جحيم الكوت: رغد تذهب إلى محرقة! 

إيهاب شغيدل

22 تموز 2025

حادثة حريق "هايبر ماركت الكوت" لم تكن فاجعة عابرة، بل مرآة لهشاشة العمران العراقي الجديد، المغطّى بالإعلانات المموّلة، والمزخرف بالتخفيضات.. مقال عن الفساد بوصفه "قدراً"، والإعلان "كمين"، والموت "نتيجة بديهية"..

مبهرة هي الإعلانات التي غَزَت الهواتف، منذ ثلاث سنوات تصاعدت القدرة التسويقية لتلك الأصوات والتصاميم المحسوبة، والخطوط الواثقة، والمنشورات البارعة. تعرض تلك الإعلانات حقائق مضادة للمعتقدات، كما يعبّر فالتر بنيامين، حقائق عن رفاهية الأبنية التي باتت تتصاعد في المدن العراقية الخانقة المختنقة، وأماكن ومطاعم فاخرة، وفتيات بابتسامات هوليوودية يُعلِنَّ عن الخدمات والأسعار التنافسية، وعلامات تجارية تنشأ وتلتهم السوق، ومنتجات بأسعار مغرية، وحِزم لا نهائية من التخفيضات، حتى تكاد تشعر أن الشراء هو الشيء الوحيد الذي وُجد المرء لفعله. 

ظهور تلك الأجساد التجارية المغلفة بالبذخ، جاء مع استقرارٍ أمنيٍّ ملحوظ، وأيُّ زائرٍ للمدن العراقية معرّض للتيه في التغيّرات التي بدأت تطرأ على تلك المدن. في بغداد على سبيل المثال، ظهرت أبنية عمودية، وأسواق، ومطاعم، ومدوّنون، وحزمٌ من الماركات التي طال انتظارها، كلّا لطلاء الحياة بصبغة الرفاهية. 

إلّا أن كل هذه المتع الجديدة، والمؤهلة ظاهرياً، تخفي عيبين جوهريين. الأول: هو أنها تطمر المشكلات الحقيقية التي تعاني منها تلك المدن من ناحية الخدمات الأساسية. والثاني: هو افتقار أكثرها لشروط السلامة، ومعايير بناء المدن الحديثة. فضلاً عن كونها خارج الرقابة إلى حدٍّ ما، فهي الوجه الحسن للدولة، ولا تتكشَّف هذه العيوب إلّا من خلال حدث راديكالي عنيف يهز الوعي الجمعي، ويهوي بأسطورة البناء فاضحاً هشاشته. 

تكرّر هذا الحدث متمثلاً بصهر أجساد العراقيين، ومبرهناً ضعف البنى التحتية، وتخلّف العمل المؤسسي، وعدم قدرة الدولة على إنشاء مدن ومؤسسات وأمكنة آمنة. لم تكن حادثة مستشفى الخطيب في نيسان 2021 استثناء، سبقتها حرائق ولحقتها محارق: مستشفى الحسين في الناصرية، وقاعة الأعراس في الحمدانية، ولا يبدو أنها ستتوقّف عند الجحيم الذي اندلع مساء 16 من تموز في “هايبر ماركت” (مركز تسوّق) بمحافظة واسط (180كم جنوب شرق بغداد).  

ما يجمع بين تلك الحوادث، في الأماكن الأربعة التي راح ضحيتها أكثر من 360 شخصاً، لو استندنا إلى الأرقام الرسمية، هو غياب الرقابة. لكي يكون الإعلان المموّل منتجاً وفعّالاً وقادراً على جذب أكبر عدد من الزبائن، توجّب تغليف غالبية الأسطح والجدران بمواد قابلة أو شديدة الاشتعال، مثل سقف صالة عرس الحمدانية المشيّد بـ”السندويج بنل”، وتلك المواد، حسب التقارير الأولية، هي من فاقمت الحريق الذي التهم بناء واسط. 

من البديهي القول إننا صرنا نملك الخبرة الكافية للتعامل مع هذه الحوادث، ففي اليوم التالي، تخرج فرق مختصة لإجراء كشف ميداني لبعض الأبنية، وإغلاق مؤقت لجزء منها. أمام عدسات الكاميرات، تظهر تلك الفرق وهي في طريقها لإنهاء ملف الاحتراق العراقي، وتتوعّد بمحاسبة المخالفين، وعلى الجانب الآخر، يظهر الغضب في الفضاء العام، الذي صار إلكترونياً فقط، محاولاً إصلاح ما لا يمكن إصلاحه، عبر المطالبة بإجراءات احترازية، والتعامل بحزم مع شروط السلامة. 

في الأسبوع الأول للحوادث من هذا النوع، تبدأ بعض الدوائر الرسمية بإجراء تقييم للسلامة، وتُصور تلك الإجراءات، وتبث عبر الإعلام والإعلانات الممولة ما يشجّع على الذهاب إلى الأماكن الجديدة منها والقديمة، والتي تخلو، في الغالب، من شروط السلامة. وفي هذه الدائرة المغلقة، نغفل بعد حين، وندخل إلى تلك المراكز التي لا مفرّ فيها سوى انتظار اللهب والدخان، وربما سيكرّر البعض ما فعله أحد الضحايا الذين حاصرتهم النيران فوق سطح جحيم “الهايبر ماركت” في واسط، ويوثّق اللحظة. فالحياة “لو نجف لو تابوت”، بينما يستنجد من حوله ويصرخون.  

على بعد نحو كيلو متر من النار المشتعلة، كان محافظ واسط محمد المياحي يجلس متفرّجاً على الأرواح المرتقية، في مشهد يمكن عكسه على الحالة العراقية: مشهد المتفرج الذي لا يتوغل في الحدث، ولا يراقب شروط البناء، ولا أنظمة الإطفاء التي تقلل المخاطر، لكنّه سيظهر في قلب المشهد، في زاوية مُؤمّنة منه، ومعه كاميرته لالتقاط تلك الصورة، من أجل ذلك الإعلان المموّل. 

بعد انطفاء النار في موقع الحادثة، واشتعالها في قلوب ذوي الضحايا، طالب برلمانيون بإقالته، وتحرّك مجلس المحافظة لاستجوابه واتخاذ الإجراءات بحقه. 

هناك تخفيضات لمستفيدي الرعاية الاجتماعية، حسب ما يخبرني إعلان مموّل لسلسلة “هايبر ماركت” في العراق، التي بات عدد فروعها 145 فرعاً، وبطل الإعلان كان وزير العمل والشؤون الاجتماعية. شاهدت الإعلان في فيسبوك وقتها، وقبل يومين على الصفحة الشخصية الخاصة بي نفسها، شاهدت “هايبر ماركت” آخر، لكنْ هذه المرة، بوصفه المكان الذي فقدتُ فيه صديقين “افتراضيين”، رغد سعدون رفقة أختها رند، والمهندس علي محمود العمار. وترافق هذا مع خبر وفاة أحد أقربائي في الحادثة نفسها. 

لا شكّ أن حادثة من هذا النوع لا تنتهي دون أن تتحول إلى كرة نار، يرميها المتخاصمون السياسيون على بعضهم البعض. وهذا الأمر، مع الأطراف ذات العلاقة، نتيجة أخرى للفساد والعبث والموت المجّاني، لا أحد يريد تحمّل وزرها وحده. طالما أن الحادثة في إحدى المحافظات، الكرة ستزور المحافظ ومن حوله، وسوف تمرّ بأجهزة الدفاع المدني… بينما يعقد الغاضبون المقارنات بين الحرائق التي سبق أن أُطفئت بسرعة وبأحدث الوسائل، وتكفلت بها أكثر من 20 عربة إطفاء كبيرة، وبين حريق “الهايبر ماركت”، الذي بقيت تصرخ فيه الناس، محاصرة بالنيران ساعات طويلة. 

كلّ هذه الجدالات التي ملأت خوارزميات مواقع التواصل في العراق، والتي عادةً ما تنطفئ بسرعة لمصلحة جدالات وإعلانات جديدة، يعرف أصحابها بداخلهم مدى ضعف البنى التحتية، والخروقات الواضحة في معايير السلامة، وضعف التعامل مع المخالفين. الناس في العراق مستسلمون، وقد اعتادوا اليأس، فلا حلّ باعتقادهم لخلل يصيب كلّ شيء، خلل قديم اسمه “الفساد”، يرعاه الجميع، ويهاجمه أمام الكاميرات، الجميع أيضاً. 

في العراق يمكن أن ينتهي عملُ أيّ لجنة تحقيق وكشف من البلدية بوجبة غداء تُقدم رشوة، لغض الرقيب الطرف عن المخالف، فيما يبقى على المخالف أن يتجنب انكشاف مخالفته. وهذا هو “الموت المؤجل”، الذي باتت الحرائق آلةً فعّالةً لتحقيقه. 

لكي نعطي عبارة لوتريامون -“نحن نموت بسعر أقل”- بُعداً عراقياً، يمكن تحويلها إلى “نحن نموت بطريقة ممولة”، موت برعاية التخفيضات، تحت لافتة عروض الصيف أو نهاية موسم، داخل مكان يُروَّج له بكثافة، ويهرب منه الأوكسجين. 

  • تنشر هذه المادة بالشراكة مع الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية ”نيريج“.  

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

مبهرة هي الإعلانات التي غَزَت الهواتف، منذ ثلاث سنوات تصاعدت القدرة التسويقية لتلك الأصوات والتصاميم المحسوبة، والخطوط الواثقة، والمنشورات البارعة. تعرض تلك الإعلانات حقائق مضادة للمعتقدات، كما يعبّر فالتر بنيامين، حقائق عن رفاهية الأبنية التي باتت تتصاعد في المدن العراقية الخانقة المختنقة، وأماكن ومطاعم فاخرة، وفتيات بابتسامات هوليوودية يُعلِنَّ عن الخدمات والأسعار التنافسية، وعلامات تجارية تنشأ وتلتهم السوق، ومنتجات بأسعار مغرية، وحِزم لا نهائية من التخفيضات، حتى تكاد تشعر أن الشراء هو الشيء الوحيد الذي وُجد المرء لفعله. 

ظهور تلك الأجساد التجارية المغلفة بالبذخ، جاء مع استقرارٍ أمنيٍّ ملحوظ، وأيُّ زائرٍ للمدن العراقية معرّض للتيه في التغيّرات التي بدأت تطرأ على تلك المدن. في بغداد على سبيل المثال، ظهرت أبنية عمودية، وأسواق، ومطاعم، ومدوّنون، وحزمٌ من الماركات التي طال انتظارها، كلّا لطلاء الحياة بصبغة الرفاهية. 

إلّا أن كل هذه المتع الجديدة، والمؤهلة ظاهرياً، تخفي عيبين جوهريين. الأول: هو أنها تطمر المشكلات الحقيقية التي تعاني منها تلك المدن من ناحية الخدمات الأساسية. والثاني: هو افتقار أكثرها لشروط السلامة، ومعايير بناء المدن الحديثة. فضلاً عن كونها خارج الرقابة إلى حدٍّ ما، فهي الوجه الحسن للدولة، ولا تتكشَّف هذه العيوب إلّا من خلال حدث راديكالي عنيف يهز الوعي الجمعي، ويهوي بأسطورة البناء فاضحاً هشاشته. 

تكرّر هذا الحدث متمثلاً بصهر أجساد العراقيين، ومبرهناً ضعف البنى التحتية، وتخلّف العمل المؤسسي، وعدم قدرة الدولة على إنشاء مدن ومؤسسات وأمكنة آمنة. لم تكن حادثة مستشفى الخطيب في نيسان 2021 استثناء، سبقتها حرائق ولحقتها محارق: مستشفى الحسين في الناصرية، وقاعة الأعراس في الحمدانية، ولا يبدو أنها ستتوقّف عند الجحيم الذي اندلع مساء 16 من تموز في “هايبر ماركت” (مركز تسوّق) بمحافظة واسط (180كم جنوب شرق بغداد).  

ما يجمع بين تلك الحوادث، في الأماكن الأربعة التي راح ضحيتها أكثر من 360 شخصاً، لو استندنا إلى الأرقام الرسمية، هو غياب الرقابة. لكي يكون الإعلان المموّل منتجاً وفعّالاً وقادراً على جذب أكبر عدد من الزبائن، توجّب تغليف غالبية الأسطح والجدران بمواد قابلة أو شديدة الاشتعال، مثل سقف صالة عرس الحمدانية المشيّد بـ”السندويج بنل”، وتلك المواد، حسب التقارير الأولية، هي من فاقمت الحريق الذي التهم بناء واسط. 

من البديهي القول إننا صرنا نملك الخبرة الكافية للتعامل مع هذه الحوادث، ففي اليوم التالي، تخرج فرق مختصة لإجراء كشف ميداني لبعض الأبنية، وإغلاق مؤقت لجزء منها. أمام عدسات الكاميرات، تظهر تلك الفرق وهي في طريقها لإنهاء ملف الاحتراق العراقي، وتتوعّد بمحاسبة المخالفين، وعلى الجانب الآخر، يظهر الغضب في الفضاء العام، الذي صار إلكترونياً فقط، محاولاً إصلاح ما لا يمكن إصلاحه، عبر المطالبة بإجراءات احترازية، والتعامل بحزم مع شروط السلامة. 

في الأسبوع الأول للحوادث من هذا النوع، تبدأ بعض الدوائر الرسمية بإجراء تقييم للسلامة، وتُصور تلك الإجراءات، وتبث عبر الإعلام والإعلانات الممولة ما يشجّع على الذهاب إلى الأماكن الجديدة منها والقديمة، والتي تخلو، في الغالب، من شروط السلامة. وفي هذه الدائرة المغلقة، نغفل بعد حين، وندخل إلى تلك المراكز التي لا مفرّ فيها سوى انتظار اللهب والدخان، وربما سيكرّر البعض ما فعله أحد الضحايا الذين حاصرتهم النيران فوق سطح جحيم “الهايبر ماركت” في واسط، ويوثّق اللحظة. فالحياة “لو نجف لو تابوت”، بينما يستنجد من حوله ويصرخون.  

على بعد نحو كيلو متر من النار المشتعلة، كان محافظ واسط محمد المياحي يجلس متفرّجاً على الأرواح المرتقية، في مشهد يمكن عكسه على الحالة العراقية: مشهد المتفرج الذي لا يتوغل في الحدث، ولا يراقب شروط البناء، ولا أنظمة الإطفاء التي تقلل المخاطر، لكنّه سيظهر في قلب المشهد، في زاوية مُؤمّنة منه، ومعه كاميرته لالتقاط تلك الصورة، من أجل ذلك الإعلان المموّل. 

بعد انطفاء النار في موقع الحادثة، واشتعالها في قلوب ذوي الضحايا، طالب برلمانيون بإقالته، وتحرّك مجلس المحافظة لاستجوابه واتخاذ الإجراءات بحقه. 

هناك تخفيضات لمستفيدي الرعاية الاجتماعية، حسب ما يخبرني إعلان مموّل لسلسلة “هايبر ماركت” في العراق، التي بات عدد فروعها 145 فرعاً، وبطل الإعلان كان وزير العمل والشؤون الاجتماعية. شاهدت الإعلان في فيسبوك وقتها، وقبل يومين على الصفحة الشخصية الخاصة بي نفسها، شاهدت “هايبر ماركت” آخر، لكنْ هذه المرة، بوصفه المكان الذي فقدتُ فيه صديقين “افتراضيين”، رغد سعدون رفقة أختها رند، والمهندس علي محمود العمار. وترافق هذا مع خبر وفاة أحد أقربائي في الحادثة نفسها. 

لا شكّ أن حادثة من هذا النوع لا تنتهي دون أن تتحول إلى كرة نار، يرميها المتخاصمون السياسيون على بعضهم البعض. وهذا الأمر، مع الأطراف ذات العلاقة، نتيجة أخرى للفساد والعبث والموت المجّاني، لا أحد يريد تحمّل وزرها وحده. طالما أن الحادثة في إحدى المحافظات، الكرة ستزور المحافظ ومن حوله، وسوف تمرّ بأجهزة الدفاع المدني… بينما يعقد الغاضبون المقارنات بين الحرائق التي سبق أن أُطفئت بسرعة وبأحدث الوسائل، وتكفلت بها أكثر من 20 عربة إطفاء كبيرة، وبين حريق “الهايبر ماركت”، الذي بقيت تصرخ فيه الناس، محاصرة بالنيران ساعات طويلة. 

كلّ هذه الجدالات التي ملأت خوارزميات مواقع التواصل في العراق، والتي عادةً ما تنطفئ بسرعة لمصلحة جدالات وإعلانات جديدة، يعرف أصحابها بداخلهم مدى ضعف البنى التحتية، والخروقات الواضحة في معايير السلامة، وضعف التعامل مع المخالفين. الناس في العراق مستسلمون، وقد اعتادوا اليأس، فلا حلّ باعتقادهم لخلل يصيب كلّ شيء، خلل قديم اسمه “الفساد”، يرعاه الجميع، ويهاجمه أمام الكاميرات، الجميع أيضاً. 

في العراق يمكن أن ينتهي عملُ أيّ لجنة تحقيق وكشف من البلدية بوجبة غداء تُقدم رشوة، لغض الرقيب الطرف عن المخالف، فيما يبقى على المخالف أن يتجنب انكشاف مخالفته. وهذا هو “الموت المؤجل”، الذي باتت الحرائق آلةً فعّالةً لتحقيقه. 

لكي نعطي عبارة لوتريامون -“نحن نموت بسعر أقل”- بُعداً عراقياً، يمكن تحويلها إلى “نحن نموت بطريقة ممولة”، موت برعاية التخفيضات، تحت لافتة عروض الصيف أو نهاية موسم، داخل مكان يُروَّج له بكثافة، ويهرب منه الأوكسجين. 

  • تنشر هذه المادة بالشراكة مع الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية ”نيريج“.