"مهدّدون دائماً".. صحفيو العراق في مرمى النار منذ عشرين عاماً

زينب المشاط

23 آذار 2023

تعدّد الإعلام لم يعنِ تعدّدية الأصوات بالقدر الذي أدى إلى الاستحواذ على المشهد الصحفي.. رحلة صحفيين وصحفيات طوال عشرين عاماً: تهجروا، هُددوا، خُطفوا، وشُهِّر بهم وبعائلاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي.. كيف ينجو الصحفيّ في العراق؟ قصة عدنان الطائي وأفراح شوقي وآخرين..

شَعر العاملون في مكتب قناة UTV في شارع النضال وسط بغداد بالغبطة، لأن القنبلة اليدوية التي رماها مسلحّون على مكتبهم في 18 شباط الماضي لم تنفجر، ما يعني أنهم نجوا، مجدداً، من محاولة لإلحاق ضرر بهم.

كما في الكثير من الحالات التي يستهدف فيها الصحفيون، نادراً ما تُعرف الجهة المستهدفة، على الأقل علناً، بيد أن كل القرائن تشير إلى أن الهجوم حصل بسبب برنامج الإعلامي عدنان الطائي.

لكن الطائي لم يكن موجوداً في المبنى، وهم يعرفون ذلك، ومع ذلك هجموا على المحطة التلفزيونية.

“أسئلتي التي لا تهدف لاستفزاز السياسي، بل أحاول دفعه لتقديم مبرّر أو على الأقل جعله يحرجني بإجابته..”، لكن إجابات الطائي سرعان ما تتحول إلى سلاحٍ يوجه صوبه ويهدف إلى قتله بشتى الطرق.

تلقى الطائي تهديدات مختلفة بسبب برامجه التلفزيونية التي استضاف فيها سياسيين على مدار العشرين عاماً الماضية.

يعيش الطائي منذ 2010 خارج العراق، بعد أن فر وعائلته على إثر التهديدات المستمرة على حياتهم، وعاش في العاصمة الأردنيّة عمّان على مدار سبع سنوات، ومن ثم انتقل ليعيش في تركيا لغاية الآن، حيث أكمل عمله كصحفي في الفضائيات العراقية، وإحداها UTV التي لديها مكتب هناك.

لكن لا الطائي ولا الفضائية التي يعمل فيها هما استثناء. فسيرة اللوذ والفرار من أجل الحماية خارج العراق باتت تلاحق الكثير من الصحفيين في العراق بعد 2003.

المشهد الصحفي في العراق بعد 2003

عام 2003، تغنت أطراف كثيرة بحقبة تتوجها الديمقراطية وحرية التعبير في العراق، وانعكس ذلك في انتشار مئات الصحف والفضائيات التي افتتحت بعد الغزو مباشرة.

بيد أن تكاثر المحطات أدى إلى إنتاج مشهد إعلامي حزبي وطائفي، ولا وجود لصحافة مستقلة إلا ما ندر.

المال السياسي والفساد الذي تغلغل في الإعلام أدى إلى تصاعد العنف ضد الصحفيين، واستحواذ خطاب سياسي وطائفي، يرفض أي نقد للسلطة أياً كانت.

الحال هذه، فإن تعدد الاعلام لم يعنِ تعددية الأصوات، بالقدر الذي أدى إلى الاستحواذ على المشهد الصحفي. 

ومع النظام الجديد، نصّ دستور العراق عام 2005 والذي شمل حرية التعبير عن الرأي وحرية الصحافة وفق المادة 38، وفي عام 2011 شرع قانون لحماية الصحفيين.

لكن هذه القوانين بالكاد تطبق، أو تطبق بحسب المصالح السياسية للأحزاب والميلشيات كلاً وفق أجنداتها، وهو ما يجعل من حرية الصحافة أن تكون معدومة في العراق، حيث تتعدد أسباب القتل. 

“الغالبية قتلهم مسلحون مجهولون أو مليشيات، وغيرهم أثناء تواجدهم في أماكن حدثت فيها انفجارات نفذتها مجموعات جهادية، كما أن عشرات قتلوا بنيران قوات التحالف، والبعض بنيران القوات العراقية”، وفقاً لمرصد الحريات الصحفية.

بدأت الجمعيات المدافعة عن حريات التعبير وحرية العمل الصحفي بالتشكل بعد 2003 أيضاً، على ضوء العنف المتزايد ضد الصحفيين، والذي بلغ ذروته أثناء فترة الاقتتال الطائفي بين أعوام 2006 و2008. ولكن حتى هذه المؤسسات تواجه الكثير من الصعوبات المادية والمعنوية، نتيجة التهديدات والاتهامات بأنها تعمل لأجندات خارجية، وهذه بمثابة تهمة جاهزة توجه لأي صحفي مستقل في العراق أو جمعيات حقوقية تهتم بحرية التعبير.

لذلك، فليست ثمة احصائيات دقيقة تخص الانتهاكات التي يتعرض لها الصحفيون في العراق.

تقدّر اللجنة لحماية الصحافيين أن 282 صحفياً، بين عراقي وعربي وأجنبي، قد قتلوا في العراق منذ 2003.

قال مصطفى ناصر، رئيس جمعية الدفاع عن حرية الصحافة، إن الجمعية سجلت مقتل 92 صحفياً على الأقل بين السنوات 2010 و2020. 

هكذا تحول العراق منذ الغزو إلى واحد من أكثر الدول خطورة بالنسبة للصحفيين.

والغالبية العظمى من حالات القتل تبقى بلا مُحاسبة.

في العام الماضي، أُدرج العراق في المرتبة الخامسة في قائمة لجنة حماية الصحفيين للدول التي يسود فيها الإفلات من عقاب قتل الصحفيين في العالم، وذلك بعد كل من الصومال، وسوريا وجنوب السودان وأفغانستان.  

أما خطف الصحفيين، فهو ظاهرة منتشرة أطاحت بالكثير من الصحفيين، فهنالك 14 صحفياً مجهول المصير من دون أن يكشف القضاء أو الجهات الامنية عن الجهة التي تقف وراء هذه الانتهاكات

أما الذين كانوا محظوظين وأطلق سراحهم، فقد ساد الخوف حياتهم حد اضطرار كثر منهم إلى مغادرة العراق.

أفراح شوقي كانت واحدة منهم. 

عملت شوقي في الصحافة منذ عام 1995، أي في حقبة النظام السابق، ورغم دكتاتورية النظام إلا أن الاختطاف والانتهاك واجهته في عام 2016، تقول لنا. 

كانت مراسلة لصحيفة “الشرق الأوسط” اللندنية وهي صحيفة سعودية التأسيس.

“تم اطلاق النار على منزلي يوم 25 كانون الأول 2016 ودخول حوالي 20 ملثما مسلحا مدنيا وجرى اقتيادي من بيتي بملابس النوم، بعد أن قاموا بتقييد عائلتي وأطفالي”.

في كانون الثاني 2017، اطلق سراح افراح شوقي بعد حملة كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي طالبت بالافراج عنها. 

قالت شوقي “اتهموني بأني أتقاضى المال من السفارة السعودية والأمريكية للكتابة ضد بلدي، كما اتهموني بخيانة زوجي مع رجال آخرين واجبروني على التوقيع على أوراق تفيد بذلك”.

“حين كنت أرفض التوقيع كانت هناك عصا بجوارهم يقومون بضربي بها”.

لم تبق أفراح طويلاً بعد ذلك في العراق. بعدها بشهرين هاجرت إلى فرنسا. 

جيوش تهدد الصحفيين

اختلفت أشكال قمع حرية التعبير للصحفيين وتنوعت، لم تنته عند القتل والتهجير أو الاختطاف، فهنالك طرق ووسائل مختلفة.

أكد مصطفى ناصر “الانتهاكات تتصاعد ضد الصحفي، فبعد أن كان الضابط الكبير والمسؤول هو من ينتهك (بمنع التصوير في الشارع أو التهديد)، اليوم نجد ان الجندي الصغير يبادر بالانتهاك ايضاً”.

يُمنع الصحفي من التصوير في الشوارع وتوضع أمامه الكثير من العقبات، حتى يتم احياناً الاعتداء عليه بالضرب أو تحطيم معداته أو تهديده وكادره، وفي كثير من الأحيان لا تكون القوات الامنية المتواجدة قادرة على حمايته، أو تكون هي نفسها ضالعة في التضييق على عمله.

هذا ما حصل مع عبد الرحمن – اسم مستعار- وهو صحفي يعمل على الملف العراقي لصالح قناة أجنبية معروفة تعمل على تغطية القضايا الاجتماعية والحريّات الفردية للشباب العراقي.

في شباط 2023، وأثناء تواجده مع كادره للتصوير في بغداد، استدعوا من جهة أمنية ليخبروهم بأن القوات الأمنية لا تقوى على الدفاع عنهم، ما دفعهم لعدم إتمام مهامهم وانسحبوا فوراً لشعورهم بوجود تهديد مبطن. 

الجيوش، النظامية وغيرها، التي تحارب الصحافة ليست واقعية وحسب، بل الكترونية ايضاً. إذ تعرض عبد الرحمن إلى سلسلة من الملاحقات والمضايقات على هاتفه وحساباته على السوشيال ميديا، من قبل ما بات يعرف في العراق بـ”الجيوش الالكترونية”.

تعود بعض الحسابات لأشخاص مقربين من أحزاب السلطة وأخرى صفحات وهميّة معرفة بأسماء مستعارة تقوم بنشر الأخبار المضللة، والتضييق على مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي، عبر التسقيط والفضائحية. وكانت شركة ميتاقد أعلنت في السنوات الأخيرة عن حملة تستهدف هذه الحسابات في العراق، لما تسببه من ضرر. 

“انتشرت الجيوش الالكترونية في العراق في عام 2010، قبيل الانتخابات آنذاك بعدما استعانت كتلة دولة القانون (بزعامة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي) بشركات بريطانية ولبنانية لإدارة حملتها الانتخابية وكانت واحدة من مقترحات هذه الشركات هي الترويج لهؤلاء السياسيين على مواقع التواصل”، كما يذكر مصطفى ناصر، قائلا “هنالك مئات الموظفين اليوم الذين ينتمون لملاكات وزارات عراقية مفرغون كليا للعمل كجيوش الكترونية ويأخذون رواتبهم من المال الحكومي”.

أشار ناصر إلى أن “أخطر ما يواجه حرية الصحافة اليوم بعد القتل هي الجيوش الالكترونية، إذ عادة ما تساهم هذه في التحريض ضد الصحفيين حتى مقتلهم، أو نشر أخبار كاذبة حول قتلهم بأنه على خلفيات عشائرية ولا يمت بصلة لكونه صحفياً”. 

بمقابل هذه الجيوش والتقييد ومنع الصحفي عن أداء مهامه، لا يوجد قانون “حق الصحفي بالحصول على المعلومة في العراق” بحسب الخبير القانوني مصدق عادل.

“القانون حين حاول البرلمان تشريعه واقراره حصلت الكثير من المعوقات لأنه سيجعل الصحافة قادرة على كشف الكثير من ملفات الفساد وهذا ما لا يتناسب مع مصلحة السياسيين اليوم”. 

صحفيو العراق .. هجرات متتالية

وعلى إثر كل تصاعد في العنف في العراق، تفقد البلاد فوجاً آخر من الصحفيين، إما قتلاً، أو رعباً بحيث ينسحبون من العمل في الإعلام، ويضطر كثر أيضاً إلى ترك البلاد للنجاة.

كانت تظاهرات تشرين 2019، والتي تعد أوسع تظاهرات شعبية في تاريخ العراق الحديث، قد أدت إلى هجرة جديدة للصحفيين.

قال ياسر السالم، رئيس النقابة الوطنية للصحفيين، إن “النقابة وفرت ملاذاً آمناً لـ19 صحفياً تركوا محافظاتهم وتوجهوا الى اربيل بسبب التظاهرات”.

بدوره، فإن المرصد العراقي لحقوق الإنسان سجّل تصاعداً هو الآخر في قمع الصحفيين وتخويفهم، واضطر أيضاً إلى سلك طُرق عملية لمساعدة بعض الصحفيين للنجاة بحياتهم والانتقال من بغداد إلى مُدن أخرى، بحسب مصطفى سعدون، رئيس المرصد.

أميرة، وهو اسم مستعار لصحفيّة فضلت أن تستتر خلفه، هي الاخرى عاشت على قيد هجرة منذ كانت فتاة في الرابعة عشر من عمرها.

هاجرت أميرة من بغداد إلى الموصل عام 2006 بسبب الاقتتال الطائفي، ثم هُجرّت من مركز المدينة في الموصل الى سد الموصل في عام 2007 بسبب تنظيم القاعدة آنذاك، وفي 2014 هاجرت الصحفية الموصلية الى بغداد مرة أخرى بعد احتلال تنظيم “داعش” للمدينة.

عام 2020، تركت اميرة العراق مغادرة الى لندن بعد أن تعرضت لحملات تحريض ضدها مع عدد من الصحفيين منتصف 2019 وقبيل تظاهرات تشرين الأول، بهدف تصفية وترهيب الصحفيين الداعمين للتظاهرات آنذاك “اختفيت عن ساحات تظاهرات اكتوبر تماما” ثم استحصلت فيزا للندن، وذهبت هناك طلباً للجوء بعدما تركت طفلها بعهدة أمها. 

لا وجود لأرقام حقيقية عن عدد الصحفيين الذين هاجروا العراق منذ 2003 الى اليوم. 

وفي كل مرة يقتل أو حتى عندما ينجو صحفي أو صحفية يترك ذلك أثراً عميقاً في نفوس الصحفيين العراقيين، قد يدفع بعضهم إلى الهجرة خارج البلاد، أو جعل العمل داخله مستحيلاً. 

“هاربٌ أنا دائماً.. يُمكنكِ تلخيص حياتي المهنية بهذه الجملة، فمنذ بدء عملي الصحفي عام 2003 في شبكة الاعلام العراقي وأنا ملاحق، أحياناً من قبل عناصر تنظيم القاعدة، وأخرى من فصائل مسلحة تعدّ اليوم جزءاً من الحكومة العراقية”، لخص مقدم البرامج السياسية العراقي عدنان الطائي رحلته الصحفية التي دامت عشرين عاماً. 

يعني ذلك للصحفيين في كثير من الأحيان فقدان القدرة على ممارسة عملهم، أو يصعب عليهم ذلك.

يُفضّل الطائي العمل داخل العراق ومحاورة السياسيين عن قرب، فهذا يُضيف كثيراً لأدائه كمقدم برامج، كما يقول.

أما أفراح، فتحاول اليوم الاستمرار بالعمل الصحفي من خلال الكتابة في بعض الصحف، رغم مشقة التواصل ومتابعة عملها كصحفية في الميدان بعيداً عن العراق.

ومثلها، فأميرة أيضاً لم تكن قادرة على العودة الى العراق، بعد أن تلقت مئات التهديدات واتهمت بأنها تعمل لصالح جهات ذات أجندات. ولأنها كما تقول “لا استطيع العمل بمجال اخر” لم تترك الاعلام، استمرت بممارسة مهنتها في مكتب احدى القنوات العراقية في تركيا حتى اليوم “افكر اليوم بحياتي التي قضيت منها عشرون عاماً هرباً وهجرة وها انا اخشى أن أورّث هذه التجربة لوَلَدي”.

*  أنتجت المادة بإشراف “جمار”، وتنشر النسخة الانجليزية بالتعاون مع “الغارديان

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

شَعر العاملون في مكتب قناة UTV في شارع النضال وسط بغداد بالغبطة، لأن القنبلة اليدوية التي رماها مسلحّون على مكتبهم في 18 شباط الماضي لم تنفجر، ما يعني أنهم نجوا، مجدداً، من محاولة لإلحاق ضرر بهم.

كما في الكثير من الحالات التي يستهدف فيها الصحفيون، نادراً ما تُعرف الجهة المستهدفة، على الأقل علناً، بيد أن كل القرائن تشير إلى أن الهجوم حصل بسبب برنامج الإعلامي عدنان الطائي.

لكن الطائي لم يكن موجوداً في المبنى، وهم يعرفون ذلك، ومع ذلك هجموا على المحطة التلفزيونية.

“أسئلتي التي لا تهدف لاستفزاز السياسي، بل أحاول دفعه لتقديم مبرّر أو على الأقل جعله يحرجني بإجابته..”، لكن إجابات الطائي سرعان ما تتحول إلى سلاحٍ يوجه صوبه ويهدف إلى قتله بشتى الطرق.

تلقى الطائي تهديدات مختلفة بسبب برامجه التلفزيونية التي استضاف فيها سياسيين على مدار العشرين عاماً الماضية.

يعيش الطائي منذ 2010 خارج العراق، بعد أن فر وعائلته على إثر التهديدات المستمرة على حياتهم، وعاش في العاصمة الأردنيّة عمّان على مدار سبع سنوات، ومن ثم انتقل ليعيش في تركيا لغاية الآن، حيث أكمل عمله كصحفي في الفضائيات العراقية، وإحداها UTV التي لديها مكتب هناك.

لكن لا الطائي ولا الفضائية التي يعمل فيها هما استثناء. فسيرة اللوذ والفرار من أجل الحماية خارج العراق باتت تلاحق الكثير من الصحفيين في العراق بعد 2003.

المشهد الصحفي في العراق بعد 2003

عام 2003، تغنت أطراف كثيرة بحقبة تتوجها الديمقراطية وحرية التعبير في العراق، وانعكس ذلك في انتشار مئات الصحف والفضائيات التي افتتحت بعد الغزو مباشرة.

بيد أن تكاثر المحطات أدى إلى إنتاج مشهد إعلامي حزبي وطائفي، ولا وجود لصحافة مستقلة إلا ما ندر.

المال السياسي والفساد الذي تغلغل في الإعلام أدى إلى تصاعد العنف ضد الصحفيين، واستحواذ خطاب سياسي وطائفي، يرفض أي نقد للسلطة أياً كانت.

الحال هذه، فإن تعدد الاعلام لم يعنِ تعددية الأصوات، بالقدر الذي أدى إلى الاستحواذ على المشهد الصحفي. 

ومع النظام الجديد، نصّ دستور العراق عام 2005 والذي شمل حرية التعبير عن الرأي وحرية الصحافة وفق المادة 38، وفي عام 2011 شرع قانون لحماية الصحفيين.

لكن هذه القوانين بالكاد تطبق، أو تطبق بحسب المصالح السياسية للأحزاب والميلشيات كلاً وفق أجنداتها، وهو ما يجعل من حرية الصحافة أن تكون معدومة في العراق، حيث تتعدد أسباب القتل. 

“الغالبية قتلهم مسلحون مجهولون أو مليشيات، وغيرهم أثناء تواجدهم في أماكن حدثت فيها انفجارات نفذتها مجموعات جهادية، كما أن عشرات قتلوا بنيران قوات التحالف، والبعض بنيران القوات العراقية”، وفقاً لمرصد الحريات الصحفية.

بدأت الجمعيات المدافعة عن حريات التعبير وحرية العمل الصحفي بالتشكل بعد 2003 أيضاً، على ضوء العنف المتزايد ضد الصحفيين، والذي بلغ ذروته أثناء فترة الاقتتال الطائفي بين أعوام 2006 و2008. ولكن حتى هذه المؤسسات تواجه الكثير من الصعوبات المادية والمعنوية، نتيجة التهديدات والاتهامات بأنها تعمل لأجندات خارجية، وهذه بمثابة تهمة جاهزة توجه لأي صحفي مستقل في العراق أو جمعيات حقوقية تهتم بحرية التعبير.

لذلك، فليست ثمة احصائيات دقيقة تخص الانتهاكات التي يتعرض لها الصحفيون في العراق.

تقدّر اللجنة لحماية الصحافيين أن 282 صحفياً، بين عراقي وعربي وأجنبي، قد قتلوا في العراق منذ 2003.

قال مصطفى ناصر، رئيس جمعية الدفاع عن حرية الصحافة، إن الجمعية سجلت مقتل 92 صحفياً على الأقل بين السنوات 2010 و2020. 

هكذا تحول العراق منذ الغزو إلى واحد من أكثر الدول خطورة بالنسبة للصحفيين.

والغالبية العظمى من حالات القتل تبقى بلا مُحاسبة.

في العام الماضي، أُدرج العراق في المرتبة الخامسة في قائمة لجنة حماية الصحفيين للدول التي يسود فيها الإفلات من عقاب قتل الصحفيين في العالم، وذلك بعد كل من الصومال، وسوريا وجنوب السودان وأفغانستان.  

أما خطف الصحفيين، فهو ظاهرة منتشرة أطاحت بالكثير من الصحفيين، فهنالك 14 صحفياً مجهول المصير من دون أن يكشف القضاء أو الجهات الامنية عن الجهة التي تقف وراء هذه الانتهاكات

أما الذين كانوا محظوظين وأطلق سراحهم، فقد ساد الخوف حياتهم حد اضطرار كثر منهم إلى مغادرة العراق.

أفراح شوقي كانت واحدة منهم. 

عملت شوقي في الصحافة منذ عام 1995، أي في حقبة النظام السابق، ورغم دكتاتورية النظام إلا أن الاختطاف والانتهاك واجهته في عام 2016، تقول لنا. 

كانت مراسلة لصحيفة “الشرق الأوسط” اللندنية وهي صحيفة سعودية التأسيس.

“تم اطلاق النار على منزلي يوم 25 كانون الأول 2016 ودخول حوالي 20 ملثما مسلحا مدنيا وجرى اقتيادي من بيتي بملابس النوم، بعد أن قاموا بتقييد عائلتي وأطفالي”.

في كانون الثاني 2017، اطلق سراح افراح شوقي بعد حملة كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي طالبت بالافراج عنها. 

قالت شوقي “اتهموني بأني أتقاضى المال من السفارة السعودية والأمريكية للكتابة ضد بلدي، كما اتهموني بخيانة زوجي مع رجال آخرين واجبروني على التوقيع على أوراق تفيد بذلك”.

“حين كنت أرفض التوقيع كانت هناك عصا بجوارهم يقومون بضربي بها”.

لم تبق أفراح طويلاً بعد ذلك في العراق. بعدها بشهرين هاجرت إلى فرنسا. 

جيوش تهدد الصحفيين

اختلفت أشكال قمع حرية التعبير للصحفيين وتنوعت، لم تنته عند القتل والتهجير أو الاختطاف، فهنالك طرق ووسائل مختلفة.

أكد مصطفى ناصر “الانتهاكات تتصاعد ضد الصحفي، فبعد أن كان الضابط الكبير والمسؤول هو من ينتهك (بمنع التصوير في الشارع أو التهديد)، اليوم نجد ان الجندي الصغير يبادر بالانتهاك ايضاً”.

يُمنع الصحفي من التصوير في الشوارع وتوضع أمامه الكثير من العقبات، حتى يتم احياناً الاعتداء عليه بالضرب أو تحطيم معداته أو تهديده وكادره، وفي كثير من الأحيان لا تكون القوات الامنية المتواجدة قادرة على حمايته، أو تكون هي نفسها ضالعة في التضييق على عمله.

هذا ما حصل مع عبد الرحمن – اسم مستعار- وهو صحفي يعمل على الملف العراقي لصالح قناة أجنبية معروفة تعمل على تغطية القضايا الاجتماعية والحريّات الفردية للشباب العراقي.

في شباط 2023، وأثناء تواجده مع كادره للتصوير في بغداد، استدعوا من جهة أمنية ليخبروهم بأن القوات الأمنية لا تقوى على الدفاع عنهم، ما دفعهم لعدم إتمام مهامهم وانسحبوا فوراً لشعورهم بوجود تهديد مبطن. 

الجيوش، النظامية وغيرها، التي تحارب الصحافة ليست واقعية وحسب، بل الكترونية ايضاً. إذ تعرض عبد الرحمن إلى سلسلة من الملاحقات والمضايقات على هاتفه وحساباته على السوشيال ميديا، من قبل ما بات يعرف في العراق بـ”الجيوش الالكترونية”.

تعود بعض الحسابات لأشخاص مقربين من أحزاب السلطة وأخرى صفحات وهميّة معرفة بأسماء مستعارة تقوم بنشر الأخبار المضللة، والتضييق على مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي، عبر التسقيط والفضائحية. وكانت شركة ميتاقد أعلنت في السنوات الأخيرة عن حملة تستهدف هذه الحسابات في العراق، لما تسببه من ضرر. 

“انتشرت الجيوش الالكترونية في العراق في عام 2010، قبيل الانتخابات آنذاك بعدما استعانت كتلة دولة القانون (بزعامة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي) بشركات بريطانية ولبنانية لإدارة حملتها الانتخابية وكانت واحدة من مقترحات هذه الشركات هي الترويج لهؤلاء السياسيين على مواقع التواصل”، كما يذكر مصطفى ناصر، قائلا “هنالك مئات الموظفين اليوم الذين ينتمون لملاكات وزارات عراقية مفرغون كليا للعمل كجيوش الكترونية ويأخذون رواتبهم من المال الحكومي”.

أشار ناصر إلى أن “أخطر ما يواجه حرية الصحافة اليوم بعد القتل هي الجيوش الالكترونية، إذ عادة ما تساهم هذه في التحريض ضد الصحفيين حتى مقتلهم، أو نشر أخبار كاذبة حول قتلهم بأنه على خلفيات عشائرية ولا يمت بصلة لكونه صحفياً”. 

بمقابل هذه الجيوش والتقييد ومنع الصحفي عن أداء مهامه، لا يوجد قانون “حق الصحفي بالحصول على المعلومة في العراق” بحسب الخبير القانوني مصدق عادل.

“القانون حين حاول البرلمان تشريعه واقراره حصلت الكثير من المعوقات لأنه سيجعل الصحافة قادرة على كشف الكثير من ملفات الفساد وهذا ما لا يتناسب مع مصلحة السياسيين اليوم”. 

صحفيو العراق .. هجرات متتالية

وعلى إثر كل تصاعد في العنف في العراق، تفقد البلاد فوجاً آخر من الصحفيين، إما قتلاً، أو رعباً بحيث ينسحبون من العمل في الإعلام، ويضطر كثر أيضاً إلى ترك البلاد للنجاة.

كانت تظاهرات تشرين 2019، والتي تعد أوسع تظاهرات شعبية في تاريخ العراق الحديث، قد أدت إلى هجرة جديدة للصحفيين.

قال ياسر السالم، رئيس النقابة الوطنية للصحفيين، إن “النقابة وفرت ملاذاً آمناً لـ19 صحفياً تركوا محافظاتهم وتوجهوا الى اربيل بسبب التظاهرات”.

بدوره، فإن المرصد العراقي لحقوق الإنسان سجّل تصاعداً هو الآخر في قمع الصحفيين وتخويفهم، واضطر أيضاً إلى سلك طُرق عملية لمساعدة بعض الصحفيين للنجاة بحياتهم والانتقال من بغداد إلى مُدن أخرى، بحسب مصطفى سعدون، رئيس المرصد.

أميرة، وهو اسم مستعار لصحفيّة فضلت أن تستتر خلفه، هي الاخرى عاشت على قيد هجرة منذ كانت فتاة في الرابعة عشر من عمرها.

هاجرت أميرة من بغداد إلى الموصل عام 2006 بسبب الاقتتال الطائفي، ثم هُجرّت من مركز المدينة في الموصل الى سد الموصل في عام 2007 بسبب تنظيم القاعدة آنذاك، وفي 2014 هاجرت الصحفية الموصلية الى بغداد مرة أخرى بعد احتلال تنظيم “داعش” للمدينة.

عام 2020، تركت اميرة العراق مغادرة الى لندن بعد أن تعرضت لحملات تحريض ضدها مع عدد من الصحفيين منتصف 2019 وقبيل تظاهرات تشرين الأول، بهدف تصفية وترهيب الصحفيين الداعمين للتظاهرات آنذاك “اختفيت عن ساحات تظاهرات اكتوبر تماما” ثم استحصلت فيزا للندن، وذهبت هناك طلباً للجوء بعدما تركت طفلها بعهدة أمها. 

لا وجود لأرقام حقيقية عن عدد الصحفيين الذين هاجروا العراق منذ 2003 الى اليوم. 

وفي كل مرة يقتل أو حتى عندما ينجو صحفي أو صحفية يترك ذلك أثراً عميقاً في نفوس الصحفيين العراقيين، قد يدفع بعضهم إلى الهجرة خارج البلاد، أو جعل العمل داخله مستحيلاً. 

“هاربٌ أنا دائماً.. يُمكنكِ تلخيص حياتي المهنية بهذه الجملة، فمنذ بدء عملي الصحفي عام 2003 في شبكة الاعلام العراقي وأنا ملاحق، أحياناً من قبل عناصر تنظيم القاعدة، وأخرى من فصائل مسلحة تعدّ اليوم جزءاً من الحكومة العراقية”، لخص مقدم البرامج السياسية العراقي عدنان الطائي رحلته الصحفية التي دامت عشرين عاماً. 

يعني ذلك للصحفيين في كثير من الأحيان فقدان القدرة على ممارسة عملهم، أو يصعب عليهم ذلك.

يُفضّل الطائي العمل داخل العراق ومحاورة السياسيين عن قرب، فهذا يُضيف كثيراً لأدائه كمقدم برامج، كما يقول.

أما أفراح، فتحاول اليوم الاستمرار بالعمل الصحفي من خلال الكتابة في بعض الصحف، رغم مشقة التواصل ومتابعة عملها كصحفية في الميدان بعيداً عن العراق.

ومثلها، فأميرة أيضاً لم تكن قادرة على العودة الى العراق، بعد أن تلقت مئات التهديدات واتهمت بأنها تعمل لصالح جهات ذات أجندات. ولأنها كما تقول “لا استطيع العمل بمجال اخر” لم تترك الاعلام، استمرت بممارسة مهنتها في مكتب احدى القنوات العراقية في تركيا حتى اليوم “افكر اليوم بحياتي التي قضيت منها عشرون عاماً هرباً وهجرة وها انا اخشى أن أورّث هذه التجربة لوَلَدي”.

*  أنتجت المادة بإشراف “جمار”، وتنشر النسخة الانجليزية بالتعاون مع “الغارديان