نفط العراق واليمن وليبيا.. عندما يقتل الاستثمار الأجنبي البيئة المحلية

أريج

25 كانون الثاني 2023

في اليمن وليبيا والعراق، نزاعات داخلية وتدخلات خارجية منذ سنوات، وتتشارك في نزاعات وحروب من نوع آخر. حروب على البيئة غابت عن الإعلام خلف ستار الرصاص والمدافع. في هذا التقرير نعيد تسليط الضوء على ضحايا لعنة النفط الأسود في الدول المذكورة. لعنة التسربات النفطية التي أثرت على الحياة والتربة والهواء والمياه الجوفية.

فارس بن حبتور (43 عاماً)، من منطقة غرير بمديرية الروضة بمحافظة شبوة جنوب وسط اليمن، تكبد عناء الاغتراب خارج بلده ليؤمن مالا لشراء أرض يستثمر بها ويزرعها.

حصد فارس وعائلته بعد سنواته الأولى من شرائه الأرض، خيرا وفيرا، ولكن سرعان ما انقلب الحال بسبب تسربات نفطية تسللت إلى تربة ملكيته وغطتها، فأعدمت محصوله وحلمه.

ومنذ ثلاثة أعوام، والبقع النفطية تنشر في أرض فارس، وذلك بعد عودة الشركات النفطية الأجنبية إلى عملها في اليمن بعد توقف لسنوات بسبب اندلاع الحرب في اليمن في أيلول/ سبتمبر عام 2014.

يقول فارس: “استيقظت فجرا كالعادة لري الأرض، وبمجرد أن شغلت الجهاز لسحب المياه من البئر وجدت لونها أسود قاتما ورائحتها كريهة، فنزلت البئر فوجدت لونها أسود، آثار نفط “.

ووفقا لمستندات، وشهادات مسؤولين سابقين بوزارة البيئة اليمنية، تسبب خط نقل النفط الخام -مملوك للشركة اليمنية للاستثمارات النفطية والمعدنية (YICOM)، يبلغ طوله 204 كيلومترات، وأُنشئ عام 1987- بتسربات نفطية داخل أراضي مواطنين. الأنبوب يمتد داخل محافظة شبوة من حقول غرب عياد بمديرية جردان إلى منطقة النشيمة بمديرية رضوم، وتم تفجير أجزاء منه خلال سنوات الحرب، ولم يخضع للصيانة الدورية اللازمة.

خلال الفترة بين 2018 و 2020، وثقت دراسة أجرتها شركة أولتارا للاستشارات 16 حادثة تسرب نفطي من أنبوب نقل النفط تقع معظمها في مناطق الروضة وعتق وحبان ورضوم والصعيد وجردان في محافظة شبوة.

وفقا للدراسة فإن الأنبوب المتهالك، تسبب في تسرب نفطي كبير أدى إلى اختلاط النفط الخام بالمياه الجارية، ما أدى إلى إحداث تلوث بمياه الشرب والري وتلوث الشبكات المائية الواصلة للبيوت، وهو ما يتوافق مع حالة التسرب في بئر فارس.

خريطة بالتسربات النفطية التي تم حصرها في اليمن وليبيا والعراق

كما أخذت الدراسة عينات تربة على عمق نصف متر لتحليلها من ثلاثة مواقع، هي: غيل بن حبتور ومنطقة غرير ولهية في محافظة شبوة. أظهرت النتائج انخفاضا كبيرا في الأس الهيدروجيني بحدود 6 درجات، ما يعني تركيز الزيت الخام بها. وذكرت الدراسة أن الأسوأ كان التلوث الشديد والذي بسببه أصبحت العينات مُشبعة بالنفط، لذلك من الصعب تحليل تأثير الأس الهيدروجيني (أداة لقياس الأحماض والقواعد) للتربة في مواقع التلوث.

وجدت الدراسة أيضا أن “الموصلية الكهربائية”، وهي المقياس الذي يرتبط بخصائص المياه والتربة وتؤثر على إنتاجية المحاصيل، وصلت إلى مستويات عالية تجعلها غير صالحة للشرب والزراعة.

كما وصل إجمالي المواد الصلبة الذائبة إلى حد مرتفع في منطقة وادي غرير ومنطقة تمورة، وبالتالي فإن المياه أصبحت غير صالحة للاستخدام البشري أو الحيواني، وفقا للدراسة.

قول الخبير الجيولوجي والباحث المشارك في الدراسة، د. عبد الغني جغمان إن: “التسربات النفطية في شبوة غالبا تحدث في مجاري السيول، فتعمل على تلويث التربة بالنفط، وتقوم الشركة بإصلاح التسرب النفطي، لكنها لاتعالج التربة الملوثة، فيأتي السيل مرة أخرى والأمطار، وتأخذ كل هذه التربة الملوثة وتنقلها للمزارع”. 

وهو ما يؤكده فارس بأن التلوث يزداد بعد الأمطار والسيول: “في البداية كانت التسربات في البئر المستخدم في الري فقط. ولم أكن أتوقع أن تكون لها تأثيرات على المدى الطويل”. 

ويتابع: “في العام الأول انعدم محصول الليمون والعام الثاني قل إنتاج المانجو، أما في العام الثالث، انقطع المانجو نهائيا وأصبحت مقتنعا أن مزرعتي انتهت بسبب التسرب النفطي”.

من المسؤول؟

قضى فارس السنوات الثلاث الماضية يتنقل بين مكاتب وزارات النفط والزراعة والبيئة في محافظة شبوة، لعله يجد حلا لما حل بمزرعته، لكن من دون جدوى. قدم العديد من الشكاوى، آخرها في 14 أيار/ مايو 2022، لمكتب الزراعة والري في محافظة شبوة، جاء على إثرها تقرير يؤكد إتلاف بعض الأشجار بسبب تلوث مياه الري. يؤكد فارس أنه حاول التقدم بشكوى في المحكمة للحصول على تعويض عن الأضرار، ولكنها تتطلب مبالغ مالية لا يستطيع تحملها في وقت يعاني منه بسبب توقف إنتاج أرضه، فلم يلجأ للمحكمة.

يقول محمد مجور، مدير عام الهيئة العامة حماية البيئة في محافظة شبوة حتى (23 حزيران / يونيو 2022) والمراقب على الشركات النفطية، إن المالك لخط نقل النفط الخام هو شركة حكومية، ولكنه مستخدم من قبل شركات أجنبية، وتحديدا شركتي “OMV” وهي شركة نمساوية، وشركة “كالفاني” وجنسيتها كندية، إذ تقوم الشركتان بضخ النفط عبر أنبوب عياد – النشيمة بغرض تصدير النفط الخام، وعندها يتسرب النفط إلى أراضي المواطنين.

يؤكد المحامي في الدائرة القانونية بمأرب علاء عبد المولى دنيش، وموكل لقضايا متضرري ناقلة صافر، أن اليمن لديه قوانين واتفاقيات دولية تحفظ البيئة والأمن والسلامة، سواء كان قانون رقم (26) لسنة 1995 بشأن حماية البيئة، أو اتفاقيات بازل والتنوع الحيوي، ولكن لا يتم تطبيقها مع الشركات الأجنبية، خصوصا في قطاع النفط. ويتفق معه عبد الغني جغمان، الذي يرى أن المشكلة في عدم تطبيق القوانين.

يقول محمد مجور، إن “دور مكتب وزارة البيئة هو رقابي على تنظيف التلوث، ولا دور له في الضغط على الشركات، وذلك يجب أن يأتي من وزارة النفط، التي يجب أن تلُزم الشركات الأجنبية بالعقود المبرمة السابقة”.

أنابيب نقل النفط

وفقا لدراسة التلوث البيئي النفطي وآثاره المدمرة على البيئة في اليمن التي أجرتها شركة “أولتارا” للاستشارات في تشرين الأول/ أكتوبر 2020، فقد توقفت أغلب الشركات الاستكشافية والإنتاجية في اليمن، بسبب الحرب في آذار/ مارس 2015، وتوقفت أعمال الصيانة في الشركات النفطية، إلا أن وزارة النفط أعلنت استئناف إنتاج النفط من قطاع العقلة “S2” بمحافظة شبوة والمشغل الرئيسي له هو شركة “OMV” بواقع 16 ألف برميل في 2018، واستئناف إنتاج النفط من قطاع “مالك 9” عام 2019 والمشغل الرئيسي هو شركة “كالفالي”.

يقول جغمان: “عندما اندلعت الحرب، توقف تصدير النفط عبر هذا الأنبوب بسبب توقف الخزان العائم (صافر) في رأس عيسى، فقامت الحكومة الشرعية المعترف بها دوليا بإيجاد بديل لتصدير النفط، عبر استخدام أنبوب متهالك لم تجر له الصيانة الدورية اللازمة. كان متوقفا من عام 1996 إلى 2018، وبالتالي فإن إعادة استخدام هذا الأنبوب المتهالك هو السبب وراء كثرة هذه التسربات”.

يقول الدكتور عبد المنعم حبتور -كان ضمن اللجنة الموفدة لمواقع التلوث لكتابة التقارير العلمية، لعمله كمدير هيئة المساحة الجيولوجية فرع شبوة- إن آخر تسرب شاهده كان في كانون الثاني/ يناير 2022 في منطقة عزان، إحدى مديريات شبوة، إذ وصل النفط إلى المياه الجوفية على عمق 50 مترا.

ويضيف: “بعد إجراء التحاليل لهذه المنطقة، وصلت الملوحة إلى ضعف الحد الطبيعي لها في اليمن، لذلك أصبحت المياه غير صالحة للشرب”.

آلية التنظيف

ينتقد عبد المنعم حبتور آلية تنظيف الشركة: “بالنسبة لمعالجة المياه الجوفية فهي صعبة جدا، إذ أن الشركة تعمل على التنظيف بطريقة بدائية، عن طريق ضخ النفط من الآبار وتحمله في صهاريج ومن ثم تنقله إلى الميناء، لكن التربة تبقى ملوثة، وكذلك الرمل، لأن الشركة تستخدم طرقا تقليدية في التنظيف عفى عليها الزمن”.

العراق.. موت محقق في القيارة!

عمر ذياب عويد، عراقي (59 عاما): “في القيارة (تابعة لمحافظة الموصل) مئات الحالات السرطانية المسجلة”. يوجد في عائلة عمر سبع حالات سرطانية بينها طفلة بعمر 13 عاما، وفتاة اخرى بعمر 18 عاما، ومنهم من توفي مثل زوجة أخيه بسبب الانبعاثات السامة من القيارة تاركة وراءها سبع بنات وطفل صغير، بحسب عويد.

في كانون الثاني/ يناير 2022، قدم عمر شكوى ضد مدير عام شركة “سونغول” الأنغولية لقاضي محكمة تحقيق القيارة، تفيد بأنه على الرغم من تبليغ المدير بالأضرار الواقعة على السكان بسبب التلوث النفطي والانبعاثات السامة، إلا أنه بقي مستمرا في استخدام الآبار من دون وجه حق.

يؤكد عويد الذي يعمل مزارعا، أنه قبل عام 2014 كان يعيش حياة مستقرة يزرع ويحصد بشكل طبيعي، ولكن الوضع الآن تبدل. “كنا نزرع الزيتون وكان يثمر وجميلاً جدا لكن الغازات قتلت معظم الأشجار التي نمتلكها من عنب وزيتون وبرتقال ورمان وبعض الحمضيات والفواكه الأخرى”. ويضيف: “الآن نزرع ولكن بلا أمل، نحن على يقين أن الغازات ستقتل الأشجار ولكننا نحاول من جديد”.

ووفقا لشهادة عامل داخل الشركة الأنغولية (فضل عدم ذكر اسمه)، فإنه أثناء عمله استأجر منزلا في القيارة بسبب طول المسافة بين القيارة والموصل، فكانت أيام مناوبته هي الأسوأ، لاستنشاقه الغازات والمخلفات النفطية السامة أيضا.

يقول د. عبد المنعم نايف عبوش، مؤسس مركز نينوى للاستشارات والبحوث، ومدير عام سابق للشركة العامة لكبريت المشراق، إن نفط القيارة نفط ثقيل، ولذلك يعتبر مرغوبا فيه عالميا.

ويضيف أنه في عام 2010 وقعت وزارة النفط ترخيص باستثمار حقلي نجمة والقيارة من قبل شركة سونغول لمدة 25 عاما لإنتاج 150 ألف برميل من حقل القيارة و100 ألف برميل يوميا من حقل نجمة، مقابل 5 دولارات للبرميل، ولكن مقر الشركة تعرض إلى هجوم مسلح، فانسحبت الشركة من الأراضي العراقية عام 2012.

ولكنها عادت لتكمل عملها في 2017، بسبب التزامها مع الحكومة العراقية، ولكن عملها كان متقطعا، لذلك صارت بعض المطالبات النيابية بالضغط على وزارة النفط لفسخ وإنهاء العقد معها بسبب تلكؤها، وليس بسبب التلوث.

ولكنها عادت لتكمل عملها في 2017، بسبب التزامها مع الحكومة العراقية، ولكن عملها كان متقطعا، لذلك صارت بعض المطالبات النيابية بالضغط على وزارة النفط لفسخ وإنهاء العقد معها بسبب تلكؤها، وليس بسبب التلوث.

ولكن عمار سليم محجوب، رئيس شعبة الكيميائيين في دائرة بيئة نينوى، ينفي تلك الادعاءات بالقول: “لا يوجد أي انبعاثات غازية لأن أعمال الشركة الأنغولية اليوم محدودة فهي تنتج ستة آلاف برميل يوميا إلى مصفاة القيارة”. مؤكدا أن الشركة الأنغولية لديها عازلات للغاز وعازلات للكبريت، وهي الطريقة المستخدمة في العراق عن طريق حرق الغاز، “بمعنى لا نستفيد من الغاز المصاحب، والحرق هو أكثر أمانا حيث يضمن عدم التسرب للعوائل”.

ليبيا.. تسربات نفطية

“أنظروا هنا”، يقول محمد علي عمر، مزارع سبعيني يعيش في واحة جالو الليبية، المركز الرئيسي لمنطقة الواحات شرقي ليبيا، وهو يشير بيده: “لقد ماتت أشجار النخيل والزيتون، ولم نعد قادرين على زراعة الحبوب بعد أن كانت هذه الأرض خصبة”. وبحسب عمر، فإن بعض الأهالي المتضررين نتيجة التلوث النفطي رفعوا شكاوى إلى السلطة المحلية ولشركة الواحة الليبية وشركة شل النفطية -تابعة لشركة النفط رويال داتش شل المتعدد الجنسيات ذات الأصول البريطانية الهولندية-، وبدلا من حل المشكلة زج ببعضهم في السجن بتهمة التعدي على المصلحة العامة.

لم تكن حالة عمر هي الوحيدة، فسليمان كاريس، من منطقة “إجخرة” التابعة لواحة جالو، تعرض لعملية تحايل بحسب وصفه من شركة “فينترسهال” الألمانية التي تملك رخصة استكشاف حقل جالو، وأن الشركة الألمانية قدمت ضده شكوى لدى السلطات الأمنية حتى يخلي مزرعته بما عليها من أشجار نخيل حديثة الغرس وشبكات ري خلال أسبوعين، بدعوى وجود أنابيب نفط داخل المزرعة. لكن إثر التحريات الأمنية، تبين كذب ادعاء الشركة وأنها أرادت تجنب التعويضات عن التلوث الذي سببته في أرضه بإلقائها نفايات بترولية سائلة تكونت في شكل بحيرة على مساحة أربعة هكتار (40 دونما) من الأرض.

يضيف سليمان كاريس، أن التسربات النفطية في منطقة جالو سببت أضرارا مماثلة لعدد من المزارعين عن طريق آبار النفط وشبكات الأنابيب نتيجة انعدام إجراءات الصيانة والسلامة.

وهُدد كاريس بالسجن من قبل السلطات الأمنية الليبية إن لم يقم بإخلاء مزرعته بما عليها، بسبب شكوى مقدمة من شركة “فينترسهال” الألمانية المالكة لرخصة حقل جالو، التي تقول إنه يوجد أنابيب نقل للنفط في أرض مزرعته، بحسب كاريس.

وتبقى الشركات النفطية الأجنبية العاملة في اليمن وليبيا والعراق مستمرة في عملها، والتسريبات النفطية لم تتوقف، والتي معها لم تتوقف معاناة المواطنين في تلك الدول، معاناة لم تقتصر على الأرض والزراعة فقط، بل وصلت للماء، والهواء الذي يستنشقونه.

تم التواصل مع الجهات المعنية في العراق واليمن وسوريا للحصول على إجابات حول التسربات النفطية في تلك البلدان والدور الحكومي في الحد منها وإيقاف معاناة السكان من جراء التسربات النفطية في اراضيهم، لكن لم يصلنا اي رد حتى لحظة نشر التحقيق.

ينشر هذا التحقيق بالشراكة مع “أريج

*كمال عياش، محمد الحسني، محمد القبوزي، الوليد بن التهامي، إيمان منير، مايكل مكرم قرياقص، وائل أبرون

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

فارس بن حبتور (43 عاماً)، من منطقة غرير بمديرية الروضة بمحافظة شبوة جنوب وسط اليمن، تكبد عناء الاغتراب خارج بلده ليؤمن مالا لشراء أرض يستثمر بها ويزرعها.

حصد فارس وعائلته بعد سنواته الأولى من شرائه الأرض، خيرا وفيرا، ولكن سرعان ما انقلب الحال بسبب تسربات نفطية تسللت إلى تربة ملكيته وغطتها، فأعدمت محصوله وحلمه.

ومنذ ثلاثة أعوام، والبقع النفطية تنشر في أرض فارس، وذلك بعد عودة الشركات النفطية الأجنبية إلى عملها في اليمن بعد توقف لسنوات بسبب اندلاع الحرب في اليمن في أيلول/ سبتمبر عام 2014.

يقول فارس: “استيقظت فجرا كالعادة لري الأرض، وبمجرد أن شغلت الجهاز لسحب المياه من البئر وجدت لونها أسود قاتما ورائحتها كريهة، فنزلت البئر فوجدت لونها أسود، آثار نفط “.

ووفقا لمستندات، وشهادات مسؤولين سابقين بوزارة البيئة اليمنية، تسبب خط نقل النفط الخام -مملوك للشركة اليمنية للاستثمارات النفطية والمعدنية (YICOM)، يبلغ طوله 204 كيلومترات، وأُنشئ عام 1987- بتسربات نفطية داخل أراضي مواطنين. الأنبوب يمتد داخل محافظة شبوة من حقول غرب عياد بمديرية جردان إلى منطقة النشيمة بمديرية رضوم، وتم تفجير أجزاء منه خلال سنوات الحرب، ولم يخضع للصيانة الدورية اللازمة.

خلال الفترة بين 2018 و 2020، وثقت دراسة أجرتها شركة أولتارا للاستشارات 16 حادثة تسرب نفطي من أنبوب نقل النفط تقع معظمها في مناطق الروضة وعتق وحبان ورضوم والصعيد وجردان في محافظة شبوة.

وفقا للدراسة فإن الأنبوب المتهالك، تسبب في تسرب نفطي كبير أدى إلى اختلاط النفط الخام بالمياه الجارية، ما أدى إلى إحداث تلوث بمياه الشرب والري وتلوث الشبكات المائية الواصلة للبيوت، وهو ما يتوافق مع حالة التسرب في بئر فارس.

خريطة بالتسربات النفطية التي تم حصرها في اليمن وليبيا والعراق

كما أخذت الدراسة عينات تربة على عمق نصف متر لتحليلها من ثلاثة مواقع، هي: غيل بن حبتور ومنطقة غرير ولهية في محافظة شبوة. أظهرت النتائج انخفاضا كبيرا في الأس الهيدروجيني بحدود 6 درجات، ما يعني تركيز الزيت الخام بها. وذكرت الدراسة أن الأسوأ كان التلوث الشديد والذي بسببه أصبحت العينات مُشبعة بالنفط، لذلك من الصعب تحليل تأثير الأس الهيدروجيني (أداة لقياس الأحماض والقواعد) للتربة في مواقع التلوث.

وجدت الدراسة أيضا أن “الموصلية الكهربائية”، وهي المقياس الذي يرتبط بخصائص المياه والتربة وتؤثر على إنتاجية المحاصيل، وصلت إلى مستويات عالية تجعلها غير صالحة للشرب والزراعة.

كما وصل إجمالي المواد الصلبة الذائبة إلى حد مرتفع في منطقة وادي غرير ومنطقة تمورة، وبالتالي فإن المياه أصبحت غير صالحة للاستخدام البشري أو الحيواني، وفقا للدراسة.

قول الخبير الجيولوجي والباحث المشارك في الدراسة، د. عبد الغني جغمان إن: “التسربات النفطية في شبوة غالبا تحدث في مجاري السيول، فتعمل على تلويث التربة بالنفط، وتقوم الشركة بإصلاح التسرب النفطي، لكنها لاتعالج التربة الملوثة، فيأتي السيل مرة أخرى والأمطار، وتأخذ كل هذه التربة الملوثة وتنقلها للمزارع”. 

وهو ما يؤكده فارس بأن التلوث يزداد بعد الأمطار والسيول: “في البداية كانت التسربات في البئر المستخدم في الري فقط. ولم أكن أتوقع أن تكون لها تأثيرات على المدى الطويل”. 

ويتابع: “في العام الأول انعدم محصول الليمون والعام الثاني قل إنتاج المانجو، أما في العام الثالث، انقطع المانجو نهائيا وأصبحت مقتنعا أن مزرعتي انتهت بسبب التسرب النفطي”.

من المسؤول؟

قضى فارس السنوات الثلاث الماضية يتنقل بين مكاتب وزارات النفط والزراعة والبيئة في محافظة شبوة، لعله يجد حلا لما حل بمزرعته، لكن من دون جدوى. قدم العديد من الشكاوى، آخرها في 14 أيار/ مايو 2022، لمكتب الزراعة والري في محافظة شبوة، جاء على إثرها تقرير يؤكد إتلاف بعض الأشجار بسبب تلوث مياه الري. يؤكد فارس أنه حاول التقدم بشكوى في المحكمة للحصول على تعويض عن الأضرار، ولكنها تتطلب مبالغ مالية لا يستطيع تحملها في وقت يعاني منه بسبب توقف إنتاج أرضه، فلم يلجأ للمحكمة.

يقول محمد مجور، مدير عام الهيئة العامة حماية البيئة في محافظة شبوة حتى (23 حزيران / يونيو 2022) والمراقب على الشركات النفطية، إن المالك لخط نقل النفط الخام هو شركة حكومية، ولكنه مستخدم من قبل شركات أجنبية، وتحديدا شركتي “OMV” وهي شركة نمساوية، وشركة “كالفاني” وجنسيتها كندية، إذ تقوم الشركتان بضخ النفط عبر أنبوب عياد – النشيمة بغرض تصدير النفط الخام، وعندها يتسرب النفط إلى أراضي المواطنين.

يؤكد المحامي في الدائرة القانونية بمأرب علاء عبد المولى دنيش، وموكل لقضايا متضرري ناقلة صافر، أن اليمن لديه قوانين واتفاقيات دولية تحفظ البيئة والأمن والسلامة، سواء كان قانون رقم (26) لسنة 1995 بشأن حماية البيئة، أو اتفاقيات بازل والتنوع الحيوي، ولكن لا يتم تطبيقها مع الشركات الأجنبية، خصوصا في قطاع النفط. ويتفق معه عبد الغني جغمان، الذي يرى أن المشكلة في عدم تطبيق القوانين.

يقول محمد مجور، إن “دور مكتب وزارة البيئة هو رقابي على تنظيف التلوث، ولا دور له في الضغط على الشركات، وذلك يجب أن يأتي من وزارة النفط، التي يجب أن تلُزم الشركات الأجنبية بالعقود المبرمة السابقة”.

أنابيب نقل النفط

وفقا لدراسة التلوث البيئي النفطي وآثاره المدمرة على البيئة في اليمن التي أجرتها شركة “أولتارا” للاستشارات في تشرين الأول/ أكتوبر 2020، فقد توقفت أغلب الشركات الاستكشافية والإنتاجية في اليمن، بسبب الحرب في آذار/ مارس 2015، وتوقفت أعمال الصيانة في الشركات النفطية، إلا أن وزارة النفط أعلنت استئناف إنتاج النفط من قطاع العقلة “S2” بمحافظة شبوة والمشغل الرئيسي له هو شركة “OMV” بواقع 16 ألف برميل في 2018، واستئناف إنتاج النفط من قطاع “مالك 9” عام 2019 والمشغل الرئيسي هو شركة “كالفالي”.

يقول جغمان: “عندما اندلعت الحرب، توقف تصدير النفط عبر هذا الأنبوب بسبب توقف الخزان العائم (صافر) في رأس عيسى، فقامت الحكومة الشرعية المعترف بها دوليا بإيجاد بديل لتصدير النفط، عبر استخدام أنبوب متهالك لم تجر له الصيانة الدورية اللازمة. كان متوقفا من عام 1996 إلى 2018، وبالتالي فإن إعادة استخدام هذا الأنبوب المتهالك هو السبب وراء كثرة هذه التسربات”.

يقول الدكتور عبد المنعم حبتور -كان ضمن اللجنة الموفدة لمواقع التلوث لكتابة التقارير العلمية، لعمله كمدير هيئة المساحة الجيولوجية فرع شبوة- إن آخر تسرب شاهده كان في كانون الثاني/ يناير 2022 في منطقة عزان، إحدى مديريات شبوة، إذ وصل النفط إلى المياه الجوفية على عمق 50 مترا.

ويضيف: “بعد إجراء التحاليل لهذه المنطقة، وصلت الملوحة إلى ضعف الحد الطبيعي لها في اليمن، لذلك أصبحت المياه غير صالحة للشرب”.

آلية التنظيف

ينتقد عبد المنعم حبتور آلية تنظيف الشركة: “بالنسبة لمعالجة المياه الجوفية فهي صعبة جدا، إذ أن الشركة تعمل على التنظيف بطريقة بدائية، عن طريق ضخ النفط من الآبار وتحمله في صهاريج ومن ثم تنقله إلى الميناء، لكن التربة تبقى ملوثة، وكذلك الرمل، لأن الشركة تستخدم طرقا تقليدية في التنظيف عفى عليها الزمن”.

العراق.. موت محقق في القيارة!

عمر ذياب عويد، عراقي (59 عاما): “في القيارة (تابعة لمحافظة الموصل) مئات الحالات السرطانية المسجلة”. يوجد في عائلة عمر سبع حالات سرطانية بينها طفلة بعمر 13 عاما، وفتاة اخرى بعمر 18 عاما، ومنهم من توفي مثل زوجة أخيه بسبب الانبعاثات السامة من القيارة تاركة وراءها سبع بنات وطفل صغير، بحسب عويد.

في كانون الثاني/ يناير 2022، قدم عمر شكوى ضد مدير عام شركة “سونغول” الأنغولية لقاضي محكمة تحقيق القيارة، تفيد بأنه على الرغم من تبليغ المدير بالأضرار الواقعة على السكان بسبب التلوث النفطي والانبعاثات السامة، إلا أنه بقي مستمرا في استخدام الآبار من دون وجه حق.

يؤكد عويد الذي يعمل مزارعا، أنه قبل عام 2014 كان يعيش حياة مستقرة يزرع ويحصد بشكل طبيعي، ولكن الوضع الآن تبدل. “كنا نزرع الزيتون وكان يثمر وجميلاً جدا لكن الغازات قتلت معظم الأشجار التي نمتلكها من عنب وزيتون وبرتقال ورمان وبعض الحمضيات والفواكه الأخرى”. ويضيف: “الآن نزرع ولكن بلا أمل، نحن على يقين أن الغازات ستقتل الأشجار ولكننا نحاول من جديد”.

ووفقا لشهادة عامل داخل الشركة الأنغولية (فضل عدم ذكر اسمه)، فإنه أثناء عمله استأجر منزلا في القيارة بسبب طول المسافة بين القيارة والموصل، فكانت أيام مناوبته هي الأسوأ، لاستنشاقه الغازات والمخلفات النفطية السامة أيضا.

يقول د. عبد المنعم نايف عبوش، مؤسس مركز نينوى للاستشارات والبحوث، ومدير عام سابق للشركة العامة لكبريت المشراق، إن نفط القيارة نفط ثقيل، ولذلك يعتبر مرغوبا فيه عالميا.

ويضيف أنه في عام 2010 وقعت وزارة النفط ترخيص باستثمار حقلي نجمة والقيارة من قبل شركة سونغول لمدة 25 عاما لإنتاج 150 ألف برميل من حقل القيارة و100 ألف برميل يوميا من حقل نجمة، مقابل 5 دولارات للبرميل، ولكن مقر الشركة تعرض إلى هجوم مسلح، فانسحبت الشركة من الأراضي العراقية عام 2012.

ولكنها عادت لتكمل عملها في 2017، بسبب التزامها مع الحكومة العراقية، ولكن عملها كان متقطعا، لذلك صارت بعض المطالبات النيابية بالضغط على وزارة النفط لفسخ وإنهاء العقد معها بسبب تلكؤها، وليس بسبب التلوث.

ولكنها عادت لتكمل عملها في 2017، بسبب التزامها مع الحكومة العراقية، ولكن عملها كان متقطعا، لذلك صارت بعض المطالبات النيابية بالضغط على وزارة النفط لفسخ وإنهاء العقد معها بسبب تلكؤها، وليس بسبب التلوث.

ولكن عمار سليم محجوب، رئيس شعبة الكيميائيين في دائرة بيئة نينوى، ينفي تلك الادعاءات بالقول: “لا يوجد أي انبعاثات غازية لأن أعمال الشركة الأنغولية اليوم محدودة فهي تنتج ستة آلاف برميل يوميا إلى مصفاة القيارة”. مؤكدا أن الشركة الأنغولية لديها عازلات للغاز وعازلات للكبريت، وهي الطريقة المستخدمة في العراق عن طريق حرق الغاز، “بمعنى لا نستفيد من الغاز المصاحب، والحرق هو أكثر أمانا حيث يضمن عدم التسرب للعوائل”.

ليبيا.. تسربات نفطية

“أنظروا هنا”، يقول محمد علي عمر، مزارع سبعيني يعيش في واحة جالو الليبية، المركز الرئيسي لمنطقة الواحات شرقي ليبيا، وهو يشير بيده: “لقد ماتت أشجار النخيل والزيتون، ولم نعد قادرين على زراعة الحبوب بعد أن كانت هذه الأرض خصبة”. وبحسب عمر، فإن بعض الأهالي المتضررين نتيجة التلوث النفطي رفعوا شكاوى إلى السلطة المحلية ولشركة الواحة الليبية وشركة شل النفطية -تابعة لشركة النفط رويال داتش شل المتعدد الجنسيات ذات الأصول البريطانية الهولندية-، وبدلا من حل المشكلة زج ببعضهم في السجن بتهمة التعدي على المصلحة العامة.

لم تكن حالة عمر هي الوحيدة، فسليمان كاريس، من منطقة “إجخرة” التابعة لواحة جالو، تعرض لعملية تحايل بحسب وصفه من شركة “فينترسهال” الألمانية التي تملك رخصة استكشاف حقل جالو، وأن الشركة الألمانية قدمت ضده شكوى لدى السلطات الأمنية حتى يخلي مزرعته بما عليها من أشجار نخيل حديثة الغرس وشبكات ري خلال أسبوعين، بدعوى وجود أنابيب نفط داخل المزرعة. لكن إثر التحريات الأمنية، تبين كذب ادعاء الشركة وأنها أرادت تجنب التعويضات عن التلوث الذي سببته في أرضه بإلقائها نفايات بترولية سائلة تكونت في شكل بحيرة على مساحة أربعة هكتار (40 دونما) من الأرض.

يضيف سليمان كاريس، أن التسربات النفطية في منطقة جالو سببت أضرارا مماثلة لعدد من المزارعين عن طريق آبار النفط وشبكات الأنابيب نتيجة انعدام إجراءات الصيانة والسلامة.

وهُدد كاريس بالسجن من قبل السلطات الأمنية الليبية إن لم يقم بإخلاء مزرعته بما عليها، بسبب شكوى مقدمة من شركة “فينترسهال” الألمانية المالكة لرخصة حقل جالو، التي تقول إنه يوجد أنابيب نقل للنفط في أرض مزرعته، بحسب كاريس.

وتبقى الشركات النفطية الأجنبية العاملة في اليمن وليبيا والعراق مستمرة في عملها، والتسريبات النفطية لم تتوقف، والتي معها لم تتوقف معاناة المواطنين في تلك الدول، معاناة لم تقتصر على الأرض والزراعة فقط، بل وصلت للماء، والهواء الذي يستنشقونه.

تم التواصل مع الجهات المعنية في العراق واليمن وسوريا للحصول على إجابات حول التسربات النفطية في تلك البلدان والدور الحكومي في الحد منها وإيقاف معاناة السكان من جراء التسربات النفطية في اراضيهم، لكن لم يصلنا اي رد حتى لحظة نشر التحقيق.

ينشر هذا التحقيق بالشراكة مع “أريج

*كمال عياش، محمد الحسني، محمد القبوزي، الوليد بن التهامي، إيمان منير، مايكل مكرم قرياقص، وائل أبرون