مجتمع حزين ومصدوم.. يرمي يمين الطلاق ويموت على الطُرقات السريعة

علي رياض

10 تشرين الأول 2022

نحن شعب تعِبت أعصابه وفقد القدرة على السعادة والاسترخاء، وكل ما يحيط بنا يحزننا ويغضبنا ويثير التوتر والقلق فينا. نحن حزانى.

في يوم صيفيّ حار تجاوزت حرارة الظل فيه 48 درجة مئوية، تشاجر سائق حافلة نقل خاصة مع أحد ركابه على أجرته الزهيدة. 

كان المبلغ -أصل الخلاف- لا يعادل ثمن نصف رغيف خبز واحد، لذا كان الشجار مثيراً للغثيان لنا نحن ركاب الحافلة.

وبعد دقائق، كشفت عجوز تجلس في مؤخرة السيارة عن حاجتها للمال من أجل علاج ابنتها الراقدة في المستشفى، بعدما انهارت بالبكاء.  

السائق ذاته الذي تشاجر من أجل الأجرة القليلة، سبق راكباً آخر أراد التبرع للمرأة. 

نقدها أموالاً ربما تزيد 100 ضعف عن أجرة الراكب التي تشاجر معه عليها قبل لحظات. 

هل ترى هذا غريباً؟ 

في شهر آب من هذا العام، تداول بعض سكان مدينة الصدر شرقي بغداد نبأً عن حادثة أغرب. 

يفيد النبأ بأن شاباً كلما أطفأ ثلاجة منزله لتشغيل مبردة الهواء على خط الكهرباء الواصل من مولدة أهلية، تعيد والدته وأخته تشغيل الثلاجة فتنقطع الكهرباء خلال نومه. 

تكررت العملية 3 مرات، ففجّر الشاب الثلاجة بقنبلة يدوية هجومية ما أدى لاندلاع حريق في المنزل ألحق بأخته جروحاً متوسطة. 

ما الذي يمكن استنتاجه من هكذا قصص؟ 

في التراث العراقي، عندما يضحك جمع من الناس فإنهم يتبعونها بعبارة “ربنا أكفنا شر هذه الضحكة”، أو يقولون “أجعل الضحكة خيرا لنا وشرا على عدونا”. 

هنا، الضحك أمر نادر يخاف الناس من تبعاته، كأنه فأل سيئ وليس هو عامود السعادة وأداتها. 

نحن شعب تعِبت أعصابه وفقد القدرة على السعادة والاسترخاء، وكل ما يحيط بنا يحزننا ويغضبنا ويثير التوتر والقلق فينا. نحن حزانى. 

هل يمكن القول إننا مرضى؟ 

إلى أي مدى نحن مكتئبون؟  

يقول الطبيب المختص بالأمراض النفسية حسن الشماع إن المصابين بالاكتئاب عادة ما يعبرون عن ضيقهم إلى الحلقات المقربة من الأصدقاء والأهل، لكنهم يجدون في الغالب تعليقاً واحداً: “كلنا مثلك. أنت لست وحدك”. 

يرى الطبيب هذا الجواب خاطئاً ومصيباً في الآن ذاته. 

فكون الجميع بالفعل مصاباً بالاكتئاب والاضطرابات النفسية، هو أمر صحيح في بلد مثل العراق. 

وهو خاطئ لأن التعميم يلغي أهمية الحدث ويدفع الفرد لإهمال مشاعره الخاصة عندما ينظر إلى نفسه كجزء من حالة عامة. 

يؤكد مؤشر السعادة العالمي لعام 2022 هذا الأمر، ويضع العراق في المرتبة 107 من مجموع 146 دولة ضمّها المؤشر. 

يفصّل الشماع تشخيصه للاكتئاب العراقي. 

“الوضع والبيئة العامين للإنسان ومستوى الأمان والاقتصاد (المترديين) فضلاً عن الضغوط التي تواجه الساعين لتوفير حياة كريمة، هي عوامل ضاغطة قد تسبب التوتر والاكتئاب”. 

“وسواء شُخصت الحالة أما لا، فإنها تنتج لدى المرء اندفاعة وانفعالا عاليين”. 

نرى هذا ينطبق حرفياً في مثال السائق الذي قام بفعلين متناقضين دون أن ينتبه أحد لمكمن التناقض. 

ولفرط عمومية التناقض في الشارع العراقي، لا يوصف سلوك كهذا بالغرابة. 

وينطبق الأمر على الشاب مفجّر ثلاجة البيت، فردة الفعل على النبأ هي البحث عن شخص يُلقي باللوم عليه، سواءً كانت الأم أو الأخت اللتان لم تهتما بنومه أو الشاب ذاته غير المكترث لسلامتهما عندما سحب مقبس القنبلة.

لا يعرف الطبيب حسن الشماع إحصائية بعدد المصابين بالاضطرابات النفسية، وهي غير متوفرة، ولا يمكنه قياس عددهم من خلال جمع وإحصاء الحالات التي تعرض على الأطباء مثله. 

وهو يعتقد أن الحالات التي تأتي للأطباء من صنفه “هو قمة جبل الجليد فقط، بسبب المؤاخذات الاجتماعية على مراجعة الطبيب النفسي”. 

تشرّب الصدمة 

يعرّف موقع الجمعية الأميركية للطب النفسي اضطراب ما بعد الصدمة بأنه: “اضطراب نفسي قد يظهر عند الناس الذين عاشوا أو شهدوا حدثاً صادماً كالكوارث الطبيعية أو الحوادث الخطيرة أو العمليات الإرهابية أو القتال والحروب أو حالة اغتصاب أو تهديد بالقتل أو الاعتداء الجنسي أو الأذى الجسدي”.

ما الذي نخرج به لو ألقينا نظرة سريعة إلى ما عاشه العراقيون منذ 2003 وحتى اللحظة الراهنة من حروب وإرهاب وفقدان الأمن وانتشار مختلف أنواع المجاميع المسلحة، يضاف إليها الطقس الملتهب الذي يضع 7 إلى 9 مدن عراقية كل صيف في قائمة أسخن 10 مدن في العالم، وغيرها؟

تمكننا هذه الحقائق عن العراق، ودون مراجعة أصحاب الاختصاص، أن نخمن نسبة العراقيين الذين كانوا وما زالوا عرضة لاضطراب الصدمة وغيره من المشاكل النفسية. 

إلى جانب ذلك، يورد موقع “معهد الطب النفسي المتقدم” (Institute for Advanced Psychiatry)، 4 أنواعا من الآثار لهذا الاضطراب، وهي أولاً استعادة الذكريات والمشاعر السيئة الناتجة عن الحدث والقلق والتوتر، ثانياً تجنب تذكر الحدث الصادم، ثالثاً تغيرات سلبية في الأفكار والمشاعر، كالشعور بالغضب والخوف والذنب، وتطوير اعتقادات مثل “أنا سيئ” أو “العالم مكان غير آمن”، فضلا عن الشعور بالعزلة، وأخيراً الصحو الفائق الذي يسبب مشاكل في النوم وهيجانا وتشتتا في الانتباه. 

فيما يؤكد أن تكرار التعرض للحوادث الصادمة الأكثر عنفاً، يرفع بشكل كبير من نسبة وآثار الإصابة باضطراب ما بعد الصدمة. فهل لهذه الآثار المدروسة عالمياً أن تساعدنا على فهم تأثير الصدمات النفسية على العراقيين؟

نفسية متعبة = حوادث مرورية أكثر؟

في 2021، قتلت حوادث السير في شوارع العراق عدداً يفوق ما قتله الإرهاب الدموي خلال أشهر العام ذاته. 

إذ وقع 8286 حادث سير أودى بحياة 2152 شخصا، أي بمعدل 22.7 حادثاً في اليوم الواحد. 

لا يمكن حصر هذا الرقم الهائل من الحوادث في سبب واحد، لكن يمكننا إحصاء الكثير من الأسباب المنظورة والمتداولة وتحديد سبب نغفل عنه في العادة: ما هي مشكلة السائقين المشتركة؟ ولماذا اعتاد العراقي على سماع النصيحة الأثيرة عندما يبدأ تعلم السياقة: “أنظر لجميع السائقين في الشارع كحمير؟”. 

هل يعقل أن يكون جميع السائقين “حميراً” أو “حمقى”، وما سبب هذا “الحمق” أو التهور في الشارع؟ 

في تصريح صحفي، قال مدير إعلام مديرية المرور العامة العميد الدكتور زياد القيسي إن “عدم التزام السائق بالنظام المروري وقواعد السير والسرعة المُفرطة والاجتياز الخاطئ من جهة اليمين، بالإضافة لاستخدام الهاتف النقال وعدم وضع حزام الأمان وعدم الامتثال للإشارات المرورية كلها أسباب رئيسة للحوادث”. 

لم يوضح القيسي لماذا لا يلتزم السائقون بهذه الأمور. 

أما أنا فسألت صديقاً يشتهر بين معارفه بالرزانة والحكمة والهدوء لدرجة أنه متهم بصنع الملل في الجلسات العادية. 

استفهمت منه عن سبب تهوره الهائل في السياقة رغم اتزانه المعروف. 

ذكر لي أكثر من سبب، منها أن وقته “صار أضيق من قبل” وأن سيارته الحالية أسرع من السابقة. 

لم يقنعني فألححت عليه.  

صمت قليلاً ثم قال “أنا أفرِّغ توتر اليوم بالقيادة السريعة. أشعر أن كل الغضب والتوتر والضيق الذي يمر في يومي يخرج حين أكبس دوّاسة الوقود إلى آخرها، وأسمع صوت المحرك يستغيث. كل من في الشارع متهور، وقيادتي المتأنية تجعلني أشعر بالجبن والخوف، وأنا لست جباناً أو خائفاً”. 

قضى صديقي هذا طفولته في مدينة كانت تشهد انفجارات يومية، كما تعرّضت مدرسته الإعدادية ثلاث مرات لإطلاق نار بينما كان يتواجد فيها، وفي إحداها كان اقتحاماً نفذته قوة أميركية تبحث عن شاب قذفها بقنبلة يدوية. 

هو لا يعتقد أن لتلك الحوادث دخلا في قيادته المتهورة للسيارة.  

لو كان في إيرلندا، لفكر بالأمر قليلاً، وربما اطّلع على ما يورده موقع إن آي دايركت في شمال إيرلندا، المختص بتقديم المشورة العامة في القضايا الخدمية.

عودة إلى العراق، فقد مرّت العديد من الحالات المرتبطة بحوادث السير في العراق على الطبيب النفسي حسن الشماع. 

“كان تهوراً مقصوداً. سلوكا انتحاريا، وقد اعترفوا أنهم كانوا يتعمدون الوقوع في حادث سير ليموتوا!”. 

طبعاً لا يمكن أن ننسب كل حوادث السير لاضطراب ما بعد الصدمة الذي يؤثر على الحياة العملية للشخص وتركيزه. 

وما أوردنا هذه القرائن إلا كمحاولة للتفكير في علاقة الحوادث بالاضطرابات النفسية الشائعة في العراق. 

معادلة 4/1

نبتعد عن حوادث السير، ونتقرب من رقم قياسي سلبي آخر. 

فالتقرير الشهري لمجلس القضاء الأعلى عن حالات الطلاق والزواج، يظهر حصول 18825 حالة زواج و3332 تصديق عقد زواج وقع خارج المحكمة بمجموع كلي، 21857 خلال أيار/ مايو من العام الجاري. 

وشهد الشهر ذاته، تصديق 3731 حالة طلاق خارجي، ونطق القضاة بـ1539 حكماً بالتفريق، ما يجعل مجموع الطلاقات 5270. 

تضعنا هذه الأرقام أمام معادلة: زيجة واحدة من كل أربع زيجات تنتهي بالطلاق.

تحدثت إلى نور جواد الدليمي، المحامية المتخصصة بقضايا الأسرة، لفهم وقوع الطلاق في 25 بالمئة من مجمل الزيجات.  

تقول إن أغلب أسباب الطلاق في الوقت الحالي هو الزواج المبكر، والسبب الثاني هو تردي الوضع الاقتصادي الذي يولّد بدوره مشاكل وضغوطات نفسية كبيرة بين الزوجين، تصنع بينهما فجوة تقودهما إلى الانفصال. 

كما وجدت هذه المحامية أثراً للسوشيال ميديا. 

فهي لاحظت في الحالات التي مرّت عليها إن السوشيال ميديا “تؤثر على حياة الأفراد ذوي الشخصيات الضعيفة والمهزوزة فيقارنون حياتهم المعاشة في العراق بحياة الشخصيات المشهورة في عالم الإنترنت”. 

تراجع الدليمي ذاكرتها وتلتقط حالة طلاق تصفها بـ”الغريبة جداً”.

تذكرتُ حواراً رواه لي صديق لي دار بينه وبين القاضي الذي تعين للتفريق بينه وبين زوجته. 

ففي يوم طلاقه كان القاضي شديد الاستغراب من مظهر صديقي وزوجته غير الغاضبين أحدهما من الآخر. 

فكان أن غضِب هو منهما، قائلاً “هل تسخران مني؟”، فردّ الصديق قائلاً “عفواً سيادة القاضي. لمَ تقول ذلك؟”. 

فأجاب: “أنا أعرف الأزواج الذين على وشك الطلاق.. لقد ربتت زوجتك على كتفك لإزالة ورقة يابسة عالقة في قميصك بينما كنت تهم بالدخول. إن كنتما ترغبان بالهجرة وتريدان طلاقاً مزيفاً يسهل عليكما الإجراءات فهذا لن يحدث! الطلاق هنا سيكون بائناً!”. 

أخبره صديقي أنه يعرف ذلك وأنه لا يخطط مع زوجته للهجرة، بل للانفصال وباتفاق واضح بينهما. 

وافق القاضي رغم استغرابه وطلّقهما. 

انشغل الصديق بالأمر طويلاً حتى فهِم أن “معظم الذين يدخلون المحكمة لينفصلوا عن أزواجهم يأتون بحالة عصبية شديدة، ولا يكادان يطيقان بعضهما لبضع دقائق وهما في غرفة واحدة”. 

يقول إن معظم حالات الطلاق يقودها الغضب، لكن في حالته “فنحن حافظنا على مساحة من الاحترام المتبادل لذلك كان مظهرنا، الذي يجدر به أن يكون طبيعياً، غريباً وناشزاً”. 

تؤكد جميع المصادر التي تناولناها، أن المصاب باضطراب ما بعد الصدمة يميل إلى العزلة وتتسبب حالته بمشكلات له مع المقربين منه كأحبائه وأصدقائه وعائلته، إضافة إلى مشكلات مهنية وسلوكية في حياته اليومية. 

ومن الأعراض الشائعة أيضاً لاضطراب ما بعد الصدمة، هو سرعة الغضب وهيمنة المشاعر السلبية، لاسيما الشعور بالذنب ومشكلات في الثقة بالنفس، وهي أعراض تتداخل بشكل كبير مع السلوكيات المضطربة في حالات الطلاق التي تحدثت عنها المحامية نور الدليمي.

آثار أخرى.. والجنون مُطلق 

إن كل ما ورد من أمثلة حول الحوادث المرورية وحالات الطلاق ليست سوى زاوية ضيقة للنظر إلى نتائج هذا الاضطرابات النفسية.

إذا توسعت النظرة، سنجد العدوانية بين أفراد المجتمع كأثر آخر، مثل المعارك العشائرية الطاحنة لأسباب بعضها مضحك وساذج أو ميل الشبان نحو الجماعات المتطرفة الشيعية والسنية. 

ومن الآثار أيضاً، ارتفاع أعداد المدمنين على المخدرات والمنتحرين بشكل لافت. 

هذه اللمحات إن دُرست ربما سيخرج الباحثون لنتائج خطيرة بشأن حقيقة ومستوى التدهور في الصحة النفسية للفرد العراقي. 

غير أن إجراء مثل هذه الدراسة أمر يبدو أنه ما زال بعيداً، رغم أهميتها. 

تنفذ وزارة الصحة بعض البرامج للتوعية العامة ببعض الأمراض والحالات، لكنها لم تضع الصحة النفسية ضمن أولوياتها بعد، كما يرى الدكتور حسن الشماع. 

ومع استمرار تدهور الوضع العام في البلاد على المستويات السياسية والخدمية بشكل أساسي، ومع تراجع سبل الرفاهية، يبدو أننا نسير في طريق معبد نحو الجنون المطلق.

كاتب هذا المقال تحديداً، يشعر أحياناً أنه قاب قوسين أو أدنى من بلوغ هذه النهاية.

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

في يوم صيفيّ حار تجاوزت حرارة الظل فيه 48 درجة مئوية، تشاجر سائق حافلة نقل خاصة مع أحد ركابه على أجرته الزهيدة. 

كان المبلغ -أصل الخلاف- لا يعادل ثمن نصف رغيف خبز واحد، لذا كان الشجار مثيراً للغثيان لنا نحن ركاب الحافلة.

وبعد دقائق، كشفت عجوز تجلس في مؤخرة السيارة عن حاجتها للمال من أجل علاج ابنتها الراقدة في المستشفى، بعدما انهارت بالبكاء.  

السائق ذاته الذي تشاجر من أجل الأجرة القليلة، سبق راكباً آخر أراد التبرع للمرأة. 

نقدها أموالاً ربما تزيد 100 ضعف عن أجرة الراكب التي تشاجر معه عليها قبل لحظات. 

هل ترى هذا غريباً؟ 

في شهر آب من هذا العام، تداول بعض سكان مدينة الصدر شرقي بغداد نبأً عن حادثة أغرب. 

يفيد النبأ بأن شاباً كلما أطفأ ثلاجة منزله لتشغيل مبردة الهواء على خط الكهرباء الواصل من مولدة أهلية، تعيد والدته وأخته تشغيل الثلاجة فتنقطع الكهرباء خلال نومه. 

تكررت العملية 3 مرات، ففجّر الشاب الثلاجة بقنبلة يدوية هجومية ما أدى لاندلاع حريق في المنزل ألحق بأخته جروحاً متوسطة. 

ما الذي يمكن استنتاجه من هكذا قصص؟ 

في التراث العراقي، عندما يضحك جمع من الناس فإنهم يتبعونها بعبارة “ربنا أكفنا شر هذه الضحكة”، أو يقولون “أجعل الضحكة خيرا لنا وشرا على عدونا”. 

هنا، الضحك أمر نادر يخاف الناس من تبعاته، كأنه فأل سيئ وليس هو عامود السعادة وأداتها. 

نحن شعب تعِبت أعصابه وفقد القدرة على السعادة والاسترخاء، وكل ما يحيط بنا يحزننا ويغضبنا ويثير التوتر والقلق فينا. نحن حزانى. 

هل يمكن القول إننا مرضى؟ 

إلى أي مدى نحن مكتئبون؟  

يقول الطبيب المختص بالأمراض النفسية حسن الشماع إن المصابين بالاكتئاب عادة ما يعبرون عن ضيقهم إلى الحلقات المقربة من الأصدقاء والأهل، لكنهم يجدون في الغالب تعليقاً واحداً: “كلنا مثلك. أنت لست وحدك”. 

يرى الطبيب هذا الجواب خاطئاً ومصيباً في الآن ذاته. 

فكون الجميع بالفعل مصاباً بالاكتئاب والاضطرابات النفسية، هو أمر صحيح في بلد مثل العراق. 

وهو خاطئ لأن التعميم يلغي أهمية الحدث ويدفع الفرد لإهمال مشاعره الخاصة عندما ينظر إلى نفسه كجزء من حالة عامة. 

يؤكد مؤشر السعادة العالمي لعام 2022 هذا الأمر، ويضع العراق في المرتبة 107 من مجموع 146 دولة ضمّها المؤشر. 

يفصّل الشماع تشخيصه للاكتئاب العراقي. 

“الوضع والبيئة العامين للإنسان ومستوى الأمان والاقتصاد (المترديين) فضلاً عن الضغوط التي تواجه الساعين لتوفير حياة كريمة، هي عوامل ضاغطة قد تسبب التوتر والاكتئاب”. 

“وسواء شُخصت الحالة أما لا، فإنها تنتج لدى المرء اندفاعة وانفعالا عاليين”. 

نرى هذا ينطبق حرفياً في مثال السائق الذي قام بفعلين متناقضين دون أن ينتبه أحد لمكمن التناقض. 

ولفرط عمومية التناقض في الشارع العراقي، لا يوصف سلوك كهذا بالغرابة. 

وينطبق الأمر على الشاب مفجّر ثلاجة البيت، فردة الفعل على النبأ هي البحث عن شخص يُلقي باللوم عليه، سواءً كانت الأم أو الأخت اللتان لم تهتما بنومه أو الشاب ذاته غير المكترث لسلامتهما عندما سحب مقبس القنبلة.

لا يعرف الطبيب حسن الشماع إحصائية بعدد المصابين بالاضطرابات النفسية، وهي غير متوفرة، ولا يمكنه قياس عددهم من خلال جمع وإحصاء الحالات التي تعرض على الأطباء مثله. 

وهو يعتقد أن الحالات التي تأتي للأطباء من صنفه “هو قمة جبل الجليد فقط، بسبب المؤاخذات الاجتماعية على مراجعة الطبيب النفسي”. 

تشرّب الصدمة 

يعرّف موقع الجمعية الأميركية للطب النفسي اضطراب ما بعد الصدمة بأنه: “اضطراب نفسي قد يظهر عند الناس الذين عاشوا أو شهدوا حدثاً صادماً كالكوارث الطبيعية أو الحوادث الخطيرة أو العمليات الإرهابية أو القتال والحروب أو حالة اغتصاب أو تهديد بالقتل أو الاعتداء الجنسي أو الأذى الجسدي”.

ما الذي نخرج به لو ألقينا نظرة سريعة إلى ما عاشه العراقيون منذ 2003 وحتى اللحظة الراهنة من حروب وإرهاب وفقدان الأمن وانتشار مختلف أنواع المجاميع المسلحة، يضاف إليها الطقس الملتهب الذي يضع 7 إلى 9 مدن عراقية كل صيف في قائمة أسخن 10 مدن في العالم، وغيرها؟

تمكننا هذه الحقائق عن العراق، ودون مراجعة أصحاب الاختصاص، أن نخمن نسبة العراقيين الذين كانوا وما زالوا عرضة لاضطراب الصدمة وغيره من المشاكل النفسية. 

إلى جانب ذلك، يورد موقع “معهد الطب النفسي المتقدم” (Institute for Advanced Psychiatry)، 4 أنواعا من الآثار لهذا الاضطراب، وهي أولاً استعادة الذكريات والمشاعر السيئة الناتجة عن الحدث والقلق والتوتر، ثانياً تجنب تذكر الحدث الصادم، ثالثاً تغيرات سلبية في الأفكار والمشاعر، كالشعور بالغضب والخوف والذنب، وتطوير اعتقادات مثل “أنا سيئ” أو “العالم مكان غير آمن”، فضلا عن الشعور بالعزلة، وأخيراً الصحو الفائق الذي يسبب مشاكل في النوم وهيجانا وتشتتا في الانتباه. 

فيما يؤكد أن تكرار التعرض للحوادث الصادمة الأكثر عنفاً، يرفع بشكل كبير من نسبة وآثار الإصابة باضطراب ما بعد الصدمة. فهل لهذه الآثار المدروسة عالمياً أن تساعدنا على فهم تأثير الصدمات النفسية على العراقيين؟

نفسية متعبة = حوادث مرورية أكثر؟

في 2021، قتلت حوادث السير في شوارع العراق عدداً يفوق ما قتله الإرهاب الدموي خلال أشهر العام ذاته. 

إذ وقع 8286 حادث سير أودى بحياة 2152 شخصا، أي بمعدل 22.7 حادثاً في اليوم الواحد. 

لا يمكن حصر هذا الرقم الهائل من الحوادث في سبب واحد، لكن يمكننا إحصاء الكثير من الأسباب المنظورة والمتداولة وتحديد سبب نغفل عنه في العادة: ما هي مشكلة السائقين المشتركة؟ ولماذا اعتاد العراقي على سماع النصيحة الأثيرة عندما يبدأ تعلم السياقة: “أنظر لجميع السائقين في الشارع كحمير؟”. 

هل يعقل أن يكون جميع السائقين “حميراً” أو “حمقى”، وما سبب هذا “الحمق” أو التهور في الشارع؟ 

في تصريح صحفي، قال مدير إعلام مديرية المرور العامة العميد الدكتور زياد القيسي إن “عدم التزام السائق بالنظام المروري وقواعد السير والسرعة المُفرطة والاجتياز الخاطئ من جهة اليمين، بالإضافة لاستخدام الهاتف النقال وعدم وضع حزام الأمان وعدم الامتثال للإشارات المرورية كلها أسباب رئيسة للحوادث”. 

لم يوضح القيسي لماذا لا يلتزم السائقون بهذه الأمور. 

أما أنا فسألت صديقاً يشتهر بين معارفه بالرزانة والحكمة والهدوء لدرجة أنه متهم بصنع الملل في الجلسات العادية. 

استفهمت منه عن سبب تهوره الهائل في السياقة رغم اتزانه المعروف. 

ذكر لي أكثر من سبب، منها أن وقته “صار أضيق من قبل” وأن سيارته الحالية أسرع من السابقة. 

لم يقنعني فألححت عليه.  

صمت قليلاً ثم قال “أنا أفرِّغ توتر اليوم بالقيادة السريعة. أشعر أن كل الغضب والتوتر والضيق الذي يمر في يومي يخرج حين أكبس دوّاسة الوقود إلى آخرها، وأسمع صوت المحرك يستغيث. كل من في الشارع متهور، وقيادتي المتأنية تجعلني أشعر بالجبن والخوف، وأنا لست جباناً أو خائفاً”. 

قضى صديقي هذا طفولته في مدينة كانت تشهد انفجارات يومية، كما تعرّضت مدرسته الإعدادية ثلاث مرات لإطلاق نار بينما كان يتواجد فيها، وفي إحداها كان اقتحاماً نفذته قوة أميركية تبحث عن شاب قذفها بقنبلة يدوية. 

هو لا يعتقد أن لتلك الحوادث دخلا في قيادته المتهورة للسيارة.  

لو كان في إيرلندا، لفكر بالأمر قليلاً، وربما اطّلع على ما يورده موقع إن آي دايركت في شمال إيرلندا، المختص بتقديم المشورة العامة في القضايا الخدمية.

عودة إلى العراق، فقد مرّت العديد من الحالات المرتبطة بحوادث السير في العراق على الطبيب النفسي حسن الشماع. 

“كان تهوراً مقصوداً. سلوكا انتحاريا، وقد اعترفوا أنهم كانوا يتعمدون الوقوع في حادث سير ليموتوا!”. 

طبعاً لا يمكن أن ننسب كل حوادث السير لاضطراب ما بعد الصدمة الذي يؤثر على الحياة العملية للشخص وتركيزه. 

وما أوردنا هذه القرائن إلا كمحاولة للتفكير في علاقة الحوادث بالاضطرابات النفسية الشائعة في العراق. 

معادلة 4/1

نبتعد عن حوادث السير، ونتقرب من رقم قياسي سلبي آخر. 

فالتقرير الشهري لمجلس القضاء الأعلى عن حالات الطلاق والزواج، يظهر حصول 18825 حالة زواج و3332 تصديق عقد زواج وقع خارج المحكمة بمجموع كلي، 21857 خلال أيار/ مايو من العام الجاري. 

وشهد الشهر ذاته، تصديق 3731 حالة طلاق خارجي، ونطق القضاة بـ1539 حكماً بالتفريق، ما يجعل مجموع الطلاقات 5270. 

تضعنا هذه الأرقام أمام معادلة: زيجة واحدة من كل أربع زيجات تنتهي بالطلاق.

تحدثت إلى نور جواد الدليمي، المحامية المتخصصة بقضايا الأسرة، لفهم وقوع الطلاق في 25 بالمئة من مجمل الزيجات.  

تقول إن أغلب أسباب الطلاق في الوقت الحالي هو الزواج المبكر، والسبب الثاني هو تردي الوضع الاقتصادي الذي يولّد بدوره مشاكل وضغوطات نفسية كبيرة بين الزوجين، تصنع بينهما فجوة تقودهما إلى الانفصال. 

كما وجدت هذه المحامية أثراً للسوشيال ميديا. 

فهي لاحظت في الحالات التي مرّت عليها إن السوشيال ميديا “تؤثر على حياة الأفراد ذوي الشخصيات الضعيفة والمهزوزة فيقارنون حياتهم المعاشة في العراق بحياة الشخصيات المشهورة في عالم الإنترنت”. 

تراجع الدليمي ذاكرتها وتلتقط حالة طلاق تصفها بـ”الغريبة جداً”.

تذكرتُ حواراً رواه لي صديق لي دار بينه وبين القاضي الذي تعين للتفريق بينه وبين زوجته. 

ففي يوم طلاقه كان القاضي شديد الاستغراب من مظهر صديقي وزوجته غير الغاضبين أحدهما من الآخر. 

فكان أن غضِب هو منهما، قائلاً “هل تسخران مني؟”، فردّ الصديق قائلاً “عفواً سيادة القاضي. لمَ تقول ذلك؟”. 

فأجاب: “أنا أعرف الأزواج الذين على وشك الطلاق.. لقد ربتت زوجتك على كتفك لإزالة ورقة يابسة عالقة في قميصك بينما كنت تهم بالدخول. إن كنتما ترغبان بالهجرة وتريدان طلاقاً مزيفاً يسهل عليكما الإجراءات فهذا لن يحدث! الطلاق هنا سيكون بائناً!”. 

أخبره صديقي أنه يعرف ذلك وأنه لا يخطط مع زوجته للهجرة، بل للانفصال وباتفاق واضح بينهما. 

وافق القاضي رغم استغرابه وطلّقهما. 

انشغل الصديق بالأمر طويلاً حتى فهِم أن “معظم الذين يدخلون المحكمة لينفصلوا عن أزواجهم يأتون بحالة عصبية شديدة، ولا يكادان يطيقان بعضهما لبضع دقائق وهما في غرفة واحدة”. 

يقول إن معظم حالات الطلاق يقودها الغضب، لكن في حالته “فنحن حافظنا على مساحة من الاحترام المتبادل لذلك كان مظهرنا، الذي يجدر به أن يكون طبيعياً، غريباً وناشزاً”. 

تؤكد جميع المصادر التي تناولناها، أن المصاب باضطراب ما بعد الصدمة يميل إلى العزلة وتتسبب حالته بمشكلات له مع المقربين منه كأحبائه وأصدقائه وعائلته، إضافة إلى مشكلات مهنية وسلوكية في حياته اليومية. 

ومن الأعراض الشائعة أيضاً لاضطراب ما بعد الصدمة، هو سرعة الغضب وهيمنة المشاعر السلبية، لاسيما الشعور بالذنب ومشكلات في الثقة بالنفس، وهي أعراض تتداخل بشكل كبير مع السلوكيات المضطربة في حالات الطلاق التي تحدثت عنها المحامية نور الدليمي.

آثار أخرى.. والجنون مُطلق 

إن كل ما ورد من أمثلة حول الحوادث المرورية وحالات الطلاق ليست سوى زاوية ضيقة للنظر إلى نتائج هذا الاضطرابات النفسية.

إذا توسعت النظرة، سنجد العدوانية بين أفراد المجتمع كأثر آخر، مثل المعارك العشائرية الطاحنة لأسباب بعضها مضحك وساذج أو ميل الشبان نحو الجماعات المتطرفة الشيعية والسنية. 

ومن الآثار أيضاً، ارتفاع أعداد المدمنين على المخدرات والمنتحرين بشكل لافت. 

هذه اللمحات إن دُرست ربما سيخرج الباحثون لنتائج خطيرة بشأن حقيقة ومستوى التدهور في الصحة النفسية للفرد العراقي. 

غير أن إجراء مثل هذه الدراسة أمر يبدو أنه ما زال بعيداً، رغم أهميتها. 

تنفذ وزارة الصحة بعض البرامج للتوعية العامة ببعض الأمراض والحالات، لكنها لم تضع الصحة النفسية ضمن أولوياتها بعد، كما يرى الدكتور حسن الشماع. 

ومع استمرار تدهور الوضع العام في البلاد على المستويات السياسية والخدمية بشكل أساسي، ومع تراجع سبل الرفاهية، يبدو أننا نسير في طريق معبد نحو الجنون المطلق.

كاتب هذا المقال تحديداً، يشعر أحياناً أنه قاب قوسين أو أدنى من بلوغ هذه النهاية.