البغدادي وخلفاؤه: ماذا تبقّى من أشهر تنظيم متطرف في القرن الأخير؟ 

أحمد سيف

26 تشرين الأول 2025

هذا مقال عن تنظيم داعش في أيام البغدادي وبعد مقتله، وعن “الخلفاء” الذين تولّوا إدارة التنظيم بعده، وعن التحولات التي شهدها التنظيم وهو يخرج من الموصل ليمتد إلى أفريقيا وأفغانستان..

أثناء ذروة الغزو الأمريكي لأفغانستان أواخر 2001، شق أبو مصعب الزرقاوي طريقه من هرات إلى قندهار، وكاد أن يلقى حتفه خلال الغارات الأمريكية، وبعد أسابيع قليلة غادر أفغانستان متجها إلى إيران، ومنها توجه عام 2002 إلى شمال العراق (إقليم كردستان). 

هناك وجد بيئة مناسبة للتعاون مع فصائل محلية، أبرزها تنظيم أنصار الإسلام الكردي ذو التوجه السلفي-الجهادي، الذي تمكن من بسط سيطرته على بيارة وحلبجة، كما حرص على ترسيخ حضوره من خلال إنشاء محاكم وهيئات شرعية، وأصدر وثيقة بعنوان “عقيدتنا ومنهجنا”، حدد فيها منهجه الفكري وأبرز تمايزه عن الجماعات الجهادية الأخرى. 

ورغم هذا الوجود القوي لأنصار الإسلام، اقتصرت علاقة الزرقاوي بهذا التنظيم على تبادل الخبرات القتالية والتنظيمية، دون اندماج تنظيمي أو فكري، وكانت العلاقة أقرب إلى علاقة مصلحية قائمة على الملاذ وتبادل الخبرات. 

ومع الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، قاد الزرقاوي خلايا مسلحة نفذت هجمات ضد القوات الأمريكية في عدة محاور داخل العراق، أبرزها محافظات الأنبار، لا سيما الفلوجة، وبغداد التي شهدت تفجيرات وعمليات انتحارية واستهداف مؤسسات، وديالى/بعقوبة، ومناطق شمالية ووسطى متفرقة مثل الموصل وتكريت أحياناً، وامتد نشاطه إلى تنفيذ كمائن وعبوات ناسفة ضد القوات الأمريكية، وعمليات استهداف طائفي داخل المدن. 

أما مصادر التمويل التي وثقتها تقارير رسمية وتحليلية، فقد شملت خليطاً من تبرعات خارجية (جهات خليجية وأفراد)، بالإضافة إلى عوائد محلية من ابتزاز، وفديات اختطاف، وموارد من المناطق التي سيطر عليها.  

ثم في تشرين الأول 2004، أعلن الزرقاوي مبايعته لأسامة بن لادن، وحول اسم تنظيمه من “جماعة التوحيد والجهاد” إلى “القاعدة في بلاد الرافدين”، وبالتالي بدأ التنظيم يستفيد من البنية المالية واللوجستية الأوسع للقاعدة. 

غير أن مسار الزرقاوي انتهى بمقتله في حزيران 2006 بغارة أمريكية، ليباشر التنظيم بعدها إعادة ترتيب صفوفه، إذ كان قد أنشأ مطلع العام نفسه “مجلس شورى المجاهدين”، وهو إطار جامع لفصائل عدة، كتنظيم القاعدة، وجيش الطائفة المنصورة، وسرايا أنصار التوحيد والسنة، وسرايا الجهاد الإسلامي، وكتائب الغرباء، وجيش أهل السنة والجماعة. وبعد أشهر قليلة، أعلن هذا المجلس، مع فصائل أخرى لاحقاً، تأسيس “دولة العراق الإسلامية” بإمامة أبي عمر البغدادي. 

اقرأ أيضاً

التعليم المفترس: كيف أسس “داعش” نظاماً تعليمياً عنيفاً في العراق وسوريا؟

واجه تنظيم دولة العراق مقاومة متصاعدة من العشائر السنية التي انخرطت في حركة الصحوات المدعومة أمريكياً، وأدت دوراً رئيسياً في تفكيك شبكات التنظيم وتقليص نفوذه، ثم في نيسان 2010، تلقى التنظيم ضربة قاصمة بمقتل زعيمه أبي عمر البغدادي، وقائده العسكري أبي أيوب المصري، في عملية عراقية – أمريكية. 

تبدل المشهد كلياً بصعود أبي بكر البغدادي، إذ تمكن من لملمة شتات التنظيم وتهيئته لمرحلة جديدة تحت مسمى “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، وما بين عامي 2013 و2014، تمكن من السيطرة على مدن محورية مثل الفلوجة والموصل وأجزاء من الرمادي، قبل أن يعلن في حزيران 2014، قيام “دولة الخلافة” على مساحات واسعة من العراق وسوريا.  

خلال هذه المرحلة، أسس التنظيم جهازاً إدارياً مناطقياً متكاملاً، ضم دواوين للأمن والتعليم والإعلام والقضاء والصحة، مما أضفى عليه مظهر الدولة. وعلى المستوى العسكري، انتقل من أسلوب حرب العصابات إلى القتال التقليدي، مستفيداً من استيلائه على مخازن ضخمة من الأسلحة الثقيلة التابعة للجيشين العراقي والسوري، التي ضمت عربات مصفحة، وناقلات جنود مدرعة، ودبابات (T-55 وT-72)، ومنظومات مدفعية ميدانية، وقذائف هاون، وصواريخ مضادة للدبابات، وراجمات صواريخ BM-21، بالإضافة إلى كميات كبيرة من الذخائر. كما عمل على تطوير وحدات متخصصة كفرق القناصة والانغماسيين. 

هذا التسلح الكبير كان عاملاً أساسياً في تحويل التنظيم إلى قوة قادرة على القتال التقليدي، غير أن هذا الواقع لم يدم طويلاً، فمع تشكيل التحالف الدولي أواخر 2014، دخل داعش مرحلة الاستنزاف، وخسر تباعاً مدناً رئيسية، مثل تكريت وسنجار والفلوجة ومنبج، وصولاً إلى هزيمته في الموصل والرقة عام 2017.  

وما بين 2017 و2019، انهارت خلافته المكانية في العراق وسوريا، لتُختتم هذه الحقبة بمقتل أبي بكر البغدادي في تشرين الأول 2019، من خلال غارة أمريكية على مخبئه في باريشا شمالي سوريا. 

لم يؤدِّ غياب البغدادي إلى زوال التنظيم، فقد ترك وراءه بنية تنظيمية مرنة، وأطراً فكرية مكنت داعش من تجاوز صدمة الانهيار وضمان استمرارية نشاطه.  

على الصعيد العسكري، حافظ التنظيم على هياكل لامركزية قادرة على شن هجمات متفرقة، والتكيف مع الضغوط من خلال تكتيكات حرب العصابات، والتمدد في ساحات جديدة مثل أفريقيا. أما على الصعيد الفكري، فقد ترك البغدادي إرثاً أيديولوجياً، ورسخ فكرة “الخلافة” كغاية، مانحاً أنصاره دافعاً عقائدياً يتجاوز الهزائم الميدانية. 

هذا التداخل بين المرونة العسكرية والصلابة الفكرية منح التنظيم قدرة على البقاء رغم سقوط مركز “الدولة المكانية” ومقتل أبرز قادته، وهو ما يطرح تساؤلات جوهرية حول إرث البغدادي والعوامل البنيوية التي مكنت التنظيم من الاستمرار رغم الضغوط والخسائر الفادحة. 

ملامح “خلافة” داعش بعد انكسار مركزها 

مع سقوط آخر معاقل داعش في الباغوز شرق سوريا عام 2019، دخل التنظيم مرحلة جديدة اتسمت باللامركزية، متحولاً من السيطرة الجغرافية إلى الكمون الدفاعي وتكتيكات حرب العصابات، مع إعادة تشكيل استراتيجيته في صورة شبكة من الخلايا النائمة والولايات المرنة المنتشرة عبر القارات. 

في السنوات التي تلت سقوط الباغوز، عمل التنظيم على التكيف مع واقعه الجديد، فقلص هجماته أحياناً لإعادة ترتيب صفوفه، لكنه واصل في المقابل شن عمليات كر وفر محدودة، وتنفيذ محاولات لتهريب مقاتليه من السجون، مع استغلال الثغرات الأمنية كلما سنحت الفرصة. 

ولتعويض خسائره في العراق وسوريا، اتجه داعش نحو توسيع نشاطه الخارجي، مركزاً بشكل خاص على أفريقيا التي تحولت إلى أبرز ساحاته، ويعكس المشهد الراهن انقلاب المعادلة مقارنة بعام 2015، إذ لم يعد المركز في العراق وسوريا، بل أصبحت الأجنحة الأفريقية تمثل الشريان الرئيسي لبقاء التنظيم. 

وقد أعاد داعش هيكلة وجوده في أفريقيا ضمن سبع ولايات رئيسية، ولاية غرب أفريقيا المتمركزة في حوض بحيرة تشاد، وولاية الساحل الممتدة عبر مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وولايات وسط أفريقيا وموزمبيق والصومال، إضافة إلى ولايتي الجزائر وتونس اللتين اقتصر حضوره فيهما على أدوار محدودة في التجنيد والدعاية. 

ويُعد فرع غرب أفريقيا الأكبر والأكثر فاعلية عسكرياً وإدارياً، إذ يواصل تنفيذ هجمات متكررة ضد القوات النظامية والمجتمعات المحلية، مستفيداً من هشاشة الأمن وضعف الاستقرار في المنطقة، وتشير بعض التقديرات إلى أن ولاية غرب أفريقيا تضم ما بين 8 آلاف و12 ألف مقاتل من داعش. 

في المقابل، برزت ولاية وسط أفريقيا كلاعب صاعد، إذ تبنى التنظيم منذ أوائل عام 2025 أكثر من مئة هجوم في كل من الكونغو الديمقراطية وأوغندا، ما يعكس اتساع نطاق نشاطه الإقليمي. 

أما في موزمبيق، فقد أظهر التنظيم قدرة لافتة على السيطرة على مواقع استراتيجية، أبرزها مدينة موسيمبوا دا برايا الساحلية التي حكمها لأكثر من عام، قبل أن يوسع نطاق عملياته إلى مقاطعة نياسا، وخلال النصف الأول من عام 2025، شنت هذه الولاية 90 هجوماً استهدف الفصائل الموالية للحكومة والمدنيين المسيحيين والجيش الموزمبيقي. 

كما برزت ولاية الساحل كأسرع فروع داعش نمواً منذ أواخر العقد الماضي، إذ انتقلت من نحو 425 مقاتلاً عام 2018، إلى ما بين ألفين وثلاثة آلاف مقاتل حالياً، وهو ما يعكس تضاعف قوتها خلال فترة وجيزة.  

اقرأ أيضاً

ماذا كان يقول الآخرون؟ عن جرائم “داعش” في الترجمة والتغطية الإعلامية 

وقد وسعت ولاية الساحل سيطرتها في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، لا سيما في المنطقة الحدودية الثلاثية ليبتاكو – غورما، مما أسهم في إنشاء مركز إقليمي لنشاط التنظيم المتطرف في القارة، وخلال النصف الأول من عام 2025، نفذت الولاية أكثر من 30 هجوماً استهدف القوات النظامية في هذه الدول الثلاث. 

ويُلاحظ أن ولاية الساحل قد شهدت تحولاً في استراتيجياتها، حيث انتقلت من أسلوب حرب العصابات إلى تكتيكات أكثر تنسيقاً وتنظيماً، مما يعكس تطوراً في هيكلها العسكري والإداري وقدرتها على تنفيذ عمليات معقدة وفعالة في مناطق متعددة. 

بوستر إعلامي لإصدار داعش عن “ولاية الساحل” بتاريخ 2 آب 2025، يوثق مشاهد من عمليات التنظيم في المنطقة. 

أما فرع الصومال، فقد شهد خلال العامين الماضيين نمواً لافتاً جعله مركزاً لوجستياً مهماً للتنظيم، حيث رسخ وجوده هناك من خلال معارك ضارية مع حركة الشباب، وسيطر على مناطق استراتيجية مثل جبال بونتلاند، واستفاد من تدفق مقاتلين أجانب من دول الجوار ومن حالة عدم الاستقرار المحلي لتعزيز نفوذه. 

وفي العدد 491 من أسبوعية النبأ، نشر داعش رسماً بيانياً يُشير إلى نشاطه في ولايته الصومالية، مُعلناً مسؤوليته عن 55 هجوماً خلال 52 يوماً، من 15 شباط 2025 إلى التاسع من نيسان 2025، أسفرت عن مقتل وإصابة 318 جندياً وتدمير 26 مركبة عسكرية. 

وقد دعمت قيادة داعش هذا التوسع في الصومال بجهد دعائي مكثف، أنتجت خلاله محتوى إعلامياً موجهاً للمجتمعات الناطقة بالصومالية والأمهرية والسواحيلية والهوسية بغرض استقطاب مقاتلين، وبما يتوافق مع استراتيجية التنظيم الرامية إلى مخاطبة المسلمين بلغاتهم وأعراقهم المتنوعة لكسب الولاء والتأييد، بدلاً من الاكتفاء باللغة العربية وحدها. 

واللافت أنه في 2022، أصدر داعش مقطعاً  مصوراً دعائياً مدته 25 دقيقة بعنوان “على درب الفاتحين” باللغة الأمهرية مع ترجمة عربية، وقد ركز على إبراز المقاتلين الإثيوبيين ضمن صفوف التنظيم في الصومال، وما زال فرع الصومال يحظى بدعم واسع من شبكات إعلامية غير رسمية مؤيدة لداعش.﷟ 

كذلك برز فرع خراسان في أفغانستان بعد عام 2019 كأحد أخطر أذرع داعش، مستقطباً مقاتلين من دول آسيا الوسطى، ومنفذاً هجمات عابرة للحدود طالت إيران وروسيا، وقد صنف تقرير الأمين العام للأمم المتحدة لعام 2025 هذا الفرع كأبرز التهديدات الإرهابية المرتبطة بالتنظيم. 

وفي موازاة ذلك، وسع داعش نشاطه في جنوب شرق آسيا من خلال تحالفه مع جماعة أبو سياف في الفلبين، حيث نفذ منذ عام 2019 عدة هجمات في جنوب الفلبين، كما أعلن داعش في العام نفسه عن تأسيس ولاية الهند في إقليم جامو وكشمير. 

داعشي يقتل سائق صهريج قرب حقل كبيبة في منطقة الشدادي، تشرين الثاني 2024. 

يمكن القول إنه بعد 2019 تراجعت وتيرة هجمات داعش بشكل كبير، وفشل التنظيم في استعادة وضعه السابق في سوريا والعراق، حيث استمرت عملياته السنوية في الانخفاض، ووصلت إلى أدنى مستوياتها عام 2023، فمثلاً انخفضت الهجمات في العراق بنسبة 65 بالمئة مقارنة بعام 2022، وفي سوريا بنسبة 60 بالمئة، كما انخفضت هجمات الفروع المختلفة على مستوى العالم أكثر من النصف مقارنة بالعام السابق. 

لكن مع بداية عام 2024، وفي عشريته الأولى لإعلان ما يسميه “الخلافة”، شهدت هجمات التنظيم صعوداً ملموساً على عدة جبهات، إذ ارتفعت الهجمات بنسبة تصل إلى 250 بالمئة مقارنة بعام 2023، ففي سوريا ارتفع عدد الهجمات إلى نحو 700 هجوم، أي ثلاثة أضعاف العام السابق، بينما برزت أفريقيا الوسطى ومنطقة الساحل كمراكز جديدة لنشاط داعش، مع توسع نشاط ولاية الساحل في مالي وبوركينا فاسو والنيجر. 

وما بين عامي 2024 و2025، نفذ التنظيم سلسلة هجمات نوعية تجاوزت الحدود، شملت إيران وروسيا وألمانيا والولايات المتحدة، وفي النصف الأول من عام 2025 وحده، تجاوز عدد عملياته في أفريقيا 565 هجوماً في تسع دول، ما يعكس قدرة التنظيم على إعادة التموضع واستغلال الفجوات الأمنية رغم خسائره السابقة. 

بحلول عام 2025، لم يعد داعش كياناً متجانساً كما كان سابقاً، بل تحول إلى شبكة متعددة المراكز تعتمد على اللامركزية العملياتية، مع الاحتفاظ بالبيعة كرمز للشرعية، ولجاذبية فكرة “الخلافة”. وقد تنوعت عملياته ما بين الاشتباك المباشر والاستيلاء على بعض المدن والقرى في أفريقيا، أو تنفيذ عمليات كر وفر كما يحدث في العراق وسوريا. 

وأصبح مركز التنظيم الأبرز في أفريقيا وولاية خراسان، مع استمرار وجود نشط في جنوب شرق آسيا، واستمرار عمليات محدودة في العراق وسوريا رغم تراجع نفوذه هناك، وبهذا لم يعد تهديد داعش مرتبطاً بجغرافيا محددة، بل بات يعتمد على شبكة مترابطة عالمياً. 

استند هذا الانتشار إلى عوامل بنيوية رئيسية، أبرزها مرونة البنية الإدارية التي تركها البغدادي، وتنوع مصادر التمويل، إضافة إلى استغلال داعش ضعف الحوكمة وهشاشة الدول التي ينشط فيها. ورغم فقدانه للحاضنة الاجتماعية وتراجع مصادر تمويله التقليدية، حافظ داعش على فعاليته وتمكن من التكيف مع الجغرافيا والبيئة الأمنية، مما أتاح له شن هجمات متفرقة وزعزعة الاستقرار. 

ويُلاحظ في هجمات داعش الأخيرة ترابطاً لافتاً في التوقيت وآلية التنسيق، إذ تبدو وكأنها نتاج استراتيجية تتجاوز الطابع اللامركزي للخلايا المستقلة، فقد جاءت العمليات متزامنة في أكثر من ساحة جغرافية، مثلما حدث مع غزوة “واقتلوهم حيث ثقفتموهم”، التي أطلقها داعش رداً على الحرب في غزة.  

وهو ما يشير إلى وجود توجيه مركزي يحدد الأولويات ويضبط الإيقاع العام، مع الإبقاء على هامش واسع من الحرية للتنفيذ الميداني، هذه القدرة على الجمع بين اللامركزية في الحركة والتنسيق الاستراتيجي في التخطيط مكنت التنظيم من الظهور كقوة موحدة رغم تشرذم هياكله. 

حالياً يتركز نشاط التنظيم في أفريقيا على مهاجمة المدن الاستراتيجية، مستفيداً من هشاشة البنى الأمنية وضعف الحكومات المحلية، فولاياته في الساحل ونيجيريا والكونغو وموزمبيق تنفذ هجمات منسقة تستهدف المراكز الحضرية الحيوية، في محاولة لفرض نفوذه على عقد الطرق والموارد. 

أما في العراق وسوريا، فقد عاد داعش إلى تكتيكات حرب العصابات، معتمداً على الكمائن والاغتيالات وزرع العبوات الناسفة واستهداف البنى الأمنية والعشائرية لإرباك السلطات المحلية. واستغل التنظيم الطبيعة الجغرافية في بادية الشام والحدود العراقية السورية لتأمين ملاذات آمنة، ما يعكس استراتيجيته الجديدة القائمة على “الالتجاء إلى الصحراء” بعد فشل محاولاته السابقة في السيطرة المباشرة على الأرض. 

داعشي يقتل شخصاً وصفه بالجاسوس جنوب غرب الموصل في آب 2025. 

في العراق، يواصل داعش تنفيذ هجمات متفرقة في مناطق صلاح الدين وكركوك والأنبار، فرغم الضغوط العسكرية لا يزال التنظيم قادراً على تنفيذ هجمات محدودة، مما يعكس مرونته وقدرته على التكيف مع الظروف الأمنية المتغيرة. 

أما في سوريا، فقد شهدت مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية تصاعداً في نشاط خلايا داعش خلال عام 2025، نفذت هذه الخلايا هجمات متفرقة استهدفت نقاط تفتيش ومركبات عسكرية، ورغم التراجع النسبي في النشاط مقارنة بالعام السابق، إلا أن التنظيم لا يزال يشكل تهديداً مستمراً في سوريا. وحسب تقديرات الولايات المتحدة، لا يزال أكثر من 2500 مقاتل من داعش ينشطون في سوريا والعراق حتى عام 2024، بينما يُحتجز آلاف من مقاتلي التنظيم في سجون البلدين.  

خلفاء ما بعد البغدادي: قيادة متوارية وحضور خافت 

بعد مقتل أبي بكر البغدادي في تشرين الأول 2019، دخل تنظيم داعش مرحلة جديدة تقوم على السرية المطلقة، حيث يُعلن عن الخليفة باللقب فقط، مثل الخليفة الحالي أبي حفص الهاشمي القرشي. كما أصبحت الأولوية في اختيار الخلفاء تتعلق بالقدرة على حماية التنظيم والحفاظ على بنيته، بدلاً من التركيز على الكاريزما أو الزعامة التعبوية، ما يعكس تحول القيادة إلى دور إداري وأمني أكثر منه سياسي أو تعبوي. 

في تشرين الأول 2019، عين التنظيم خليفة جديداً هو أبو إبراهيم الهاشمي القرشي (أمير محمد سعيد المولى)، الذي رغم افتقاره للكاريزما أدى دوراً أمنياً في منع انهيار التنظيم والحفاظ على بنيته خلال فترة حرجة من التراجع والخسائر في العراق وسوريا. 

ومع اغتيال أبي إبراهيم، تولى أبو الحسن الهاشمي القرشي قيادة التنظيم بين آذار وتشرين الأول 2022، وكانت شخصيته غامضة، وحضوره الإعلامي شبه منعدم، ولم يترك أي بصمة واضحة على مسار التنظيم. 

ثم في أواخر 2022، صعد أبو الحسين الحسيني القرشي إلى الخلافة، لكنه افتقر إلى التأثير، وواصل التنظيم في عهده عمليات تمرد محدودة في العراق وسوريا، بينما برزت قوة فروعه في أفريقيا وأفغانستان، وقد قُتل أبو الحسين في آب 2023، بعملية نفذتها هيئة تحرير الشام. 

وبعد مقتله، أعلن داعش عن تعيين أبي حفص الهاشمي القرشي الخليفة الخامس والحالي، ولا تزال شخصيته مجهولة. في الواقع، تمثل قيادة أبي حفص أقصى درجات الانكفاء والسرية، فلم يظهر إعلامياً واكتفى بتوجيه بيانات مكتوبة تبثها مؤسسة الفرقان من خلال المتحدث باسم التنظيم “أبي حذيفة الأنصاري“. 

ورغم هذا الانكفاء، تمكن التنظيم خلال عهده من تنفيذ سلسلة هجمات جريئة ومخطط لها بعناية، أظهرت قدرة داعش على التنسيق بين خلاياه المنتشرة عالمياً، سواء في أفريقيا أو آسيا. ويعد عهد أبي حفص من أقوى فترات ما بعد البغدادي، إذ شهد التنظيم صعوداً ملموساً في النشاط العملياتي، وتوسعاً في فروعه، وتعزيزاً لقدراته العسكرية والإدارية. 

على مدار الفترة منذ 2019، حاول خلفاء ما بعد البغدادي إعادة ترميم التنظيم بدرجات متفاوتة، لكنهم لم يتمكنوا من استعادة الزخم التعبوي أو الرمزية التي حققها البغدادي، فبينما كان البغدادي يجمع بين الزعامة الدينية والرمزية السياسية، جاء خلفاؤه بلا حضور يُذكر، مكتفين بإدارة بقايا التنظيم وضمان استمرار البيعة. 

في الواقع، منذ مقتل البغدادي، اتجه مسار القيادة في داعش نحو انحدار مستمر في الكاريزما والتأثير، فقد تراجع الخلفاء اللاحقون إلى أداء أدوار إدارية وأمنية بحتة، وتحولت الخلافة إلى مجرد فكرة رمزية، وباتت القوة الفعلية للتنظيم بيد فروعه الإقليمية، خصوصاً في أفريقيا وخراسان، أكثر من المركز في العراق وسوريا. 

فمنذ عام 2017، بدأ داعش يتلقى ضربات قاصمة مع خسارة معاقله الكبرى في الموصل والرقة، ثم انهار آخر معقل له في الباغوز عام 2019، على يد التحالف الدولي، ومع مقتل عشرات الآلاف من مقاتليه، انهارت “الخلافة” المكانية التي أعلنها عام 2014، وتحول التنظيم من كيان مركزي هرمي إلى شبكة لامركزية مرنة تضم خلايا نائمة ومنتسبين موزعين في مناطق متعددة، مما منحها القدرة على الاستمرار رغم تفكك بنيتها التقليدية. 

بعد انهيار مركز الدولة عاد داعش إلى أساليب حرب العصابات التقليدية، الكمائن، والاغتيالات، وزرع العبوات الناسفة، مع الاعتماد على وحدات صغيرة مستقلة، أكثر شبكية ولا مركزية، قادرة على شن هجمات مستمرة. 

أثبت داعش قدرته على الاستمرار أمام التحديات الداخلية والخارجية، إذ تمكن رغم الخسائر الفادحة في صفوفه وقياداته من إعادة تجميع شبكاته واستعادة قدرات هجومية محدودة، ولعل السؤال الأهم كيف تمكن من الصمود أمام الصعاب الهائلة؟  

يكمن جوهر بقائه في قدرته على التحول بمرونة والتنقل ما بين الحرب التقليدية وحرب العصابات والإرهاب وفق مقتضيات الميدان، مع الاعتماد على وحدات صغيرة لامركزية تتمتع باستقلالية عالية قادرة على شن هجمات مستمرة، ومن خلال هذا الأسلوب ينجح داعش في إعادة تجميع قوته بسرعة بعد الهزائم، ونقل عملياته إلى مناطق جديدة بعد أي هزيمة. 

لم يعد داعش دولة بالمعنى الذي أراده له البغدادي عام 2014، بل أصبح شبكة مرنة يصعب اجتثاثها بالكامل، وتحول التنظيم من كيان مركزي إلى شبكة عالمية تضم منتسبين وخلايا نائمة موزعين في مناطق متعددة، مما منحها القدرة على الاستمرار رغم تفكك بنيتها في معاقلها التقليدية. 

وقد تبنى داعش نموذجاً إقليمياً يعتمد على العمل اللامركزي، مع احتفاظ نواة القيادة بالتواصل والإشراف على الشبكة العالمية، إذ يمثل مجلس الشورى المركزي العمود الفقري للتنظيم، متولياً القرارات الاستراتيجية الكبرى، بما في ذلك تعيين الخلفاء والإشراف على الفروع الإقليمية وتنسيق العمليات بين الولايات المختلفة. 

مرتكزات استمرار داعش 

يعتمد بقاء داعش على مجموعة من المرتكزات الجوهرية التي تمكنه من الصمود رغم الضربات القاسية والهزائم المكانية: 

  • الهيكل الإداري المرن 

ترك البغدادي بنية إدارية تسمح بتجديد القيادة دون انهيار شامل، مع الاحتفاظ بنواة قيادية مركزية تشرف على الشبكة العالمية وتنسق العمليات بين الولايات المختلفة، بما يضمن استمرارية عمل التنظيم في ظروف الضغط الأمني. 

  • التحول إلى اللامركزية 

بعد سقوط معاقله في العراق وسوريا، تحول التنظيم من نموذج السيطرة المكانية إلى شبكة لامركزية تضم خلايا نائمة ووحدات مستقلة صغيرة، تعتمد على تكتيكات هجومية تجمع بين المناورة والعمليات شبه المتزامنة في ساحات متعددة، بدلاً من السعي للسيطرة الكاملة على الأرض، وقد سمح له هذا التحول بتنفيذ هجمات كر وفر وعمليات إرهابية مستمرة رغم فقدان “الخلافة” المكانية. 

  • الجهاز العسكري المرن 

الجهاز العسكري لداعش يتميز بالمرونة والقدرة على التكيف مع مختلف الظروف الميدانية، إذ يعتمد على شبكات عسكرية تسمح له بإدارة العمليات بشكل فعال، وتنفيذ هجمات متفرقة حتى في ظل الضربات المكثفة.  

شكل التنظيم وحدات صغيرة مستقلة، قادرة على التحرك بسرعة بين مناطق العمليات المختلفة، ما يمنحه ميزة تكتيكية في تنفيذ الكمائن والاغتيالات، كما أن هذه الشبكات العسكرية تسمح بإعادة تجميع القوة بعد الهزائم، مع الحفاظ على القدرة على التخطيط العملياتي والتنسيق بين الولايات والفروع المختلفة، مما يعكس نهج داعش في الجمع بين المركزية في اتخاذ القرار واللامركزية في التنفيذ على الأرض. 

  • التمويل المتنوع  

يمول داعش نفسه عبر مزيج من الموارد، تشمل الأموال المخزنة، والنهب، والغنائم، والاستيلاء على الأسلحة والذخائر من الحواجز العسكرية، إضافة إلى مساهمات الفروع الإقليمية. كما يعتمد بشكل متزايد على الأدوات المالية الرقمية، من عملات مشفرة ومنصات مدفوعات مجهولة الهوية، لتحصيل وتحويل الأموال الخاصة بالدعاية واللوجستيات والعمليات، متجاوزاً الرقابة المالية التقليدية. 

  • التماسك الأيديولوجي  

يتمتع داعش بتماسك أيديولوجي قوي يعزز قدرة عناصره على الصمود أمام الضغوط الخارجية، كما يعتمد بشكل متزايد على أدوات المراسلة المشفرة كوسيلة رئيسية للتواصل وتوسيع دائرة تأثيره، ويحث أتباعه على استخدام هذه التطبيقات لضمان السرية والأمان. 

بجانب اعتماده خطاباً متعدد اللغات، ففي أفريقيا، صاغ خطابات بلغات محلية، ووسع خطابه ليشمل جماعات كالهنود والطاجيك والأوزبك، مقدماً سرديات هوية وانتماء بديلة لتعزيز مشروعية “الخلافة”. 

استمرارية الصورة الرمزية للخلافة 

يعمل التنظيم على إبقاء فكرة “الخلافة” حية في مخيلة أنصاره، مستحضراً تجربة 2014، كمصدر رمزي للمجد، ومؤطراً خطاباته ببعد ديني يعزز الشرعية والقدر المحتوم بعودة الخلافة.  

يستخدم داعش رموزه وشعاراته وشبكاته الإعلامية لتأكيد أن مشروع “الخلافة” مستمر، ويُذكر قادة داعش أتباعهم مراراً وتكراراً بأنهم يسيرون على خطى النبي محمد وصحابته، كما يتضح من كلمة المتحدث الرسمي باسم التنظيم أبي حذيفة الأنصاري: “فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به“، “إن الذي جرى على مشايخنا وأمرائنا هو عين ما كان يجري في خير القرون على صفوة المسلمين.. إن ما جرى على خلفائنا الأربعة رحمهم الله قد مضت به سنة الله في الخلفاء السابقين الراشدين”. 

مبايعة عناصر من داعش في الصومال لأبي الحسن الهاشمي القرشي بصفته “أمير المؤمنين” في آذار 2022. 

رغم تراجعه الكبير بعد فقدان معاقله في العراق وسوريا، لم يختفِ تهديد داعش، بل تحور وتكيف مع الواقع الجديد، مستفيداً من الفوضى السياسية والنزاعات المحلية لإعادة تشكيل خلاياه، وتطوير أساليب قتاله، وتجديد قيادته، وتغيير طرق تجنيده. 

إن خبرة داعش في الانتقال من الهيكلية المركزية إلى الشبكة اللامركزية تجعل سيناريو الزوال بعيد الاحتمال في الوقت القريب، إذ من المرجح أن يظل قوة مقلقة من خلال هجمات متفرقة، مستغلاً أي فراغ سياسي أو أمني للعودة بشكل أوسع، كما أن بنيته اللامركزية، وتمويله المتنوع، والتزامه الأيديولوجي، تضمن استمراره كتهديد قادر على شن عمليات هجومية رغم خسائره الإقليمية. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

أثناء ذروة الغزو الأمريكي لأفغانستان أواخر 2001، شق أبو مصعب الزرقاوي طريقه من هرات إلى قندهار، وكاد أن يلقى حتفه خلال الغارات الأمريكية، وبعد أسابيع قليلة غادر أفغانستان متجها إلى إيران، ومنها توجه عام 2002 إلى شمال العراق (إقليم كردستان). 

هناك وجد بيئة مناسبة للتعاون مع فصائل محلية، أبرزها تنظيم أنصار الإسلام الكردي ذو التوجه السلفي-الجهادي، الذي تمكن من بسط سيطرته على بيارة وحلبجة، كما حرص على ترسيخ حضوره من خلال إنشاء محاكم وهيئات شرعية، وأصدر وثيقة بعنوان “عقيدتنا ومنهجنا”، حدد فيها منهجه الفكري وأبرز تمايزه عن الجماعات الجهادية الأخرى. 

ورغم هذا الوجود القوي لأنصار الإسلام، اقتصرت علاقة الزرقاوي بهذا التنظيم على تبادل الخبرات القتالية والتنظيمية، دون اندماج تنظيمي أو فكري، وكانت العلاقة أقرب إلى علاقة مصلحية قائمة على الملاذ وتبادل الخبرات. 

ومع الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، قاد الزرقاوي خلايا مسلحة نفذت هجمات ضد القوات الأمريكية في عدة محاور داخل العراق، أبرزها محافظات الأنبار، لا سيما الفلوجة، وبغداد التي شهدت تفجيرات وعمليات انتحارية واستهداف مؤسسات، وديالى/بعقوبة، ومناطق شمالية ووسطى متفرقة مثل الموصل وتكريت أحياناً، وامتد نشاطه إلى تنفيذ كمائن وعبوات ناسفة ضد القوات الأمريكية، وعمليات استهداف طائفي داخل المدن. 

أما مصادر التمويل التي وثقتها تقارير رسمية وتحليلية، فقد شملت خليطاً من تبرعات خارجية (جهات خليجية وأفراد)، بالإضافة إلى عوائد محلية من ابتزاز، وفديات اختطاف، وموارد من المناطق التي سيطر عليها.  

ثم في تشرين الأول 2004، أعلن الزرقاوي مبايعته لأسامة بن لادن، وحول اسم تنظيمه من “جماعة التوحيد والجهاد” إلى “القاعدة في بلاد الرافدين”، وبالتالي بدأ التنظيم يستفيد من البنية المالية واللوجستية الأوسع للقاعدة. 

غير أن مسار الزرقاوي انتهى بمقتله في حزيران 2006 بغارة أمريكية، ليباشر التنظيم بعدها إعادة ترتيب صفوفه، إذ كان قد أنشأ مطلع العام نفسه “مجلس شورى المجاهدين”، وهو إطار جامع لفصائل عدة، كتنظيم القاعدة، وجيش الطائفة المنصورة، وسرايا أنصار التوحيد والسنة، وسرايا الجهاد الإسلامي، وكتائب الغرباء، وجيش أهل السنة والجماعة. وبعد أشهر قليلة، أعلن هذا المجلس، مع فصائل أخرى لاحقاً، تأسيس “دولة العراق الإسلامية” بإمامة أبي عمر البغدادي. 

اقرأ أيضاً

التعليم المفترس: كيف أسس “داعش” نظاماً تعليمياً عنيفاً في العراق وسوريا؟

واجه تنظيم دولة العراق مقاومة متصاعدة من العشائر السنية التي انخرطت في حركة الصحوات المدعومة أمريكياً، وأدت دوراً رئيسياً في تفكيك شبكات التنظيم وتقليص نفوذه، ثم في نيسان 2010، تلقى التنظيم ضربة قاصمة بمقتل زعيمه أبي عمر البغدادي، وقائده العسكري أبي أيوب المصري، في عملية عراقية – أمريكية. 

تبدل المشهد كلياً بصعود أبي بكر البغدادي، إذ تمكن من لملمة شتات التنظيم وتهيئته لمرحلة جديدة تحت مسمى “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، وما بين عامي 2013 و2014، تمكن من السيطرة على مدن محورية مثل الفلوجة والموصل وأجزاء من الرمادي، قبل أن يعلن في حزيران 2014، قيام “دولة الخلافة” على مساحات واسعة من العراق وسوريا.  

خلال هذه المرحلة، أسس التنظيم جهازاً إدارياً مناطقياً متكاملاً، ضم دواوين للأمن والتعليم والإعلام والقضاء والصحة، مما أضفى عليه مظهر الدولة. وعلى المستوى العسكري، انتقل من أسلوب حرب العصابات إلى القتال التقليدي، مستفيداً من استيلائه على مخازن ضخمة من الأسلحة الثقيلة التابعة للجيشين العراقي والسوري، التي ضمت عربات مصفحة، وناقلات جنود مدرعة، ودبابات (T-55 وT-72)، ومنظومات مدفعية ميدانية، وقذائف هاون، وصواريخ مضادة للدبابات، وراجمات صواريخ BM-21، بالإضافة إلى كميات كبيرة من الذخائر. كما عمل على تطوير وحدات متخصصة كفرق القناصة والانغماسيين. 

هذا التسلح الكبير كان عاملاً أساسياً في تحويل التنظيم إلى قوة قادرة على القتال التقليدي، غير أن هذا الواقع لم يدم طويلاً، فمع تشكيل التحالف الدولي أواخر 2014، دخل داعش مرحلة الاستنزاف، وخسر تباعاً مدناً رئيسية، مثل تكريت وسنجار والفلوجة ومنبج، وصولاً إلى هزيمته في الموصل والرقة عام 2017.  

وما بين 2017 و2019، انهارت خلافته المكانية في العراق وسوريا، لتُختتم هذه الحقبة بمقتل أبي بكر البغدادي في تشرين الأول 2019، من خلال غارة أمريكية على مخبئه في باريشا شمالي سوريا. 

لم يؤدِّ غياب البغدادي إلى زوال التنظيم، فقد ترك وراءه بنية تنظيمية مرنة، وأطراً فكرية مكنت داعش من تجاوز صدمة الانهيار وضمان استمرارية نشاطه.  

على الصعيد العسكري، حافظ التنظيم على هياكل لامركزية قادرة على شن هجمات متفرقة، والتكيف مع الضغوط من خلال تكتيكات حرب العصابات، والتمدد في ساحات جديدة مثل أفريقيا. أما على الصعيد الفكري، فقد ترك البغدادي إرثاً أيديولوجياً، ورسخ فكرة “الخلافة” كغاية، مانحاً أنصاره دافعاً عقائدياً يتجاوز الهزائم الميدانية. 

هذا التداخل بين المرونة العسكرية والصلابة الفكرية منح التنظيم قدرة على البقاء رغم سقوط مركز “الدولة المكانية” ومقتل أبرز قادته، وهو ما يطرح تساؤلات جوهرية حول إرث البغدادي والعوامل البنيوية التي مكنت التنظيم من الاستمرار رغم الضغوط والخسائر الفادحة. 

ملامح “خلافة” داعش بعد انكسار مركزها 

مع سقوط آخر معاقل داعش في الباغوز شرق سوريا عام 2019، دخل التنظيم مرحلة جديدة اتسمت باللامركزية، متحولاً من السيطرة الجغرافية إلى الكمون الدفاعي وتكتيكات حرب العصابات، مع إعادة تشكيل استراتيجيته في صورة شبكة من الخلايا النائمة والولايات المرنة المنتشرة عبر القارات. 

في السنوات التي تلت سقوط الباغوز، عمل التنظيم على التكيف مع واقعه الجديد، فقلص هجماته أحياناً لإعادة ترتيب صفوفه، لكنه واصل في المقابل شن عمليات كر وفر محدودة، وتنفيذ محاولات لتهريب مقاتليه من السجون، مع استغلال الثغرات الأمنية كلما سنحت الفرصة. 

ولتعويض خسائره في العراق وسوريا، اتجه داعش نحو توسيع نشاطه الخارجي، مركزاً بشكل خاص على أفريقيا التي تحولت إلى أبرز ساحاته، ويعكس المشهد الراهن انقلاب المعادلة مقارنة بعام 2015، إذ لم يعد المركز في العراق وسوريا، بل أصبحت الأجنحة الأفريقية تمثل الشريان الرئيسي لبقاء التنظيم. 

وقد أعاد داعش هيكلة وجوده في أفريقيا ضمن سبع ولايات رئيسية، ولاية غرب أفريقيا المتمركزة في حوض بحيرة تشاد، وولاية الساحل الممتدة عبر مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وولايات وسط أفريقيا وموزمبيق والصومال، إضافة إلى ولايتي الجزائر وتونس اللتين اقتصر حضوره فيهما على أدوار محدودة في التجنيد والدعاية. 

ويُعد فرع غرب أفريقيا الأكبر والأكثر فاعلية عسكرياً وإدارياً، إذ يواصل تنفيذ هجمات متكررة ضد القوات النظامية والمجتمعات المحلية، مستفيداً من هشاشة الأمن وضعف الاستقرار في المنطقة، وتشير بعض التقديرات إلى أن ولاية غرب أفريقيا تضم ما بين 8 آلاف و12 ألف مقاتل من داعش. 

في المقابل، برزت ولاية وسط أفريقيا كلاعب صاعد، إذ تبنى التنظيم منذ أوائل عام 2025 أكثر من مئة هجوم في كل من الكونغو الديمقراطية وأوغندا، ما يعكس اتساع نطاق نشاطه الإقليمي. 

أما في موزمبيق، فقد أظهر التنظيم قدرة لافتة على السيطرة على مواقع استراتيجية، أبرزها مدينة موسيمبوا دا برايا الساحلية التي حكمها لأكثر من عام، قبل أن يوسع نطاق عملياته إلى مقاطعة نياسا، وخلال النصف الأول من عام 2025، شنت هذه الولاية 90 هجوماً استهدف الفصائل الموالية للحكومة والمدنيين المسيحيين والجيش الموزمبيقي. 

كما برزت ولاية الساحل كأسرع فروع داعش نمواً منذ أواخر العقد الماضي، إذ انتقلت من نحو 425 مقاتلاً عام 2018، إلى ما بين ألفين وثلاثة آلاف مقاتل حالياً، وهو ما يعكس تضاعف قوتها خلال فترة وجيزة.  

اقرأ أيضاً

ماذا كان يقول الآخرون؟ عن جرائم “داعش” في الترجمة والتغطية الإعلامية 

وقد وسعت ولاية الساحل سيطرتها في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، لا سيما في المنطقة الحدودية الثلاثية ليبتاكو – غورما، مما أسهم في إنشاء مركز إقليمي لنشاط التنظيم المتطرف في القارة، وخلال النصف الأول من عام 2025، نفذت الولاية أكثر من 30 هجوماً استهدف القوات النظامية في هذه الدول الثلاث. 

ويُلاحظ أن ولاية الساحل قد شهدت تحولاً في استراتيجياتها، حيث انتقلت من أسلوب حرب العصابات إلى تكتيكات أكثر تنسيقاً وتنظيماً، مما يعكس تطوراً في هيكلها العسكري والإداري وقدرتها على تنفيذ عمليات معقدة وفعالة في مناطق متعددة. 

بوستر إعلامي لإصدار داعش عن “ولاية الساحل” بتاريخ 2 آب 2025، يوثق مشاهد من عمليات التنظيم في المنطقة. 

أما فرع الصومال، فقد شهد خلال العامين الماضيين نمواً لافتاً جعله مركزاً لوجستياً مهماً للتنظيم، حيث رسخ وجوده هناك من خلال معارك ضارية مع حركة الشباب، وسيطر على مناطق استراتيجية مثل جبال بونتلاند، واستفاد من تدفق مقاتلين أجانب من دول الجوار ومن حالة عدم الاستقرار المحلي لتعزيز نفوذه. 

وفي العدد 491 من أسبوعية النبأ، نشر داعش رسماً بيانياً يُشير إلى نشاطه في ولايته الصومالية، مُعلناً مسؤوليته عن 55 هجوماً خلال 52 يوماً، من 15 شباط 2025 إلى التاسع من نيسان 2025، أسفرت عن مقتل وإصابة 318 جندياً وتدمير 26 مركبة عسكرية. 

وقد دعمت قيادة داعش هذا التوسع في الصومال بجهد دعائي مكثف، أنتجت خلاله محتوى إعلامياً موجهاً للمجتمعات الناطقة بالصومالية والأمهرية والسواحيلية والهوسية بغرض استقطاب مقاتلين، وبما يتوافق مع استراتيجية التنظيم الرامية إلى مخاطبة المسلمين بلغاتهم وأعراقهم المتنوعة لكسب الولاء والتأييد، بدلاً من الاكتفاء باللغة العربية وحدها. 

واللافت أنه في 2022، أصدر داعش مقطعاً  مصوراً دعائياً مدته 25 دقيقة بعنوان “على درب الفاتحين” باللغة الأمهرية مع ترجمة عربية، وقد ركز على إبراز المقاتلين الإثيوبيين ضمن صفوف التنظيم في الصومال، وما زال فرع الصومال يحظى بدعم واسع من شبكات إعلامية غير رسمية مؤيدة لداعش.﷟ 

كذلك برز فرع خراسان في أفغانستان بعد عام 2019 كأحد أخطر أذرع داعش، مستقطباً مقاتلين من دول آسيا الوسطى، ومنفذاً هجمات عابرة للحدود طالت إيران وروسيا، وقد صنف تقرير الأمين العام للأمم المتحدة لعام 2025 هذا الفرع كأبرز التهديدات الإرهابية المرتبطة بالتنظيم. 

وفي موازاة ذلك، وسع داعش نشاطه في جنوب شرق آسيا من خلال تحالفه مع جماعة أبو سياف في الفلبين، حيث نفذ منذ عام 2019 عدة هجمات في جنوب الفلبين، كما أعلن داعش في العام نفسه عن تأسيس ولاية الهند في إقليم جامو وكشمير. 

داعشي يقتل سائق صهريج قرب حقل كبيبة في منطقة الشدادي، تشرين الثاني 2024. 

يمكن القول إنه بعد 2019 تراجعت وتيرة هجمات داعش بشكل كبير، وفشل التنظيم في استعادة وضعه السابق في سوريا والعراق، حيث استمرت عملياته السنوية في الانخفاض، ووصلت إلى أدنى مستوياتها عام 2023، فمثلاً انخفضت الهجمات في العراق بنسبة 65 بالمئة مقارنة بعام 2022، وفي سوريا بنسبة 60 بالمئة، كما انخفضت هجمات الفروع المختلفة على مستوى العالم أكثر من النصف مقارنة بالعام السابق. 

لكن مع بداية عام 2024، وفي عشريته الأولى لإعلان ما يسميه “الخلافة”، شهدت هجمات التنظيم صعوداً ملموساً على عدة جبهات، إذ ارتفعت الهجمات بنسبة تصل إلى 250 بالمئة مقارنة بعام 2023، ففي سوريا ارتفع عدد الهجمات إلى نحو 700 هجوم، أي ثلاثة أضعاف العام السابق، بينما برزت أفريقيا الوسطى ومنطقة الساحل كمراكز جديدة لنشاط داعش، مع توسع نشاط ولاية الساحل في مالي وبوركينا فاسو والنيجر. 

وما بين عامي 2024 و2025، نفذ التنظيم سلسلة هجمات نوعية تجاوزت الحدود، شملت إيران وروسيا وألمانيا والولايات المتحدة، وفي النصف الأول من عام 2025 وحده، تجاوز عدد عملياته في أفريقيا 565 هجوماً في تسع دول، ما يعكس قدرة التنظيم على إعادة التموضع واستغلال الفجوات الأمنية رغم خسائره السابقة. 

بحلول عام 2025، لم يعد داعش كياناً متجانساً كما كان سابقاً، بل تحول إلى شبكة متعددة المراكز تعتمد على اللامركزية العملياتية، مع الاحتفاظ بالبيعة كرمز للشرعية، ولجاذبية فكرة “الخلافة”. وقد تنوعت عملياته ما بين الاشتباك المباشر والاستيلاء على بعض المدن والقرى في أفريقيا، أو تنفيذ عمليات كر وفر كما يحدث في العراق وسوريا. 

وأصبح مركز التنظيم الأبرز في أفريقيا وولاية خراسان، مع استمرار وجود نشط في جنوب شرق آسيا، واستمرار عمليات محدودة في العراق وسوريا رغم تراجع نفوذه هناك، وبهذا لم يعد تهديد داعش مرتبطاً بجغرافيا محددة، بل بات يعتمد على شبكة مترابطة عالمياً. 

استند هذا الانتشار إلى عوامل بنيوية رئيسية، أبرزها مرونة البنية الإدارية التي تركها البغدادي، وتنوع مصادر التمويل، إضافة إلى استغلال داعش ضعف الحوكمة وهشاشة الدول التي ينشط فيها. ورغم فقدانه للحاضنة الاجتماعية وتراجع مصادر تمويله التقليدية، حافظ داعش على فعاليته وتمكن من التكيف مع الجغرافيا والبيئة الأمنية، مما أتاح له شن هجمات متفرقة وزعزعة الاستقرار. 

ويُلاحظ في هجمات داعش الأخيرة ترابطاً لافتاً في التوقيت وآلية التنسيق، إذ تبدو وكأنها نتاج استراتيجية تتجاوز الطابع اللامركزي للخلايا المستقلة، فقد جاءت العمليات متزامنة في أكثر من ساحة جغرافية، مثلما حدث مع غزوة “واقتلوهم حيث ثقفتموهم”، التي أطلقها داعش رداً على الحرب في غزة.  

وهو ما يشير إلى وجود توجيه مركزي يحدد الأولويات ويضبط الإيقاع العام، مع الإبقاء على هامش واسع من الحرية للتنفيذ الميداني، هذه القدرة على الجمع بين اللامركزية في الحركة والتنسيق الاستراتيجي في التخطيط مكنت التنظيم من الظهور كقوة موحدة رغم تشرذم هياكله. 

حالياً يتركز نشاط التنظيم في أفريقيا على مهاجمة المدن الاستراتيجية، مستفيداً من هشاشة البنى الأمنية وضعف الحكومات المحلية، فولاياته في الساحل ونيجيريا والكونغو وموزمبيق تنفذ هجمات منسقة تستهدف المراكز الحضرية الحيوية، في محاولة لفرض نفوذه على عقد الطرق والموارد. 

أما في العراق وسوريا، فقد عاد داعش إلى تكتيكات حرب العصابات، معتمداً على الكمائن والاغتيالات وزرع العبوات الناسفة واستهداف البنى الأمنية والعشائرية لإرباك السلطات المحلية. واستغل التنظيم الطبيعة الجغرافية في بادية الشام والحدود العراقية السورية لتأمين ملاذات آمنة، ما يعكس استراتيجيته الجديدة القائمة على “الالتجاء إلى الصحراء” بعد فشل محاولاته السابقة في السيطرة المباشرة على الأرض. 

داعشي يقتل شخصاً وصفه بالجاسوس جنوب غرب الموصل في آب 2025. 

في العراق، يواصل داعش تنفيذ هجمات متفرقة في مناطق صلاح الدين وكركوك والأنبار، فرغم الضغوط العسكرية لا يزال التنظيم قادراً على تنفيذ هجمات محدودة، مما يعكس مرونته وقدرته على التكيف مع الظروف الأمنية المتغيرة. 

أما في سوريا، فقد شهدت مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية تصاعداً في نشاط خلايا داعش خلال عام 2025، نفذت هذه الخلايا هجمات متفرقة استهدفت نقاط تفتيش ومركبات عسكرية، ورغم التراجع النسبي في النشاط مقارنة بالعام السابق، إلا أن التنظيم لا يزال يشكل تهديداً مستمراً في سوريا. وحسب تقديرات الولايات المتحدة، لا يزال أكثر من 2500 مقاتل من داعش ينشطون في سوريا والعراق حتى عام 2024، بينما يُحتجز آلاف من مقاتلي التنظيم في سجون البلدين.  

خلفاء ما بعد البغدادي: قيادة متوارية وحضور خافت 

بعد مقتل أبي بكر البغدادي في تشرين الأول 2019، دخل تنظيم داعش مرحلة جديدة تقوم على السرية المطلقة، حيث يُعلن عن الخليفة باللقب فقط، مثل الخليفة الحالي أبي حفص الهاشمي القرشي. كما أصبحت الأولوية في اختيار الخلفاء تتعلق بالقدرة على حماية التنظيم والحفاظ على بنيته، بدلاً من التركيز على الكاريزما أو الزعامة التعبوية، ما يعكس تحول القيادة إلى دور إداري وأمني أكثر منه سياسي أو تعبوي. 

في تشرين الأول 2019، عين التنظيم خليفة جديداً هو أبو إبراهيم الهاشمي القرشي (أمير محمد سعيد المولى)، الذي رغم افتقاره للكاريزما أدى دوراً أمنياً في منع انهيار التنظيم والحفاظ على بنيته خلال فترة حرجة من التراجع والخسائر في العراق وسوريا. 

ومع اغتيال أبي إبراهيم، تولى أبو الحسن الهاشمي القرشي قيادة التنظيم بين آذار وتشرين الأول 2022، وكانت شخصيته غامضة، وحضوره الإعلامي شبه منعدم، ولم يترك أي بصمة واضحة على مسار التنظيم. 

ثم في أواخر 2022، صعد أبو الحسين الحسيني القرشي إلى الخلافة، لكنه افتقر إلى التأثير، وواصل التنظيم في عهده عمليات تمرد محدودة في العراق وسوريا، بينما برزت قوة فروعه في أفريقيا وأفغانستان، وقد قُتل أبو الحسين في آب 2023، بعملية نفذتها هيئة تحرير الشام. 

وبعد مقتله، أعلن داعش عن تعيين أبي حفص الهاشمي القرشي الخليفة الخامس والحالي، ولا تزال شخصيته مجهولة. في الواقع، تمثل قيادة أبي حفص أقصى درجات الانكفاء والسرية، فلم يظهر إعلامياً واكتفى بتوجيه بيانات مكتوبة تبثها مؤسسة الفرقان من خلال المتحدث باسم التنظيم “أبي حذيفة الأنصاري“. 

ورغم هذا الانكفاء، تمكن التنظيم خلال عهده من تنفيذ سلسلة هجمات جريئة ومخطط لها بعناية، أظهرت قدرة داعش على التنسيق بين خلاياه المنتشرة عالمياً، سواء في أفريقيا أو آسيا. ويعد عهد أبي حفص من أقوى فترات ما بعد البغدادي، إذ شهد التنظيم صعوداً ملموساً في النشاط العملياتي، وتوسعاً في فروعه، وتعزيزاً لقدراته العسكرية والإدارية. 

على مدار الفترة منذ 2019، حاول خلفاء ما بعد البغدادي إعادة ترميم التنظيم بدرجات متفاوتة، لكنهم لم يتمكنوا من استعادة الزخم التعبوي أو الرمزية التي حققها البغدادي، فبينما كان البغدادي يجمع بين الزعامة الدينية والرمزية السياسية، جاء خلفاؤه بلا حضور يُذكر، مكتفين بإدارة بقايا التنظيم وضمان استمرار البيعة. 

في الواقع، منذ مقتل البغدادي، اتجه مسار القيادة في داعش نحو انحدار مستمر في الكاريزما والتأثير، فقد تراجع الخلفاء اللاحقون إلى أداء أدوار إدارية وأمنية بحتة، وتحولت الخلافة إلى مجرد فكرة رمزية، وباتت القوة الفعلية للتنظيم بيد فروعه الإقليمية، خصوصاً في أفريقيا وخراسان، أكثر من المركز في العراق وسوريا. 

فمنذ عام 2017، بدأ داعش يتلقى ضربات قاصمة مع خسارة معاقله الكبرى في الموصل والرقة، ثم انهار آخر معقل له في الباغوز عام 2019، على يد التحالف الدولي، ومع مقتل عشرات الآلاف من مقاتليه، انهارت “الخلافة” المكانية التي أعلنها عام 2014، وتحول التنظيم من كيان مركزي هرمي إلى شبكة لامركزية مرنة تضم خلايا نائمة ومنتسبين موزعين في مناطق متعددة، مما منحها القدرة على الاستمرار رغم تفكك بنيتها التقليدية. 

بعد انهيار مركز الدولة عاد داعش إلى أساليب حرب العصابات التقليدية، الكمائن، والاغتيالات، وزرع العبوات الناسفة، مع الاعتماد على وحدات صغيرة مستقلة، أكثر شبكية ولا مركزية، قادرة على شن هجمات مستمرة. 

أثبت داعش قدرته على الاستمرار أمام التحديات الداخلية والخارجية، إذ تمكن رغم الخسائر الفادحة في صفوفه وقياداته من إعادة تجميع شبكاته واستعادة قدرات هجومية محدودة، ولعل السؤال الأهم كيف تمكن من الصمود أمام الصعاب الهائلة؟  

يكمن جوهر بقائه في قدرته على التحول بمرونة والتنقل ما بين الحرب التقليدية وحرب العصابات والإرهاب وفق مقتضيات الميدان، مع الاعتماد على وحدات صغيرة لامركزية تتمتع باستقلالية عالية قادرة على شن هجمات مستمرة، ومن خلال هذا الأسلوب ينجح داعش في إعادة تجميع قوته بسرعة بعد الهزائم، ونقل عملياته إلى مناطق جديدة بعد أي هزيمة. 

لم يعد داعش دولة بالمعنى الذي أراده له البغدادي عام 2014، بل أصبح شبكة مرنة يصعب اجتثاثها بالكامل، وتحول التنظيم من كيان مركزي إلى شبكة عالمية تضم منتسبين وخلايا نائمة موزعين في مناطق متعددة، مما منحها القدرة على الاستمرار رغم تفكك بنيتها في معاقلها التقليدية. 

وقد تبنى داعش نموذجاً إقليمياً يعتمد على العمل اللامركزي، مع احتفاظ نواة القيادة بالتواصل والإشراف على الشبكة العالمية، إذ يمثل مجلس الشورى المركزي العمود الفقري للتنظيم، متولياً القرارات الاستراتيجية الكبرى، بما في ذلك تعيين الخلفاء والإشراف على الفروع الإقليمية وتنسيق العمليات بين الولايات المختلفة. 

مرتكزات استمرار داعش 

يعتمد بقاء داعش على مجموعة من المرتكزات الجوهرية التي تمكنه من الصمود رغم الضربات القاسية والهزائم المكانية: 

  • الهيكل الإداري المرن 

ترك البغدادي بنية إدارية تسمح بتجديد القيادة دون انهيار شامل، مع الاحتفاظ بنواة قيادية مركزية تشرف على الشبكة العالمية وتنسق العمليات بين الولايات المختلفة، بما يضمن استمرارية عمل التنظيم في ظروف الضغط الأمني. 

  • التحول إلى اللامركزية 

بعد سقوط معاقله في العراق وسوريا، تحول التنظيم من نموذج السيطرة المكانية إلى شبكة لامركزية تضم خلايا نائمة ووحدات مستقلة صغيرة، تعتمد على تكتيكات هجومية تجمع بين المناورة والعمليات شبه المتزامنة في ساحات متعددة، بدلاً من السعي للسيطرة الكاملة على الأرض، وقد سمح له هذا التحول بتنفيذ هجمات كر وفر وعمليات إرهابية مستمرة رغم فقدان “الخلافة” المكانية. 

  • الجهاز العسكري المرن 

الجهاز العسكري لداعش يتميز بالمرونة والقدرة على التكيف مع مختلف الظروف الميدانية، إذ يعتمد على شبكات عسكرية تسمح له بإدارة العمليات بشكل فعال، وتنفيذ هجمات متفرقة حتى في ظل الضربات المكثفة.  

شكل التنظيم وحدات صغيرة مستقلة، قادرة على التحرك بسرعة بين مناطق العمليات المختلفة، ما يمنحه ميزة تكتيكية في تنفيذ الكمائن والاغتيالات، كما أن هذه الشبكات العسكرية تسمح بإعادة تجميع القوة بعد الهزائم، مع الحفاظ على القدرة على التخطيط العملياتي والتنسيق بين الولايات والفروع المختلفة، مما يعكس نهج داعش في الجمع بين المركزية في اتخاذ القرار واللامركزية في التنفيذ على الأرض. 

  • التمويل المتنوع  

يمول داعش نفسه عبر مزيج من الموارد، تشمل الأموال المخزنة، والنهب، والغنائم، والاستيلاء على الأسلحة والذخائر من الحواجز العسكرية، إضافة إلى مساهمات الفروع الإقليمية. كما يعتمد بشكل متزايد على الأدوات المالية الرقمية، من عملات مشفرة ومنصات مدفوعات مجهولة الهوية، لتحصيل وتحويل الأموال الخاصة بالدعاية واللوجستيات والعمليات، متجاوزاً الرقابة المالية التقليدية. 

  • التماسك الأيديولوجي  

يتمتع داعش بتماسك أيديولوجي قوي يعزز قدرة عناصره على الصمود أمام الضغوط الخارجية، كما يعتمد بشكل متزايد على أدوات المراسلة المشفرة كوسيلة رئيسية للتواصل وتوسيع دائرة تأثيره، ويحث أتباعه على استخدام هذه التطبيقات لضمان السرية والأمان. 

بجانب اعتماده خطاباً متعدد اللغات، ففي أفريقيا، صاغ خطابات بلغات محلية، ووسع خطابه ليشمل جماعات كالهنود والطاجيك والأوزبك، مقدماً سرديات هوية وانتماء بديلة لتعزيز مشروعية “الخلافة”. 

استمرارية الصورة الرمزية للخلافة 

يعمل التنظيم على إبقاء فكرة “الخلافة” حية في مخيلة أنصاره، مستحضراً تجربة 2014، كمصدر رمزي للمجد، ومؤطراً خطاباته ببعد ديني يعزز الشرعية والقدر المحتوم بعودة الخلافة.  

يستخدم داعش رموزه وشعاراته وشبكاته الإعلامية لتأكيد أن مشروع “الخلافة” مستمر، ويُذكر قادة داعش أتباعهم مراراً وتكراراً بأنهم يسيرون على خطى النبي محمد وصحابته، كما يتضح من كلمة المتحدث الرسمي باسم التنظيم أبي حذيفة الأنصاري: “فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به“، “إن الذي جرى على مشايخنا وأمرائنا هو عين ما كان يجري في خير القرون على صفوة المسلمين.. إن ما جرى على خلفائنا الأربعة رحمهم الله قد مضت به سنة الله في الخلفاء السابقين الراشدين”. 

مبايعة عناصر من داعش في الصومال لأبي الحسن الهاشمي القرشي بصفته “أمير المؤمنين” في آذار 2022. 

رغم تراجعه الكبير بعد فقدان معاقله في العراق وسوريا، لم يختفِ تهديد داعش، بل تحور وتكيف مع الواقع الجديد، مستفيداً من الفوضى السياسية والنزاعات المحلية لإعادة تشكيل خلاياه، وتطوير أساليب قتاله، وتجديد قيادته، وتغيير طرق تجنيده. 

إن خبرة داعش في الانتقال من الهيكلية المركزية إلى الشبكة اللامركزية تجعل سيناريو الزوال بعيد الاحتمال في الوقت القريب، إذ من المرجح أن يظل قوة مقلقة من خلال هجمات متفرقة، مستغلاً أي فراغ سياسي أو أمني للعودة بشكل أوسع، كما أن بنيته اللامركزية، وتمويله المتنوع، والتزامه الأيديولوجي، تضمن استمراره كتهديد قادر على شن عمليات هجومية رغم خسائره الإقليمية.