعالة تعد جوهرية في مواجهة آثار أزمة المناخ وسياسات تركيا وإيران المائية الجائرة، من الضروري تذكير المسؤولين العراقيين بأن جزءاً من الحلول المناسبة للأزمة يكمن في الإدارة المستدامة للموارد الطبيعية -الموارد المائية تحديداً وسبل حمايتها من الهدر والتلوث- ما يتطلب إعادة رسم السياسات المائية بما يتناسب مع المتغيرات السكانية والاقتصادية والمناخية.
وفي السياق، يمكن الإشارة إلى أن المياه الثقيلة غير المعالجة، تعد التحدّي البيئي الأكبر أمام العراق. ففي ظل التوسع العمراني والاكتظاظ السكاني، تعاني جميع المدن العراقية من بنى تحتية قديمة ومتهالكة غير قادرة على استيعاب المخلفات البشرية، ما يدفع البلديات إلى التخلّص من المياه الثقيلة عبر تفريغها في الأنهار والأحواض المائية العذبة، لا سيما في نهر ديالى قرب العاصمة بغداد، وشط العرب في محافظة البصرة جنوبي العراق وجميع الأنهر المتفرعة عن دجلة والفرات جنوبي البلاد. ولا يشكل هذا الواقع البيئي المُزري الذي يتجنب المسؤولون العراقيون الحديث عنه، أخطاراً على المورد المائي وحده، بل على الصحة العامة للمجتمع، ولا سيما المجتمعات المهمشة والمعرضة للاعدالة البيئية.
من ناحية أخرى، تقوم البنى التحتية القديمة داخل المدن بتجميع مياه الأمطار والفيضانات من خلال شبكاتها التقليدية وتصريفها إلى المجاري، أما في خارج المدن فتتمثل وظيفة هذه البنى التحتية القديمة لليوم، بمنع أو حبس مياه الفيضانات في مكانها أو تغيير مجراها من أجل التخلص منها. وهي بمجملها لا تعد حلولاً مستدامة وضامنة لمستقبل البلاد. وتُظهر كلّ موجة مطرية قوية هشاشة هذه البنى التحتية القديمة وعدم قدرتها على الاستجابة.
المسألة السكانية
ونظراً للكثافة السكانية في المدن، خاصة في ظل توقعات ارتفاع عدد سكانها إلى 70 بالمئة بحلول عام 2050، سيتضاعف الطلب على المياه والبنى التحتية والخدمية. بالتالي، فإن أي غياب في الإدارة المستدامة والفَوتَرة والتقنين والعدالة الاجتماعية-البيئية في استخدام الموارد الطبيعية، سيخلق أزمات اقتصادية وصراعات اجتماعية من شأنها إحداث أشكال كثيرة من الفوضى والتصارع من أجل الحصول على المياه.
قصارى القول، إن الطفرة السكانية، التوسع العمراني، تغيّر أنماط الاستهلاك والتلوث، ناهيك عن العوامل المناخية وسياسات دول الجوار، تفاقم، كلها، أزمة المياه وإنتاج الغذاء في العراق، ما يقتضي وضع كل تلك الأسباب في حسبان الخطط البيئية المستدامة غير الموجودة حتى الآن. فحين نفكر بآثار تغيّر المناخ على الأجيال القادمة، علينا التفكير بعدد السكان الذين يأكلون، يتنقلون، يستهلكون الطاقة، يبنون، يشترون، يستخدمون ويهدرون… وكل ما يتعلق بحاجة الإنسان للحياة. وهي بمجملها نشاطات بشرية تتفاعل مع الدوافع الأساسية التي تؤدي إلى نفاد المياه، ما يدفعنا بالتالي إلى إعادة التفكير في المسألة السكانية ومعدلات الخصوبة، حيث يعاني أكثر من 25 في المئة من سكان العراق اليوم من الفقر.
تنذر سياسات الحكومة الحالية وسابقاتها، البيئية-المائية، بخطر لا مفرّ منه، يتفاقم بالتوازي مع مخاطر أخرى كتردي البنية التحتية الخدمية والتعليم والصحة العامة، وبالتالي، تصبح مهمة المواكبة والإصلاح أصعب كلّما مرّ الوقت.
ببساطة، هناك ضرورة ملحة بتغيير الدفّة العراقية نحو إستراتيجية طوارئ داخلياً وخارجياً، تضمن وجود المياه في العراق، وتتصرف، خارجياً، على أنها أولوية دبلوماسية، وتستغل البيئة والمياه كمورد ثمين لا يمكن استبداله بشيء، وإلا تعرضنا جميعاً للفناء.
* تنشر هذه المادة بالشراكة مع الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية ”نيريج”