"ولد ملتصقاً بالباوند وقهر الدولار لعقود": رحلة انهيار الدينار العراقي
12 آذار 2023
ببلوغ عبد الوهاب الثمانين من عمره، كان نظام صدام حسين قد مضت على سقوطه سنوات عدة تغيّر فيها كل شيء: طبعة جديدة من الدينار ظهرت، والحصار الاقتصادي انتهى. وعلى الرغم من أن الراتب التقاعدي قد تغيّر مع تغيُّر العملة، إلا أن حياة عبد الوهاب اليوم كما هي حياة العراقيين في مختلف أرجاء البلاد، مشدودة بتقلبات أسعار الدولار.. الدينار العراقي في رحلة صعوده وهبوطه..
على امتداد شارع الجمهورية وسط بغداد، يتجوّل عبد الوهاب[1] (85 عاماً) بين مدة وأخرى وهو يطوي مقتربات الشارع بخطوات متباطئة بعض الشيء، بعد أن تقدم به العمر وغزا الشيب بقايا الشعر الخفيف على رأسه.
بثوبه الطويل الفضفاض (الدشداشة) والقبعة الصغيرة المعروفة بغدادياً باسم “العرقجين” التي يعتمرها على رأسه، يشيح ببصره يميناً ويساراً، ويتذكر كيف ظل الشارع محافظاً على ما تبقى من ملامحه.
تقع عيناه بين حين وآخر على قطع نقدية وعملات ورقية تتراصف جنباً إلى جنب داخل خزانات زجاجية معروضة أمام المارة على الأرصفة، كدلالة مختصرة على طريق طويل من تقلبات العملة العراقية لقرابة قرن من الزمن.
دينار الثلاثينيات
في ثلاثينيات القرن العشرين، كان العراق قد بدأ بإصدار عملة وطنية خاصة به. ظهر الدينار العراقي للمرة الأولى في التعاملات اليومية أوائل نيسان 1932[2] بعد أن تم سحب الروبية الهندية التي كانت سائدة منذ الاحتلال البريطاني لبغداد عام 1917، ليحل محلها الدينار ونصفه وربعه والدرهم والفلس كقطع نقدية وطنية، مع ارتكاز الدينار العراقي حينها على الجنيه الإسترليني، وصدرت الطبعة الأولى من الدينار حاملة صورة ملك البلاد فيصل الأول.
زواج بـ200 دينار
ما يزال عبد الوهاب يستذكر تلك النسخة القديمة من عقد زواجه الذي جاء بعد عام تقريباً من قيام الجمهورية في البلاد عام 1958، حيث يتوسط شعار الجمهورية تلك النسخة القديمة من العقد، بعد أن توسط أيضاً الطبعة الجديدة من الدينار العراقي بدلاً من صورة الملك فيصل الثاني.
بتلك الذكريات يعود إلى عام 1959 وبدايات حياته الزوجية حين كان يعمل في دباغة الجلود.
“كان راتبي الأسبوعي 60 ديناراً، أي ما يعادل الراتب الشهري لموظف في الدولة!” قال لـ”جمّار”.
عندما تزوج في عهد عبد الكريم قاسم، لم يكلفه زواجه بأكمله أكثر من 200 دينار، حينها كان كل شيء يتم شراؤه بالتقسيط.
لم يكن الكيلوغرام الواحد من اللحم يتجاوز دينارين، أما أكبر خروف في السوق فلم يكلف أكثر من خمسة دنانير.
كثيرون ممن هم من جيل عبد الوهاب يعدون تلك الحقبة وما قبلها “زمن الخير” قياساً بما تبعها في ما بعد.
بحلول منتصف حزيران 1959[3]، خرج الدينار العراقي من ارتباطه الطويل بالجنيه الإسترليني، ليكون سعره الجديد مقارنة بالدولار يقارب ثلاثة دولارات لكل دينار.
رغبة أجنبية بالدينار
يحتفظ عبد الوهاب حتى الآن بالنسخة الأصلية لجواز سفره الصادر في سبعينيات القرن الماضي، تلك الفترة التي كانت تعد ذهبية في تاريخ الدينار العراقي، وهو المعروف في أوساط العراقيين بالدينار “السويسري”، على الرغم من أنه كان يُطبع لدى شركتي “ديلارو” البريطانية و”إكسبورتلس” في الاتحاد السوفيتي السابق.
كثيرة هي الدول الاشتراكية ودول الجوار التي كان عبد الوهاب يستطيع دخولها بسهولة بفضل ذلك الجواز القوي، ويروي بابتسامة كيف أن مواطني تلك الدول كانوا يحاولون بشتى الوسائل أن يبيعوا بضائعهم للعراقيين بالدينار العراقي الذي أصبح بعد عام 1973 يساوي 3.3 دولار أمريكي.
لكن زهو رفاهية السبعينيات لم يدم طويلاً.
يتذكر عبد الوهاب جيداً أين كان يوم لاحت نذر الأزمة المتصاعدة بين العراق وإيران.
“سافرنا إلى سوريا ومنها إلى تركيا. كان ذلك في نيسان 1980، وفوجئنا هناك بسماع نبأ أحداث الجامعة المستنصرية عدنا بسرعة، وبعدها تغير كل شيء”.
بعد أشهر قليلة، اندلعت الحرب العراقية الإيرانية.
صفحة جديدة من حياة العراقيين قد بدأت.
على الرغم من استمراره بالعمل، نظّم عبد الوهاب معاملة إحالة على التقاعد لدى دائرة الضمان الاجتماعي في السنوات الأولى من الحرب بسبب تقادم سنه ولكونه عاملاً في النقابة الخاصة بمهنته.
لكن ذلك لم يعفه من الخدمة في الجيش الشعبي مع دخول الحرب عامها السابع.
في ذلك الوقت، انحدرت قيمة الدينار وهبطت إلى أكثر من 5 بالمئة.
أصفار جديدة
لم يكن لدى عبد الوهاب، وقد تجاوز 50 عاماً من عمره، سوى أن يستمر في عمله الذي ورثه عن أبيه وجده، حيث لم يكن الراتب التقاعدي يسد شيئاً من متطلبات الحياة بعد إنجابه خمس بنات وولدين.
في سنوات الحصار القاسية لم يزد راتبه التقاعدي عن ألف دينار. هنا أضيفت أصفار جديدة إلى العملة المتضخمة.
كان يترك ذلك الراتب الضئيل في دائرة البريد لشهور كي يتراكم لعله يصبح مبلغاً ذا قيمة تبرر أن يتجشم عناء المسير إلى دائرة البريد القريبة من بيته ليقوم بإنفاقه.
في تلك السنوات، دخلت البلاد نفق الحصار المظلم.
تم طبع الدينار محلياً بمواصفات رديئة، وأصبح موشحاً بصورة صدام حسين.
كان ضياء حبيب الخيون، المدير العام السابق لمصرف الرافدين، أكبر مصارف الدولة وأقدمها، حاضراً في الاجتماع الذي تقرر فيه طبع العملة محلياً.
وفقاً لرواية الخيون، جمع صدام حسين كل الخبراء الاقتصاديين في اجتماع حضره حسين كامل وزير التصنيع العسكري آنذاك، وقال لهم “نحن محاصرون من كل جانب، ونحتاج عملة وطنية لدفع الرواتب على الأقل، والدولة هي التي ستطبع العملة بإشراف الفريق حسين كامل”.
“في تلك اللحظة فهمنا جميعاً أن الأمر غير قابل للنقاش، ولم يستطع أحد أن يتكلم، بمن فيهم صبحي فرنكول (محافظ البنك المركزي بين عامي 1989 و1991)، الذي نهره حسين كامل وأمره بالسكوت وعدم الاعتراض، من دون تعليق من الرئيس” قال الخيون.
قمة التدهور
على الرغم من أن مهنة عبد الوهاب كانت تدر له دخلاً معقولاً قياساً بموظفي أغلب قطاعات الدولة، إلا أن ذلك لم يكن متاحاً للجميع.
في شباط 1994، أوفد التلفزيون القطري بعثة إعلامية إلى بغداد لاستطلاع أحوال العراقيين في ذلك الوقت الذي مثل ذروة الحصار الاقتصادي، والذي كان شاهداً حياً على الانحدار الواضح في قيمة العملة العراقية، حيث ذكر التقرير أن متوسط دخل الفرد العراقي حينها لا يتعدى 500 دينار شهرياً في حال كونه موظفاً في الدولة.
ويقول أحد المتحدثين في التقرير “أنا متقاعد راتبي 125 ديناراً. هذا الراتب لا يكفي لوجبة غداء واحدة في مطعم ببغداد. وحاليا أعمل في البيع والشراء لكي أستطيع العيش”.
بقال في سوق الشورجة، الذي يعد سوق التبضع المركزي في بغداد، يسرد تفاصيل الاختلاف الواضح في الأسعار قبل وبعد الحصار “اليشماغ والعقال قبل الحصار كان سعره 11 ديناراً والآن 3000 دينار. حذاء سعره 13 ديناراً أصبح الآن 700 دينار”.
ببلوغ عبد الوهاب الثمانين من عمره، كان نظام صدام حسين قد مضت على سقوطه سنوات عدة تغيّر فيها كل شيء. طبعة جديدة من الدينار ظهرت في البلاد، ولم يعد هناك حصار اقتصادي، وعلى الرغم من أن الراتب التقاعدي قد تغيَّر مع تغيُّر العملة، إلا أن حياة عبد الوهاب اليوم كما هي حياة العراقيين في مختلف أرجاء البلاد، مشدودة بتقلبات أسعار الدولار التي يتقلب معها سعر المواد الغذائية والمعيشية الأساسية.
تعرَّض الدينار الى تغيُّرات حادة ومتسارعة منذ كانون الاول 2020، بعد قرار الحكومة آنذاك اللجوء الى تخفيض قيمة العملة المحلية أمام الدولار من 1182 إلى 1460 ديناراً لكل دولار بهدف توفير مبالغ تمكنها من دفع رواتب الموظفين، رغم ان ذلك القرار أدى الى تخفيض قيمة تلك الرواتب بشكل فوري، لكنه أدى ايضاً إلى ارتفاع حاد في الأسعار.
قيمة الدينار لم تُرضِ عبد الوهاب وأقرانه من الموظفين والمتقاعدين، رغم ذلك، فإن الدينار تعرّض إلى هزّة مجدداً عام 2022 بوصول سعره الى أكثر من 1700 دينار لكل دولار.
راقب الجميع بذهول قيمة الدينار وهي تسارع لحرق نفسها، وإذكاء نار الاسعار لكل متطلبات الحياة الاساسية.
أعادت حكومة محمد شياع السوداني تقييم الدينار مجدداً، وقررت رفع سعره الرسمي إلى 132 ألفا لكل دولار. لكن التفاوت بين السعرين الرسمي والسوق الموازي بقي عالياً.
قد لا يكون لدى عبد الوهاب الكثير ليراه في المستقبل، بحسب قوله، لكن المؤكد أنه والكثيرين من جيله قد عاصروا حقباً متوالية شهدت تقلبات حادة بين ذروة الصعود أحياناً وذروة الهبوط أحياناً أخرى.
والمؤكد أيضاً، أن تلك العملات التي تتراصف داخل الخزانات الزجاجية وتعرض للهواة، كانت جزءاً من حياة عبد الوهاب وأقرانه في أزمان ماضية، وأصبحت هي وهم جزءاً من التاريخ.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
مدارس مُهجَّرة: لماذا لن ينتهي "الدوام المزدوج" و"الاكتظاظ" في العراق؟
10 ديسمبر 2024
الهيدروجين الأزرق والشمس.. عن بدائل النفط "الممكنة" في العراق
07 ديسمبر 2024
الأشجار والدولار على المحكّ في سنجار
03 ديسمبر 2024
الصيادون يبيعون "الآرو".. الوجه القاسي للتغيُّر المناخي على سكان الأهوار
28 نوفمبر 2024
على امتداد شارع الجمهورية وسط بغداد، يتجوّل عبد الوهاب[1] (85 عاماً) بين مدة وأخرى وهو يطوي مقتربات الشارع بخطوات متباطئة بعض الشيء، بعد أن تقدم به العمر وغزا الشيب بقايا الشعر الخفيف على رأسه.
بثوبه الطويل الفضفاض (الدشداشة) والقبعة الصغيرة المعروفة بغدادياً باسم “العرقجين” التي يعتمرها على رأسه، يشيح ببصره يميناً ويساراً، ويتذكر كيف ظل الشارع محافظاً على ما تبقى من ملامحه.
تقع عيناه بين حين وآخر على قطع نقدية وعملات ورقية تتراصف جنباً إلى جنب داخل خزانات زجاجية معروضة أمام المارة على الأرصفة، كدلالة مختصرة على طريق طويل من تقلبات العملة العراقية لقرابة قرن من الزمن.
دينار الثلاثينيات
في ثلاثينيات القرن العشرين، كان العراق قد بدأ بإصدار عملة وطنية خاصة به. ظهر الدينار العراقي للمرة الأولى في التعاملات اليومية أوائل نيسان 1932[2] بعد أن تم سحب الروبية الهندية التي كانت سائدة منذ الاحتلال البريطاني لبغداد عام 1917، ليحل محلها الدينار ونصفه وربعه والدرهم والفلس كقطع نقدية وطنية، مع ارتكاز الدينار العراقي حينها على الجنيه الإسترليني، وصدرت الطبعة الأولى من الدينار حاملة صورة ملك البلاد فيصل الأول.
زواج بـ200 دينار
ما يزال عبد الوهاب يستذكر تلك النسخة القديمة من عقد زواجه الذي جاء بعد عام تقريباً من قيام الجمهورية في البلاد عام 1958، حيث يتوسط شعار الجمهورية تلك النسخة القديمة من العقد، بعد أن توسط أيضاً الطبعة الجديدة من الدينار العراقي بدلاً من صورة الملك فيصل الثاني.
بتلك الذكريات يعود إلى عام 1959 وبدايات حياته الزوجية حين كان يعمل في دباغة الجلود.
“كان راتبي الأسبوعي 60 ديناراً، أي ما يعادل الراتب الشهري لموظف في الدولة!” قال لـ”جمّار”.
عندما تزوج في عهد عبد الكريم قاسم، لم يكلفه زواجه بأكمله أكثر من 200 دينار، حينها كان كل شيء يتم شراؤه بالتقسيط.
لم يكن الكيلوغرام الواحد من اللحم يتجاوز دينارين، أما أكبر خروف في السوق فلم يكلف أكثر من خمسة دنانير.
كثيرون ممن هم من جيل عبد الوهاب يعدون تلك الحقبة وما قبلها “زمن الخير” قياساً بما تبعها في ما بعد.
بحلول منتصف حزيران 1959[3]، خرج الدينار العراقي من ارتباطه الطويل بالجنيه الإسترليني، ليكون سعره الجديد مقارنة بالدولار يقارب ثلاثة دولارات لكل دينار.
رغبة أجنبية بالدينار
يحتفظ عبد الوهاب حتى الآن بالنسخة الأصلية لجواز سفره الصادر في سبعينيات القرن الماضي، تلك الفترة التي كانت تعد ذهبية في تاريخ الدينار العراقي، وهو المعروف في أوساط العراقيين بالدينار “السويسري”، على الرغم من أنه كان يُطبع لدى شركتي “ديلارو” البريطانية و”إكسبورتلس” في الاتحاد السوفيتي السابق.
كثيرة هي الدول الاشتراكية ودول الجوار التي كان عبد الوهاب يستطيع دخولها بسهولة بفضل ذلك الجواز القوي، ويروي بابتسامة كيف أن مواطني تلك الدول كانوا يحاولون بشتى الوسائل أن يبيعوا بضائعهم للعراقيين بالدينار العراقي الذي أصبح بعد عام 1973 يساوي 3.3 دولار أمريكي.
لكن زهو رفاهية السبعينيات لم يدم طويلاً.
يتذكر عبد الوهاب جيداً أين كان يوم لاحت نذر الأزمة المتصاعدة بين العراق وإيران.
“سافرنا إلى سوريا ومنها إلى تركيا. كان ذلك في نيسان 1980، وفوجئنا هناك بسماع نبأ أحداث الجامعة المستنصرية عدنا بسرعة، وبعدها تغير كل شيء”.
بعد أشهر قليلة، اندلعت الحرب العراقية الإيرانية.
صفحة جديدة من حياة العراقيين قد بدأت.
على الرغم من استمراره بالعمل، نظّم عبد الوهاب معاملة إحالة على التقاعد لدى دائرة الضمان الاجتماعي في السنوات الأولى من الحرب بسبب تقادم سنه ولكونه عاملاً في النقابة الخاصة بمهنته.
لكن ذلك لم يعفه من الخدمة في الجيش الشعبي مع دخول الحرب عامها السابع.
في ذلك الوقت، انحدرت قيمة الدينار وهبطت إلى أكثر من 5 بالمئة.
أصفار جديدة
لم يكن لدى عبد الوهاب، وقد تجاوز 50 عاماً من عمره، سوى أن يستمر في عمله الذي ورثه عن أبيه وجده، حيث لم يكن الراتب التقاعدي يسد شيئاً من متطلبات الحياة بعد إنجابه خمس بنات وولدين.
في سنوات الحصار القاسية لم يزد راتبه التقاعدي عن ألف دينار. هنا أضيفت أصفار جديدة إلى العملة المتضخمة.
كان يترك ذلك الراتب الضئيل في دائرة البريد لشهور كي يتراكم لعله يصبح مبلغاً ذا قيمة تبرر أن يتجشم عناء المسير إلى دائرة البريد القريبة من بيته ليقوم بإنفاقه.
في تلك السنوات، دخلت البلاد نفق الحصار المظلم.
تم طبع الدينار محلياً بمواصفات رديئة، وأصبح موشحاً بصورة صدام حسين.
كان ضياء حبيب الخيون، المدير العام السابق لمصرف الرافدين، أكبر مصارف الدولة وأقدمها، حاضراً في الاجتماع الذي تقرر فيه طبع العملة محلياً.
وفقاً لرواية الخيون، جمع صدام حسين كل الخبراء الاقتصاديين في اجتماع حضره حسين كامل وزير التصنيع العسكري آنذاك، وقال لهم “نحن محاصرون من كل جانب، ونحتاج عملة وطنية لدفع الرواتب على الأقل، والدولة هي التي ستطبع العملة بإشراف الفريق حسين كامل”.
“في تلك اللحظة فهمنا جميعاً أن الأمر غير قابل للنقاش، ولم يستطع أحد أن يتكلم، بمن فيهم صبحي فرنكول (محافظ البنك المركزي بين عامي 1989 و1991)، الذي نهره حسين كامل وأمره بالسكوت وعدم الاعتراض، من دون تعليق من الرئيس” قال الخيون.
قمة التدهور
على الرغم من أن مهنة عبد الوهاب كانت تدر له دخلاً معقولاً قياساً بموظفي أغلب قطاعات الدولة، إلا أن ذلك لم يكن متاحاً للجميع.
في شباط 1994، أوفد التلفزيون القطري بعثة إعلامية إلى بغداد لاستطلاع أحوال العراقيين في ذلك الوقت الذي مثل ذروة الحصار الاقتصادي، والذي كان شاهداً حياً على الانحدار الواضح في قيمة العملة العراقية، حيث ذكر التقرير أن متوسط دخل الفرد العراقي حينها لا يتعدى 500 دينار شهرياً في حال كونه موظفاً في الدولة.
ويقول أحد المتحدثين في التقرير “أنا متقاعد راتبي 125 ديناراً. هذا الراتب لا يكفي لوجبة غداء واحدة في مطعم ببغداد. وحاليا أعمل في البيع والشراء لكي أستطيع العيش”.
بقال في سوق الشورجة، الذي يعد سوق التبضع المركزي في بغداد، يسرد تفاصيل الاختلاف الواضح في الأسعار قبل وبعد الحصار “اليشماغ والعقال قبل الحصار كان سعره 11 ديناراً والآن 3000 دينار. حذاء سعره 13 ديناراً أصبح الآن 700 دينار”.
ببلوغ عبد الوهاب الثمانين من عمره، كان نظام صدام حسين قد مضت على سقوطه سنوات عدة تغيّر فيها كل شيء. طبعة جديدة من الدينار ظهرت في البلاد، ولم يعد هناك حصار اقتصادي، وعلى الرغم من أن الراتب التقاعدي قد تغيَّر مع تغيُّر العملة، إلا أن حياة عبد الوهاب اليوم كما هي حياة العراقيين في مختلف أرجاء البلاد، مشدودة بتقلبات أسعار الدولار التي يتقلب معها سعر المواد الغذائية والمعيشية الأساسية.
تعرَّض الدينار الى تغيُّرات حادة ومتسارعة منذ كانون الاول 2020، بعد قرار الحكومة آنذاك اللجوء الى تخفيض قيمة العملة المحلية أمام الدولار من 1182 إلى 1460 ديناراً لكل دولار بهدف توفير مبالغ تمكنها من دفع رواتب الموظفين، رغم ان ذلك القرار أدى الى تخفيض قيمة تلك الرواتب بشكل فوري، لكنه أدى ايضاً إلى ارتفاع حاد في الأسعار.
قيمة الدينار لم تُرضِ عبد الوهاب وأقرانه من الموظفين والمتقاعدين، رغم ذلك، فإن الدينار تعرّض إلى هزّة مجدداً عام 2022 بوصول سعره الى أكثر من 1700 دينار لكل دولار.
راقب الجميع بذهول قيمة الدينار وهي تسارع لحرق نفسها، وإذكاء نار الاسعار لكل متطلبات الحياة الاساسية.
أعادت حكومة محمد شياع السوداني تقييم الدينار مجدداً، وقررت رفع سعره الرسمي إلى 132 ألفا لكل دولار. لكن التفاوت بين السعرين الرسمي والسوق الموازي بقي عالياً.
قد لا يكون لدى عبد الوهاب الكثير ليراه في المستقبل، بحسب قوله، لكن المؤكد أنه والكثيرين من جيله قد عاصروا حقباً متوالية شهدت تقلبات حادة بين ذروة الصعود أحياناً وذروة الهبوط أحياناً أخرى.
والمؤكد أيضاً، أن تلك العملات التي تتراصف داخل الخزانات الزجاجية وتعرض للهواة، كانت جزءاً من حياة عبد الوهاب وأقرانه في أزمان ماضية، وأصبحت هي وهم جزءاً من التاريخ.