كاظم الحائري.. خفة هدر الدم واحترافية سحب البساط

غسان البرهان

01 أكتوبر 2022

الآراء والفتاوى المتغيّرة للمرجع كاظم الحائري اتسمت بخفتها في هدر الدم، ولعبت دوراً محورياً في مسيرة حزب الدعوة خلال سنواته في إيران، كما أثّرت في التيار الصدري وزعيمه مقتدى الصدر..

حينما غادر رجل الدين كاظم الحائري العراق إلى إيران فاراً من ملاحقة سلطة البعث في سبعينيات القرن الماضي، لم يدر في خلده أن آراءَ كثيرة كتبها عن الحكم الإسلامي وأفكاراً استوحاها من معلمه محمد باقر الصدر ستتغير خلال سنوات إقامته في قم، وأن هذه الآراء المتغيّرة ستلعب دوراً محورياً في سير أهم كيانين سياسيين شيعيين في العراق هما حزب الدعوة في ثمانينات القرن الماضي، والتيار الصدري بعد عام 2003.

وخلافا لبيان اعتزال التصدي للمرجعية، الذي أصدره الحائري نهاية آب الماضي، وأوصى عبره إلى إطاعة علي خامنئي المرشد الأعلى في إيران، والذي يعتقد زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، إنه لم يصدر عنه من محض إرادته (إشارة إلى أنه أرغم على ذلك من قبل السلطات الإيرانية على خلفية الخلاف بين التيار الصدري، والأحزاب الموالية لإيران في العراق)، فإن تاريخَ المرجع الحائري يثبت أنه أمضى حياته بإصدار فتاوى نابعة من قناعاته التي تحركها بوصلة الدفاع عن “بيضة الإسلام”، والذود عن “حياض المذهب”، وهي مصطلحات إسلامية شيعية تستعمل للحفاظ على وحدة المسلمين والمذهب الشيعي.

الحائري رجل دين ومرجع شيعي، كربلائي الأصل، ولد عام 1938، وانتقل مع والده إلى النجف حينما كان رضيعاً، وهناك انطلق في دراسته الدينية في حوزات النجف تدريجياً حتى تتلمذ على يد معلمه الثاني، محمد باقر الصدر، ولازمه اثني عشر عاماً، قبل أن ينتقل إلى إيران والمكوث في مدينة قم حتى يومنا هذا.

تتجلى قناعات الحائري بما يقوم به بعد تغيّر آرائه ومواقفه انسجاما مع مستجدات الوضع في إيران بعد انتصار “الثورة الإسلامية” في إيران عام 1979، وأبرزها السماح لابنه جواد بالمشاركة في الدفاع عن إيران في حربها مع العراق (1980-1988) والتي قُتِلَ خلالها، وصولاً إلى معارضة قيادات حزب الدعوة الذين جمعوا شتاتهم في طهران، ومحاولة جرهم إلى عباءة ولاية الفقيه، ولاحقاً بمعارضة تحركات زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر في العراق حتى المواجهة الأخيرة في “بيان الاعتزال”.

من “الفقيه” إلى “الحذف”

في خضم المواجهة بين حزب الدعوة وسلطة النظام السابق في العراق، اتخذ الحزب من إيران، لاسيما بعد انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979، قاعدة له تجمع أعضاء حزب الدعوة المهاجرين عبر الحدود والقادمين من غير العراق، والذين يسمّون أنفسهم بـ”الدعاة”. هذا التجمع العلني الأول بعيداً عن عيون سلطة البعث، دفع محمد مهدي الآصفي وقيادات أخرى إلى مشروع إضفاء الطابع المؤسساتي على الحزب، وبناء هياكل قيادة للدعوة، وهذا الأمر لم يرق لمهدي السبيتي، الشخص الوحيد الذي يمسك بمفاتيح التنظيم في العراق آنذاك، ومنها اندلعت خلافات حادة نتج عنها تشكيل لجنة الفقهاء في الدعوة والتي رأسها كاظم الحائري، والتي بدورها قررت انتقال “الدعوة الإسلامية” إلى المرحلة السياسية.

إثر هذا الخلاف انقسم الدعاة إلى جانبين، أحدهما يضم الآصفي ويدعو إلى اختيار القيادة عن طريق الانتخابات، والآخر يضم السبيتي وعلي الكوراني اللذين يدعوان إلى اختيار القيادة عن طريق التعيين، وبعد نقاشات استمرت أشهراً، كان قرار الحسم بيد فقيه الدعوة (منصب اعتباري وقتها) كاظم الحائري، الذي أقر الانتخابات صيغةً معتبرة لإعادة بناء الحزب.

غادر السبيتي إيران موجوعاً، بعد قلة نفوذه فيها، والضربات التي لحقت بقياداته في العراق، إلى مقر إقامته في الأردن، وهناك عبر عن استيائه قبل تغييبه: “أُهنت في إيران.. القائد إذا أهين لن يكون قائداً”1.

اُعتقِلَ السبيتي بعدها في الأردن وانتهى مصير أبرز قيادات الدعوة الحركيين.

بعد إجراء الانتخابات تبنت الدعوة مبدأ ولاية الفقيه في نظامها الداخلي، انسجاماً مع روح إيران في ذلك الوقت، وفي عام 1982، أدرج الحزب في نظامه الداخلي فقرة تنص على استحداث منصب “فقيه الدعوة”، واختير الحائري هذه المرة رسمياً، بالإضافة إلى منصبه عضوا في القيادة العامة، لكن الحائري استقال من منصبه الأخير عام 1983، تماشياً مع الاعتقاد السائد في الأوساط الحوزوية والحزبية في أنه مشروع مرجع مستقبلاً.

وفي عام 1984 أعادت الدعوة تأطير علاقتها بالحائري عبر صيغة جديدة وهي “المجلس الفقهي”، تضمنها نظام الحزب الداخلي، وتكون المجلس من الحائري والآصفي ومحمد التسخيري. وسرعان ما أخذت الفجوة بين قيادة التنظيم والمجلس الفقهي تتسع، بسبب تفسير طبيعة ارتباط الدعوة بولاية الفقيه، وتفاقمت الأمور بعد فتح خط للحوار مع جماعة البصرة الذين يعتبرهم المجلس الفقهي امتداداً لتوجهات السبيتي الرافض لمبدأ ولاية الفقيه ولدور العلماء في الحزب.

بعد ذلك سعى الحائري والآصفي مراراً لربط قيادة حزب الدعوة بروح الله الخميني مباشرة، الأمر الذي لم يلق قبولاً من قبل الأخير، وفي عام 1987 دعا الآصفي “الدعاة” إلى “الذوبان” في مرجعية الخميني، وتحويل حزب الدعوة إلى حزب الله. هذا التحرك الذي قاده الآصفي وأيده الحائري دق ناقوس الخطر في صفوف القيادات التنظيمية، لا سيما أن الاثنين نفسيهما كان لهما دورٌ في سحب البساط من تحت أقدام القيادة السابقة (السبيتي) عام 1980، وهو ما دفعهم إلى خطوة هي الأكثر جدلية في مسارهم.

الحائري الذي افتتح مؤتمر “الحوراء زينب” لحزب الدعوة مطلع العام 1988، صعّد لهجته بالقول إن “المرجعية قد احتلت موقعها القيادي في الأمة، وعلى باقي الجهات أن تنقاد إليها، فلا يبقى المجال بعد ذلك لقيادة التنظيم أن تدعي لنفسها القيادة كما كانت في السابق”. ردّ قادة الحزب بعدها بأيام بقرار إلغاء المجلس الفقهي الذي يرأسه الحائري، الأمر الذي أخذ طابع المواجهة بين الحائري وقيادات الدعوة. وقد صدر كراس بعنوان “قرار الحذف” يُردد أن فؤاد المقدادي، أحد طلبة الحائري كتبه تحت إشراف الأخير، وهاجم الكراس الدعوة وتطرق إلى ملابسات قرار الحذف والخلافات داخل الحزب2.

“الدعوة” رد على كراس “قرار الحذف”، في بيان مطول، قال إنه يهدف لإعطاء صورة مشوهة عن الحزب، وإن الكراس يوزع سراً للنيل من “سمعة الدعوة والدعاة”، ومن ثم برر قرار إلغاء مجلس الفقهاء وتحييد عناصره. لكن الخلافات على أرض الواقع أخذت منحى أكثر شراسة، من لغة البيان الدبلوماسية، والتراشق بالاتهامات والإساءات وصل حد تلقيب الحائري بأقذع الألقاب، والقول إنهم هم من صنعوه وأوصلوه إلى هذه المكانة، وبذلك انتهت العلاقة بين الحائري وقيادات الدعوة التي انتقل ثقلها إلى سوريا بعد ذلك. نهاية يصفها الكثير بـ”النقطة المظلمة” في تاريخ الحزب، خلفت تصدعات كبيرة، على الرغم مما يدعيه قيادات الحزب اليوم. أما مكتب الحائري فلم يأتِ على ذكر اسم الحزب عند سرد سيرته على موقعه الإلكتروني.

دليل الجيب لهدر الدم

في عام “الحذف” ذاته، أعلن الخميني “تجرع كأس السم”، بالموافقة على إيقاف الحرب مع العراق عام 1988 فيما استمرت المقاومة الشيعية العراقية بخوض عمليات محدودة في العراق تنطلق من الأهوار وتعود إليها، حتى صارت ملاذ الهاربين من سلطات النظام، ومن هذا المكان ينطلقون إلى إيران للتواصل مع قيادات المعارضة من “بدر” و”المجلس الأعلى” وما تبقى من “الدعوة” وغيرهم.

المرابطون في الأهوار لم يكونوا كلهم يقلدون المرجع ذاته (يعودون إليه بأخذ التوجيهات الشرعية)، الأمر الذي تعذر على مقلدي مراجع النجف وصول استفتاءاتهم بشأن ما يُستجد على ساحة المواجهة، إذ كانت آذان حزب البعث مزروعة في عمائم وأروقة وجدران النجف، ولما لهذا الأمر من خطورة تؤدي بحياة وأسرة ومحيط من يتعامل به إلى الإعدام الفوري، اتجهت الأنظار صوب المرجعيات التي غادرت البلاد، والتي تتواجد أصلا خارج الحدود، وكان للحائري نصيب منها.

جمع مكتب الحائري الاستفتاءات التي وردت إلى المرجع بكتيب طبعه وعنونه بـ”دليل المجاهد” عام 1993، ثم أعاد طبعه مرات عدة. هذا الكتيب الذي حرصوا على أن يكون حجمه صغيراً بقطع كتب الجيب، يسهل حمله وتداوله، أثار اعتراضات وانتقادات وصلت إلى مسامع الحائري ومكتبه، دفعتهم إلى كتابة مقدمة جديدة اختلفت لهجتها عن الطبعة الأولى، وتضمنت تنبيها على تخصيص الكتيب لـ”المجاهدين” العراقيين طالما بقيت الظروف الراهنة: “ولا يصح العمل به خارج هذا الميدان، وقد لا يصح لزمان آخر، كما أن تداوله منحصر بالمعنيين بقضايا الجهاد، ونرى من الأفضل عدم تداوله بشكل واسع، فقد يكون انحصاره بيد مسؤولي العمل الجهادي أو رؤساء المجاميع القتالية، أمراً مفضلاً”3، وهذا خلافاً لطبيعة الكتاب الذي أُريد له أن يكون يسير الحمل سهل التداول بين الناس.

وأجاز الحائري في دليله العمليات التي تنفذ ضد رموز النظام والبعثيين في أماكن يوجد فيها أبرياء ومدنيون وأشخاص غير معروفي الانتماء، شرط أن “تكون مصالح العمليات هامة وعظيمة بحيث تغلب على الأضرار الجانبية التي قد تصيب الأبرياء”4، والهجوم على أماكن البعثيين التي تحتوي طلاب مدارس وأبرياء للحراسة “إذا توقفت عليه مواصلة الجهاد ولم يمكن تجنبه (محاولة تحذيرهم)”5، وضرب مديرية الأمن العامة، أعتى الدوائر الأمنية لنظام البعث، مع وجود أبرياء موقوفين، إذا “كان في ذلك فوائد جهادية تهون خسارة نفوس بريئة”6.

وقال إنه لا إثم على القائمين بعملية “جهادية” ضد عناصر النظام في حي سكني ما حتى لو أدى ذلك إلى إيذاء مواطنين أبرياء بحملات اعتقال7.

وجوَّز أيضاً مقاومة “المجاهد” لقوات النظام التي تحاول إلقاء القبض عليه مع علمه بأن عائلته سوف تتضرر عند الاشتباك أو بعده8، والانتحار لدى الضرورة بلحاظ التعذيب القاسي9، وأخذ الأجرة مقدماً كشرط على تنفيذ عملية معينة10، والعمليات الانتحارية “إذا كانت فيها مصلحة للإسلام عظيمة بحيث تغلب على مفسدة قتل النفس”11.

وعند سؤاله بشأن فتوى “قتل كل جندي يقع تحت أيدي المجاهدين بمواجهة أو دونها”، قال الحائري بلسان صريح: “أنا أفتي بقتل كل متعاون مع السلطة في محاربة المؤمنين”12.

وجوّز قتل الأفراد الذين يقومون بعمليات تفتيش مباغتة13، وقتل الجنود والضباط المقبوض عليهم في الشارع “ولو كان مشغولاً بعمل غير عدائي”14.

وسمح بقتل الأسير: “لأنكم لا تستطيعون إبقاءه مدة مديدة أسيرا عندكم، ولو أطلقتم سراحه أو هرب منكم رجع مرة أخرى إلى القوة العاملة ضد المؤمنين، فالعلاج المنحصر هو القتل”15، كما جوز ضرب الأسير إن توقف أخذ المعلومات على الضرب16.

وفي مقدمة الطبعة الثانية رد مكتب الحائري على الانتقادات بشأن الفتاوى التي تجيز قتل المتعاونين والأسرى: “كيف سيواجه المجاهدون أعداءهم؟ هل ندعوهم إلى حمل باقات من الورود يطلقونها من بنادقهم تجاه من يمطر عليهم نيرانه ويخادعهم بنفاقه؟”.. “للحرب الثورية أحكامها واستثناءاتها”، ومنها التعامل مع الأسير، فيما ألقى الكرة في ملعب “المجاهدين” بأن “هذا أمرٌ ينحصر تشخيصه ميدانيا بالمجاهدين أنفسهم”17، الذين يستفتون عن قتل وإصابة رجل مستطرق خوفاً من كشف السر!

لم يَعُد هذا الكتاب متوفراً، ولم يُعِد مكتب الحائري طبعه، ولم يضع نسخة إلكترونية له في موقعه الإلكتروني ضن خانة مؤلفات المرجع رغم توفير بقية العناوين بصيغ متعددة.

فتنة لا تصيبن الذين ظلموا!

“احتفظوا بأنفسكم للعراق”، نداءات متكررة وجهها الحائري إلى الجيش العراقي قبيل الحرب عام 2003، دعاهم فيها إلى الالتحاق بـ”الأمة العراقية المسلمة”، والتوبة، وقال إن من يُقتل بعد توبته يموت شهيداً، وبينما كانت الصواريخ تدك العاصمة بغداد، حرم عليهم الوقوف إلى جانب صدام أو أميركا.

ولم تطو صفحة حزب البعث عند الحائري عام 2003، فبعد نحو شهرين من إعلان سقوط نظام صدام أصدر الحائري فتوى أجاز فيها قتل وتشريد وتعذيب وسجن البعثيين الذين “انهمكوا في الإجرام”، و”كتابة التقارير”، و”الصدّاميين الذين بدأوا يعيدون تنظيمهم”، و”الذين بدأوا يحتلّون مرّة اُخرى مكان الصدارة”، والذين “بدأوا يعملون لتخريب حياة الناس مثل قطع أسلاك الكهرباء، أو تهديم البيوت، أو القتل، أو خلق الفتن والمحن”، مستثنيا من فتوى هدر الدم الذين “انتموا إلى الحزب حرصاً على لقمة العيش، رغم خسّة العيش تحت قيادة صدّام”.

“لقد اتفقت كلمة النواصب والبعثيين والاحتلال عليكم” يقول الحائري، عند تفجير قبة ضريح الإمامين العسكريين في مدينة سامراء عام 2006. انخرط العراق إثر ذلك في حرب طائفية استمرت لنحو عامين.

لم يتوقف الحائري عند ذلك، فصار يستشهد بحقبة البعث عند أي فرصة تسنح له، وحمل “أزلامها” مسؤولية كل خطبٍ يلم بالبلاد، ورهن الأمن في العراق باجتثاث البعثيين الصداميين، كرر هذا حتى في الاحتجاجات التي أقلقت الأحزاب الموالية لإيران عاماً ٢٠١٨-٢٠١٩، وضمَّنَ فقرة في بيان الاعتزال لإبعاد البعثيين من المناصب وعدم تمكينهم.

“هذه فرصة لجركم إلى فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم، بل يعمّ بلاؤها البلاد والعباد في إراقة الدماء البريئة”، يخاطب الحائري محتجين من البصرة ضاقت صدورهم عام 2018 من واقع الخدمات في المحافظة وبالأخص الماء والكهرباء، سقط منهم عشرة قتلى، ثم صعدوا وتيرة احتجاجهم فهاجموا القنصلية الإيرانية. وقتها أيد مقتدى الصدر الاحتجاجات، لكن الحائري حذر المحتجين من بقايا البعثيين ورجال “داعش” ومسانديهم من “جبهة الاستكبار العالمي”، يقول لهم: إنهم “يتربّصون بكم، ويتحيّنون الفرص، وقد أعدوا عدّتهم، ووجدوا في محنتكم ومأساتكم هذه فرصة”.

بعد عام من ذلك، لم يحرك الحائري ساكناً، حينما كانت القنابل الدخانية تهشم رؤوس المحتجين في تشرين الأول عام 2019، الذين خرجوا بأكبر تظاهرة تشهدها البلاد منذ إسقاط النظام السابق، حتى وصلت الاشتباكات قرب مرقد محمد باقر الحكيم فـ”ضاق صدره”، وأقر بأحقية مطالب المحتجين، ودعاهم بخطاب أبوي إلى “تفويت الفرصة على البعثيين وضعفاء النفوس والمنحرفين عن منهج أهل البيت”، وحثهم على “إفراز الدول الجارة الصديقة التي وقفت إلى جانب العراق في أشد أيام محنته” من “الدول التي ترسل الانتحاريين”.

قبولٌ على مضض

في تسعينات القرن الماضي، كان الحائري قريباً من مزاج محمد صادق الصدر، المرجع الذي تمكن من السيطرة على حوزة النجف بحسه الثوري وصوته الصادح، واصفاً المرجعيات التقليدية بـ”الحوزة الصامتة”، هذا الناطق الوحيد أثارت تحركاته كراهية متبادلة داخل الحوزة، وجهت أنظار الصدر نحو إيران، قال قبل تصفيته في احد مقاطعه المصورة القليلة: “الأعلم (أحد شروط التصدي للمرجعية) بعد زوالي عن الساحة كاظم الحائري، لكنه لا يتسنى له الرجوع إلى العراق، ومن هذه الناحية يحتاج الشعب العراقي إلى قيادة لا تمثل التقليد، يقلدون شخصاً يأتمرون بأمر شخص آخر إما بالوكالة أو بأي طريقة أخرى”. 

وفي مقطع آخر لا يستبعد الصدر أن يكون المرجع الأعلم من بعده أحد طلابه، وهذا ما يستند إليه أنصار المرجع محمد اليعقوبي بتقليده، والذي سرعان ما انفصل عن خط مقتدى الصدر، لكن الأخير فضّل المقطع الأول، وسار معه الصدريون مقتنعين بفكرة أن يكون الحائري -الذي لازم مكانه ورفض الرجوع إلى العراق تحت “ذل أمريكا”- مرجعاً لهم لأنه الأقرب للخط الثوري الذي سار عليه محمد الصدر، ومقتدى قائداً، وبالفعل افتتح الحائري مكتباً له في النجف، وألزم أتباعه بمن فيهم مقتدى بالرجوع إليه.

الاختلافات بين الحائري ومقتدى الصدر بدأت قبل الظهور العلني للأخير بوصفه قائداً للتيار الصدري، وقبل إعادته إقامة خطب الجمعة التي سار عليها والده. شرارة الاختلاف بدأت منذ مقتل رجل الدين مجيد الخوئي في اليوم العاشر من نيسان 2003، بعد يوم واحد من إعلان سقوط نظام صدام، وحملات التصفية الثأرية في النجف، أصدر الحائري بيانا أشار فيه إلى أحداث النجف، قائلاً “أحرم عليكم جميعا التقاتل والتناحر سواء في ضمن الطائفة الواحدة أو بين الطائفة الشيعية وأولادي من الطائفة السنية”.

وعام 2004، أعلن الصدر خلال خطبة للجمعة تأسيس تشكيل جيش الإمام المهدي، الأمر الذي لم يُستشر به المرجع الحائري، ولم يكن موافقا عليه. بعد ذلك سحب الحائري الوكالة من الصدر لمخالفته شرط الطاعة التامة لمرجعه وعدم التنسيق مع ممثل الأخير في النجف، قاسم الأسدي. إثر ذلك خرج الصدر معاتباً: “ما هكذا رد الجميل! فإن كنتَ لا تعلم ما عانيت من أفراد اللانظام السابق بسبب وكالتك حتى وصلت حد التهديد بالإعدام.. أهكذا يرد جميل المقاومة والمعارضة ضد المحتل.. كل ذلك دفاعا عنكم وعن مراجعنا ومقدساتنا”.

اتضحت الخلافات أكثر عبر بيانات الحائري التي تتخذ موقفاً معارضا لتحركات الصدر، وتسارع بتحريم الاقتتال الشيعي الشيعي في معارك أنصار الصدر وأنصار المرجع الديني علي السيستاني في كربلاء (14 تشرين الأول 2003) والاعتراض على الاشتباك بين جيش المهدي وقوات بدر في النجف (نهاية آب 2005)، واعتبار القتال بين أنصار الصدر مع حماية العتبات في كربلاء وقوات بدر (27 آب 2007) من “أشد المحرمات”، وهي الحادثة التي أدت إلى التجميد الأول لعمل جيش المهدي بأمر من الصدر، وحث “أبناء” التيار الصدري على عدم الاقتتال خلال عمليات “صولة الفرسان” التي أطلقها رئيس الوزراء آنذاك نوري المالكي ضد “جيش المهدي” في البصرة (نهاية آذار 2008).

اعتزالان للحائري والصدر

بعد بيان اعتزال الحائري، أعلن مقتدى الصدر اعتزاله نهائياً، ورقة طالما استخدمها للضغط على أنصاره وأقرانه في العملية السياسية، بيد أنه هذه المرة، قال إنها استجابة لأمر المرجع، ويقصد الحائري، وهذه آخر الارتباطات بين الأول والثاني “شرعياً”، فلم يعد الصدر ملزما بقرارات مرجعه بعد بيان الاعتزال.

لا تشكل وصية الحائري باتباع خامنئي إشكالا لدى الصدريين الأوائل، لأنهم استمروا بتقليد محمد صادق الصدر، وفق قاعدة “إذا علم المكلّف بأنّ الميّت أعلم من الحيّ بمقدار معتدّ به”، وهم يزعمون أن الصدر الذي يلقبونه بالثاني، “أعلم الأحياء والأموات”، لكنها تظل أزمة للذين لم يصلوا إلى سن البلوغ في أثناء تصدي الصدر الثاني للمرجعية، الذين عادوا إلى وصية “الثاني”، مرة أخرى واتخذوها مسلكاً لاستمرار الولاء لمقتدى الصدر بوصفه قائداً، فيما يتبعون مرجعاً آخر بالأمور الشرعية فقط.

استمرار مقتدى الصدر بقبول مرجعية كاظم الحائري طوال السنوات السابقة، مرده إلى الفائدة الكبيرة الناتجة عن تنفيذ وصية والده، صاحب الفضل الأول والأخير في كونه صوتاً مسموعاً بعد انتهاء النظام السابق. كما أن قبول الاعتزال عن السياسة، بحجة أمر المرجعية، ترسيخ لمبدأ “الطاعة”، الذي طالما حث أنصاره عليه، لا سيما وأن أنصاره ينتظرون لحظة تصديه للمرجعية الدينية، منذ أول ارتقاء له لمنبر صلاة الجمعة تشبهاً بوالده.

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويب؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

حينما غادر رجل الدين كاظم الحائري العراق إلى إيران فاراً من ملاحقة سلطة البعث في سبعينيات القرن الماضي، لم يدر في خلده أن آراءَ كثيرة كتبها عن الحكم الإسلامي وأفكاراً استوحاها من معلمه محمد باقر الصدر ستتغير خلال سنوات إقامته في قم، وأن هذه الآراء المتغيّرة ستلعب دوراً محورياً في سير أهم كيانين سياسيين شيعيين في العراق هما حزب الدعوة في ثمانينات القرن الماضي، والتيار الصدري بعد عام 2003.

وخلافا لبيان اعتزال التصدي للمرجعية، الذي أصدره الحائري نهاية آب الماضي، وأوصى عبره إلى إطاعة علي خامنئي المرشد الأعلى في إيران، والذي يعتقد زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، إنه لم يصدر عنه من محض إرادته (إشارة إلى أنه أرغم على ذلك من قبل السلطات الإيرانية على خلفية الخلاف بين التيار الصدري، والأحزاب الموالية لإيران في العراق)، فإن تاريخَ المرجع الحائري يثبت أنه أمضى حياته بإصدار فتاوى نابعة من قناعاته التي تحركها بوصلة الدفاع عن “بيضة الإسلام”، والذود عن “حياض المذهب”، وهي مصطلحات إسلامية شيعية تستعمل للحفاظ على وحدة المسلمين والمذهب الشيعي.

الحائري رجل دين ومرجع شيعي، كربلائي الأصل، ولد عام 1938، وانتقل مع والده إلى النجف حينما كان رضيعاً، وهناك انطلق في دراسته الدينية في حوزات النجف تدريجياً حتى تتلمذ على يد معلمه الثاني، محمد باقر الصدر، ولازمه اثني عشر عاماً، قبل أن ينتقل إلى إيران والمكوث في مدينة قم حتى يومنا هذا.

تتجلى قناعات الحائري بما يقوم به بعد تغيّر آرائه ومواقفه انسجاما مع مستجدات الوضع في إيران بعد انتصار “الثورة الإسلامية” في إيران عام 1979، وأبرزها السماح لابنه جواد بالمشاركة في الدفاع عن إيران في حربها مع العراق (1980-1988) والتي قُتِلَ خلالها، وصولاً إلى معارضة قيادات حزب الدعوة الذين جمعوا شتاتهم في طهران، ومحاولة جرهم إلى عباءة ولاية الفقيه، ولاحقاً بمعارضة تحركات زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر في العراق حتى المواجهة الأخيرة في “بيان الاعتزال”.

من “الفقيه” إلى “الحذف”

في خضم المواجهة بين حزب الدعوة وسلطة النظام السابق في العراق، اتخذ الحزب من إيران، لاسيما بعد انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979، قاعدة له تجمع أعضاء حزب الدعوة المهاجرين عبر الحدود والقادمين من غير العراق، والذين يسمّون أنفسهم بـ”الدعاة”. هذا التجمع العلني الأول بعيداً عن عيون سلطة البعث، دفع محمد مهدي الآصفي وقيادات أخرى إلى مشروع إضفاء الطابع المؤسساتي على الحزب، وبناء هياكل قيادة للدعوة، وهذا الأمر لم يرق لمهدي السبيتي، الشخص الوحيد الذي يمسك بمفاتيح التنظيم في العراق آنذاك، ومنها اندلعت خلافات حادة نتج عنها تشكيل لجنة الفقهاء في الدعوة والتي رأسها كاظم الحائري، والتي بدورها قررت انتقال “الدعوة الإسلامية” إلى المرحلة السياسية.

إثر هذا الخلاف انقسم الدعاة إلى جانبين، أحدهما يضم الآصفي ويدعو إلى اختيار القيادة عن طريق الانتخابات، والآخر يضم السبيتي وعلي الكوراني اللذين يدعوان إلى اختيار القيادة عن طريق التعيين، وبعد نقاشات استمرت أشهراً، كان قرار الحسم بيد فقيه الدعوة (منصب اعتباري وقتها) كاظم الحائري، الذي أقر الانتخابات صيغةً معتبرة لإعادة بناء الحزب.

غادر السبيتي إيران موجوعاً، بعد قلة نفوذه فيها، والضربات التي لحقت بقياداته في العراق، إلى مقر إقامته في الأردن، وهناك عبر عن استيائه قبل تغييبه: “أُهنت في إيران.. القائد إذا أهين لن يكون قائداً”1.

اُعتقِلَ السبيتي بعدها في الأردن وانتهى مصير أبرز قيادات الدعوة الحركيين.

بعد إجراء الانتخابات تبنت الدعوة مبدأ ولاية الفقيه في نظامها الداخلي، انسجاماً مع روح إيران في ذلك الوقت، وفي عام 1982، أدرج الحزب في نظامه الداخلي فقرة تنص على استحداث منصب “فقيه الدعوة”، واختير الحائري هذه المرة رسمياً، بالإضافة إلى منصبه عضوا في القيادة العامة، لكن الحائري استقال من منصبه الأخير عام 1983، تماشياً مع الاعتقاد السائد في الأوساط الحوزوية والحزبية في أنه مشروع مرجع مستقبلاً.

وفي عام 1984 أعادت الدعوة تأطير علاقتها بالحائري عبر صيغة جديدة وهي “المجلس الفقهي”، تضمنها نظام الحزب الداخلي، وتكون المجلس من الحائري والآصفي ومحمد التسخيري. وسرعان ما أخذت الفجوة بين قيادة التنظيم والمجلس الفقهي تتسع، بسبب تفسير طبيعة ارتباط الدعوة بولاية الفقيه، وتفاقمت الأمور بعد فتح خط للحوار مع جماعة البصرة الذين يعتبرهم المجلس الفقهي امتداداً لتوجهات السبيتي الرافض لمبدأ ولاية الفقيه ولدور العلماء في الحزب.

بعد ذلك سعى الحائري والآصفي مراراً لربط قيادة حزب الدعوة بروح الله الخميني مباشرة، الأمر الذي لم يلق قبولاً من قبل الأخير، وفي عام 1987 دعا الآصفي “الدعاة” إلى “الذوبان” في مرجعية الخميني، وتحويل حزب الدعوة إلى حزب الله. هذا التحرك الذي قاده الآصفي وأيده الحائري دق ناقوس الخطر في صفوف القيادات التنظيمية، لا سيما أن الاثنين نفسيهما كان لهما دورٌ في سحب البساط من تحت أقدام القيادة السابقة (السبيتي) عام 1980، وهو ما دفعهم إلى خطوة هي الأكثر جدلية في مسارهم.

الحائري الذي افتتح مؤتمر “الحوراء زينب” لحزب الدعوة مطلع العام 1988، صعّد لهجته بالقول إن “المرجعية قد احتلت موقعها القيادي في الأمة، وعلى باقي الجهات أن تنقاد إليها، فلا يبقى المجال بعد ذلك لقيادة التنظيم أن تدعي لنفسها القيادة كما كانت في السابق”. ردّ قادة الحزب بعدها بأيام بقرار إلغاء المجلس الفقهي الذي يرأسه الحائري، الأمر الذي أخذ طابع المواجهة بين الحائري وقيادات الدعوة. وقد صدر كراس بعنوان “قرار الحذف” يُردد أن فؤاد المقدادي، أحد طلبة الحائري كتبه تحت إشراف الأخير، وهاجم الكراس الدعوة وتطرق إلى ملابسات قرار الحذف والخلافات داخل الحزب2.

“الدعوة” رد على كراس “قرار الحذف”، في بيان مطول، قال إنه يهدف لإعطاء صورة مشوهة عن الحزب، وإن الكراس يوزع سراً للنيل من “سمعة الدعوة والدعاة”، ومن ثم برر قرار إلغاء مجلس الفقهاء وتحييد عناصره. لكن الخلافات على أرض الواقع أخذت منحى أكثر شراسة، من لغة البيان الدبلوماسية، والتراشق بالاتهامات والإساءات وصل حد تلقيب الحائري بأقذع الألقاب، والقول إنهم هم من صنعوه وأوصلوه إلى هذه المكانة، وبذلك انتهت العلاقة بين الحائري وقيادات الدعوة التي انتقل ثقلها إلى سوريا بعد ذلك. نهاية يصفها الكثير بـ”النقطة المظلمة” في تاريخ الحزب، خلفت تصدعات كبيرة، على الرغم مما يدعيه قيادات الحزب اليوم. أما مكتب الحائري فلم يأتِ على ذكر اسم الحزب عند سرد سيرته على موقعه الإلكتروني.

دليل الجيب لهدر الدم

في عام “الحذف” ذاته، أعلن الخميني “تجرع كأس السم”، بالموافقة على إيقاف الحرب مع العراق عام 1988 فيما استمرت المقاومة الشيعية العراقية بخوض عمليات محدودة في العراق تنطلق من الأهوار وتعود إليها، حتى صارت ملاذ الهاربين من سلطات النظام، ومن هذا المكان ينطلقون إلى إيران للتواصل مع قيادات المعارضة من “بدر” و”المجلس الأعلى” وما تبقى من “الدعوة” وغيرهم.

المرابطون في الأهوار لم يكونوا كلهم يقلدون المرجع ذاته (يعودون إليه بأخذ التوجيهات الشرعية)، الأمر الذي تعذر على مقلدي مراجع النجف وصول استفتاءاتهم بشأن ما يُستجد على ساحة المواجهة، إذ كانت آذان حزب البعث مزروعة في عمائم وأروقة وجدران النجف، ولما لهذا الأمر من خطورة تؤدي بحياة وأسرة ومحيط من يتعامل به إلى الإعدام الفوري، اتجهت الأنظار صوب المرجعيات التي غادرت البلاد، والتي تتواجد أصلا خارج الحدود، وكان للحائري نصيب منها.

جمع مكتب الحائري الاستفتاءات التي وردت إلى المرجع بكتيب طبعه وعنونه بـ”دليل المجاهد” عام 1993، ثم أعاد طبعه مرات عدة. هذا الكتيب الذي حرصوا على أن يكون حجمه صغيراً بقطع كتب الجيب، يسهل حمله وتداوله، أثار اعتراضات وانتقادات وصلت إلى مسامع الحائري ومكتبه، دفعتهم إلى كتابة مقدمة جديدة اختلفت لهجتها عن الطبعة الأولى، وتضمنت تنبيها على تخصيص الكتيب لـ”المجاهدين” العراقيين طالما بقيت الظروف الراهنة: “ولا يصح العمل به خارج هذا الميدان، وقد لا يصح لزمان آخر، كما أن تداوله منحصر بالمعنيين بقضايا الجهاد، ونرى من الأفضل عدم تداوله بشكل واسع، فقد يكون انحصاره بيد مسؤولي العمل الجهادي أو رؤساء المجاميع القتالية، أمراً مفضلاً”3، وهذا خلافاً لطبيعة الكتاب الذي أُريد له أن يكون يسير الحمل سهل التداول بين الناس.

وأجاز الحائري في دليله العمليات التي تنفذ ضد رموز النظام والبعثيين في أماكن يوجد فيها أبرياء ومدنيون وأشخاص غير معروفي الانتماء، شرط أن “تكون مصالح العمليات هامة وعظيمة بحيث تغلب على الأضرار الجانبية التي قد تصيب الأبرياء”4، والهجوم على أماكن البعثيين التي تحتوي طلاب مدارس وأبرياء للحراسة “إذا توقفت عليه مواصلة الجهاد ولم يمكن تجنبه (محاولة تحذيرهم)”5، وضرب مديرية الأمن العامة، أعتى الدوائر الأمنية لنظام البعث، مع وجود أبرياء موقوفين، إذا “كان في ذلك فوائد جهادية تهون خسارة نفوس بريئة”6.

وقال إنه لا إثم على القائمين بعملية “جهادية” ضد عناصر النظام في حي سكني ما حتى لو أدى ذلك إلى إيذاء مواطنين أبرياء بحملات اعتقال7.

وجوَّز أيضاً مقاومة “المجاهد” لقوات النظام التي تحاول إلقاء القبض عليه مع علمه بأن عائلته سوف تتضرر عند الاشتباك أو بعده8، والانتحار لدى الضرورة بلحاظ التعذيب القاسي9، وأخذ الأجرة مقدماً كشرط على تنفيذ عملية معينة10، والعمليات الانتحارية “إذا كانت فيها مصلحة للإسلام عظيمة بحيث تغلب على مفسدة قتل النفس”11.

وعند سؤاله بشأن فتوى “قتل كل جندي يقع تحت أيدي المجاهدين بمواجهة أو دونها”، قال الحائري بلسان صريح: “أنا أفتي بقتل كل متعاون مع السلطة في محاربة المؤمنين”12.

وجوّز قتل الأفراد الذين يقومون بعمليات تفتيش مباغتة13، وقتل الجنود والضباط المقبوض عليهم في الشارع “ولو كان مشغولاً بعمل غير عدائي”14.

وسمح بقتل الأسير: “لأنكم لا تستطيعون إبقاءه مدة مديدة أسيرا عندكم، ولو أطلقتم سراحه أو هرب منكم رجع مرة أخرى إلى القوة العاملة ضد المؤمنين، فالعلاج المنحصر هو القتل”15، كما جوز ضرب الأسير إن توقف أخذ المعلومات على الضرب16.

وفي مقدمة الطبعة الثانية رد مكتب الحائري على الانتقادات بشأن الفتاوى التي تجيز قتل المتعاونين والأسرى: “كيف سيواجه المجاهدون أعداءهم؟ هل ندعوهم إلى حمل باقات من الورود يطلقونها من بنادقهم تجاه من يمطر عليهم نيرانه ويخادعهم بنفاقه؟”.. “للحرب الثورية أحكامها واستثناءاتها”، ومنها التعامل مع الأسير، فيما ألقى الكرة في ملعب “المجاهدين” بأن “هذا أمرٌ ينحصر تشخيصه ميدانيا بالمجاهدين أنفسهم”17، الذين يستفتون عن قتل وإصابة رجل مستطرق خوفاً من كشف السر!

لم يَعُد هذا الكتاب متوفراً، ولم يُعِد مكتب الحائري طبعه، ولم يضع نسخة إلكترونية له في موقعه الإلكتروني ضن خانة مؤلفات المرجع رغم توفير بقية العناوين بصيغ متعددة.

فتنة لا تصيبن الذين ظلموا!

“احتفظوا بأنفسكم للعراق”، نداءات متكررة وجهها الحائري إلى الجيش العراقي قبيل الحرب عام 2003، دعاهم فيها إلى الالتحاق بـ”الأمة العراقية المسلمة”، والتوبة، وقال إن من يُقتل بعد توبته يموت شهيداً، وبينما كانت الصواريخ تدك العاصمة بغداد، حرم عليهم الوقوف إلى جانب صدام أو أميركا.

ولم تطو صفحة حزب البعث عند الحائري عام 2003، فبعد نحو شهرين من إعلان سقوط نظام صدام أصدر الحائري فتوى أجاز فيها قتل وتشريد وتعذيب وسجن البعثيين الذين “انهمكوا في الإجرام”، و”كتابة التقارير”، و”الصدّاميين الذين بدأوا يعيدون تنظيمهم”، و”الذين بدأوا يحتلّون مرّة اُخرى مكان الصدارة”، والذين “بدأوا يعملون لتخريب حياة الناس مثل قطع أسلاك الكهرباء، أو تهديم البيوت، أو القتل، أو خلق الفتن والمحن”، مستثنيا من فتوى هدر الدم الذين “انتموا إلى الحزب حرصاً على لقمة العيش، رغم خسّة العيش تحت قيادة صدّام”.

“لقد اتفقت كلمة النواصب والبعثيين والاحتلال عليكم” يقول الحائري، عند تفجير قبة ضريح الإمامين العسكريين في مدينة سامراء عام 2006. انخرط العراق إثر ذلك في حرب طائفية استمرت لنحو عامين.

لم يتوقف الحائري عند ذلك، فصار يستشهد بحقبة البعث عند أي فرصة تسنح له، وحمل “أزلامها” مسؤولية كل خطبٍ يلم بالبلاد، ورهن الأمن في العراق باجتثاث البعثيين الصداميين، كرر هذا حتى في الاحتجاجات التي أقلقت الأحزاب الموالية لإيران عاماً ٢٠١٨-٢٠١٩، وضمَّنَ فقرة في بيان الاعتزال لإبعاد البعثيين من المناصب وعدم تمكينهم.

“هذه فرصة لجركم إلى فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم، بل يعمّ بلاؤها البلاد والعباد في إراقة الدماء البريئة”، يخاطب الحائري محتجين من البصرة ضاقت صدورهم عام 2018 من واقع الخدمات في المحافظة وبالأخص الماء والكهرباء، سقط منهم عشرة قتلى، ثم صعدوا وتيرة احتجاجهم فهاجموا القنصلية الإيرانية. وقتها أيد مقتدى الصدر الاحتجاجات، لكن الحائري حذر المحتجين من بقايا البعثيين ورجال “داعش” ومسانديهم من “جبهة الاستكبار العالمي”، يقول لهم: إنهم “يتربّصون بكم، ويتحيّنون الفرص، وقد أعدوا عدّتهم، ووجدوا في محنتكم ومأساتكم هذه فرصة”.

بعد عام من ذلك، لم يحرك الحائري ساكناً، حينما كانت القنابل الدخانية تهشم رؤوس المحتجين في تشرين الأول عام 2019، الذين خرجوا بأكبر تظاهرة تشهدها البلاد منذ إسقاط النظام السابق، حتى وصلت الاشتباكات قرب مرقد محمد باقر الحكيم فـ”ضاق صدره”، وأقر بأحقية مطالب المحتجين، ودعاهم بخطاب أبوي إلى “تفويت الفرصة على البعثيين وضعفاء النفوس والمنحرفين عن منهج أهل البيت”، وحثهم على “إفراز الدول الجارة الصديقة التي وقفت إلى جانب العراق في أشد أيام محنته” من “الدول التي ترسل الانتحاريين”.

قبولٌ على مضض

في تسعينات القرن الماضي، كان الحائري قريباً من مزاج محمد صادق الصدر، المرجع الذي تمكن من السيطرة على حوزة النجف بحسه الثوري وصوته الصادح، واصفاً المرجعيات التقليدية بـ”الحوزة الصامتة”، هذا الناطق الوحيد أثارت تحركاته كراهية متبادلة داخل الحوزة، وجهت أنظار الصدر نحو إيران، قال قبل تصفيته في احد مقاطعه المصورة القليلة: “الأعلم (أحد شروط التصدي للمرجعية) بعد زوالي عن الساحة كاظم الحائري، لكنه لا يتسنى له الرجوع إلى العراق، ومن هذه الناحية يحتاج الشعب العراقي إلى قيادة لا تمثل التقليد، يقلدون شخصاً يأتمرون بأمر شخص آخر إما بالوكالة أو بأي طريقة أخرى”. 

وفي مقطع آخر لا يستبعد الصدر أن يكون المرجع الأعلم من بعده أحد طلابه، وهذا ما يستند إليه أنصار المرجع محمد اليعقوبي بتقليده، والذي سرعان ما انفصل عن خط مقتدى الصدر، لكن الأخير فضّل المقطع الأول، وسار معه الصدريون مقتنعين بفكرة أن يكون الحائري -الذي لازم مكانه ورفض الرجوع إلى العراق تحت “ذل أمريكا”- مرجعاً لهم لأنه الأقرب للخط الثوري الذي سار عليه محمد الصدر، ومقتدى قائداً، وبالفعل افتتح الحائري مكتباً له في النجف، وألزم أتباعه بمن فيهم مقتدى بالرجوع إليه.

الاختلافات بين الحائري ومقتدى الصدر بدأت قبل الظهور العلني للأخير بوصفه قائداً للتيار الصدري، وقبل إعادته إقامة خطب الجمعة التي سار عليها والده. شرارة الاختلاف بدأت منذ مقتل رجل الدين مجيد الخوئي في اليوم العاشر من نيسان 2003، بعد يوم واحد من إعلان سقوط نظام صدام، وحملات التصفية الثأرية في النجف، أصدر الحائري بيانا أشار فيه إلى أحداث النجف، قائلاً “أحرم عليكم جميعا التقاتل والتناحر سواء في ضمن الطائفة الواحدة أو بين الطائفة الشيعية وأولادي من الطائفة السنية”.

وعام 2004، أعلن الصدر خلال خطبة للجمعة تأسيس تشكيل جيش الإمام المهدي، الأمر الذي لم يُستشر به المرجع الحائري، ولم يكن موافقا عليه. بعد ذلك سحب الحائري الوكالة من الصدر لمخالفته شرط الطاعة التامة لمرجعه وعدم التنسيق مع ممثل الأخير في النجف، قاسم الأسدي. إثر ذلك خرج الصدر معاتباً: “ما هكذا رد الجميل! فإن كنتَ لا تعلم ما عانيت من أفراد اللانظام السابق بسبب وكالتك حتى وصلت حد التهديد بالإعدام.. أهكذا يرد جميل المقاومة والمعارضة ضد المحتل.. كل ذلك دفاعا عنكم وعن مراجعنا ومقدساتنا”.

اتضحت الخلافات أكثر عبر بيانات الحائري التي تتخذ موقفاً معارضا لتحركات الصدر، وتسارع بتحريم الاقتتال الشيعي الشيعي في معارك أنصار الصدر وأنصار المرجع الديني علي السيستاني في كربلاء (14 تشرين الأول 2003) والاعتراض على الاشتباك بين جيش المهدي وقوات بدر في النجف (نهاية آب 2005)، واعتبار القتال بين أنصار الصدر مع حماية العتبات في كربلاء وقوات بدر (27 آب 2007) من “أشد المحرمات”، وهي الحادثة التي أدت إلى التجميد الأول لعمل جيش المهدي بأمر من الصدر، وحث “أبناء” التيار الصدري على عدم الاقتتال خلال عمليات “صولة الفرسان” التي أطلقها رئيس الوزراء آنذاك نوري المالكي ضد “جيش المهدي” في البصرة (نهاية آذار 2008).

اعتزالان للحائري والصدر

بعد بيان اعتزال الحائري، أعلن مقتدى الصدر اعتزاله نهائياً، ورقة طالما استخدمها للضغط على أنصاره وأقرانه في العملية السياسية، بيد أنه هذه المرة، قال إنها استجابة لأمر المرجع، ويقصد الحائري، وهذه آخر الارتباطات بين الأول والثاني “شرعياً”، فلم يعد الصدر ملزما بقرارات مرجعه بعد بيان الاعتزال.

لا تشكل وصية الحائري باتباع خامنئي إشكالا لدى الصدريين الأوائل، لأنهم استمروا بتقليد محمد صادق الصدر، وفق قاعدة “إذا علم المكلّف بأنّ الميّت أعلم من الحيّ بمقدار معتدّ به”، وهم يزعمون أن الصدر الذي يلقبونه بالثاني، “أعلم الأحياء والأموات”، لكنها تظل أزمة للذين لم يصلوا إلى سن البلوغ في أثناء تصدي الصدر الثاني للمرجعية، الذين عادوا إلى وصية “الثاني”، مرة أخرى واتخذوها مسلكاً لاستمرار الولاء لمقتدى الصدر بوصفه قائداً، فيما يتبعون مرجعاً آخر بالأمور الشرعية فقط.

استمرار مقتدى الصدر بقبول مرجعية كاظم الحائري طوال السنوات السابقة، مرده إلى الفائدة الكبيرة الناتجة عن تنفيذ وصية والده، صاحب الفضل الأول والأخير في كونه صوتاً مسموعاً بعد انتهاء النظام السابق. كما أن قبول الاعتزال عن السياسة، بحجة أمر المرجعية، ترسيخ لمبدأ “الطاعة”، الذي طالما حث أنصاره عليه، لا سيما وأن أنصاره ينتظرون لحظة تصديه للمرجعية الدينية، منذ أول ارتقاء له لمنبر صلاة الجمعة تشبهاً بوالده.