خبراء التبليط تحت قبة التشريع: كيف تحوّل النائب من مشرّع ومراقب إلى "مبلّط"؟ 

يحيى عصام

21 أيلول 2025

ربما آن الأوان أن نسأل كل نائب: كم قانوناً قدّمت؟ كم استجواباً قُدت؟ لا كم شارعاً بلطت.. عن وظيفة النائب التي تحولت من التشريع إلى التبليط..

لم تعد وظيفة النائب واضحة في ذهن المواطن العراقي، ولا حتى في ممارسات النائب نفسه، ففي الوقت الذي يعاني فيه البرلمان من شلل تشريعي، ويُتهم بالعجز عن الرقابة، ينشغل بعض أعضائه بتبليط الشوارع، وتوزيع السلال الغذائية، ونصب أعمدة الكهرباء، بل وحتى إنشاء حدائق عامة. 

مشهد “النائب المقاول” أو “النائب البلدي” لم يعد استثناء، بل أصبح قاعدة مقلقة، تشير إلى انزياح خطير عن الوظيفة الدستورية لمجلس النواب، التي حددها الدستور في المادة 61 بوضوح، والتي تتضمن تشريع القوانين الاتحادية، والرقابة على أداء السلطة التنفيذية، والمصادقة على المعاهدات والتعيينات العليا، ومناقشة الموازنة العامة والبرامج الحكومية. 

وبالتالي، لا دخل للنائب في الأعمال الخدمية المباشرة، فهي من صلب مهام مؤسسات السلطة التنفيذية، مثل وزارة الإعمار، والدوائر الحكومية، والحكومات المحلية، والجهات التنفيذية الأخرى، فالنائب لا ينفذ، بل يشرّع ويراقب. 

ومع ذلك، نرى نواباً يظهرون في مقاطع مصوّرة من قلب الأحياء الشعبية، يوجهون آليات التبليط، ويشرفون على فرق الكهرباء، ويوزعون المياه والبطانيات، تحت عنوان “خدمة الناس”، في استعراض أقرب إلى الحملة الانتخابية المستمرة منه إلى ممارسة الدور النيابي. 

ملء الفراغ 

بعد عام 2003، ومع تراجع البنى التحتية وضعف الجهاز التنفيذي، أصبح العراق بيئة مثالية لتداخل الصلاحيات. غابت الدولة فتولى النواب ملء الفراغ، لا حباً بالخدمة، بل سعياً لتوسيع نفوذهم وكسب الأصوات. 

ومع تدهور المؤسسات التنفيذية وتراجع قدراتها، جاء قرار تعليق مجالس المحافظات عام 2019، الذي استُغل بهدف تهدئة الشارع الغاضب آنذاك، حيث تحولت صلاحيات هذه المجالس إلى المحافظين. هذه الخطوة عززت الفراغ السياسي والإداري، وشجعت نواباً على أداء دور “النائب-المحافظ”، خاصة في ظل غياب رقابة محلية حقيقية. 

ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح التركيز على الصورة واللقطة أكثر من المضمون، ما عزز من بروز هذه الظاهرة. بات النائب يبحث عن اللقطة أكثر من الموقف، حيث تغني خدمة مرئية صغيرة عن جلسات تشريعية مملة، فصورة لنائب يوزع مياه شرب في البصرة تحصد تعليقات أكثر من مشاركته في تشريع قانون مهم. 

هكذا تحوّل النائب من مشرّع ومراقب إلى مبلّط وموزع مياه وبطانيات. والآن، عند كتابة عبارة “النائب تبليط” في يوتيوب تظهر عشرات المقاطع الفيديوية لنواب يقودون حملات تبليط في مناطقهم، وما يجمع هؤلاء ليس النشاط الميداني فقط، بل الغياب شبه التام عن سجلات التشريع أو الاستجواب أو المبادرات القانونية. 

حظر قانوني 

من الناحية القانونية، لا يوجد نص صريح يجرّم النائب الذي ينفذ مشروعاً خدمياً، لكن المادة 47 من الدستور تنص على الفصل بين السلطات، كما تنص المادة التاسعة من قانون مجلس النواب وتشكيلاته رقم 13 لسنة 2018 على ما يلي: “يُحظر على النائب أن يستخدم نفوذه في شراء أو استئجار أموال الدولة، أو أن يقاضيها عليها، أو أن يؤجر أو يبيع لها شيئاً من أمواله، وأن يبرم معها عقداً بوصفه ملتزماً أو مورّداً أو مقاولاً، كما يُحظر عليه التوسط لدى دوائر الدولة أو التأثير عليها لأغراض شخصية أو لأغراض التعيينات فيها بأي صفة كانت”. 

وتدخُّل النائب في دوائر التنفيذ، أو الضغط على مدير بلدية، أو توقيع عقد مع مقاول، يمثل تجاوزاً على السلطة التنفيذية. وفي بعض الحالات، تُنفذ هذه النشاطات بتمويل “غير معلن”، أو بدعم جهات حزبية، ما يفتح باباً نحو شبهات الفساد والتمويل الانتخابي المبكر. 

من شأن هذه الممارسات أن تؤدي إلى انهيار وظيفة البرلمان، فكلما انشغل النواب بالخدمة قلّ التشريع والرقابة، فالنائب الذي يوزع سلال الغذاء لا يجرؤ على استجواب وزير التجارة، والذي يعقد صفقات تبليط لا يطرح قانوناً ضد الفساد الإداري. 

كما يمكن أن تؤدي هذه الأفعال إلى تغوّل الزبائنية، حيث إن النائب الذي يخدم منطقة دون أخرى لا يخدم الوطن، بل يخدم جماعته الانتخابية. وهكذا يتحول البرلمان من ممثل للشعب إلى وسيط بين الفقراء والدولة. 

ومن آثار الانحراف في العمل النيابي إضعاف الحكومة التنفيذية نفسها، فحين يقوم النائب بدور دائرة الخدمات تُعفى الوزارات من المساءلة، والمواطن يبدأ بطلب تعبيد الطريق من النائب، لا من الوزارة، والنائب بدوره يساوم خلف الكواليس على تنفيذ المشروع من موازنة مجهولة المصدر. 

المغذيات 

لعل أبرز ما يغذي هذه السلوكيات هو غياب محاسبة حقيقية من الإعلام والمجتمع المدني، وتراجع التعليم السياسي، وضعف الثقافة الدستورية، والأهم من كل ذلك جهل كثير من المواطنين بمهام النائب الحقيقية. 

إذا كان سلوك “النائب المقاول” يمثل انحرافاً عن الدستور، فإن تقبله شعبياً هو انحراف أخطر، لأنه يعكس فوضى في الوعي السياسي، وتآكلاً في الثقة بدور المؤسسات. 

لكن لماذا يرى كثير من العراقيين -عن قناعة أو عن يأس- أن تعبيد شارع أو تعيين موظف يدخل في صلب مهام النائب؟ 

قد يعود ذلك إلى جهل واسع بالوظيفة النيابية، إذ لم تُبنَ الثقافة الدستورية في العراق على أسس تعليمية أو إعلامية رصينة، ولم تدخل مفاهيم الفصل بين السلطات، والتمثيل النيابي، والرقابة التشريعية إلى مناهج المدارس أو فضاءات الحوار العام، وهكذا نشأ جيل لا يعرف أن النائب مشرّع، بل يراه مجرد وجه سياسي “نافذ”. 

كما أن هناك يأساً تراكمياً من البرلمان، فتكرار مشاهد التعطيل، والفساد، والصفقات، والتقاعس التشريعي، جعل الناس تفقد الإيمان بأن النائب يمكنه إحداث فرق حقيقي من خلال التشريع أو الرقابة، فصار الحصول على خدمة مباشرة منه، ولو بمخالفة للقانون، أفضل من لا شيء. 

ولعل من المهم التعريج أيضاً على العقلية الريعية والزبائنية التي تنتعش في نظام ريعي هش، تُختزل فيه الدولة في أشخاص لا مؤسسات، فلا يرى المواطن نفسه صاحب حق قانوني، بل طالب “مكرمة” أو “واسطة”، وهذه العلاقة المشوهة تجعل من النائب “قناة عبور” نحو الخدمة، لا ممثلاً لسلطة تشريعية. 

وللإعلام والرمزية الشعبوية دور في ممارسات النواب، إذ إن المشهد المصوّر لنائب يوزع البطانيات في برد الشتاء يُحدث أثراً عاطفياً فورياً يفوق عشرات الساعات من جلسات البرلمان التي لا تُبث أو تُغيّب، وهكذا يعاد إنتاج النائب الشعبوي، وتُهمل كفاءات التشريع والرقابة. 

كذلك، لا بد من التطرق إلى غياب البدائل في هذا الصدد، فحين تغيب المجالس المحلية، وتفشل الحكومات التنفيذية في إيصال الخدمات، لا يجد المواطن سوى النائب ليرفع إليه طلبه، وهذه الحالة ليست نتيجة الفقر فقط، بل نتيجة تخبط مؤسساتي يجعل المواطن يطرق الأبواب التي لا علاقة لها قانوناً بطلبه. 

إيقاف تكريس الفوضى 

لإيقاف هذا الانحراف في العمل النيابي، ربما من الضروري إطلاق حملة توعية شعبية بمهمة النائب، خصوصاً في المدارس والجامعات والمنصات الإعلامية، وإدراج ضوابط قانونية فاعلة تمنع النواب من توقيع العقود أو التدخل في المشاريع التنفيذية، ونشر تقارير شفافة عن أداء كل نائب في التشريع، والاستجواب، والحضور، والمشاركة. 

أما بقاء الأمور على ما هي عليه، أو توجهها نحو الأسوأ، فيعني أن النائب لن يخدم الوطن، بل سيكرّس فوضاه، لأن الخدمة الحقيقية ليست تعبيد شارع اليوم وتركه ينهار غداً، بل تشريع قانون يضمن لكل حي طريقاً، ولكل طفل تعليماً، ولكل عامل أجراً كريماً. 

في عراق ينهض من تحت أنقاض الحروب، لا يحتاج الشعب إلى نواب يحملون معاول، بل إلى نواب يحملون نصوصاً قانونية تعيد للدولة كرامتها. ربما آن الأوان أن نسأل كل نائب: كم قانوناً قدّمت؟ كم استجواباً قُدت؟ لا كم شارعاً بلطت. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

لم تعد وظيفة النائب واضحة في ذهن المواطن العراقي، ولا حتى في ممارسات النائب نفسه، ففي الوقت الذي يعاني فيه البرلمان من شلل تشريعي، ويُتهم بالعجز عن الرقابة، ينشغل بعض أعضائه بتبليط الشوارع، وتوزيع السلال الغذائية، ونصب أعمدة الكهرباء، بل وحتى إنشاء حدائق عامة. 

مشهد “النائب المقاول” أو “النائب البلدي” لم يعد استثناء، بل أصبح قاعدة مقلقة، تشير إلى انزياح خطير عن الوظيفة الدستورية لمجلس النواب، التي حددها الدستور في المادة 61 بوضوح، والتي تتضمن تشريع القوانين الاتحادية، والرقابة على أداء السلطة التنفيذية، والمصادقة على المعاهدات والتعيينات العليا، ومناقشة الموازنة العامة والبرامج الحكومية. 

وبالتالي، لا دخل للنائب في الأعمال الخدمية المباشرة، فهي من صلب مهام مؤسسات السلطة التنفيذية، مثل وزارة الإعمار، والدوائر الحكومية، والحكومات المحلية، والجهات التنفيذية الأخرى، فالنائب لا ينفذ، بل يشرّع ويراقب. 

ومع ذلك، نرى نواباً يظهرون في مقاطع مصوّرة من قلب الأحياء الشعبية، يوجهون آليات التبليط، ويشرفون على فرق الكهرباء، ويوزعون المياه والبطانيات، تحت عنوان “خدمة الناس”، في استعراض أقرب إلى الحملة الانتخابية المستمرة منه إلى ممارسة الدور النيابي. 

ملء الفراغ 

بعد عام 2003، ومع تراجع البنى التحتية وضعف الجهاز التنفيذي، أصبح العراق بيئة مثالية لتداخل الصلاحيات. غابت الدولة فتولى النواب ملء الفراغ، لا حباً بالخدمة، بل سعياً لتوسيع نفوذهم وكسب الأصوات. 

ومع تدهور المؤسسات التنفيذية وتراجع قدراتها، جاء قرار تعليق مجالس المحافظات عام 2019، الذي استُغل بهدف تهدئة الشارع الغاضب آنذاك، حيث تحولت صلاحيات هذه المجالس إلى المحافظين. هذه الخطوة عززت الفراغ السياسي والإداري، وشجعت نواباً على أداء دور “النائب-المحافظ”، خاصة في ظل غياب رقابة محلية حقيقية. 

ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح التركيز على الصورة واللقطة أكثر من المضمون، ما عزز من بروز هذه الظاهرة. بات النائب يبحث عن اللقطة أكثر من الموقف، حيث تغني خدمة مرئية صغيرة عن جلسات تشريعية مملة، فصورة لنائب يوزع مياه شرب في البصرة تحصد تعليقات أكثر من مشاركته في تشريع قانون مهم. 

هكذا تحوّل النائب من مشرّع ومراقب إلى مبلّط وموزع مياه وبطانيات. والآن، عند كتابة عبارة “النائب تبليط” في يوتيوب تظهر عشرات المقاطع الفيديوية لنواب يقودون حملات تبليط في مناطقهم، وما يجمع هؤلاء ليس النشاط الميداني فقط، بل الغياب شبه التام عن سجلات التشريع أو الاستجواب أو المبادرات القانونية. 

حظر قانوني 

من الناحية القانونية، لا يوجد نص صريح يجرّم النائب الذي ينفذ مشروعاً خدمياً، لكن المادة 47 من الدستور تنص على الفصل بين السلطات، كما تنص المادة التاسعة من قانون مجلس النواب وتشكيلاته رقم 13 لسنة 2018 على ما يلي: “يُحظر على النائب أن يستخدم نفوذه في شراء أو استئجار أموال الدولة، أو أن يقاضيها عليها، أو أن يؤجر أو يبيع لها شيئاً من أمواله، وأن يبرم معها عقداً بوصفه ملتزماً أو مورّداً أو مقاولاً، كما يُحظر عليه التوسط لدى دوائر الدولة أو التأثير عليها لأغراض شخصية أو لأغراض التعيينات فيها بأي صفة كانت”. 

وتدخُّل النائب في دوائر التنفيذ، أو الضغط على مدير بلدية، أو توقيع عقد مع مقاول، يمثل تجاوزاً على السلطة التنفيذية. وفي بعض الحالات، تُنفذ هذه النشاطات بتمويل “غير معلن”، أو بدعم جهات حزبية، ما يفتح باباً نحو شبهات الفساد والتمويل الانتخابي المبكر. 

من شأن هذه الممارسات أن تؤدي إلى انهيار وظيفة البرلمان، فكلما انشغل النواب بالخدمة قلّ التشريع والرقابة، فالنائب الذي يوزع سلال الغذاء لا يجرؤ على استجواب وزير التجارة، والذي يعقد صفقات تبليط لا يطرح قانوناً ضد الفساد الإداري. 

كما يمكن أن تؤدي هذه الأفعال إلى تغوّل الزبائنية، حيث إن النائب الذي يخدم منطقة دون أخرى لا يخدم الوطن، بل يخدم جماعته الانتخابية. وهكذا يتحول البرلمان من ممثل للشعب إلى وسيط بين الفقراء والدولة. 

ومن آثار الانحراف في العمل النيابي إضعاف الحكومة التنفيذية نفسها، فحين يقوم النائب بدور دائرة الخدمات تُعفى الوزارات من المساءلة، والمواطن يبدأ بطلب تعبيد الطريق من النائب، لا من الوزارة، والنائب بدوره يساوم خلف الكواليس على تنفيذ المشروع من موازنة مجهولة المصدر. 

المغذيات 

لعل أبرز ما يغذي هذه السلوكيات هو غياب محاسبة حقيقية من الإعلام والمجتمع المدني، وتراجع التعليم السياسي، وضعف الثقافة الدستورية، والأهم من كل ذلك جهل كثير من المواطنين بمهام النائب الحقيقية. 

إذا كان سلوك “النائب المقاول” يمثل انحرافاً عن الدستور، فإن تقبله شعبياً هو انحراف أخطر، لأنه يعكس فوضى في الوعي السياسي، وتآكلاً في الثقة بدور المؤسسات. 

لكن لماذا يرى كثير من العراقيين -عن قناعة أو عن يأس- أن تعبيد شارع أو تعيين موظف يدخل في صلب مهام النائب؟ 

قد يعود ذلك إلى جهل واسع بالوظيفة النيابية، إذ لم تُبنَ الثقافة الدستورية في العراق على أسس تعليمية أو إعلامية رصينة، ولم تدخل مفاهيم الفصل بين السلطات، والتمثيل النيابي، والرقابة التشريعية إلى مناهج المدارس أو فضاءات الحوار العام، وهكذا نشأ جيل لا يعرف أن النائب مشرّع، بل يراه مجرد وجه سياسي “نافذ”. 

كما أن هناك يأساً تراكمياً من البرلمان، فتكرار مشاهد التعطيل، والفساد، والصفقات، والتقاعس التشريعي، جعل الناس تفقد الإيمان بأن النائب يمكنه إحداث فرق حقيقي من خلال التشريع أو الرقابة، فصار الحصول على خدمة مباشرة منه، ولو بمخالفة للقانون، أفضل من لا شيء. 

ولعل من المهم التعريج أيضاً على العقلية الريعية والزبائنية التي تنتعش في نظام ريعي هش، تُختزل فيه الدولة في أشخاص لا مؤسسات، فلا يرى المواطن نفسه صاحب حق قانوني، بل طالب “مكرمة” أو “واسطة”، وهذه العلاقة المشوهة تجعل من النائب “قناة عبور” نحو الخدمة، لا ممثلاً لسلطة تشريعية. 

وللإعلام والرمزية الشعبوية دور في ممارسات النواب، إذ إن المشهد المصوّر لنائب يوزع البطانيات في برد الشتاء يُحدث أثراً عاطفياً فورياً يفوق عشرات الساعات من جلسات البرلمان التي لا تُبث أو تُغيّب، وهكذا يعاد إنتاج النائب الشعبوي، وتُهمل كفاءات التشريع والرقابة. 

كذلك، لا بد من التطرق إلى غياب البدائل في هذا الصدد، فحين تغيب المجالس المحلية، وتفشل الحكومات التنفيذية في إيصال الخدمات، لا يجد المواطن سوى النائب ليرفع إليه طلبه، وهذه الحالة ليست نتيجة الفقر فقط، بل نتيجة تخبط مؤسساتي يجعل المواطن يطرق الأبواب التي لا علاقة لها قانوناً بطلبه. 

إيقاف تكريس الفوضى 

لإيقاف هذا الانحراف في العمل النيابي، ربما من الضروري إطلاق حملة توعية شعبية بمهمة النائب، خصوصاً في المدارس والجامعات والمنصات الإعلامية، وإدراج ضوابط قانونية فاعلة تمنع النواب من توقيع العقود أو التدخل في المشاريع التنفيذية، ونشر تقارير شفافة عن أداء كل نائب في التشريع، والاستجواب، والحضور، والمشاركة. 

أما بقاء الأمور على ما هي عليه، أو توجهها نحو الأسوأ، فيعني أن النائب لن يخدم الوطن، بل سيكرّس فوضاه، لأن الخدمة الحقيقية ليست تعبيد شارع اليوم وتركه ينهار غداً، بل تشريع قانون يضمن لكل حي طريقاً، ولكل طفل تعليماً، ولكل عامل أجراً كريماً. 

في عراق ينهض من تحت أنقاض الحروب، لا يحتاج الشعب إلى نواب يحملون معاول، بل إلى نواب يحملون نصوصاً قانونية تعيد للدولة كرامتها. ربما آن الأوان أن نسأل كل نائب: كم قانوناً قدّمت؟ كم استجواباً قُدت؟ لا كم شارعاً بلطت.