الميدان والشهوان في الموصل..  بيوت ساحلية "على أهلها المغادرة مفلسين"

مجيد العبايجي

10 تشرين الأول 2022

على امتداد 4 كيلومترات قبالة الضفة الغربية لنهر دجلة في مدينة الموصل كانت منطقتا الميدان والشهوان التراثيتان تنعمان بالنسيم المنعش للنهر ويعيش سكانهما حياة وادعة، لكن حال المنطقتين تغيّر، وأهلها ممنوعون من العودة!

لم يعد في الشريط الساحلي في مدينة الموصل، الذي يقع على مسافة كيلومترين من ضفاف نهر دجلة، سوى بقايا بيوت مُدمّرة بلا سقوف يتكئ بعضها على بعض، رغم أنها قبل سنوات قليلة فقط كانت من أجمل مناطق مدينة أمّ الربيعين.

وطأت الحرب والموت المهيب بأدواتهما المدمّرة الشريط الساحلي هذا بعد سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” على مدينة الموصل عاصمة محافظة نينوى في حزيران 2014.

ولأن الشريط الساحلي يقع في المدينة القديمة، فقد شهد قتالاً طاحناً أثناء انتزاع الموصل من التنظيم الجهادي الشرس.

كانت الميدان والشهوان، الواقعتان على الساحل، ضمن أحياء ساحل الموصل، وصار نحو 150 بيتاً من المنطقتين بمستوى الأرض أو أعلى بقليل بفعل القتال والقصف، والجرافات. 

أثناء سيرنا في شوارع المنطقتين، لم يبدد الصمت سوى قرقعة الحجارة المتناثرة تحت الأقدام. المشهد بالمجمل رمادي كئيب باستثناء بيتين ألوانهما زاهية ينتصبان وسط المكان.

تاريخ المنطقة 

ضمتّ الميدان كنائس تاريخية ومسجدين عريقين أحدهما يعود بناؤه للعام الهجري السادس عشر، وهذه كلّها تعرّضت لأضرار كبيرة، وبعضها تُحاول اليونسكو ترميمها بتمويل من الإمارات.

“أما اسم الميداني”، بحسب الراشدي، فجاء بعد “أن صارت منطلقاً للجيوش الإسلامية وقتذاك”.

وحتى وقت قريب اشتهرت الميدان بسوق غير سوق الموصل الكبير، واشتهر سكّانها بالعمل في صيد الأسماك، وصناعة الخزف، أو ما يعرف باللهجة المحليّة بـ”الكوازيين”. 

من دمر الميدان والشهوان؟  

بعد أن عاشت منطقتا الميدان والشهوان تحت ظلام عباءة “داعش” الطويلة، فقد خرجت أحياء هاتين المنطقتين وهما مدمرتان عام 2017 بفعل العمليات العسكرية التي شابها الكثير من العشوائية.

نتيجة لذلك، خلّفت العمليّات العسكرية دماراً هائلاً وضحايا لم تسعهم إحصائية دقيقة، إلا أن أقلّ التقديرات تشير إلى مقتل وإصابة وفقدان عشرات الآلاف من المدنيين.

كان عدد كبير من المدنيين قد قضى تحت أنقاض البيوت التي قصفت على رؤوس ساكنيها بكثّافة. وبطبيعة الحال، لم يترك “داعش” المناطق التي سيطر عليها قبل أن يقوم بتفخيخها. 

عام ٢٠١٩، بعد عامين من توقف القتال، دخلت دائرة الأمم المتحدة للإجراءات المتعلقة بالألغام (UNMAS) بآليات وجرافات ثقيلة إلى منطقتي الميدان والشهوان.

سارع السكان، عندما رأوا أن آليات المنظمة الدولية ستهدم المنطقة، إلى وضع لافتات على بيوتهم مكتوب عليها: “لا تهدِم”.

لكن الجرافات لم تتوقف عن الهدم إلّا بعد ردمها عدداً كبيراً من البيوت و4 أمتار من كنيسة “الطاهرة” التاريخية التي يتجاوز عمرها 800 عام، إذ تحوّل الهدم إلى قضية رأي عام، وحظي بإدانات واسعة. 

الآن، تعيش مئات العائلات التي دُمِّرت وجُرفت منازلها في بيوت مستأجرة، وهي تنتظر الحصول على التعويضات التي وعدت الحكومات المتعاقبة والسياسيون بتقديمها لهم.  

بين عامي ٢٠١٨ و٢٠٢٢، أنهت دائرة التعويضات أوراق ٨٣ ألف مستحقّ للتعويض، إلا أن ١٤ ألفاً فقط حصلوا على حقوقهم. 

وقف روتين التدقيق الأمني للتأكد من أن المتقدم بالطلب ليس عضواً أو أحد أفراد عائلته في تنظيم “داعش” عائقاً أمام حصول السكّان على تعويضات. 

رغم ذلك، فإن عائلات حيي الميدان والشهوان تكفّلت بإعمار منازلها المهدمة، لكنها تلقت جواباً واحداً: ممنوع!  

زلة لسان 

عرض المسؤولون على السكان المنطقتين بيع أراضيهم المُدمّرة إلى مستثمرين. 

سمع سكان منطقة الميدان، بحسب ما أخبرنا أكثر من واحد، هذه العبارة من المحافظ منصور المرعيد الذي تولى إدارة نينوى عام 2019، خلفاً لنوفل العاكوب. 

أُقيل المحافظان من منصبهما، ولاحقتهما اتهامات بضلوعهما في أعمال التجريف التي طالت ساحل الموصل.  

كان سكان الميدان يشتكون للمرعيد تأخر إعمار منطقتهم وشحة أموال التعويضات ومنعهم من البناء عندما قدّم لهم عرضه.

لم يقبل السكّان بعرض المرعيد، ومع تبدل حكومتين محليتين، ظل منع إعمار منازلهم وعودتهم إليها سارياً.

نقاط أمن تمنع الاعمار 

حاول بعض سكّان منطقتي الميدان والشهوان بناء منازلهم من دون الحصول على ترخيص. هرّبوا بعض مواد البناء، وشرعوا بإعمار بيوتهم، لكن نقاط الأمن الموجودة في المنطقتين لاحقتهم. 

يحاذر المسن أبو أحمد (75 عاماً) خلال مشيه وسط منطقة الميدان، يشير بيده اليمنى ووجهه إلى هيكل بيت صغير لم يرتفع لأكثر من متر واحد، ثم يعود برأسه متأسفاً، “هذا بيت قيد الإنشاء وقد توقف صاحبه بأمر من نقطة الأمن الموجودة هنا بحجة أنهم لم يمنحوا للأهالي ترخيصاً بالبناء”.

“خطوط حمر لا يمكن أن نتجاوزها هنا..”، يكمل المسن الموصلي كلامه قبل أن يتدخل مالك بيت مُدمَّر آخر عمره في حدود الأربعين “5 سنوات مرت وما يزال هذا المكان مدمر. لم يأت أحد لرفع الأنقاض وحتى من يمتلك سنداً أصلياً يوثق عائدية الأرض له أباً عن جد، لا تسمح له الشرطة بإعادة البناء”. 

فقط بعض البعيدين قليلاً عن شريط الميدان الساحلي مسموح لهم بالبناء، لكن المنع يحضر بقوة كلما اقتربت طلبات اعمار البيوت القريبة من النهر.  

وهو يسحب آخر نفس من سيجارته ويزفر الدخان بقوة والدمار يحيط بالمكان حوله من كل الجوانب، يقول إياد طارق بلهجة الاستنكار والشكوى: “ماذا فعلنا نحن.. خرجنا من حرب لا علاقة لنا بها ولم نتسلّم تعويضات عن أضرارنا ومع ذلك لا يسمح لنا بإعادة بناء منازلنا”.

واجهة نهرية بلا علم الملاك 

تحتفظ الإدارة المحلية في محافظة نينوى بخطة لإنشاء واجهة نهرية من أموال كانت مجمّدة في خزينة الدولة منذ 2014 وجرى تحريرها قبل فترة. 

تصف الحكومة المحليّة المشروع بأنه “أول وأكبر” المشاريع على أجندة اللجنة العليا لإعمار الموصل، وهي الجهة المنفذة، وسيبدأ وفق المخطط من الجسر العتيق وصولاً إلى الجسر الخامس ماراً في طريقه بالميدان والشهوان. 

قال مسؤول اللجنة العليا لإعمار الموصل عبد القادر الدخيل، إن مشروع الواجهة النهرية الذي تتجاوز كلفته 68 مليار دينار عراقي “سيحافظ على القيمة التاريخية للمكان الذي ينشئ فيه وهو يمتد على 83 ألف متر مربع”. 

لكن المشروع، على ما يبدو، يتجاوز الأهالي وموافقتهم ورغبتهم. 

نفى أكثر من مالك لمنازل منطقتي الميدان والشهوان تلقيه أي معلومات بشأن خطة اللجنة العليا لإعمار الموصل. 

أي تعويض يكفي؟! 

يعقد أحمد عبد الباقي، وهو مراقب سياسي ومن سكّان منطقة الميدان، لقاءات مع مسؤولي الموصل وسكّان منطقة الميدان، للتوصّل إلى حلّ بشأن مستقبل منطقته.  

خلال جولاته، يتشارك الحديث مع عدد قليل ممّن يلقاهم في الميدان من السكان القدامى، وغالباً ما يكون الحديث بشأن العودة، أو التعويض.  

قال أحمد “نريد أن يكون التعويض مجزياً حتى نستطيع تأمين مكان مناسب لنا”، في حال لم يسمح لهم بالعودة. 

البيوت في الميدان والشهوان مساحتها صغيرة وبعضها أقل من 50 متراً، لكن موقعها “مهم وحيوي”، يشرح عبد الباقي رأيه. “حتى لو عوضوا الأهالي، فلن يكون هذا التعويض منصفاً إلّا إذا زادوا قيمته”. 

يبدو عبد الباقي يائساً من إعمار الميدان، وسبق له وان أجرى حواراً مع محافظ نينوى الحالي نجم الجبوري. “أخبرني أن منع سكان الميدان والشهوان من إعادة بناء منازلهم سببه عوائق من قبل هيئة التراث والآثار في بغداد لأن البناء يجب أن يكون وفق الطراز المعماري القديم مع استخدام أنواع معينة من المواد المستخدمة”. 

مثل غيره، سمع أحمد عبد الباقي عن خطّة إنشاء الواجهة النهرية من وسائل الإعلام، لكن المسؤولين الذي التقاهم لم يتحدّثوا بها معه. “محافظ نينوى لم يتطرق في حديثه إلى آلية تطبيق مشروع الواجهة النهرية ولا كيفية تعويض السكان المتضررة أملاكهم”. 

وأد الذكريات  

داخل فناء كبير بقيت منه أقواس قليلة مصنوعة من حجر الآجر متتابعة تطل على نهر دجلة، يقف أبو مهند على عتبة ما تبقى من بيته التراثي ليستعيد ذكريات عاشها مع عائلته داخل سراديب هذا البيت الباردة قبل أن تهوي على ساكنيها إثر قصف طال المكان. 

يتجاوز عمر أبو مهند الثمانين عاماً، وظل منزله الذي اشتراه قبل أكثر من 60 عاماً من عائلة مسيحية جاورها لسنوات مسجلاً باسمها. 

“كنت أوجه أبنائي للجلوس في السرداب دائماً خلال الصيف. الجيران كانوا يستأذنوني لإقامة مناسباتهم في فناء بيتي. هذا البيت شهد أعراسا كردية ومسيحية ومسلمة”. 

بالإضافة الى بيته، خسر أبو مهند دكانه في الميدان ومخازنه التي أغلقتها أكوام الأحجار. 

يعتقد أبو أحمد الذي يقترب منه في السن أن “المشاريع التي تستهدف المنطقتين ستقتل ذكريات الأهالي في المنطقة وتفك الارتباط الروحي بينهم وبين منازلهم العتيقة”. 

يجول أبو مهند برأسه يمنة وشمالاً وكأنه يرى بيته لأول مرة. يهم بالنزول من على كومة أحجار متجمعة وبصوت منخفض يقول “أتمنى لو يرفعوا هذه الأنقاض من داخل بيتي حتى أعود وأسكن فيه وإن كان على هذا الحال”.

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

لم يعد في الشريط الساحلي في مدينة الموصل، الذي يقع على مسافة كيلومترين من ضفاف نهر دجلة، سوى بقايا بيوت مُدمّرة بلا سقوف يتكئ بعضها على بعض، رغم أنها قبل سنوات قليلة فقط كانت من أجمل مناطق مدينة أمّ الربيعين.

وطأت الحرب والموت المهيب بأدواتهما المدمّرة الشريط الساحلي هذا بعد سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” على مدينة الموصل عاصمة محافظة نينوى في حزيران 2014.

ولأن الشريط الساحلي يقع في المدينة القديمة، فقد شهد قتالاً طاحناً أثناء انتزاع الموصل من التنظيم الجهادي الشرس.

كانت الميدان والشهوان، الواقعتان على الساحل، ضمن أحياء ساحل الموصل، وصار نحو 150 بيتاً من المنطقتين بمستوى الأرض أو أعلى بقليل بفعل القتال والقصف، والجرافات. 

أثناء سيرنا في شوارع المنطقتين، لم يبدد الصمت سوى قرقعة الحجارة المتناثرة تحت الأقدام. المشهد بالمجمل رمادي كئيب باستثناء بيتين ألوانهما زاهية ينتصبان وسط المكان.

تاريخ المنطقة 

ضمتّ الميدان كنائس تاريخية ومسجدين عريقين أحدهما يعود بناؤه للعام الهجري السادس عشر، وهذه كلّها تعرّضت لأضرار كبيرة، وبعضها تُحاول اليونسكو ترميمها بتمويل من الإمارات.

“أما اسم الميداني”، بحسب الراشدي، فجاء بعد “أن صارت منطلقاً للجيوش الإسلامية وقتذاك”.

وحتى وقت قريب اشتهرت الميدان بسوق غير سوق الموصل الكبير، واشتهر سكّانها بالعمل في صيد الأسماك، وصناعة الخزف، أو ما يعرف باللهجة المحليّة بـ”الكوازيين”. 

من دمر الميدان والشهوان؟  

بعد أن عاشت منطقتا الميدان والشهوان تحت ظلام عباءة “داعش” الطويلة، فقد خرجت أحياء هاتين المنطقتين وهما مدمرتان عام 2017 بفعل العمليات العسكرية التي شابها الكثير من العشوائية.

نتيجة لذلك، خلّفت العمليّات العسكرية دماراً هائلاً وضحايا لم تسعهم إحصائية دقيقة، إلا أن أقلّ التقديرات تشير إلى مقتل وإصابة وفقدان عشرات الآلاف من المدنيين.

كان عدد كبير من المدنيين قد قضى تحت أنقاض البيوت التي قصفت على رؤوس ساكنيها بكثّافة. وبطبيعة الحال، لم يترك “داعش” المناطق التي سيطر عليها قبل أن يقوم بتفخيخها. 

عام ٢٠١٩، بعد عامين من توقف القتال، دخلت دائرة الأمم المتحدة للإجراءات المتعلقة بالألغام (UNMAS) بآليات وجرافات ثقيلة إلى منطقتي الميدان والشهوان.

سارع السكان، عندما رأوا أن آليات المنظمة الدولية ستهدم المنطقة، إلى وضع لافتات على بيوتهم مكتوب عليها: “لا تهدِم”.

لكن الجرافات لم تتوقف عن الهدم إلّا بعد ردمها عدداً كبيراً من البيوت و4 أمتار من كنيسة “الطاهرة” التاريخية التي يتجاوز عمرها 800 عام، إذ تحوّل الهدم إلى قضية رأي عام، وحظي بإدانات واسعة. 

الآن، تعيش مئات العائلات التي دُمِّرت وجُرفت منازلها في بيوت مستأجرة، وهي تنتظر الحصول على التعويضات التي وعدت الحكومات المتعاقبة والسياسيون بتقديمها لهم.  

بين عامي ٢٠١٨ و٢٠٢٢، أنهت دائرة التعويضات أوراق ٨٣ ألف مستحقّ للتعويض، إلا أن ١٤ ألفاً فقط حصلوا على حقوقهم. 

وقف روتين التدقيق الأمني للتأكد من أن المتقدم بالطلب ليس عضواً أو أحد أفراد عائلته في تنظيم “داعش” عائقاً أمام حصول السكّان على تعويضات. 

رغم ذلك، فإن عائلات حيي الميدان والشهوان تكفّلت بإعمار منازلها المهدمة، لكنها تلقت جواباً واحداً: ممنوع!  

زلة لسان 

عرض المسؤولون على السكان المنطقتين بيع أراضيهم المُدمّرة إلى مستثمرين. 

سمع سكان منطقة الميدان، بحسب ما أخبرنا أكثر من واحد، هذه العبارة من المحافظ منصور المرعيد الذي تولى إدارة نينوى عام 2019، خلفاً لنوفل العاكوب. 

أُقيل المحافظان من منصبهما، ولاحقتهما اتهامات بضلوعهما في أعمال التجريف التي طالت ساحل الموصل.  

كان سكان الميدان يشتكون للمرعيد تأخر إعمار منطقتهم وشحة أموال التعويضات ومنعهم من البناء عندما قدّم لهم عرضه.

لم يقبل السكّان بعرض المرعيد، ومع تبدل حكومتين محليتين، ظل منع إعمار منازلهم وعودتهم إليها سارياً.

نقاط أمن تمنع الاعمار 

حاول بعض سكّان منطقتي الميدان والشهوان بناء منازلهم من دون الحصول على ترخيص. هرّبوا بعض مواد البناء، وشرعوا بإعمار بيوتهم، لكن نقاط الأمن الموجودة في المنطقتين لاحقتهم. 

يحاذر المسن أبو أحمد (75 عاماً) خلال مشيه وسط منطقة الميدان، يشير بيده اليمنى ووجهه إلى هيكل بيت صغير لم يرتفع لأكثر من متر واحد، ثم يعود برأسه متأسفاً، “هذا بيت قيد الإنشاء وقد توقف صاحبه بأمر من نقطة الأمن الموجودة هنا بحجة أنهم لم يمنحوا للأهالي ترخيصاً بالبناء”.

“خطوط حمر لا يمكن أن نتجاوزها هنا..”، يكمل المسن الموصلي كلامه قبل أن يتدخل مالك بيت مُدمَّر آخر عمره في حدود الأربعين “5 سنوات مرت وما يزال هذا المكان مدمر. لم يأت أحد لرفع الأنقاض وحتى من يمتلك سنداً أصلياً يوثق عائدية الأرض له أباً عن جد، لا تسمح له الشرطة بإعادة البناء”. 

فقط بعض البعيدين قليلاً عن شريط الميدان الساحلي مسموح لهم بالبناء، لكن المنع يحضر بقوة كلما اقتربت طلبات اعمار البيوت القريبة من النهر.  

وهو يسحب آخر نفس من سيجارته ويزفر الدخان بقوة والدمار يحيط بالمكان حوله من كل الجوانب، يقول إياد طارق بلهجة الاستنكار والشكوى: “ماذا فعلنا نحن.. خرجنا من حرب لا علاقة لنا بها ولم نتسلّم تعويضات عن أضرارنا ومع ذلك لا يسمح لنا بإعادة بناء منازلنا”.

واجهة نهرية بلا علم الملاك 

تحتفظ الإدارة المحلية في محافظة نينوى بخطة لإنشاء واجهة نهرية من أموال كانت مجمّدة في خزينة الدولة منذ 2014 وجرى تحريرها قبل فترة. 

تصف الحكومة المحليّة المشروع بأنه “أول وأكبر” المشاريع على أجندة اللجنة العليا لإعمار الموصل، وهي الجهة المنفذة، وسيبدأ وفق المخطط من الجسر العتيق وصولاً إلى الجسر الخامس ماراً في طريقه بالميدان والشهوان. 

قال مسؤول اللجنة العليا لإعمار الموصل عبد القادر الدخيل، إن مشروع الواجهة النهرية الذي تتجاوز كلفته 68 مليار دينار عراقي “سيحافظ على القيمة التاريخية للمكان الذي ينشئ فيه وهو يمتد على 83 ألف متر مربع”. 

لكن المشروع، على ما يبدو، يتجاوز الأهالي وموافقتهم ورغبتهم. 

نفى أكثر من مالك لمنازل منطقتي الميدان والشهوان تلقيه أي معلومات بشأن خطة اللجنة العليا لإعمار الموصل. 

أي تعويض يكفي؟! 

يعقد أحمد عبد الباقي، وهو مراقب سياسي ومن سكّان منطقة الميدان، لقاءات مع مسؤولي الموصل وسكّان منطقة الميدان، للتوصّل إلى حلّ بشأن مستقبل منطقته.  

خلال جولاته، يتشارك الحديث مع عدد قليل ممّن يلقاهم في الميدان من السكان القدامى، وغالباً ما يكون الحديث بشأن العودة، أو التعويض.  

قال أحمد “نريد أن يكون التعويض مجزياً حتى نستطيع تأمين مكان مناسب لنا”، في حال لم يسمح لهم بالعودة. 

البيوت في الميدان والشهوان مساحتها صغيرة وبعضها أقل من 50 متراً، لكن موقعها “مهم وحيوي”، يشرح عبد الباقي رأيه. “حتى لو عوضوا الأهالي، فلن يكون هذا التعويض منصفاً إلّا إذا زادوا قيمته”. 

يبدو عبد الباقي يائساً من إعمار الميدان، وسبق له وان أجرى حواراً مع محافظ نينوى الحالي نجم الجبوري. “أخبرني أن منع سكان الميدان والشهوان من إعادة بناء منازلهم سببه عوائق من قبل هيئة التراث والآثار في بغداد لأن البناء يجب أن يكون وفق الطراز المعماري القديم مع استخدام أنواع معينة من المواد المستخدمة”. 

مثل غيره، سمع أحمد عبد الباقي عن خطّة إنشاء الواجهة النهرية من وسائل الإعلام، لكن المسؤولين الذي التقاهم لم يتحدّثوا بها معه. “محافظ نينوى لم يتطرق في حديثه إلى آلية تطبيق مشروع الواجهة النهرية ولا كيفية تعويض السكان المتضررة أملاكهم”. 

وأد الذكريات  

داخل فناء كبير بقيت منه أقواس قليلة مصنوعة من حجر الآجر متتابعة تطل على نهر دجلة، يقف أبو مهند على عتبة ما تبقى من بيته التراثي ليستعيد ذكريات عاشها مع عائلته داخل سراديب هذا البيت الباردة قبل أن تهوي على ساكنيها إثر قصف طال المكان. 

يتجاوز عمر أبو مهند الثمانين عاماً، وظل منزله الذي اشتراه قبل أكثر من 60 عاماً من عائلة مسيحية جاورها لسنوات مسجلاً باسمها. 

“كنت أوجه أبنائي للجلوس في السرداب دائماً خلال الصيف. الجيران كانوا يستأذنوني لإقامة مناسباتهم في فناء بيتي. هذا البيت شهد أعراسا كردية ومسيحية ومسلمة”. 

بالإضافة الى بيته، خسر أبو مهند دكانه في الميدان ومخازنه التي أغلقتها أكوام الأحجار. 

يعتقد أبو أحمد الذي يقترب منه في السن أن “المشاريع التي تستهدف المنطقتين ستقتل ذكريات الأهالي في المنطقة وتفك الارتباط الروحي بينهم وبين منازلهم العتيقة”. 

يجول أبو مهند برأسه يمنة وشمالاً وكأنه يرى بيته لأول مرة. يهم بالنزول من على كومة أحجار متجمعة وبصوت منخفض يقول “أتمنى لو يرفعوا هذه الأنقاض من داخل بيتي حتى أعود وأسكن فيه وإن كان على هذا الحال”.