صكوك الغفران: السماح لنديم الخليفة بما لا يسمح لغيره

رضا الشمري

19 تشرين الأول 2022

كيف تمنح الميليشيات "صكوك الغفران"؟ ولمن تمنحها، وكيف تقررها منحها؟ ومتى بدأت الظاهرة، ومن شمُل بها حتى الآن؟

في القرن الثالث عشر الميلادي، ظهر مصطلح “صكوك الغفران” بعد أن قررت الكنيسة البابوية إنها تمتلك سلطة غفران الخطايا للمذنبين، معتمدة على نصوص في الإنجيل وعلى وصايا للقديس بطرس، أب تلك الكنيسة.

بفتوى، أصبح البابا يمتلك سلطة رهيبة، هي سلطة إدخال المذنبين للجنة. وبالطبع، فإن هذا الدخول ليس مجانياً، إذ أن صكوك الغفران أصبحت تُمنح مقابل مبلغ مادي يرتفع وينخفض بحسب الخطيئة التي يقترفها الشخص.

وبشكل مقارب، أصبحت الميليشيات العراقية، الولائية منها بالتحديد، حاملة لسلطة منح صكوك الغفران في القرن الخامس عشر الهجري، من دون أن يجرؤ أحد على التشكيك بدوافع منح تلك الصكوك، كما لم يكن مسيحيو القرن الثالث عشر وما بعده يجرؤون على التشكيك بدوافع الكنيسة التي يقودها رهبان، يأكلون الخبز اليابس ويمتنعون عن الزواج، لجمع أكبر قدر ممكن من الأموال والذهب.

عملت الميليشيات بشكل حثيث ضد القوات الأميركية، سواء بالدعاية أو بالعمل المسلح، كما أن أي شخص يمر بقرب السفارة حتى، أو يلتقط صورة مع أي شخص أجنبي، يصبح هدفاً سهلاً للتسقيط والقتل أو الاختطاف، والتهمة جاهزة دائماً: العمالة للاحتلال.

لكن في الوقت نفسه، كان مقاولو المقاومة يقومون بالعمل في معسكرات الاحتلال بكل حرية، من دون أن يستهدفهم أحد، لأن الميليشيا منحتهم صكوك غفران، مقابل مبلغ مادي بالطبع.

وفي الوقت ذاته، وحينما قتلت القوات الأميركية أبو مهدي المهندس “الشايب” وزميله الجنرال الإيراني قاسم سليماني، كان هادي العامري لا يزال يلتقي بالسفير البريطاني بشكل متكرر، والأميركي حتّى.

لكن بالطبع، العامري يمتلك سلطة إصدار تلك الصكوك، لأنه فوق الشكوك والشبهات.

في عام 2013، شنت الميليشيات حملة قتل تشبه حملات فدائيي صدام ضد العاملات بالجنس، وقامت بقتل العشرات من الفتيات ببشاعة، تحت مسمى الحفاظ على الشرف والدين.

بعدها، يبدو أن صكوك الغفران شملت المشتغلات بهذه المهنة، وليس الغفران فحسب، وإنما الحماية كذلك.

وامتدت تلك الصكوك لتحمي باعة الخمر من التفجير المستمر، وملاهي السعدون من الاستهداف، وانتهى أخيراً نزف دماء من قدموا ضحايا كثر لتحسين مزاج العراقيين في زمن يعكر كل شيء فيه مزاجهم.

حتى الآن كانت صكوك الغفران الميليشياوية مفهومة للكثيرين، إذ أنها استهدفت فئات ينبذها المجتمع، لهذا لم يعترض الكثيرون، واعتبر الموضوع إعادة تنظيم لمهنة الدعارة والقمار والغناء الريفي الصادح، بشكل ما كانت تلك الميليشيا تشبه نقابة لأصحاب المهن المكروهة، توفر الحماية مقابل اشتراك شهري.

لكن الصكوك الكبرى بدأت تمنح بعد دخول تنظيم الدولة الإسلامية -“داعش”، أو بعد دحره بالأحرى.

أذكر لقاء لخميس الخنجر على قناة العربية في عام 2014، يصف فيه “داعش” بثوار العشائر، ويقول إنهم اقتربوا من إسقاط بغداد ويدافع عنهم بشكل مستميت وركيك، ويمنع المقدمة من التطرق إلى وجود “المتطرفين القلة” بينهم، ويطلب عدم الالتفات إليهم.

في التوقيت ذاته، كان “المتطرفون القلة” يقتادون 1700 من الجنود الشباب إلى نهر دجلة (بما عُرف لاحقاً بمجزرة “سبايكر”)، ويقتلون السجناء الشيعة في بادوش، ويقتلون ويسبون الإيزيديين في سنجار.

لكن صك الغفران شمل الخنجر، من دون حتى أن يطلب منه الاعتذار، بل تحول إلى حليف للميليشيات التي قال عنها يوماً إنها تقتل أبناء جلدته، وقالت عنه يوما إنه خادم للتنظيم ترقى من كونه راعي غنم لساجدة، زوجة صدّام حسين.

شمل صك الغفران كذلك علي حاتم السليمان، الذي يزخر اليوتيوب بشتائمه لرئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، والعامري وزعيم عصائب أهل الحق قيس الخزعلي، ومُدن الجنوب، والعاملين في الدولة، وكل ما يتنفس تقريباً في البلاد، وتكاد تهديداته ترقى إلى الاعترافات بدعم الإرهاب وقتل الجنود العراقيين.

بطبيعة الحال، صك غفران السليمان كان أسهل حتى من صك المشتغلات بالجنس، كفاه أن يأخذه سائق المالكي إلى المحكمة لينسى فائق زيدان رئيس مجلس القضاء الأعلى إن السليمان “متطرف”، لكن زيدان لم ينس أن يقول إن أشخاصا مثل الإعلامي سعدون محسن ضمد متطرفون، لأن سعدون وأمثاله لا يمتلكون صكوك براءة.

شمل صك الغفران أشخاصا مثل أسعد البصري، الذي نكل حرفيا بكل مقدسات الشيعة وبأئمتهم بكلمات لا يجرؤ أبداً شخص في العالم حتى على التفكير بها، ودعا حرفيا إلى قتل النساء الشيعيات في الأسواق حتى لا ينجبن المزيد من الأطفال.

لكن ذنوب البصري مغفورة، بل أن صكوك الغفران أصبحت تمنح بوساطات أصغر “الحشديين” وجنود إعلامه.

واليوم، في صراع الإطار التنسيقي والتيار الصدري، منح صك غفران جديد لحلفاء الصدر مثل مسعود بارزاني ومحمد الحلبوسي. لقد صرح حيدر البرزنجي، مُحلل الإطار وملمِّع مواقفه، بأن الإطار مستعد للتحالف مع الحزب الديمقراطي وحزب تقدم، بعد “انتهاء المؤامرة الإماراتية” التي كان الطرفان مشتركين بها.

تخيل أن صكوك الغفران تمنح على يد البرزنجي!

وقد مُنحت بالفعل!

احتاجت الكنيسة الكاثوليكية إلى أكثر من 183 عاما، قبل أن يخرج “جون هس” ليقول إن صكوك الغفران كذبة، ويهدد ملكوت الكنيسة وجبال ذهبها.

قتل جون هس على يد الكنيسة، وأحرق، لأنه وأمثاله، مثل الداعين للحريات في العراق، لا يمنحون صكوك غفران، فيما كانت الصكوك توزع يمنة ويسرة على المغتصبين والقتلة ومشتهي الأطفال.

وبعدها بمئة وعشرين عاما أخرى، خرج مارتن لوثر، بتعاليم هزت الدين المسيحي كله وأوروبا، بثورة كانت قائمة في أساسها على انتقاد صكوك الغفران هذه، التي احتاجت رجلين شجاعين و300 عام لتدمر ما بنته الكنيسة خلال 1200 عام بآلاف الرجال.

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

في القرن الثالث عشر الميلادي، ظهر مصطلح “صكوك الغفران” بعد أن قررت الكنيسة البابوية إنها تمتلك سلطة غفران الخطايا للمذنبين، معتمدة على نصوص في الإنجيل وعلى وصايا للقديس بطرس، أب تلك الكنيسة.

بفتوى، أصبح البابا يمتلك سلطة رهيبة، هي سلطة إدخال المذنبين للجنة. وبالطبع، فإن هذا الدخول ليس مجانياً، إذ أن صكوك الغفران أصبحت تُمنح مقابل مبلغ مادي يرتفع وينخفض بحسب الخطيئة التي يقترفها الشخص.

وبشكل مقارب، أصبحت الميليشيات العراقية، الولائية منها بالتحديد، حاملة لسلطة منح صكوك الغفران في القرن الخامس عشر الهجري، من دون أن يجرؤ أحد على التشكيك بدوافع منح تلك الصكوك، كما لم يكن مسيحيو القرن الثالث عشر وما بعده يجرؤون على التشكيك بدوافع الكنيسة التي يقودها رهبان، يأكلون الخبز اليابس ويمتنعون عن الزواج، لجمع أكبر قدر ممكن من الأموال والذهب.

عملت الميليشيات بشكل حثيث ضد القوات الأميركية، سواء بالدعاية أو بالعمل المسلح، كما أن أي شخص يمر بقرب السفارة حتى، أو يلتقط صورة مع أي شخص أجنبي، يصبح هدفاً سهلاً للتسقيط والقتل أو الاختطاف، والتهمة جاهزة دائماً: العمالة للاحتلال.

لكن في الوقت نفسه، كان مقاولو المقاومة يقومون بالعمل في معسكرات الاحتلال بكل حرية، من دون أن يستهدفهم أحد، لأن الميليشيا منحتهم صكوك غفران، مقابل مبلغ مادي بالطبع.

وفي الوقت ذاته، وحينما قتلت القوات الأميركية أبو مهدي المهندس “الشايب” وزميله الجنرال الإيراني قاسم سليماني، كان هادي العامري لا يزال يلتقي بالسفير البريطاني بشكل متكرر، والأميركي حتّى.

لكن بالطبع، العامري يمتلك سلطة إصدار تلك الصكوك، لأنه فوق الشكوك والشبهات.

في عام 2013، شنت الميليشيات حملة قتل تشبه حملات فدائيي صدام ضد العاملات بالجنس، وقامت بقتل العشرات من الفتيات ببشاعة، تحت مسمى الحفاظ على الشرف والدين.

بعدها، يبدو أن صكوك الغفران شملت المشتغلات بهذه المهنة، وليس الغفران فحسب، وإنما الحماية كذلك.

وامتدت تلك الصكوك لتحمي باعة الخمر من التفجير المستمر، وملاهي السعدون من الاستهداف، وانتهى أخيراً نزف دماء من قدموا ضحايا كثر لتحسين مزاج العراقيين في زمن يعكر كل شيء فيه مزاجهم.

حتى الآن كانت صكوك الغفران الميليشياوية مفهومة للكثيرين، إذ أنها استهدفت فئات ينبذها المجتمع، لهذا لم يعترض الكثيرون، واعتبر الموضوع إعادة تنظيم لمهنة الدعارة والقمار والغناء الريفي الصادح، بشكل ما كانت تلك الميليشيا تشبه نقابة لأصحاب المهن المكروهة، توفر الحماية مقابل اشتراك شهري.

لكن الصكوك الكبرى بدأت تمنح بعد دخول تنظيم الدولة الإسلامية -“داعش”، أو بعد دحره بالأحرى.

أذكر لقاء لخميس الخنجر على قناة العربية في عام 2014، يصف فيه “داعش” بثوار العشائر، ويقول إنهم اقتربوا من إسقاط بغداد ويدافع عنهم بشكل مستميت وركيك، ويمنع المقدمة من التطرق إلى وجود “المتطرفين القلة” بينهم، ويطلب عدم الالتفات إليهم.

في التوقيت ذاته، كان “المتطرفون القلة” يقتادون 1700 من الجنود الشباب إلى نهر دجلة (بما عُرف لاحقاً بمجزرة “سبايكر”)، ويقتلون السجناء الشيعة في بادوش، ويقتلون ويسبون الإيزيديين في سنجار.

لكن صك الغفران شمل الخنجر، من دون حتى أن يطلب منه الاعتذار، بل تحول إلى حليف للميليشيات التي قال عنها يوماً إنها تقتل أبناء جلدته، وقالت عنه يوما إنه خادم للتنظيم ترقى من كونه راعي غنم لساجدة، زوجة صدّام حسين.

شمل صك الغفران كذلك علي حاتم السليمان، الذي يزخر اليوتيوب بشتائمه لرئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، والعامري وزعيم عصائب أهل الحق قيس الخزعلي، ومُدن الجنوب، والعاملين في الدولة، وكل ما يتنفس تقريباً في البلاد، وتكاد تهديداته ترقى إلى الاعترافات بدعم الإرهاب وقتل الجنود العراقيين.

بطبيعة الحال، صك غفران السليمان كان أسهل حتى من صك المشتغلات بالجنس، كفاه أن يأخذه سائق المالكي إلى المحكمة لينسى فائق زيدان رئيس مجلس القضاء الأعلى إن السليمان “متطرف”، لكن زيدان لم ينس أن يقول إن أشخاصا مثل الإعلامي سعدون محسن ضمد متطرفون، لأن سعدون وأمثاله لا يمتلكون صكوك براءة.

شمل صك الغفران أشخاصا مثل أسعد البصري، الذي نكل حرفيا بكل مقدسات الشيعة وبأئمتهم بكلمات لا يجرؤ أبداً شخص في العالم حتى على التفكير بها، ودعا حرفيا إلى قتل النساء الشيعيات في الأسواق حتى لا ينجبن المزيد من الأطفال.

لكن ذنوب البصري مغفورة، بل أن صكوك الغفران أصبحت تمنح بوساطات أصغر “الحشديين” وجنود إعلامه.

واليوم، في صراع الإطار التنسيقي والتيار الصدري، منح صك غفران جديد لحلفاء الصدر مثل مسعود بارزاني ومحمد الحلبوسي. لقد صرح حيدر البرزنجي، مُحلل الإطار وملمِّع مواقفه، بأن الإطار مستعد للتحالف مع الحزب الديمقراطي وحزب تقدم، بعد “انتهاء المؤامرة الإماراتية” التي كان الطرفان مشتركين بها.

تخيل أن صكوك الغفران تمنح على يد البرزنجي!

وقد مُنحت بالفعل!

احتاجت الكنيسة الكاثوليكية إلى أكثر من 183 عاما، قبل أن يخرج “جون هس” ليقول إن صكوك الغفران كذبة، ويهدد ملكوت الكنيسة وجبال ذهبها.

قتل جون هس على يد الكنيسة، وأحرق، لأنه وأمثاله، مثل الداعين للحريات في العراق، لا يمنحون صكوك غفران، فيما كانت الصكوك توزع يمنة ويسرة على المغتصبين والقتلة ومشتهي الأطفال.

وبعدها بمئة وعشرين عاما أخرى، خرج مارتن لوثر، بتعاليم هزت الدين المسيحي كله وأوروبا، بثورة كانت قائمة في أساسها على انتقاد صكوك الغفران هذه، التي احتاجت رجلين شجاعين و300 عام لتدمر ما بنته الكنيسة خلال 1200 عام بآلاف الرجال.