الشهوة الدائمة للقبح في بغداد: الألوان "الرخيصة" لا تعالج الخراب

مُبين خشاني

17 تشرين الأول 2022

يتراكض مسؤول مثل رئيس الوزراء لافتتاح شارع متواضع تأخر إنجازه لأعوام، ويحاول أمين بغداد إخفاء "القبح" بجداريات مرسومة بألوان رخيصة، بينما النفايات في بغداد تتكدس والخدمات تنهار والناس يتآلفون مع الخراب..

لم يكن يوم 11 تشرين الثاني 2021، يوماً عادياً بالنسبة لموظفي مكتب رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، وحماياته، ولا لسكان مدينة الصدر في شرق بغداد، التي يسكنها نحو ثلاثة ملايين شخص، وتضم سوقاً كبيرةً للسلاح غير الشرعي والقنابل والعتاد. 

فيومها زار الكاظمي مدينة الصدر، لأوّل مرّة، لافتتاح شارع الفلاح بعد إزالة التجاوزات عنه وتأهيله. 

دلّت تلك الزيارة على العجز الذي عاشته، ولا تزال، الحكومات العراقية ما بعد 2003، لدرجة أن تأهيل شارع واحد هو مناسبة تستدعي حضور رئيس الوزراء بنفسه ليقدمها كمنجز كبير لحكومته. 

علماً أن مشروع إكساء شارع الفلاح أُدرج على أجندة أمانة بغداد منذ 2018، بيد أنه لم يبدأ إلا في 2021.  

ولا يزيد طول هذا الشارع عن 6 كيلومترات فقط وعرضه 20 متراً، ما يعني أن تلكؤه لمدة 3 سنوات ما هو إلا عجز وتقصير كبيران في أداء أمانة بغداد، الدائرة المسؤولة عن مشاريع ترميم وتأهيل الشوارع والبنية التحتية، بل وعجز الحكومة بشكل عام. 

وعلى أرض الواقع، لو أجريت عملية بحث بسيطة عن نشاطات أمانة بغداد، ستُلاحظ تفشي حمى إطلاق الحملات بكلّ أنواعها، لكنك لن تجد أثراً ملموساً في الشارع. وستجد أيضاً أن الكثير من حملات أمانة بغداد “تطوعية”، وكأنما هي منظمة مجتمع مدني وليست دائرة حكومية كبيرة ذات موارد مالية ضخمة تأتيها من مصادر عدة، بينها بدلات إيجارات ورسوم إجازات البناء والغرامات، علاوة على ما يخصص لها سنوياً في الميزانية العامة. 

خلال النصف الأول من العام الجاري، أطلقت الأمانة ما يزيد عن خمس حملات، أولها حملة تنظيف “كبرى” انطلقت في شباط بالتزامن مع زيارة الإمام الكاظم التي تشارك فيها آلاف “المواكب” الخدمية، وصولاً إلى حملة تنظيف أطلقتها الأمانة منتصف تموز الجاري بعد صلاة موحدة لأتباع التيار الصدري في مدينة الصدر. 

وما بين هاتين الحملتين، أُطلقت أكثر من حملة للتنظيف والتشجير وأخريات لـ”القضاء على ظواهر ملوِثة” مثل الجزِر العشوائي للحيوانات خارج المسالخ، لكنها جميعاً بدت كحملات بلا أهداف أو نتائج، ولم تقلّ النفايات أو ملوِثات البيئة، بل أنها في تزايد مستمر. 

ستُصاب بالتعب النفسي لو كنت موظف علاقات عامة في أمانة بغداد، وأنت دارس لهذا العلم وتجيد فنونه وتودّ تطبيق ما تعلّمته. لأنك لن تجد في هذه الحملات أي معايير يمكنك اعتمادها في تقييمك للفعالية، إذ لا توجد هنا رؤية أو دراسات جدوى، بل حماس فارغ من المحتوى والفعل يُطلقه أمين بغداد أو المتحدث الرسمي للاستهلاك الإعلامي. 

النفايات متكدسة وتنتظر.. 

في آخر تقرير رسمي حول عملية إدارة النفايات، رصد ديوان الرقابة المالية الإتحادي مشكلات كبيرة في آلية العمل منذ اليوم الأول لعام 2016 وحتى آخر يوم من 2019. 

ويجد التقرير حالة من عدم التناسب المعقول بين النفايات الناتجة والنفايات المرفوعة في أغلب دوائر العاصمة، ويمكن من خلاله فهم أسباب تكدس كل أنواع النفايات حتىّ في الدوائر المسؤولة عن أحياء راقية، مثل حي المنصور. 

ينتج هذا الحي، بناءً على عدد سكانه، 807.5 طن يومياً من النفايات يقابلها شح كبير في عدد المحطات التحويلية التي تُجمع فيها الأطنان، بينما يحتاج الموجود منها إلى إعادة التأهيل. 

ويرصد تقرير ديوان الرقابة هدراً في أموال عقود أبرمتها أمانة بغداد مع وزارة الصناعة من أجل إنشاء خمس محطات تحويلية نموذجية لجمع النفايات، وبلغت الكلفة الإجمالية لهذه العقود 22 مليارا و500 مليون دينار عراقي، دون إنجاز أي من المحطات حتى الآن.

وتعاني بغداد أيضاً من شح مواقع الطمر الصحي، فكل النفايات المرفوعة تنقل من محطات التحويل المؤقتة إلى موقع واحد للطمر يقع في منطقة “النباعي” خارج حدود العاصمة، وهو موقع عشوائي لا تتوفر فيه الشروط والمواصفات اللازمة، ولذلك لم يحصل على الموافقات البيئية الكاملة. 

وتوجد مواقع أخرى للطمر في بغداد، لكنها جميعاً مهملة وتحتاج إلى إعادة تأهيل. أحد هذه المواقع يقع في “البوعيثة” جنوبي بغداد، وبلغت قيمة العقد الذي أبرمته أمانة بغداد بشأنه 7 مليارات و879 ألف دينار. 

بدأ العمل في الموقع يوم 5 كانون الثاني 2014، وحدد العقد مدة لا تتجاوز الـ495 يوماً لإنجازه (حوالي سنة ونصف)، وقد مرّت ثماني سنوات ولم ينجز حتى الآن رغم دفع ما يزيد عن مليار ونصف المليار من كلفة المشروع، الذي زادت أهميته بعد غلق جميع مواقع الطمر في بغداد والإبقاء على موقع “النباعي” فقط.  

شهوة القبح 

أمام هذه المشكلات وغيرها مما يحتاج حلولاً سريعة، خاصة بعد تفاقم أزمة المناخ وحدة التلوّث، انشغلت أمانة بغداد خلال الشهور الماضية بحملات تُصوّر بأنها خدمية، بيد أن التدقيق فيها يظهر أنها شكلية وهدفها “تلميع الصورة” بالمقام الأول. 

تصرف الملايين في هذه الحملات، وتحظى بتغطيات إعلامية وصحافية كبيرة لكن أياً من الكاميرات لا تعود مرة أخرى لنقل الصورة من المكان ذاته، فـ”الفقاعة” تنتهي مثل تأثيرها لأنها منذ البداية لم تخضع لاستراتيجيات الإدامة ولم تكن لدى المسؤول عنها أهداف بعيدة المدى. 

واحدة من حملات التعمية هذه، بل أشهرها، هو مشروع “نهضة بغداد” الذي أطلقته أمانة العاصمة عام 2021، وبدأت من ترميم شارع المتنبي مع رسم جداريات كبيرة في أماكن مختلفة. 

من جملة كلامه الكثير جداً عن هذه الحملة، قال أمين بغداد السابق، علاء معن، الذي يصرّ على أن يسبق اسمه لقب “المعمار” إن “الجداريات تهدف لصناعة الجمال في بغداد من خلال نقل الفن إلى الشارع وإزالة اللون الرمادي والغبار”.

بيد أن الصورة للشارع الجانبي التي انتشرت من افتتاح الحملة، والتي تُظهر مخلفات وردم مستترة خلف “الجمال”، أظهرت أن هذه الحملة كغيرها لم تكن إلا واجهة واهية للغبار والدمار الذي يملأ المدينة. 

بعد أيام من انطلاق الحملة، توترت الأجواء بين الكاظمي و”المعمار” فعِمد الأخير إلى الاستقالة ووافق عليها رئيس الوزراء “متأسفاً” لكون “بغداد وأهلها ظلموا كثيراً وكنت انتظر من أمين بغداد أن ينهض بواقعها بما يكفي وبما يليق بأهلها لكن للأسف لم تكن النتائج ترتقي لمستوى التعهدات والتوقعات، بل كثرت الوعود وقل العمل”. 

ولاحقاً عندما اجتمع بالكادر المتقدم لأمانة بغداد، تحدث الكاظمي عن الرشى والفساد في هذه الدائرة والتقارير “غير الصادقة” التي ترفعها إليه. 

كان رئيس الوزراء ذاته قد دعا خلال افتتاحه شارع “الفلاح” في 11 تشرين الثاني 2021، وذلك قبل تأسفه على استقالة أمين بغداد السابق وكشف الكاظمي عن فساد أمانته، لبدء “حملة” لإعمار بغداد ثم عاد في شباط 2022 ليدعو إلى تنظيم مؤتمر دولي للغرض ذاته، لكن لا الحملة بدأت ولا المؤتمر عقد. 

“فلسفة” الإلهاء 

ليست أمانة بغداد وحدها تستخدم الرياء وغياب الضمير المهني، فكل مؤسسات الدولة العراقية تقريباً تفعل هذا منذ ما بعد نيسان 2003، وهي تجيد اعتماد سياسات للإلهاء وتصدير المنجزات دون أن يكون لها أثر في الواقع أو جهد مبذول. 

توارى “المعمار” علاء معن الذي قال عن “نهضة بغداد” إنها مشروع يحمل “فلسفة جديدة للنهوض بالمدينة من جديد”، ولم يوضح كيف يمكن لجداريات كساها الغبار وفقدت بريقها بعد إنجازها بأسابيع قليلة، أن تزيل اللون الرمادي عن بغداد؟ 

وبمطالعة خطة “النهضة” تلك، لا يجد القارئ سوى خيال يخلو حتى من التنظير أو أساسات دراسية وسيصعب على الباحث أن يجد خطة أو رؤية أو أهداف فيها. 

الفنانة وجدان الماجد، هي من نفذت الجداريات “التي ستزيل اللون الرمادي عن بغداد” بوصف “الأمين” السابق، وتقول إن التفاعل مع رسوماتها “كان أكثر في المناطق الشعبية.. فعيون الناس بدأت تنتبه إلى الألوان قبل أسلاك مولدات الكهرباء الأهلية”، المتشابكة هناك. 

يؤكد كلامها هذا انتهاج أمانة بغداد سياسة الإلهاء في حملاتها. 

 ففي الوقت الذي تعتقد فيه الماجد أنها تشارك في صناعة “جمال” يسرق عيون المارّة” بما يحقق “النهضة” لبغداد، تغفل عن حقيقة أن العيون ستتفاعل مع الجداريات ثم تعتاد عليها وعندما يكسوها الغبار الذي لا يجد أشجاراً تصدّه وتخفف وطأته، فإن جدارياتها ستتحول إلى تلوث بصري لا يختلف عن تشابك أسلاك مولدات الكهرباء أو تكدس النفايات في الشوارع والأزقة. 

الأجدر طبعاً هو أن ينتبه المواطن لمنظر الأسلاك المتشابكة ويسأم منه ويرفضه وأن يساعده الفنان في ذلك لتغيير حاله مواجهاً السلطات في ذلك، لا أن “تُسرق عينه” لمشاهدة جدارية مرسومة بألوان رخيصة على جدار آيل للسقوط لإلهائه عن تغيير حاله. 

يبقى مشهد أسلاك مولدات الكهرباء وما يشبهها من مشاهد التلوث البصري تذكيراً دائماً للناس بضعف الأداء الحكومي وتلكؤه، لذا تعمد مؤسسات الحكومة على “سرقة الأعين” وإلهائها بمثل هكذا فعاليات. 

والمواطن العراقي اعتاد بدوره التلوث البصري وتقبّله كأمر واقع، بحيث لم يعد يتذمر من تحول الشوارع مثلاً إلى مكبات كبيرة للنفايات وراح يتآلف معه بل ولا يرى ضيراً في أن يساهم في خلقه. 

هذا الانحدار في ذوق الفرد نما وزاد بفعل السلوك المؤسساتي بدرجة كبيرة.  

ومن يتقبّل منظر النفايات المتكدسة فهو بالطبع سيكون متصالحاً مع مظاهر العمِارة الرثة بدءاً من أشكال البيوت وأثاثها وحتى البنايات الكبيرة، وبالتالي أصبحت بغداد بلا هوية معمارية اليوم. 

الشناشيل، وبناية شركة التأمين في الشورجة وفروع قديمة لمصرف الرافدين وبعض الفنادق والمساجد القديمة المبنية بذوق رفيع وطراز معماري خاص، جميعها مهملة وتتآكل رغم أن بعضها تقع قرب دائرة أمانة بغداد و”مكتب الأمين”. 

وبدل المحافظة على مثل هذه المباني التي تمثل إرثاً جمالياً وتاريخياً، جُرفت الكثير من الأماكن التراثية وتحوّلت إلى مولات تجارية مغلفة بـ”الكبوند” البلاستيكي الرخيص الذي تشكو منه مديرية الدفاع المدني لأنه يُنهك رجال الإطفاء عندما يحاولون إخماد النيران التي تندلع فيه بكثرة. 

يمكن عدّ السياسات الحكومية التي ذكرناها أعلاه كمحفزات للانسلاخ عن شعور المواطنة، وقد غذاها النظام السياسي بعد 2003 مضافةً إلى معدلات الفساد التي أدت لتفقير شرائح كبيرة من الشعب، وبالتالي تقوّضَ مفهوم الملكية العامة لدى الأفراد وصاروا لا يندمون على خراب الأماكن العامة ودمار البنى التحتية لأنهم لا يشعرون بملكيتهم لها. 

وحتى لو أطلق سكان منطقة ما حملات للتزيين والتنظيف التطوعية، وهي كثيرة، فهي لن تصمد أمام آلية النظام ومؤسساته بإشباع شهوة القبح.

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

لم يكن يوم 11 تشرين الثاني 2021، يوماً عادياً بالنسبة لموظفي مكتب رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، وحماياته، ولا لسكان مدينة الصدر في شرق بغداد، التي يسكنها نحو ثلاثة ملايين شخص، وتضم سوقاً كبيرةً للسلاح غير الشرعي والقنابل والعتاد. 

فيومها زار الكاظمي مدينة الصدر، لأوّل مرّة، لافتتاح شارع الفلاح بعد إزالة التجاوزات عنه وتأهيله. 

دلّت تلك الزيارة على العجز الذي عاشته، ولا تزال، الحكومات العراقية ما بعد 2003، لدرجة أن تأهيل شارع واحد هو مناسبة تستدعي حضور رئيس الوزراء بنفسه ليقدمها كمنجز كبير لحكومته. 

علماً أن مشروع إكساء شارع الفلاح أُدرج على أجندة أمانة بغداد منذ 2018، بيد أنه لم يبدأ إلا في 2021.  

ولا يزيد طول هذا الشارع عن 6 كيلومترات فقط وعرضه 20 متراً، ما يعني أن تلكؤه لمدة 3 سنوات ما هو إلا عجز وتقصير كبيران في أداء أمانة بغداد، الدائرة المسؤولة عن مشاريع ترميم وتأهيل الشوارع والبنية التحتية، بل وعجز الحكومة بشكل عام. 

وعلى أرض الواقع، لو أجريت عملية بحث بسيطة عن نشاطات أمانة بغداد، ستُلاحظ تفشي حمى إطلاق الحملات بكلّ أنواعها، لكنك لن تجد أثراً ملموساً في الشارع. وستجد أيضاً أن الكثير من حملات أمانة بغداد “تطوعية”، وكأنما هي منظمة مجتمع مدني وليست دائرة حكومية كبيرة ذات موارد مالية ضخمة تأتيها من مصادر عدة، بينها بدلات إيجارات ورسوم إجازات البناء والغرامات، علاوة على ما يخصص لها سنوياً في الميزانية العامة. 

خلال النصف الأول من العام الجاري، أطلقت الأمانة ما يزيد عن خمس حملات، أولها حملة تنظيف “كبرى” انطلقت في شباط بالتزامن مع زيارة الإمام الكاظم التي تشارك فيها آلاف “المواكب” الخدمية، وصولاً إلى حملة تنظيف أطلقتها الأمانة منتصف تموز الجاري بعد صلاة موحدة لأتباع التيار الصدري في مدينة الصدر. 

وما بين هاتين الحملتين، أُطلقت أكثر من حملة للتنظيف والتشجير وأخريات لـ”القضاء على ظواهر ملوِثة” مثل الجزِر العشوائي للحيوانات خارج المسالخ، لكنها جميعاً بدت كحملات بلا أهداف أو نتائج، ولم تقلّ النفايات أو ملوِثات البيئة، بل أنها في تزايد مستمر. 

ستُصاب بالتعب النفسي لو كنت موظف علاقات عامة في أمانة بغداد، وأنت دارس لهذا العلم وتجيد فنونه وتودّ تطبيق ما تعلّمته. لأنك لن تجد في هذه الحملات أي معايير يمكنك اعتمادها في تقييمك للفعالية، إذ لا توجد هنا رؤية أو دراسات جدوى، بل حماس فارغ من المحتوى والفعل يُطلقه أمين بغداد أو المتحدث الرسمي للاستهلاك الإعلامي. 

النفايات متكدسة وتنتظر.. 

في آخر تقرير رسمي حول عملية إدارة النفايات، رصد ديوان الرقابة المالية الإتحادي مشكلات كبيرة في آلية العمل منذ اليوم الأول لعام 2016 وحتى آخر يوم من 2019. 

ويجد التقرير حالة من عدم التناسب المعقول بين النفايات الناتجة والنفايات المرفوعة في أغلب دوائر العاصمة، ويمكن من خلاله فهم أسباب تكدس كل أنواع النفايات حتىّ في الدوائر المسؤولة عن أحياء راقية، مثل حي المنصور. 

ينتج هذا الحي، بناءً على عدد سكانه، 807.5 طن يومياً من النفايات يقابلها شح كبير في عدد المحطات التحويلية التي تُجمع فيها الأطنان، بينما يحتاج الموجود منها إلى إعادة التأهيل. 

ويرصد تقرير ديوان الرقابة هدراً في أموال عقود أبرمتها أمانة بغداد مع وزارة الصناعة من أجل إنشاء خمس محطات تحويلية نموذجية لجمع النفايات، وبلغت الكلفة الإجمالية لهذه العقود 22 مليارا و500 مليون دينار عراقي، دون إنجاز أي من المحطات حتى الآن.

وتعاني بغداد أيضاً من شح مواقع الطمر الصحي، فكل النفايات المرفوعة تنقل من محطات التحويل المؤقتة إلى موقع واحد للطمر يقع في منطقة “النباعي” خارج حدود العاصمة، وهو موقع عشوائي لا تتوفر فيه الشروط والمواصفات اللازمة، ولذلك لم يحصل على الموافقات البيئية الكاملة. 

وتوجد مواقع أخرى للطمر في بغداد، لكنها جميعاً مهملة وتحتاج إلى إعادة تأهيل. أحد هذه المواقع يقع في “البوعيثة” جنوبي بغداد، وبلغت قيمة العقد الذي أبرمته أمانة بغداد بشأنه 7 مليارات و879 ألف دينار. 

بدأ العمل في الموقع يوم 5 كانون الثاني 2014، وحدد العقد مدة لا تتجاوز الـ495 يوماً لإنجازه (حوالي سنة ونصف)، وقد مرّت ثماني سنوات ولم ينجز حتى الآن رغم دفع ما يزيد عن مليار ونصف المليار من كلفة المشروع، الذي زادت أهميته بعد غلق جميع مواقع الطمر في بغداد والإبقاء على موقع “النباعي” فقط.  

شهوة القبح 

أمام هذه المشكلات وغيرها مما يحتاج حلولاً سريعة، خاصة بعد تفاقم أزمة المناخ وحدة التلوّث، انشغلت أمانة بغداد خلال الشهور الماضية بحملات تُصوّر بأنها خدمية، بيد أن التدقيق فيها يظهر أنها شكلية وهدفها “تلميع الصورة” بالمقام الأول. 

تصرف الملايين في هذه الحملات، وتحظى بتغطيات إعلامية وصحافية كبيرة لكن أياً من الكاميرات لا تعود مرة أخرى لنقل الصورة من المكان ذاته، فـ”الفقاعة” تنتهي مثل تأثيرها لأنها منذ البداية لم تخضع لاستراتيجيات الإدامة ولم تكن لدى المسؤول عنها أهداف بعيدة المدى. 

واحدة من حملات التعمية هذه، بل أشهرها، هو مشروع “نهضة بغداد” الذي أطلقته أمانة العاصمة عام 2021، وبدأت من ترميم شارع المتنبي مع رسم جداريات كبيرة في أماكن مختلفة. 

من جملة كلامه الكثير جداً عن هذه الحملة، قال أمين بغداد السابق، علاء معن، الذي يصرّ على أن يسبق اسمه لقب “المعمار” إن “الجداريات تهدف لصناعة الجمال في بغداد من خلال نقل الفن إلى الشارع وإزالة اللون الرمادي والغبار”.

بيد أن الصورة للشارع الجانبي التي انتشرت من افتتاح الحملة، والتي تُظهر مخلفات وردم مستترة خلف “الجمال”، أظهرت أن هذه الحملة كغيرها لم تكن إلا واجهة واهية للغبار والدمار الذي يملأ المدينة. 

بعد أيام من انطلاق الحملة، توترت الأجواء بين الكاظمي و”المعمار” فعِمد الأخير إلى الاستقالة ووافق عليها رئيس الوزراء “متأسفاً” لكون “بغداد وأهلها ظلموا كثيراً وكنت انتظر من أمين بغداد أن ينهض بواقعها بما يكفي وبما يليق بأهلها لكن للأسف لم تكن النتائج ترتقي لمستوى التعهدات والتوقعات، بل كثرت الوعود وقل العمل”. 

ولاحقاً عندما اجتمع بالكادر المتقدم لأمانة بغداد، تحدث الكاظمي عن الرشى والفساد في هذه الدائرة والتقارير “غير الصادقة” التي ترفعها إليه. 

كان رئيس الوزراء ذاته قد دعا خلال افتتاحه شارع “الفلاح” في 11 تشرين الثاني 2021، وذلك قبل تأسفه على استقالة أمين بغداد السابق وكشف الكاظمي عن فساد أمانته، لبدء “حملة” لإعمار بغداد ثم عاد في شباط 2022 ليدعو إلى تنظيم مؤتمر دولي للغرض ذاته، لكن لا الحملة بدأت ولا المؤتمر عقد. 

“فلسفة” الإلهاء 

ليست أمانة بغداد وحدها تستخدم الرياء وغياب الضمير المهني، فكل مؤسسات الدولة العراقية تقريباً تفعل هذا منذ ما بعد نيسان 2003، وهي تجيد اعتماد سياسات للإلهاء وتصدير المنجزات دون أن يكون لها أثر في الواقع أو جهد مبذول. 

توارى “المعمار” علاء معن الذي قال عن “نهضة بغداد” إنها مشروع يحمل “فلسفة جديدة للنهوض بالمدينة من جديد”، ولم يوضح كيف يمكن لجداريات كساها الغبار وفقدت بريقها بعد إنجازها بأسابيع قليلة، أن تزيل اللون الرمادي عن بغداد؟ 

وبمطالعة خطة “النهضة” تلك، لا يجد القارئ سوى خيال يخلو حتى من التنظير أو أساسات دراسية وسيصعب على الباحث أن يجد خطة أو رؤية أو أهداف فيها. 

الفنانة وجدان الماجد، هي من نفذت الجداريات “التي ستزيل اللون الرمادي عن بغداد” بوصف “الأمين” السابق، وتقول إن التفاعل مع رسوماتها “كان أكثر في المناطق الشعبية.. فعيون الناس بدأت تنتبه إلى الألوان قبل أسلاك مولدات الكهرباء الأهلية”، المتشابكة هناك. 

يؤكد كلامها هذا انتهاج أمانة بغداد سياسة الإلهاء في حملاتها. 

 ففي الوقت الذي تعتقد فيه الماجد أنها تشارك في صناعة “جمال” يسرق عيون المارّة” بما يحقق “النهضة” لبغداد، تغفل عن حقيقة أن العيون ستتفاعل مع الجداريات ثم تعتاد عليها وعندما يكسوها الغبار الذي لا يجد أشجاراً تصدّه وتخفف وطأته، فإن جدارياتها ستتحول إلى تلوث بصري لا يختلف عن تشابك أسلاك مولدات الكهرباء أو تكدس النفايات في الشوارع والأزقة. 

الأجدر طبعاً هو أن ينتبه المواطن لمنظر الأسلاك المتشابكة ويسأم منه ويرفضه وأن يساعده الفنان في ذلك لتغيير حاله مواجهاً السلطات في ذلك، لا أن “تُسرق عينه” لمشاهدة جدارية مرسومة بألوان رخيصة على جدار آيل للسقوط لإلهائه عن تغيير حاله. 

يبقى مشهد أسلاك مولدات الكهرباء وما يشبهها من مشاهد التلوث البصري تذكيراً دائماً للناس بضعف الأداء الحكومي وتلكؤه، لذا تعمد مؤسسات الحكومة على “سرقة الأعين” وإلهائها بمثل هكذا فعاليات. 

والمواطن العراقي اعتاد بدوره التلوث البصري وتقبّله كأمر واقع، بحيث لم يعد يتذمر من تحول الشوارع مثلاً إلى مكبات كبيرة للنفايات وراح يتآلف معه بل ولا يرى ضيراً في أن يساهم في خلقه. 

هذا الانحدار في ذوق الفرد نما وزاد بفعل السلوك المؤسساتي بدرجة كبيرة.  

ومن يتقبّل منظر النفايات المتكدسة فهو بالطبع سيكون متصالحاً مع مظاهر العمِارة الرثة بدءاً من أشكال البيوت وأثاثها وحتى البنايات الكبيرة، وبالتالي أصبحت بغداد بلا هوية معمارية اليوم. 

الشناشيل، وبناية شركة التأمين في الشورجة وفروع قديمة لمصرف الرافدين وبعض الفنادق والمساجد القديمة المبنية بذوق رفيع وطراز معماري خاص، جميعها مهملة وتتآكل رغم أن بعضها تقع قرب دائرة أمانة بغداد و”مكتب الأمين”. 

وبدل المحافظة على مثل هذه المباني التي تمثل إرثاً جمالياً وتاريخياً، جُرفت الكثير من الأماكن التراثية وتحوّلت إلى مولات تجارية مغلفة بـ”الكبوند” البلاستيكي الرخيص الذي تشكو منه مديرية الدفاع المدني لأنه يُنهك رجال الإطفاء عندما يحاولون إخماد النيران التي تندلع فيه بكثرة. 

يمكن عدّ السياسات الحكومية التي ذكرناها أعلاه كمحفزات للانسلاخ عن شعور المواطنة، وقد غذاها النظام السياسي بعد 2003 مضافةً إلى معدلات الفساد التي أدت لتفقير شرائح كبيرة من الشعب، وبالتالي تقوّضَ مفهوم الملكية العامة لدى الأفراد وصاروا لا يندمون على خراب الأماكن العامة ودمار البنى التحتية لأنهم لا يشعرون بملكيتهم لها. 

وحتى لو أطلق سكان منطقة ما حملات للتزيين والتنظيف التطوعية، وهي كثيرة، فهي لن تصمد أمام آلية النظام ومؤسساته بإشباع شهوة القبح.