خزن وحرق المخدّرات: مراهقون وشكّ بـ"تسرُّب" وإشعال مُلوِّث

شهد موسى

07 مارس 2023

ما الذي يحصل للمخدّرات بعد مصادرتها؟ وكيف تُخزن في أماكن غير آمنة؟ وهل تسرّبت المخدرات المضبوطة إلى السوق مجدداً؟ كيف تجري عملية إتلاف المخدرات؟ هل هناك أيّ خطر بيئي على الناس بسبب عملية الإتلاف؟ ماذا يفعل مراهقان في مخازن الطب العدليّ للمخدرات... مخالفات عديدة يرتكبها العراق في عملية خزن وحرق المخدرات..

قافلة من اثنتي عشرة شاحنة اصطفت في طابور غير معتاد أمام مبنى الطب العدلي ضمن محيط أكبر مدينة استشفاء في بغداد، عند ضُحى الثامن عشر من كانون الأول ٢٠٢٢.

برّادات متنقلة تحت حراسة مُشددة، وعشرات من طواقم الصحة والقضاء والأمن والصحافة، لنقل أكبر ضبطيات مواد مُخدّرة ظلت تتراكم على مدى ١٢ عاماً، إلى محارق بدائية في النهروان، وعلى مرمى حجرٍ من مجمع بسماية السكني. 

أكدت وزارة الصحة، وغالبيّة المؤسسات المشاركة في عملية حرق المُخدّرات، أن المخدرات أتلفت وفقاً لأدق المواصفات العلمية والفنية، بينما الصورة ميدانياً كانت مليئة بالأدخنة السوداء الكثيفة المنبعثة عن حفائر إحراق غير نظامية لا يُمكن ان تستوعب تلك الأطنان. 

وزارة البيئة لم تكن ضمن شراكة الإتلاف غير النظيف. 

الشاحنات التي انطلقت من وسط بغداد حتى أطرافها الجنوبية البعيدة حيث بلدة النهروان، استغرقت ساعات لنقل نحو ستة أطنانٍ الى ميدان رماية للجيش العراقي داخل ثكنة بسماية العسكرية.

الصور والفيديوهات التي وزعتها الوكالات الحكومية كتوثيق لعملية “الحرق التاريخية”، احتوت أدلة على عدم دقة الإجراءات الحكومية، وكشفت عن مخالفة بروتوكولات السلامة والأمان، فضلاً عن مشاركة قاصرين -لم يتسنّ لـ”جُمار” معرفة هويتهم- ضمن طواقم النقل والتفريغ. 

مخدرات بـ”الحفظ والصون”

ضمن مجمع مدينة الطب، حيث دائرة الطب العدلي ومخازنها، خُزّنت أطنان من المخدرات ضبطتها أجهزة الأمن منذ عام ٢٠٠٩. 

أطنان مخدرات غير محصنة، موضوعة في مخازن متهالكة، وتحت رقابة ضعيفة. 

دائرة الطب العدلي التابعة لوزارة الصحة، هي الجهة الحكومية الوحيدة المسؤولة عن حفظ وتخزين واتلاف المواد المُخدرة المضبوطة في عموم البلاد. وبسبب السوق النشطة لتجارة المخدرات في العراق، تسويقاً وترويجاً وتهريباً، ظلت القدرات التخزينية للدائرة المعنية أيضاً بحفظ الأموات، أقل بكثير من استيعاب المضبوطات الواردة اليها. 

نتيجة لذلك، اضطرت إلى استخدام بناية مُختبراتها القديمة كمخازن. 

“المبنى غير مؤهل، ولا يتوافر على وسائل حماية كافية للمواد المضبوطة الخطرة”، بحسب تقرير لديوان الرقابة المالية. 

راقب الديوان – وهو أرفع مؤسسة رقابية وطنية تضمن سلامة العمل والاستقرار المالي والإداري في هياكل الدولة – على مدى ثلاثة أعوامٍ (٢٠١٤ – ٢٠١٧) سياسة وزارة الصّحة في مكافحة المخدرات وعلاج الإدمان، مُستنتجاً وجود قصور كبير في مفاصل مختلفة في الوزارة تجعل المخدرات تزداد انتشاراً. 

خلال العامين الماضيين كثّفت اجهزة الأمن عملياتها ضد المروجين والمهربين والمتعاطين، مُلقية القبض على مئاتٍ ممن ينشطون ضمن شبكات الاتجار، غير إن كبار المُهربين ورؤوس الشبكات ظلوا خارج الصورة وكأنّهم أشباح.

القاضي صهيب دحام، رئيس لجنة إتلاف المخدرات – رئيس محكمة استئناف الرصافة ايضاً- انتقد تحويل مبنى المُختبرات الى مخزن، “بناية قديمة متهالكة وآيلة للسقوط مُشيدة منذ العام ١٩٤١، ولا تصلح ابداً كمكان لتخزين مواد شديدة الخطورة مثل المخدرات”.  

ولأن أغلب المواد المُخدّرة المضبوطة، تعد عقاقير طبية مزدوجة الاستخدام، وحفظها يتطلب المعايير المرّعية في تخزين المواد الصيدلانية ذاتها، لذا فأن “الغرف التي خزنت فيها المُخدرات بائسة وسيئة للغاية ودون تهوية وغير محصنة”، بحسب مصطفى الهيتي، نقيب الصيادلة.

لا تملك دائرة الطب العدلي في مبناها الرئيس سوى غرفتين صغيرتين مُحصنتين لخزن المواد شديدة الخطورة.    

قال موظف في الطب العدلي، رفض الإشارة الى اسمه، إن “المخازن غير مؤمنة، وليس هناك حرس كاف لحمايتها، وأبوابها غير مُحكمة، وجدرانها مُرتفعة وتغطيها سقوف من صفائح حديدية”. 

عدم تحصين مواقع التخزين بشكل كاف، طرح تساؤلات عما إذا تسربت مواد مُخدرة من المخازن الى الأسواق.

نفى العقيد بلال صبحي، مسؤول إعلام مديرية مكافحة المخدرات في وزارة الداخلية ذلك، “لم تؤشر لدينا أي حالة متاجرة او ترويج لمواد مخدرة تم ضبطها من قبل الشرطة”.

مخزن الطب العدلي في بغداد / مصدر الصورة: وزارة الصحة

وعلى كل حال، فإن مسؤولية السلامة الأمنية للمواد المُخزّنة ملقاة على عاتق دائرة الطب العدلي، “توزن المخدرات التي يتم ضبطها بشكل دقيق بميزان الكتروني تحت اشراف قاضي التحقيق، قبل إرسالها الى الطب العدلي، ولا يتم ارجاعها الى وزارة الداخلية”، وفق مديرية مكافحة المخدرات.

بحسب قانون المخدرات والمؤثرات العقلية، ثمة لجنة مختصة لـ”المتابعة والإشراف على ضبط وحفظ وخزن وإتلاف المواد المخدرة والمؤثرات العقلية والسلائف الكيميائية التي تم الحكم بمصادرتها”، تتألف من قاض صنف أول، وممثلين عن الأمانة العامة لمجلس الوزراء، وزارة الداخلية، وزارة المالية، المديرية العامة للجمارك، وزارة الصحة، فضلاً عن الهيئة الوطنية العليا لمكافحة المخدرات. 

محرقة الطب العدلي

تمتلك دائرة الطب العدلي محرقة وحيدة بسعة ٦٤٠ كغم/ ساعة، قديمة وتعمل بوقود النفط شُيدت عام ١٩٨٠، ما يضطّر العاملين إلى وضع المواد المُخدرة فيها يدوياً. وبالنتيجة تنفث مداخنها ملوثات سامة في أجواء مدينة الطب – أكبر مجمعات العراق الطبيّة – ومنها تنتقل الى سماء العاصمة المكتظة بالبشر.  

يُحتم قانون المخدرات والمؤثرات العقلية المُشرع في ٢٠١٧، على دائرة الطب العدلي، إحراق المواد المُخدرة كطريقة ناجعة لإتلافها. لكن المحرقة نظراً لتقادمها، وصغر طاقتها الاستيعابية كانت تحرق كميات أصغر في كل مرة.

“لا يُمكن للمحرقة مجاراة ضبطيات المخدرات الكبيرة المتكدسة”، قال مسؤول في دائرة الطب العدلي رفض الإشارة الى اسمه لـ”جُمار”.

عدم كفاءة المحرقة، بوصفها “غير مؤهلة” وفقاً لمستشار وزارة الصحة عماد عبد الرزاق، ترك اكواماً من المخدرات تتكدس على مدار سنين، لافتقار الوزارة والطب العدلي الى أماكن تخزين بمواصفات فنية مطابقة لبرتوكولات منظمة الصحة العالمية، وأنظمة تحكم عملية الاتلاف، في ظل بيروقراطية حكومية لم تستوعب خطورة “حفظ” ستة أطنان من المخدرات.   

“سنحتاج الى 200 عام لإتلاف الكمية لو استخدمنا محرقة الطب العدلي”، وفقاً للهيتي. 

مدخل دائرة الطب العدلي – بغداد

مجلس القضاء الأعلى، اقترح آلية سريعة للإتلاف، عبر اختصار الاجراءات القضائية في محرقة الطب العدلي مستقبلاً حال إصدار امر قضائي لتفادي التكدس. 

“كل مادة مُخدرة يتم ضبطها (…) وهي مواد متنوعة ومن مصادر متعددة ولا تقتصر على محافظة بعينها، تخضع الى سلسلة إجراءات تنتهي بإصدار تقرير من الطب العدلي، يثبت أنها مادة مخدرة (…) يشترط قانون المخدرات خزنها في الطب العدلي، لذا صار كل هذا التراكم”، شرح القاضي دحام. 

من التكدّس الى الإحراق 

المسؤولون الرسميون، الصحيون منهم والقضائيون، تواترت تصريحاتهم عن حجم الكمية المُتلفة، على انها “٥,٩ أطنان من مُخدّرات لم يُشر الى طبيعتها، و٦١ مليون حبّة مُخدرة من بينها خمسة ملايين حبّة كبتاغون، ٣١ ألف أمبولة، وتسعة آلاف قنينة من عقاقير مزدوجة الاستخدام كمؤثرات عقلية، فضلاً عن ٣٥٠ كيلوغراماً من الكوكايين”، وهذه الضبطيات هي نتاج أكثر من ١٥ ألف دعوى قضائية. 

استغرقت عملية تحميل وشحن وتفريغ المُخدّرات “نحو ثماني ساعات بدءاً من منتصف النهار”، وفقاً للقاضي دحام، الذي أكد أن “عملية الإتلاف انتهت عند الساعة الخامسة عصراً”.

العملية لم تستغرق سوى ٥-٦ ساعات فقط، نقلاً وتفريغاً وحرقاً وردماً لنحو ستة أطنان من مواد مخدرة.  

أكدت سامية النعيمي، الاكاديمية المختصة بالتقنيات الاحيائية في جامعة النهرين إن “عملية الحرق تتطلب عادة من ستة الى 15 ساعة وربما أكثر، حسب نوع المادة المُخدّرة”.

لذا ثمة شكوك وأدلة تضرب الرواية الحكومية بمقتل. 

بناءً على تحليل الأدلة الصورية والفيديوية التي تَحَصّلت عليها “جُمار”، وحسابات رياضية أجرتها، فأن الكمية المُتلفة بدت أقل بمرّات من الأرقام الرسمية المُعلنة. 

بالغ المسؤولون في تهويل حجم “الإنجاز التاريخي”، فيما افردت القناة التلفزيونية الرسمية تغطية خاصة للحدث..

سبع حفرٍ اتلفت فيها “الأطنان المزعومة” وطُمرت بعدها، دون علامات تدل على طبيعة الحفائر وخطورة الاقتراب منها او نبشها. 

سيف البدر، متحدث وزارة الصحة، شدّد على أن “آراء المختصين الفنيين أجمعت على أن يتم حرقها في هذا الموقع”. 

اختيار الموقع، كان بتوصية من الدائرة الفنية لوزارة الصحة بالاتفاق مع الهيئة الوطنية العليا لمكافحة المخدرات وبموافقة وزارة الدفاع، فيما لم تُستشر وزارة البيئة، بوصفها المرجعية البيئية التي تضمن سلامة إجراءات الاتلاف والاضرار الناتجة عنه.

مخالفات فنية وبيئية

وفق وزارة الصحة، فأن عملية إتلاف المخدرات حرقاً في مكان مفتوح لا تتسبب باي ضررٍ أو عارض صحي على السكان.

الهيتي، نقيب الصيادلة، عضّد رأي الوزارة، بوصفه أحد الفنيين الذين تمت استشارتهم، بأن “حرق المخدرات هو الأسلوب الاصح دون ترك آثار جانبية”، وإن القرار الحكومي، اتخذ بناء على “تجربتنا بحرق نماذج صغيرة اولاً، وبعد فحصها تبين أنها اتلفت بشكل كامل”. 

شدد البدر، المتحدث باسم وزارة الصحة، على أن المواد المُخدّرة التي اتلفت حرقاً في ميدان الرماية المفتوح، “عولجت بمواد كيميائية مخصصة لهذا الغرض تجعلها تفقد فاعليتها قبل عملية الحرق”، وعليه “لا توجد مخاطر او آثار من الروائح المنبعثة من الاحتراق”. 

غير أن الصور والفيديوهات التي وثقت العملية، أظهرت ان عملية الاتلاف لم تتضمن معالجة المواد المُخدرة بأية وسائل كيميائية سبقت عملية الحرق، حيث كُدست اكوام المخدرات في حفر غير عميقة، ثم رشت سطحياً بوقود سريع الاشتعال، كأية نفايات. 

حفر الاحراق متقاربة جداً خلافاً لبرتوكول الاحراق

دافع نقيب الصيادلة عن عملية الحرق، “ليس بالضرورة انه لازم امشي على النظام العالمي، اللي إذا مشيت على اساسه قد يسبب لي أضرار أكبر، فلذلك كانت الحاجة ام الاختراع انو نمشي بهذه الطريقة”.

الحكومة وصفت العملية بـ”النموذجية” ومخطط لها بدقة. فيما الوقائع الميدانية دلّت على أنها كانت مُرتجلة ودون تخطيط، حتّى أن حفر الحرق حفرت على مسافات قريبة من بعضها البعض، وعلى عجالة لحظة وصول الشاحنات. وبخلاف المعايير التي تنص على حفرها على شكل أخاديد عميقة مع مسارات للتهوية تُؤمّن وصول الاوكسجين اللازم لإتمام عملية احتراق كاملة، كانت حفائر عشوائية وبعمق غير كاف. 

“عملية الحرق لم تتم في مكان واحد وانما في عدة اماكن تم حفرها، وبمسافات متباعدة جداً، والحُفَر أنجزت بدقة، بما يؤكد بنسبة ١٠٠٪ أن الاتلاف كان طبيعياً ولا يؤثر على المناطق القريبة”. علق. 

قاصرون يحملون المخدرات

خلال عملية تحميل المواد المُخدّرة، وفقاً للصور التي وزّعت حكومياً، لوحظت مشاركة اثنين من القاصرين في نقل المواد الخطرة. ولم تتمكن “جُمار” بشكل مُستقل من معرفة هويتهما. لكنهما ايضاً رافقا القافلة الى موقع الإحراق وشاركا فيه دون تقيّد بشروط السلامة والأمان، وبخلاف التعليمات الرسمية والبرتوكولات الدولية التي تُحرّم مشاركة او استخدام قاصرين في هكذا اعمال. 

ظهر أحد القاصرين في فيديو مستقل وهو يقوم بتفريغ المواد المُخدّرة الى حفرة الاحراق بوجود مسؤولين صحيين وقضائيين، ويبدو أن أياً منهم لم يعترض على تواجدهم.

قاصران يظهران أثناء نقل المخدرات من المخازن إلى السيارات / مصدر الصورة: وزارة الصحة

اضرار مُحتملة

تحذر سامية النعيمي، مختصة التقنيات الاحيائية في جامعة النهرين، من الطريقة التقليدية التي تتبعها الحكومة في عملية اتلاف المخدرات حرقاً. 

“الطريقة ليست صحيحة، والأفضل ان تتم في أفران ومحارق كهربائية خاصة وبمواصفات عالية، مجهزة بفلاتر تنقية تسهم في خفض عملية انتشار الغازات والانبعاثات السامة بعد الحرق”، وتضيف النعيمي، “يجب ان تكون بمناطق خاصة وضمن محددات بيئية صارمة (…) هكذا تتلف الدول المتقدمة المخدرات”.

النعيمي تُشدد على أن “عملية الحرق يجب أن تستمر من ستة الى 15 ساعة حسب نوع المادة”، في حفائر حرق مُجهزة بعناية على أن “تكون عميقة وبعيدة عن المحيط العمراني حتى لا يتأثر بالأبخرة والأدخنة والغازات السامة والخطرة والملوثة للبيئة وتحتوي على محدّدات صحية مؤثرة على البشر”. 

وتشترط النعيمي بعملية الحرق أن “تصل الى ما فوق ألف درجة مئوية، حتى تصل المواد المخدرة الى درجة الانصهار التام وبالتالي تتفتت، ثم تردم الحفر بشكل جيد، وألا تكون عرضة للنبش أو ظروف التعرية والتجريف”.

إتلاف المخدرات في معسكر بسماية، له أضرار، نتيجة عدم التقيّد حتى بالحد الأدنى من الشروط الفنية للمحارق المفتوحة، التي أشارت لها النعيمي، فضلاً عن حيدر معتز، الباحث بالدراسات النانوبايولوجية والفايروسات البيئية في وزارة النفط. 

“إحراق أطنان من المخدرات خلال يوم واحد، له تأثير بيئي كبير، فثمة سحابة دخانية سوداء اللون تتشكل أثناء الحرق، تنتشر مع سرعة الرياح، وتسبب تلوثاً في الهواء بنسب كبيرة بحسب نوع الاطنان المُتلفة، والسحابة السُمية من الممكن أن تصل الى مسافات بعيدة حسب سرعة الرياح في يوم الحرق”. يشرح معتز الاضرار. 

حفائر الحرق لم تُطمر – كما بيّنت الصور والفيديوهات – وفقاً لمواصفات فنية تضمن سلامة عدم اضرارها بالتربة او تعريتها مستقبلاً بفعل الظروف الجوية او تجريفها. دفن مخلفات حرق المخدرات عند مستوى قريب من سطح الأرض، وفقاً لمعتز، يسبب “مشكلات بيئية مستقبلية كبيرة تؤثر على الحياة في المنطقة (…) لذا يجب رفع أثر الحرق، والتأكد من سلامة الموقع أمنياً باستمرار بوصفه موقعاً شديد التلوث”.

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويب؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

قافلة من اثنتي عشرة شاحنة اصطفت في طابور غير معتاد أمام مبنى الطب العدلي ضمن محيط أكبر مدينة استشفاء في بغداد، عند ضُحى الثامن عشر من كانون الأول ٢٠٢٢.

برّادات متنقلة تحت حراسة مُشددة، وعشرات من طواقم الصحة والقضاء والأمن والصحافة، لنقل أكبر ضبطيات مواد مُخدّرة ظلت تتراكم على مدى ١٢ عاماً، إلى محارق بدائية في النهروان، وعلى مرمى حجرٍ من مجمع بسماية السكني. 

أكدت وزارة الصحة، وغالبيّة المؤسسات المشاركة في عملية حرق المُخدّرات، أن المخدرات أتلفت وفقاً لأدق المواصفات العلمية والفنية، بينما الصورة ميدانياً كانت مليئة بالأدخنة السوداء الكثيفة المنبعثة عن حفائر إحراق غير نظامية لا يُمكن ان تستوعب تلك الأطنان. 

وزارة البيئة لم تكن ضمن شراكة الإتلاف غير النظيف. 

الشاحنات التي انطلقت من وسط بغداد حتى أطرافها الجنوبية البعيدة حيث بلدة النهروان، استغرقت ساعات لنقل نحو ستة أطنانٍ الى ميدان رماية للجيش العراقي داخل ثكنة بسماية العسكرية.

الصور والفيديوهات التي وزعتها الوكالات الحكومية كتوثيق لعملية “الحرق التاريخية”، احتوت أدلة على عدم دقة الإجراءات الحكومية، وكشفت عن مخالفة بروتوكولات السلامة والأمان، فضلاً عن مشاركة قاصرين -لم يتسنّ لـ”جُمار” معرفة هويتهم- ضمن طواقم النقل والتفريغ. 

مخدرات بـ”الحفظ والصون”

ضمن مجمع مدينة الطب، حيث دائرة الطب العدلي ومخازنها، خُزّنت أطنان من المخدرات ضبطتها أجهزة الأمن منذ عام ٢٠٠٩. 

أطنان مخدرات غير محصنة، موضوعة في مخازن متهالكة، وتحت رقابة ضعيفة. 

دائرة الطب العدلي التابعة لوزارة الصحة، هي الجهة الحكومية الوحيدة المسؤولة عن حفظ وتخزين واتلاف المواد المُخدرة المضبوطة في عموم البلاد. وبسبب السوق النشطة لتجارة المخدرات في العراق، تسويقاً وترويجاً وتهريباً، ظلت القدرات التخزينية للدائرة المعنية أيضاً بحفظ الأموات، أقل بكثير من استيعاب المضبوطات الواردة اليها. 

نتيجة لذلك، اضطرت إلى استخدام بناية مُختبراتها القديمة كمخازن. 

“المبنى غير مؤهل، ولا يتوافر على وسائل حماية كافية للمواد المضبوطة الخطرة”، بحسب تقرير لديوان الرقابة المالية. 

راقب الديوان – وهو أرفع مؤسسة رقابية وطنية تضمن سلامة العمل والاستقرار المالي والإداري في هياكل الدولة – على مدى ثلاثة أعوامٍ (٢٠١٤ – ٢٠١٧) سياسة وزارة الصّحة في مكافحة المخدرات وعلاج الإدمان، مُستنتجاً وجود قصور كبير في مفاصل مختلفة في الوزارة تجعل المخدرات تزداد انتشاراً. 

خلال العامين الماضيين كثّفت اجهزة الأمن عملياتها ضد المروجين والمهربين والمتعاطين، مُلقية القبض على مئاتٍ ممن ينشطون ضمن شبكات الاتجار، غير إن كبار المُهربين ورؤوس الشبكات ظلوا خارج الصورة وكأنّهم أشباح.

القاضي صهيب دحام، رئيس لجنة إتلاف المخدرات – رئيس محكمة استئناف الرصافة ايضاً- انتقد تحويل مبنى المُختبرات الى مخزن، “بناية قديمة متهالكة وآيلة للسقوط مُشيدة منذ العام ١٩٤١، ولا تصلح ابداً كمكان لتخزين مواد شديدة الخطورة مثل المخدرات”.  

ولأن أغلب المواد المُخدّرة المضبوطة، تعد عقاقير طبية مزدوجة الاستخدام، وحفظها يتطلب المعايير المرّعية في تخزين المواد الصيدلانية ذاتها، لذا فأن “الغرف التي خزنت فيها المُخدرات بائسة وسيئة للغاية ودون تهوية وغير محصنة”، بحسب مصطفى الهيتي، نقيب الصيادلة.

لا تملك دائرة الطب العدلي في مبناها الرئيس سوى غرفتين صغيرتين مُحصنتين لخزن المواد شديدة الخطورة.    

قال موظف في الطب العدلي، رفض الإشارة الى اسمه، إن “المخازن غير مؤمنة، وليس هناك حرس كاف لحمايتها، وأبوابها غير مُحكمة، وجدرانها مُرتفعة وتغطيها سقوف من صفائح حديدية”. 

عدم تحصين مواقع التخزين بشكل كاف، طرح تساؤلات عما إذا تسربت مواد مُخدرة من المخازن الى الأسواق.

نفى العقيد بلال صبحي، مسؤول إعلام مديرية مكافحة المخدرات في وزارة الداخلية ذلك، “لم تؤشر لدينا أي حالة متاجرة او ترويج لمواد مخدرة تم ضبطها من قبل الشرطة”.

مخزن الطب العدلي في بغداد / مصدر الصورة: وزارة الصحة

وعلى كل حال، فإن مسؤولية السلامة الأمنية للمواد المُخزّنة ملقاة على عاتق دائرة الطب العدلي، “توزن المخدرات التي يتم ضبطها بشكل دقيق بميزان الكتروني تحت اشراف قاضي التحقيق، قبل إرسالها الى الطب العدلي، ولا يتم ارجاعها الى وزارة الداخلية”، وفق مديرية مكافحة المخدرات.

بحسب قانون المخدرات والمؤثرات العقلية، ثمة لجنة مختصة لـ”المتابعة والإشراف على ضبط وحفظ وخزن وإتلاف المواد المخدرة والمؤثرات العقلية والسلائف الكيميائية التي تم الحكم بمصادرتها”، تتألف من قاض صنف أول، وممثلين عن الأمانة العامة لمجلس الوزراء، وزارة الداخلية، وزارة المالية، المديرية العامة للجمارك، وزارة الصحة، فضلاً عن الهيئة الوطنية العليا لمكافحة المخدرات. 

محرقة الطب العدلي

تمتلك دائرة الطب العدلي محرقة وحيدة بسعة ٦٤٠ كغم/ ساعة، قديمة وتعمل بوقود النفط شُيدت عام ١٩٨٠، ما يضطّر العاملين إلى وضع المواد المُخدرة فيها يدوياً. وبالنتيجة تنفث مداخنها ملوثات سامة في أجواء مدينة الطب – أكبر مجمعات العراق الطبيّة – ومنها تنتقل الى سماء العاصمة المكتظة بالبشر.  

يُحتم قانون المخدرات والمؤثرات العقلية المُشرع في ٢٠١٧، على دائرة الطب العدلي، إحراق المواد المُخدرة كطريقة ناجعة لإتلافها. لكن المحرقة نظراً لتقادمها، وصغر طاقتها الاستيعابية كانت تحرق كميات أصغر في كل مرة.

“لا يُمكن للمحرقة مجاراة ضبطيات المخدرات الكبيرة المتكدسة”، قال مسؤول في دائرة الطب العدلي رفض الإشارة الى اسمه لـ”جُمار”.

عدم كفاءة المحرقة، بوصفها “غير مؤهلة” وفقاً لمستشار وزارة الصحة عماد عبد الرزاق، ترك اكواماً من المخدرات تتكدس على مدار سنين، لافتقار الوزارة والطب العدلي الى أماكن تخزين بمواصفات فنية مطابقة لبرتوكولات منظمة الصحة العالمية، وأنظمة تحكم عملية الاتلاف، في ظل بيروقراطية حكومية لم تستوعب خطورة “حفظ” ستة أطنان من المخدرات.   

“سنحتاج الى 200 عام لإتلاف الكمية لو استخدمنا محرقة الطب العدلي”، وفقاً للهيتي. 

مدخل دائرة الطب العدلي – بغداد

مجلس القضاء الأعلى، اقترح آلية سريعة للإتلاف، عبر اختصار الاجراءات القضائية في محرقة الطب العدلي مستقبلاً حال إصدار امر قضائي لتفادي التكدس. 

“كل مادة مُخدرة يتم ضبطها (…) وهي مواد متنوعة ومن مصادر متعددة ولا تقتصر على محافظة بعينها، تخضع الى سلسلة إجراءات تنتهي بإصدار تقرير من الطب العدلي، يثبت أنها مادة مخدرة (…) يشترط قانون المخدرات خزنها في الطب العدلي، لذا صار كل هذا التراكم”، شرح القاضي دحام. 

من التكدّس الى الإحراق 

المسؤولون الرسميون، الصحيون منهم والقضائيون، تواترت تصريحاتهم عن حجم الكمية المُتلفة، على انها “٥,٩ أطنان من مُخدّرات لم يُشر الى طبيعتها، و٦١ مليون حبّة مُخدرة من بينها خمسة ملايين حبّة كبتاغون، ٣١ ألف أمبولة، وتسعة آلاف قنينة من عقاقير مزدوجة الاستخدام كمؤثرات عقلية، فضلاً عن ٣٥٠ كيلوغراماً من الكوكايين”، وهذه الضبطيات هي نتاج أكثر من ١٥ ألف دعوى قضائية. 

استغرقت عملية تحميل وشحن وتفريغ المُخدّرات “نحو ثماني ساعات بدءاً من منتصف النهار”، وفقاً للقاضي دحام، الذي أكد أن “عملية الإتلاف انتهت عند الساعة الخامسة عصراً”.

العملية لم تستغرق سوى ٥-٦ ساعات فقط، نقلاً وتفريغاً وحرقاً وردماً لنحو ستة أطنان من مواد مخدرة.  

أكدت سامية النعيمي، الاكاديمية المختصة بالتقنيات الاحيائية في جامعة النهرين إن “عملية الحرق تتطلب عادة من ستة الى 15 ساعة وربما أكثر، حسب نوع المادة المُخدّرة”.

لذا ثمة شكوك وأدلة تضرب الرواية الحكومية بمقتل. 

بناءً على تحليل الأدلة الصورية والفيديوية التي تَحَصّلت عليها “جُمار”، وحسابات رياضية أجرتها، فأن الكمية المُتلفة بدت أقل بمرّات من الأرقام الرسمية المُعلنة. 

بالغ المسؤولون في تهويل حجم “الإنجاز التاريخي”، فيما افردت القناة التلفزيونية الرسمية تغطية خاصة للحدث..

سبع حفرٍ اتلفت فيها “الأطنان المزعومة” وطُمرت بعدها، دون علامات تدل على طبيعة الحفائر وخطورة الاقتراب منها او نبشها. 

سيف البدر، متحدث وزارة الصحة، شدّد على أن “آراء المختصين الفنيين أجمعت على أن يتم حرقها في هذا الموقع”. 

اختيار الموقع، كان بتوصية من الدائرة الفنية لوزارة الصحة بالاتفاق مع الهيئة الوطنية العليا لمكافحة المخدرات وبموافقة وزارة الدفاع، فيما لم تُستشر وزارة البيئة، بوصفها المرجعية البيئية التي تضمن سلامة إجراءات الاتلاف والاضرار الناتجة عنه.

مخالفات فنية وبيئية

وفق وزارة الصحة، فأن عملية إتلاف المخدرات حرقاً في مكان مفتوح لا تتسبب باي ضررٍ أو عارض صحي على السكان.

الهيتي، نقيب الصيادلة، عضّد رأي الوزارة، بوصفه أحد الفنيين الذين تمت استشارتهم، بأن “حرق المخدرات هو الأسلوب الاصح دون ترك آثار جانبية”، وإن القرار الحكومي، اتخذ بناء على “تجربتنا بحرق نماذج صغيرة اولاً، وبعد فحصها تبين أنها اتلفت بشكل كامل”. 

شدد البدر، المتحدث باسم وزارة الصحة، على أن المواد المُخدّرة التي اتلفت حرقاً في ميدان الرماية المفتوح، “عولجت بمواد كيميائية مخصصة لهذا الغرض تجعلها تفقد فاعليتها قبل عملية الحرق”، وعليه “لا توجد مخاطر او آثار من الروائح المنبعثة من الاحتراق”. 

غير أن الصور والفيديوهات التي وثقت العملية، أظهرت ان عملية الاتلاف لم تتضمن معالجة المواد المُخدرة بأية وسائل كيميائية سبقت عملية الحرق، حيث كُدست اكوام المخدرات في حفر غير عميقة، ثم رشت سطحياً بوقود سريع الاشتعال، كأية نفايات. 

حفر الاحراق متقاربة جداً خلافاً لبرتوكول الاحراق

دافع نقيب الصيادلة عن عملية الحرق، “ليس بالضرورة انه لازم امشي على النظام العالمي، اللي إذا مشيت على اساسه قد يسبب لي أضرار أكبر، فلذلك كانت الحاجة ام الاختراع انو نمشي بهذه الطريقة”.

الحكومة وصفت العملية بـ”النموذجية” ومخطط لها بدقة. فيما الوقائع الميدانية دلّت على أنها كانت مُرتجلة ودون تخطيط، حتّى أن حفر الحرق حفرت على مسافات قريبة من بعضها البعض، وعلى عجالة لحظة وصول الشاحنات. وبخلاف المعايير التي تنص على حفرها على شكل أخاديد عميقة مع مسارات للتهوية تُؤمّن وصول الاوكسجين اللازم لإتمام عملية احتراق كاملة، كانت حفائر عشوائية وبعمق غير كاف. 

“عملية الحرق لم تتم في مكان واحد وانما في عدة اماكن تم حفرها، وبمسافات متباعدة جداً، والحُفَر أنجزت بدقة، بما يؤكد بنسبة ١٠٠٪ أن الاتلاف كان طبيعياً ولا يؤثر على المناطق القريبة”. علق. 

قاصرون يحملون المخدرات

خلال عملية تحميل المواد المُخدّرة، وفقاً للصور التي وزّعت حكومياً، لوحظت مشاركة اثنين من القاصرين في نقل المواد الخطرة. ولم تتمكن “جُمار” بشكل مُستقل من معرفة هويتهما. لكنهما ايضاً رافقا القافلة الى موقع الإحراق وشاركا فيه دون تقيّد بشروط السلامة والأمان، وبخلاف التعليمات الرسمية والبرتوكولات الدولية التي تُحرّم مشاركة او استخدام قاصرين في هكذا اعمال. 

ظهر أحد القاصرين في فيديو مستقل وهو يقوم بتفريغ المواد المُخدّرة الى حفرة الاحراق بوجود مسؤولين صحيين وقضائيين، ويبدو أن أياً منهم لم يعترض على تواجدهم.

قاصران يظهران أثناء نقل المخدرات من المخازن إلى السيارات / مصدر الصورة: وزارة الصحة

اضرار مُحتملة

تحذر سامية النعيمي، مختصة التقنيات الاحيائية في جامعة النهرين، من الطريقة التقليدية التي تتبعها الحكومة في عملية اتلاف المخدرات حرقاً. 

“الطريقة ليست صحيحة، والأفضل ان تتم في أفران ومحارق كهربائية خاصة وبمواصفات عالية، مجهزة بفلاتر تنقية تسهم في خفض عملية انتشار الغازات والانبعاثات السامة بعد الحرق”، وتضيف النعيمي، “يجب ان تكون بمناطق خاصة وضمن محددات بيئية صارمة (…) هكذا تتلف الدول المتقدمة المخدرات”.

النعيمي تُشدد على أن “عملية الحرق يجب أن تستمر من ستة الى 15 ساعة حسب نوع المادة”، في حفائر حرق مُجهزة بعناية على أن “تكون عميقة وبعيدة عن المحيط العمراني حتى لا يتأثر بالأبخرة والأدخنة والغازات السامة والخطرة والملوثة للبيئة وتحتوي على محدّدات صحية مؤثرة على البشر”. 

وتشترط النعيمي بعملية الحرق أن “تصل الى ما فوق ألف درجة مئوية، حتى تصل المواد المخدرة الى درجة الانصهار التام وبالتالي تتفتت، ثم تردم الحفر بشكل جيد، وألا تكون عرضة للنبش أو ظروف التعرية والتجريف”.

إتلاف المخدرات في معسكر بسماية، له أضرار، نتيجة عدم التقيّد حتى بالحد الأدنى من الشروط الفنية للمحارق المفتوحة، التي أشارت لها النعيمي، فضلاً عن حيدر معتز، الباحث بالدراسات النانوبايولوجية والفايروسات البيئية في وزارة النفط. 

“إحراق أطنان من المخدرات خلال يوم واحد، له تأثير بيئي كبير، فثمة سحابة دخانية سوداء اللون تتشكل أثناء الحرق، تنتشر مع سرعة الرياح، وتسبب تلوثاً في الهواء بنسب كبيرة بحسب نوع الاطنان المُتلفة، والسحابة السُمية من الممكن أن تصل الى مسافات بعيدة حسب سرعة الرياح في يوم الحرق”. يشرح معتز الاضرار. 

حفائر الحرق لم تُطمر – كما بيّنت الصور والفيديوهات – وفقاً لمواصفات فنية تضمن سلامة عدم اضرارها بالتربة او تعريتها مستقبلاً بفعل الظروف الجوية او تجريفها. دفن مخلفات حرق المخدرات عند مستوى قريب من سطح الأرض، وفقاً لمعتز، يسبب “مشكلات بيئية مستقبلية كبيرة تؤثر على الحياة في المنطقة (…) لذا يجب رفع أثر الحرق، والتأكد من سلامة الموقع أمنياً باستمرار بوصفه موقعاً شديد التلوث”.