"احذر.. البناية التي تتواجد فيها قد تنهار"

حسن الناصري

14 كانون الأول 2022

وقف حسين البهادلي أربعة أيام أمام أكوام من الأنقاض والحجارة. ذرف الدموع مرة، وجلس على أحد الأرصفة مرة أخرى، وحفر بيديه أحياناً علّه يصل إلى زوجته وابنته اللتين غمرتا بردم مبنى المختبر الوطني الذي انهار في تشرين الأول الماضي.. قصّة البهادلي قد تتكرر بوجود آلاف البنايات الآيلة للسقوط في مدن العراق..

أكوام من الأنقاض والحجارة، وقف حسين البهادلي أمامها أربعة أيام متتالية مشدوهاً لا يدري ماذا يفعل. يذرف الدموع مرة، ويجلس على أحد الأرصفة مرة أخرى، ويحفر بيديه أحياناً علّه يصل إلى دفينتين ملأتا حياته حزناً قد لا يجف على الإطلاق.

ذهب حسين في مشوار قريب قبل أن تحل الكارثة، وعندما أدرك ما حدث هرع عائداً إلى المكان، لكن الأوان قد فات، ولم تعد بيده حيلة.

لقد دفنت زوجته وطفلته تحت أنقاض مبنى المختبر الوطني وسط بغداد.

في الأول من تشرين الأول 2022، انهار المبنى الواقع في شارع سلمان فائق بالقرب من ساحة الواثق ضمن منطقة الكرادة وسط بغداد بشكل مفاجئ فوق 17 شخصا كانوا بداخله.

عندما انهار المبنى، اضطر حسين، الشاب المفجوع الذي يعيش في أطراف مدينة الصدر شرقي بغداد، إلى انتظار فرق الدفاع المدني أكثر من نصف ساعة، لإنقاذ طفلته زوجته.

الفرق عزت لاحقاً سبب تأخرها إلى القطوعات والزحامات في شوارع بغداد.

وما بين أنقاض المبنى وأثاثه المتناثر هنا وهناك، ظل حسين يبحث بيديه المجردتين عن طفلته وزوجته، قبل أن تنجح فرق الدفاع المدني، في اليوم الرابع من الانهيار، بإخراجهما من تحت الأنقاض ووضع جثمانيهما في كيسين أسودين مخصصين لنقل الجثث إلى دوائر الطب العدلي.

“خرجت من المختبر لشراء بعض الطعام لطفلتي وزوجتي المصابة بالسرطان، وما أن عدت واقتربت من الشارع المؤدي للمختبر، حتى وجدت المبنى تحول إلى ركام”، قال حسين.

كان والده برفقتهما، غير أن فرق الدفاع المدني انتشلته حياً من بين الأنقاض.

ليس الوجع الأول

لم يكن انهيار مبنى مختبر التحليلات الذي تسبب بمصرع وجرح 17 شخصاً أول الأوجاع التي اكتوى بها العراقيون، فقد سبقه حادث مماثل وقع في ما يعرف بـ”مزار قطارة الإمام علي” الواقع غربي محافظة كربلاء في 20 آب 2022، مخلفاً وراءه سبعة أشخاص جميعهم قضوا تحت الأنقاض.

في حادث آخر، لقي 4 أشخاص حتفهم وجرح 8 آخرون على الأقل، بينهم عمال أجانب، إثر انهيار مبنى مطعم دجاج ليلى في الكرادة وسط بغداد في أيار 2022.

قبل ذلك، شهد العراق أيضاً حادثتي انهيار عبّارتين سياحتين، الأولى في الموصل في آذار 2019وتسببت بمقتل أكثر من مئة شخص، والثانية في بغداد عام 2013 وعرفت باسم حادثة “المطعم اللبناني“، والتي قتل فيها أكثر من خمسة أشخاص.

بالإضافة إلى ذلك، يُسجّل العراق حرائق مستمرة تؤدي إلى مقتل العديد من الناس وانهيار المباني نتيجة لعدم تطبيق إجراءات السلامة. 

رحلة البحث عن المباني المنهارة

أشّرت مديرية الدفاع المدني العامة وجود 2517 بناية آيلة أو مهددة بالسقوط في عموم البلاد جراء تشققات ومخالفات هندسية وغيرها من الأسباب.

تستلزم جميع تلك المباني تحركاً عاجلاً من الحكومة، بحسب المسؤولين في المديرية.

أقامت مديرية الدفاع المدني خلال العام 2022 فقط، 2500 دعوى قضائية ضد أصحاب مبان تجارية وسكنية مخالفة لتعليمات السلامة الواردة في قانون الدفاع المدني رقم 44 لسنة 2013.

“تتضمن التعليمات وجوب الكشف والتأكد من تحقيق شروط السلامة مرتين في كل عام” قال نواس شاكر المنسق الإعلامي لمديرية الدفاع المدني العامة.

وبموجب بنود القانون، يحق للدفاع المدني إقامة دعوى جزائية ضد المخالفين وتغريمهم مالياً بمبالغ تبدأ من 250 مليون دينار.

تنص شروط السلامة في الأبنية على ضرورة وجود مطافئ للحريق وسلم طوارئ ولوحات الدلالة الإرشادية وتوفير متحسسات ومنظومة كهرباء.

هذه كلها غير متوفرة في مئات المباني المشيدة مؤخراً، ومنها مبنى المختبر الوطني.

قوانين مهجورة

زارت فرق الدفاع المدني مبنى المختبر الوطني مطلع عام 2020، وأخبرت المستثمر بأنه مخالف لشروط السلامة.

في حزيران 2020 عادت تلك الفرق لفحص المبنى مرة أخرى.

“إلا أن المستثمر رفض السماح لفرق الدفاع بدخوله. انهياره كان فجائياً وهو من أسوأ الانهيارات” قال شاكر.

ثمة مبان في مناطق الكاظمية والشيخ عمر والفضل والشورجة والكرادة والمنصور والحارثية ببغداد، سجلتها مديرية الدفاع المدني على أنها آيلة للسقوط، وطالبت الجهات المتخصصة بضرورة إخلائها من ساكنيها، لتفادي وقوع كارثة مشابهة لما حصل في الكرادة.

قبل مدة وجيزة أغلقت المديرية عمارة الجادرجي الشهيرة في منطقة المنصور غربي بغداد بعد ملاحظة وجود تشققات ومؤشرات انهيار وزحف للتربة فيها.

لكن تلك التحركات قد لا تبدو كافية.

يطالب مسؤولو الدفاع المدني بتعديل قانون عمل مديريتهم وتشديد العقوبة على المخالفين لأنظمة السلامة والتشييد لتصل إلى إغلاق المبنى المخالف للتعليمات، لحين تحقيق متطلبات السلامة.

بموجب القانون رقم 16 لسنة 2002، تخضع الموافقة على إنشاء المباني السكنية والتجارية متعددة الطوابق في بغداد والمحافظات الأخرى لجملة من الإجراءات الاحترازية الطويلة.

واشترط قانون 49 الخاص بارتدادات وارتفاعات المباني حصول مالك الأرض على إجازة البناء، بعد تقديم مخططات معمارية متكاملة (مخططات أفقية ومقاطع وواجهات معمارية) صادرة عن مكتب هندسي معماري مسجل لدى نقابة المهندسين العراقيين.

ووفقاً لتعليمات القانون النافذ، فإن تشييد العمارات السكنية يستلزم توفير ارتداد أمامي بطول خمسة أمتار عن الشارع الرئيس وثلاثة أمتار عن الشارع الفرعي أو الخلفي، مشترطاً أن لا تقل نسبة البناء لكل طابق عن 75 بالمئة من مساحة القطعة، وأن لا تقل مساحة الشقة السكنية في المبنى عن 75 متراً مربعاً.

كما حدد القانون عدد الطوابق بالكثافة البنيانية للقطعة بخمسة طوابق في مساحة الأرض في حال كانت القطعة تقع على شارع بعرض 20-40 متراً، وبناء 6 طوابق في حال كانت القطعة تقع على شارع بعرض أكثر من 40 متراً، وثلاثة طوابق في حال وقعت القطعة على شارع أقل من 20 متراً.

يشترط القانون أيضاً توفير مصعد كهربائي وسلم هروب اضطراري إذا كان المبنى مؤلفاً من 4 طوابق أو أكثر، ومراعاة متطلبات السلامة ضد مخاطر الاحتراق، بالإضافة إلى توفير مرآب لوقوف السيارات وملجأ، بحسب ما ورد في بيان إنشاء الملاجئ رقم 1 لسنة 1992 الصادر عن مديرية الدفاع المدني.

هذه الاشتراطات والالتزامات الواجبة التطبيق لم تعد سوى حبر على ورق.

“أضحى كثير من أصحاب العقارات والمستثمرين يحصلون على إجازات البناء مقابل رشاوى تدفع لموظفين فاسدين” قال المهندس المدني عدي سالم.

“أغلب المباني السكنية والتجارية المشيدة بعد عام 2003 لا تتوفر فيها معايير البناء، ولذلك وقعت حوادث حرائق وانهيارات كثيرة” أضاف لنا.

يخّمن سالم، الذي يُراقب مشاريع البناء الحديثة، أن جلّ المباني السكنية والتجارية في بغداد بنيت بعد 2003 من دون الحصول على إجازة بناء أصولية، فضلاً عن وجود تلاعب في أعداد الطوابق يمارسه أصحاب العقارات الذين يتقدمون للحصول على إجازات للبناء مقابل رشاوى تقدم للجان البلدية.

بناء بلا مهندسين

قال المهندس المعماري علي المولى إن “أخطاء البناء التي يرتكبها أصحاب العقارات، تبدأ من إحالة البناء إلى مقاول عديم الخبرة، وصولاً إلى عدم وجود استشاري ومهندس مدني ومعماري في موقع العمل، وليس انتهاء بعدم وجود جهة رقابية من الدوائر البلدية أو نقابة المهندسين”.

وأوضح المولى أن “ضوابط بناء المباني متعددة الطوابق، لا يمكن أن تتم إلا من خلال تقديم دارسة حول التربة ومدى تحملها، وتحديد التصاميم عبر مهندس استشاري متخصص، إلى غير ذلك من التقارير الاستشارية والهندسية”.

كان المولى، بحكم عمله، شاهداً على طلبات مستثمرين تخالف شروط البناء.

لا ينفي مصدر مطلع في ديوان الرقابة المالية وجود رشاوى تمنح لبعض الموظفين في دوائر البلدية من أجل منح بعض المستثمرين أو أصحاب الأراضي إجازات بناء.

هذه الإجازات ستمكنهم من تشييد مبان خارج المواصفات الهندسية المحددة في القوانين.

قال المصدر إن “لجان الديوان سجلت العديد من الملاحظات حول وجود تشققات أو انحرافات في الخرسانة الكونكريتية للمبنى في عشرات المشاريع الحكومية والاستثمارية، ورداءة المواد الإنشائية المستخدمة في عمليات البناء، لكن لا يمكننا ممارسة الدور ذاته في المشاريع العمرانية في القطاع الخاص”.

ووثقت اللجنة الخاصة بقسم تقويم الأداء المتخصص في ديوان الرقابة المالية، أضراراً في الإنشاءات المدنية لقسم من الأبنية الخاصة في 14 مستشفى حكومياً بسبب قدمها، ما يعني عدم جدوى تأهيلها وانتهاء العمر التصميمي لها، وما يزيد احتمالية انهيارها.

كما سجلت اللجنة خروقات إنشائية في 35 مستشفى تمثلت في عدم استحصال موافقات الدفاع المدني بخصوص الإضافات الإنشائية على التصاميم الأساسية للمستشفيات، والتي نصت عليها المادة 33 من قانون الدفاع المدني رقم 44 لسنة 2013، كما لاحظت إضافة 70 بالمئة من المستشفيات العديد من الأبنية وتوسعتها بشكل لا يراعي متطلبات السلامة والأمان.

ووفقاً لتقارير اللجنة المتخصصة، فإن العديد من مستشفيات بغداد ما تزال تستخدم السقوف الثانوية المصنوعة من مادة البلاستك، والتي تعد إحدى مسببات الحرائق الخطيرة، كما وثقت 34 من المستشفيات أنشأت العديد من الأبنية الإضافية بواسطة الـ”سندويج بنل” سريع الاشتعال، فضلا عن عدم استحصال شهادات فحص هندسي للمصاعد في جميع المستشفيات، وعدم توفر متطلبات السلامة والأمان في تلك المستشفيات، على الرغم من تحذيرات الدفاع المدني من خطورتها وضرورة إزالتها.

استخفاف بالمعايير

ما تزال الإجراءات الحكومية، على الرغم من فداحة الخسائر البشرية والمادية، شبع منعدمة حيال المباني المخالفة لشروط السلامة وإجازة البناء.

“العراقي أصبح غير آمن على حياته نتيجة التجاوز على التصميم والتخطيط العمراني من حيث الهندسة الإنشائية” قالت مها الجنابي عضو لجنة الخدمات والإعمار في البرلمان.

تقترح الجنابي تشكيل لجان استشارية لفحص جميع المباني التي شيدت خلال السنوات الأخيرة، ولاسيما تلك التي سجلت عليها مخالفات كثيرة في التصاميم الأساسية.

ترمي المشرّعة باللائمة على “تفشي الفساد في مؤسسات الدولة” الذي أسهم في التغاضي عن معايير جودة البناء ومخالفات التصميم والتنفيذ وعمليات الغش في المواد الإنشائية المستخدمة في البناء.

“غالبية المباني التي يجري تنفيذها في البلاد تتم عبر شركات مقاولات غير متخصصة في العمارة، فيما يبحث أصحاب الأملاك عن الربح السريع وتقليل المصروفات والنتيجة على حساب جودة العمل ونوعيته” أضافت الجنابي.

كثيرا ما يتم الاستخفاف بمعايير السلامة في البناء والقطاعات الأخرى في العراق، وإلقاء اللوم على الفساد المستشري وضعف الرقابة الحكومية لافتقار المباني لمعايير السلامة المناسبة ومخالفة التصاميم في العديد من أحياء بغداد، لكن واقع الحال يقول إن العديد من المواد الأولية الداخلة في البناء هي فاشلة مختبرياً ولا تخضع لجهاز التقييس والسيطرة النوعية، والشروط الهندسية الواجب توفرها.

يحذر مدير شركة “أرض البناء” للمقاولات والأعمال الهندسية فراس حامد من انهيار بنايات حديثة الإنشاء خلال السنوات المقبلة، بسبب التصاميم الخاطئة والتنفيذ الرديء “للدخلاء على مهنة المهندس المدني”.

ويدعو حامد إلى إعادة تقييم لجميع المباني خارج الضوابط الهندسية بواسطة لجنة من وزارة الإعمار والإسكان ونقابة المهندسين ومكتب استشاري رصين لتلافي تكرار حادثة مختبر الكرادة مستقبلاً.

الحكومة مصرّة: كل شيء بخير

أمانة بغداد ترفض الاتهامات الموجهة لها بشأن تشييد المباني من دون إشراف حكومي مناسب وتفشي الفساد وسوء الإدارة في دوائرها.

“إجازات البناء تمنح وفق ضوابط وقانون رقم 16 لسنة 2002 المعدل ‏وقانون 49 الخاص بارتدادات وارتفاعات المباني، وعلى الرغم من قدم تلك القوانين إلا أنها صارمة في منح الإجازات” قال محمد الربيعي المتحدث باسم الأمانة.

الربيعي الذي ينفي شيوع الرشاوى والمحسوبية في أوساط دوائر الأمانة، يشير إلى أن “أقسام الإجازات والرخص الموجودة في دوائر البلدية، لا تمنح الموافقات القانونية للبناء من دون تقديم التصاميم والخرائط من قبل صاحب العقار، وعبر مكتب استشاري هندسي، لتتم المصادقة على الخرائط إذا كانت مطابقة لتصاميم المكتب الاستشاري غير الحكومي”، نافيا “منح موافقات البناء لمخططات لا تتضمن سلم طوارئ ومتطلبات السلامة ورأي لجان الدفاع المدني”.

لكن شاكر يرد بأن “رأي الدفاع المدني أصبح غير مهم، ويتم تشييد المباني من دون مصادقة أو رخصة المديرية”.

وبعدما تفشت ظاهرة الفساد الإداري والمالي في مؤسسات الدولة بعد العام 2003، دفعت كارثة انهيار المختبر الوطني أمانة بغداد إلى تشكيل لجان لإحصاء المباني متعددة الطوابق التي لم تحصل على إجازة رسمية، من أجل تغريمها مالياً وإحالة مالكها إلى القضاء، بحسب الربيعي.

في بغداد، شيدت قرابة 320 عمارة سكنية وتجارية بشكل أصولي منذ العام 2008 ولغاية العام 2020، بحسب مؤشرات جهاز الإحصاء المركزي، فيما تشير تقديرات المتخصصين إلى بناء قرابة 970 مبنى متعدد الطوابق خلافاً لشروط التشييد والإجازة.

على مدار الأعوام الماضية، راقبت المعمارية بسمة حسن البنايات الجديدة التي تنتشر في بغداد.

تحذر حسن من انهيار عشرات المباني خلال السنوات القليلة المقبلة في بغداد، ملقية باللائمة على “الفاسدين في الدوائر المعنية بمتابعة أنظمة وقوانين التشييد والبناء”.

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

أكوام من الأنقاض والحجارة، وقف حسين البهادلي أمامها أربعة أيام متتالية مشدوهاً لا يدري ماذا يفعل. يذرف الدموع مرة، ويجلس على أحد الأرصفة مرة أخرى، ويحفر بيديه أحياناً علّه يصل إلى دفينتين ملأتا حياته حزناً قد لا يجف على الإطلاق.

ذهب حسين في مشوار قريب قبل أن تحل الكارثة، وعندما أدرك ما حدث هرع عائداً إلى المكان، لكن الأوان قد فات، ولم تعد بيده حيلة.

لقد دفنت زوجته وطفلته تحت أنقاض مبنى المختبر الوطني وسط بغداد.

في الأول من تشرين الأول 2022، انهار المبنى الواقع في شارع سلمان فائق بالقرب من ساحة الواثق ضمن منطقة الكرادة وسط بغداد بشكل مفاجئ فوق 17 شخصا كانوا بداخله.

عندما انهار المبنى، اضطر حسين، الشاب المفجوع الذي يعيش في أطراف مدينة الصدر شرقي بغداد، إلى انتظار فرق الدفاع المدني أكثر من نصف ساعة، لإنقاذ طفلته زوجته.

الفرق عزت لاحقاً سبب تأخرها إلى القطوعات والزحامات في شوارع بغداد.

وما بين أنقاض المبنى وأثاثه المتناثر هنا وهناك، ظل حسين يبحث بيديه المجردتين عن طفلته وزوجته، قبل أن تنجح فرق الدفاع المدني، في اليوم الرابع من الانهيار، بإخراجهما من تحت الأنقاض ووضع جثمانيهما في كيسين أسودين مخصصين لنقل الجثث إلى دوائر الطب العدلي.

“خرجت من المختبر لشراء بعض الطعام لطفلتي وزوجتي المصابة بالسرطان، وما أن عدت واقتربت من الشارع المؤدي للمختبر، حتى وجدت المبنى تحول إلى ركام”، قال حسين.

كان والده برفقتهما، غير أن فرق الدفاع المدني انتشلته حياً من بين الأنقاض.

ليس الوجع الأول

لم يكن انهيار مبنى مختبر التحليلات الذي تسبب بمصرع وجرح 17 شخصاً أول الأوجاع التي اكتوى بها العراقيون، فقد سبقه حادث مماثل وقع في ما يعرف بـ”مزار قطارة الإمام علي” الواقع غربي محافظة كربلاء في 20 آب 2022، مخلفاً وراءه سبعة أشخاص جميعهم قضوا تحت الأنقاض.

في حادث آخر، لقي 4 أشخاص حتفهم وجرح 8 آخرون على الأقل، بينهم عمال أجانب، إثر انهيار مبنى مطعم دجاج ليلى في الكرادة وسط بغداد في أيار 2022.

قبل ذلك، شهد العراق أيضاً حادثتي انهيار عبّارتين سياحتين، الأولى في الموصل في آذار 2019وتسببت بمقتل أكثر من مئة شخص، والثانية في بغداد عام 2013 وعرفت باسم حادثة “المطعم اللبناني“، والتي قتل فيها أكثر من خمسة أشخاص.

بالإضافة إلى ذلك، يُسجّل العراق حرائق مستمرة تؤدي إلى مقتل العديد من الناس وانهيار المباني نتيجة لعدم تطبيق إجراءات السلامة. 

رحلة البحث عن المباني المنهارة

أشّرت مديرية الدفاع المدني العامة وجود 2517 بناية آيلة أو مهددة بالسقوط في عموم البلاد جراء تشققات ومخالفات هندسية وغيرها من الأسباب.

تستلزم جميع تلك المباني تحركاً عاجلاً من الحكومة، بحسب المسؤولين في المديرية.

أقامت مديرية الدفاع المدني خلال العام 2022 فقط، 2500 دعوى قضائية ضد أصحاب مبان تجارية وسكنية مخالفة لتعليمات السلامة الواردة في قانون الدفاع المدني رقم 44 لسنة 2013.

“تتضمن التعليمات وجوب الكشف والتأكد من تحقيق شروط السلامة مرتين في كل عام” قال نواس شاكر المنسق الإعلامي لمديرية الدفاع المدني العامة.

وبموجب بنود القانون، يحق للدفاع المدني إقامة دعوى جزائية ضد المخالفين وتغريمهم مالياً بمبالغ تبدأ من 250 مليون دينار.

تنص شروط السلامة في الأبنية على ضرورة وجود مطافئ للحريق وسلم طوارئ ولوحات الدلالة الإرشادية وتوفير متحسسات ومنظومة كهرباء.

هذه كلها غير متوفرة في مئات المباني المشيدة مؤخراً، ومنها مبنى المختبر الوطني.

قوانين مهجورة

زارت فرق الدفاع المدني مبنى المختبر الوطني مطلع عام 2020، وأخبرت المستثمر بأنه مخالف لشروط السلامة.

في حزيران 2020 عادت تلك الفرق لفحص المبنى مرة أخرى.

“إلا أن المستثمر رفض السماح لفرق الدفاع بدخوله. انهياره كان فجائياً وهو من أسوأ الانهيارات” قال شاكر.

ثمة مبان في مناطق الكاظمية والشيخ عمر والفضل والشورجة والكرادة والمنصور والحارثية ببغداد، سجلتها مديرية الدفاع المدني على أنها آيلة للسقوط، وطالبت الجهات المتخصصة بضرورة إخلائها من ساكنيها، لتفادي وقوع كارثة مشابهة لما حصل في الكرادة.

قبل مدة وجيزة أغلقت المديرية عمارة الجادرجي الشهيرة في منطقة المنصور غربي بغداد بعد ملاحظة وجود تشققات ومؤشرات انهيار وزحف للتربة فيها.

لكن تلك التحركات قد لا تبدو كافية.

يطالب مسؤولو الدفاع المدني بتعديل قانون عمل مديريتهم وتشديد العقوبة على المخالفين لأنظمة السلامة والتشييد لتصل إلى إغلاق المبنى المخالف للتعليمات، لحين تحقيق متطلبات السلامة.

بموجب القانون رقم 16 لسنة 2002، تخضع الموافقة على إنشاء المباني السكنية والتجارية متعددة الطوابق في بغداد والمحافظات الأخرى لجملة من الإجراءات الاحترازية الطويلة.

واشترط قانون 49 الخاص بارتدادات وارتفاعات المباني حصول مالك الأرض على إجازة البناء، بعد تقديم مخططات معمارية متكاملة (مخططات أفقية ومقاطع وواجهات معمارية) صادرة عن مكتب هندسي معماري مسجل لدى نقابة المهندسين العراقيين.

ووفقاً لتعليمات القانون النافذ، فإن تشييد العمارات السكنية يستلزم توفير ارتداد أمامي بطول خمسة أمتار عن الشارع الرئيس وثلاثة أمتار عن الشارع الفرعي أو الخلفي، مشترطاً أن لا تقل نسبة البناء لكل طابق عن 75 بالمئة من مساحة القطعة، وأن لا تقل مساحة الشقة السكنية في المبنى عن 75 متراً مربعاً.

كما حدد القانون عدد الطوابق بالكثافة البنيانية للقطعة بخمسة طوابق في مساحة الأرض في حال كانت القطعة تقع على شارع بعرض 20-40 متراً، وبناء 6 طوابق في حال كانت القطعة تقع على شارع بعرض أكثر من 40 متراً، وثلاثة طوابق في حال وقعت القطعة على شارع أقل من 20 متراً.

يشترط القانون أيضاً توفير مصعد كهربائي وسلم هروب اضطراري إذا كان المبنى مؤلفاً من 4 طوابق أو أكثر، ومراعاة متطلبات السلامة ضد مخاطر الاحتراق، بالإضافة إلى توفير مرآب لوقوف السيارات وملجأ، بحسب ما ورد في بيان إنشاء الملاجئ رقم 1 لسنة 1992 الصادر عن مديرية الدفاع المدني.

هذه الاشتراطات والالتزامات الواجبة التطبيق لم تعد سوى حبر على ورق.

“أضحى كثير من أصحاب العقارات والمستثمرين يحصلون على إجازات البناء مقابل رشاوى تدفع لموظفين فاسدين” قال المهندس المدني عدي سالم.

“أغلب المباني السكنية والتجارية المشيدة بعد عام 2003 لا تتوفر فيها معايير البناء، ولذلك وقعت حوادث حرائق وانهيارات كثيرة” أضاف لنا.

يخّمن سالم، الذي يُراقب مشاريع البناء الحديثة، أن جلّ المباني السكنية والتجارية في بغداد بنيت بعد 2003 من دون الحصول على إجازة بناء أصولية، فضلاً عن وجود تلاعب في أعداد الطوابق يمارسه أصحاب العقارات الذين يتقدمون للحصول على إجازات للبناء مقابل رشاوى تقدم للجان البلدية.

بناء بلا مهندسين

قال المهندس المعماري علي المولى إن “أخطاء البناء التي يرتكبها أصحاب العقارات، تبدأ من إحالة البناء إلى مقاول عديم الخبرة، وصولاً إلى عدم وجود استشاري ومهندس مدني ومعماري في موقع العمل، وليس انتهاء بعدم وجود جهة رقابية من الدوائر البلدية أو نقابة المهندسين”.

وأوضح المولى أن “ضوابط بناء المباني متعددة الطوابق، لا يمكن أن تتم إلا من خلال تقديم دارسة حول التربة ومدى تحملها، وتحديد التصاميم عبر مهندس استشاري متخصص، إلى غير ذلك من التقارير الاستشارية والهندسية”.

كان المولى، بحكم عمله، شاهداً على طلبات مستثمرين تخالف شروط البناء.

لا ينفي مصدر مطلع في ديوان الرقابة المالية وجود رشاوى تمنح لبعض الموظفين في دوائر البلدية من أجل منح بعض المستثمرين أو أصحاب الأراضي إجازات بناء.

هذه الإجازات ستمكنهم من تشييد مبان خارج المواصفات الهندسية المحددة في القوانين.

قال المصدر إن “لجان الديوان سجلت العديد من الملاحظات حول وجود تشققات أو انحرافات في الخرسانة الكونكريتية للمبنى في عشرات المشاريع الحكومية والاستثمارية، ورداءة المواد الإنشائية المستخدمة في عمليات البناء، لكن لا يمكننا ممارسة الدور ذاته في المشاريع العمرانية في القطاع الخاص”.

ووثقت اللجنة الخاصة بقسم تقويم الأداء المتخصص في ديوان الرقابة المالية، أضراراً في الإنشاءات المدنية لقسم من الأبنية الخاصة في 14 مستشفى حكومياً بسبب قدمها، ما يعني عدم جدوى تأهيلها وانتهاء العمر التصميمي لها، وما يزيد احتمالية انهيارها.

كما سجلت اللجنة خروقات إنشائية في 35 مستشفى تمثلت في عدم استحصال موافقات الدفاع المدني بخصوص الإضافات الإنشائية على التصاميم الأساسية للمستشفيات، والتي نصت عليها المادة 33 من قانون الدفاع المدني رقم 44 لسنة 2013، كما لاحظت إضافة 70 بالمئة من المستشفيات العديد من الأبنية وتوسعتها بشكل لا يراعي متطلبات السلامة والأمان.

ووفقاً لتقارير اللجنة المتخصصة، فإن العديد من مستشفيات بغداد ما تزال تستخدم السقوف الثانوية المصنوعة من مادة البلاستك، والتي تعد إحدى مسببات الحرائق الخطيرة، كما وثقت 34 من المستشفيات أنشأت العديد من الأبنية الإضافية بواسطة الـ”سندويج بنل” سريع الاشتعال، فضلا عن عدم استحصال شهادات فحص هندسي للمصاعد في جميع المستشفيات، وعدم توفر متطلبات السلامة والأمان في تلك المستشفيات، على الرغم من تحذيرات الدفاع المدني من خطورتها وضرورة إزالتها.

استخفاف بالمعايير

ما تزال الإجراءات الحكومية، على الرغم من فداحة الخسائر البشرية والمادية، شبع منعدمة حيال المباني المخالفة لشروط السلامة وإجازة البناء.

“العراقي أصبح غير آمن على حياته نتيجة التجاوز على التصميم والتخطيط العمراني من حيث الهندسة الإنشائية” قالت مها الجنابي عضو لجنة الخدمات والإعمار في البرلمان.

تقترح الجنابي تشكيل لجان استشارية لفحص جميع المباني التي شيدت خلال السنوات الأخيرة، ولاسيما تلك التي سجلت عليها مخالفات كثيرة في التصاميم الأساسية.

ترمي المشرّعة باللائمة على “تفشي الفساد في مؤسسات الدولة” الذي أسهم في التغاضي عن معايير جودة البناء ومخالفات التصميم والتنفيذ وعمليات الغش في المواد الإنشائية المستخدمة في البناء.

“غالبية المباني التي يجري تنفيذها في البلاد تتم عبر شركات مقاولات غير متخصصة في العمارة، فيما يبحث أصحاب الأملاك عن الربح السريع وتقليل المصروفات والنتيجة على حساب جودة العمل ونوعيته” أضافت الجنابي.

كثيرا ما يتم الاستخفاف بمعايير السلامة في البناء والقطاعات الأخرى في العراق، وإلقاء اللوم على الفساد المستشري وضعف الرقابة الحكومية لافتقار المباني لمعايير السلامة المناسبة ومخالفة التصاميم في العديد من أحياء بغداد، لكن واقع الحال يقول إن العديد من المواد الأولية الداخلة في البناء هي فاشلة مختبرياً ولا تخضع لجهاز التقييس والسيطرة النوعية، والشروط الهندسية الواجب توفرها.

يحذر مدير شركة “أرض البناء” للمقاولات والأعمال الهندسية فراس حامد من انهيار بنايات حديثة الإنشاء خلال السنوات المقبلة، بسبب التصاميم الخاطئة والتنفيذ الرديء “للدخلاء على مهنة المهندس المدني”.

ويدعو حامد إلى إعادة تقييم لجميع المباني خارج الضوابط الهندسية بواسطة لجنة من وزارة الإعمار والإسكان ونقابة المهندسين ومكتب استشاري رصين لتلافي تكرار حادثة مختبر الكرادة مستقبلاً.

الحكومة مصرّة: كل شيء بخير

أمانة بغداد ترفض الاتهامات الموجهة لها بشأن تشييد المباني من دون إشراف حكومي مناسب وتفشي الفساد وسوء الإدارة في دوائرها.

“إجازات البناء تمنح وفق ضوابط وقانون رقم 16 لسنة 2002 المعدل ‏وقانون 49 الخاص بارتدادات وارتفاعات المباني، وعلى الرغم من قدم تلك القوانين إلا أنها صارمة في منح الإجازات” قال محمد الربيعي المتحدث باسم الأمانة.

الربيعي الذي ينفي شيوع الرشاوى والمحسوبية في أوساط دوائر الأمانة، يشير إلى أن “أقسام الإجازات والرخص الموجودة في دوائر البلدية، لا تمنح الموافقات القانونية للبناء من دون تقديم التصاميم والخرائط من قبل صاحب العقار، وعبر مكتب استشاري هندسي، لتتم المصادقة على الخرائط إذا كانت مطابقة لتصاميم المكتب الاستشاري غير الحكومي”، نافيا “منح موافقات البناء لمخططات لا تتضمن سلم طوارئ ومتطلبات السلامة ورأي لجان الدفاع المدني”.

لكن شاكر يرد بأن “رأي الدفاع المدني أصبح غير مهم، ويتم تشييد المباني من دون مصادقة أو رخصة المديرية”.

وبعدما تفشت ظاهرة الفساد الإداري والمالي في مؤسسات الدولة بعد العام 2003، دفعت كارثة انهيار المختبر الوطني أمانة بغداد إلى تشكيل لجان لإحصاء المباني متعددة الطوابق التي لم تحصل على إجازة رسمية، من أجل تغريمها مالياً وإحالة مالكها إلى القضاء، بحسب الربيعي.

في بغداد، شيدت قرابة 320 عمارة سكنية وتجارية بشكل أصولي منذ العام 2008 ولغاية العام 2020، بحسب مؤشرات جهاز الإحصاء المركزي، فيما تشير تقديرات المتخصصين إلى بناء قرابة 970 مبنى متعدد الطوابق خلافاً لشروط التشييد والإجازة.

على مدار الأعوام الماضية، راقبت المعمارية بسمة حسن البنايات الجديدة التي تنتشر في بغداد.

تحذر حسن من انهيار عشرات المباني خلال السنوات القليلة المقبلة في بغداد، ملقية باللائمة على “الفاسدين في الدوائر المعنية بمتابعة أنظمة وقوانين التشييد والبناء”.