غزلان الريم في محميّة مندلي تموت من الجوع: لا يتوفر حتّى نصف كيلوغرام من الشعير
03 حزيران 2025
أكثر من 90 بالمئة من غزلان المحميّة ماتت بسبب الجوع والعطش، وبعضها يجري نقلها ليلاً إلى أماكن مجهولة، عن محميّة مندلي، وغزلان الريم العراقي التي تواجه الإنقراض بسبب الإهمال.
كان من المفترض أن تضم محميّة غزلان الريم في مندلي، أعداداً كبيرة منها، فالمحمية التي تمتد على مساحة 400 دونم كان هذا هو هدفها، حماية الريم وتوفير بيئة مناسبة وآمنة لتكاثرها.
اليوم تتراجع أعداد غزلان الريم في المحميّة، وحدث هذا خلال السنوات الست الأخيرة، من 364 غزالاً إلى 30 فقط.
تقع المحمية التي أُنشأت قبل 25 عاماً في الموطن الطبيعي لغزلان الريم بمندلي، على بعد خمسة كيلومترات من الحدود العراقية الإيرانية، وبنحو 160 كم عن العاصمة بغداد.
قبل عام 2019، كانت تدار المحمية محلياً، وتشرف عليها مديرية زراعة ديالى، لكن في ذلك العام تحوّلت مسؤوليتها إلى دائرة الغابات والتصحر في وزارة الزراعة، وزادت أوضاعها سوءاً، وتلاحق إدارتها اليوم تهماً بالتقصير والإهمال والفساد.
عاش غزال الريم العربي لقرون طويلة في هذه البيئة التي اكتسب منها لونه المتماهي مع الصحراء، واستطاع بسرعته التي تصل تقريباً إلى 70 كم في الساعة أن ينجو من مفترساته الطبيعية، لكن مع الصيد الجائر باستخدام الأسلحة لم تعد سرعته ضامنة للحفاظ عليه في البيئة العراقية.
يمتاز الريم بعينين بارزتين ولامعتين وشديدتي السواد، كانتا مصدراً للإلهام الشعري في العصور القديمة والحديثة، كما أن موقع عينيه على جانبي الرأس تمنحانه رؤية واسعة بمدى يقترب من 300 درجة مما يمكنّه من رصد المفترسات من مختلف الاتجاهات.
في المحمية، يفرش الربيع سجادة خضراء من العشب ممتدة على امتداد مساحتها والمسورة بسياج حديدي، في هذه الفترة تنعم غزلان الريم بمستوى مقبول من التغذية الطبيعية، لكن مع ارتفاع حرارة الصيف واختفاء الحشائش تواجه الغزلان خطراً وجودياً كل عام.
يحتاج الغزال لنصف كيلوغرام فقط من الشعير يومياً وأحياناً أقل من هذه الكمية الضئيلة، ولأنه متكيف مع الطبيعة الصحراوية فلا يستهلك غير كميات قليلة من المياه، ولا تتطلب حياته أو ولادته رعاية طبية إلا نادراً، رغم ذلك يموت في محميات يفترض أنّها انشأت لحمايته من الانقراض.

يعود تاريخ المحمية للعام 2000، حين بدأت برعاية 19 غزالاً، ووصلت إلى أكثر من 100، قبل أن تُسرق وتُقتل، وتهرب للبرية أثناء الفوضى التي أعقبت سقوط النظام السابق عام 2003، لاحقاً في عام 2011، أُعيدت المحميّة مجدداً، بنقل 21 غزالاً من محمية الرطبة في محافظة الأنبار إليها.
خلال 8 سنوات من إعادة افتتاح المحميّة تضاعف عدد الغزلان نحو 17 مرة، لتصل إلى 364 رأساً رغم قلّة الأعلاف والاهتمام، وكان غالباً ما يتبرع الموظفون بمبالغ لشراء الأعلاف أو يحصلون على أكياس الشعير من مزارعي المنطقة، وكان دعم الدولة للمحمية بالأعلاف والأدوية نادر جداً، كما يقول قيس صادق مدير المحمية آنذاك.
يقول صادق لجُمّار، “عندما وصل عدد الغزلان إلى 364 تقريباً، رفعت الراية البيضاء وأخبرت الإدارة عدم قدرتنا على توفير الأعلاف والاحتياجات الأخرى للغزلان مجدداً”.
المحمية لا تحمي
منذ أن تسلّمت دائرة الغابات والتصحر في وزارة الزراعة إدارة المحمية وأعداد الغزلان تتراجع.
تمتاز غزلان الريم العربي بتكاثرها السريع، مرتين في السنة، وغالباً ما تضع توائم، مما يعني إمكانية تضاعف أعدادها خلال سنوات قليلة، لكن ما حصل للمحمية في السنوات الأخيرة كان صادماً.
أين اختفت الغزلان؟ هل يمكن للجفاف وقلّة الغذاء أن يؤدي إلى هلاك أكثر من 90 بالمئة من القطيع؟
رفض المتحدث باسم وزارة الزراعة التعليق على هذا السؤال، وكذلك فعلت دائرة الغابات والتصحر في الوزارة، كما رفضا دخول وسائل الإعلام للمحميّة، وهذا ما أكده صحفيون محليون رُفضت طلباتهم بدخول المحمية.

تحدث لجُمّار مصدر من داخل المحمية، رفض الكشف عن هويته، أشار إلى أنّ النفوق الكبير للغزلان قد حدث نتيجة الجفاف ونقص الأعلاف خاصة للفترة من 2019 ولغاية 2022، حيث لم تتلق المحمية أي دعم حكومي، ولم يصلها أي أعلاف نهائياً.
يضيف المصدر، “في بعض الأيام كان يموت يوميا 15 غزالاً بسبب الجوع”، ولم يتحدث المصدر عن تفاصيل تخص نفوق الغزلان، سوى أنها لم تصلها أي أعلاف كافية طوال الفترة المذكورة ما بين 2019 و2022، وبحسبه كان هذا أبرز سبب للنفوق.
ويشير المصدر إلى نقل ما يقارب 50 غزالاً من المحمية قبل أكثر من عامين إلى محمية في كركوك، لغرض إنقاذها من الجوع.
لكن قيس صادق يكشف عن حصول عمليات نقل ليلية غامضة للغزلان خارج المحمية، عرف بها من خلال حرّاس المحمية الذين استمروا في عملهم حتى بعد نقل الصلاحيات.
“التبرير بالهلاكات غير كاف لأنّ المحمية يمنا 8 سنوات، ما صار بيها هلاكات أبد”، يقول صادق.
لا يعرف صادق أين ذهبت الغزلان تحديداً، لكنه يشير إلى أن نقلها إذا كان بشكل رسمي ينبغي أن يحدث أثناء الدوام الرسمي، ووفقاً لإجراءات إدارية معقدة، ولجان من أطراف مختلفة، “عند نقل الغزلان من محمية إلى أخرى ينبغي الحفاظ على التوازن بحيث يبقى ذكر لكل 9 إناث، لكن المحمية حالياً 70 بالمئة منها ذكور”.

يشكك علي الزهيري، قائمقام مندلي، في أن يكون الجفاف السبب الوحيد، ويرجح احتمالية بيع الغزلان بشكل غير قانوني، وكانت هذه مجرد شكوك للزهيري، لم تتضمن أي دليل يقدمه لجمّار حول ذلك، لأنه يرى على أي حال أن الجفاف لا يمكن أن يكون سبباً كافياً لنفوق الغزال، ويؤكد أن حالات النفوق لم تُوثق وفق الإجراءات الرسمية.
وتتطلب الاجراءات الرسمية التي تجرى عند نفوق أحد الغزلان توثيق الجثة فيديوياً، وتقديم تقرير بذلك، مع تشريح الجثة لمعرفة سبب الوفاة، كما يتم الاحتفاظ برأس الغزال الميت لحين حسم الإجراءات والتثبت من سبب الوفاة بحسب قيس صادق.

يدعو الزهيري إلى إجراء تحقيق للكشف عمّا حصل للريم في المحمية، كما يسعى أيضاً لإعادة صلاحيات الإشراف عليها من قبل الإدارة المحلية، أو طرحها للاستثمار والتطوير.
يتفق محمد المندلاوي، مدير إعلام زراعة ديالى مع الحديث والروايات حول غموض في مصير الريم داخل المحميّة، كما أن المناشدات التي تطلقها دائرته باستمرار لإنقاذ المحميّة لم تجد من يستمع لها.
تتراوح أسعار أنثى غزال الريم بحدود 1500 دولار، فيما يبلغ سعر الذكر منها نحو نصف سعر الأنثى، وتنتشر تربيتها في محميات خاصة وتباع أحياناً لبعض المطاعم الفاخرة، وينتشر بيعها في مجموعات خاصة بالهواة والمربين في مواقع التواصل الاجتماعي.
تعتبر تربية أو المتاجرة بالحيوانات المهددة بالإنقراض ومنها الريم ممنوعة كما يقول يوسف سعدي، الخبير البيئي، وفقاً لقانوني، حماية وتحسين البيئة رقم 27 لسنة 2009، ووقانون حماية الحيوانات البرية رقم 17 لسنة 2010، الذي تنص المادة الثانية منه على منع صيد الحيوانات البرّية (من ضمنها الغزلان)، إلا في حالات خاصة تتعلق بإجراء تجارب علمية.
جلد وعظم
تبدو محميّة مندلي من شدة الإهمال وكأنها مهجورة، حيث يعمل فيها حالياً موظفين اثنين فقط، أحدهم مهندس زراعي والآخر سائق، ولا يوجد فيها حرّاس خافرين، ولا كاميرات للمراقبة، كذلك فهي ومنذ تأسيسها وحتى الآن لم تُزوّد بالطاقة الكهربائية الوطنية، وفيها مولد كهربائي فقط، وغير مجهز بالوقود.
في مواسم الأمطار، تجرف مياه السيول التي تمر عبر الشريط الحدودي مع إيران، الألغام من مخلفات حرب الثمانينات، وتستقر بعضها في أطراف المحميّة، وتترك من دون معالجة، لحسن الحظ لم تنفجر أي من تلك الألغام على الغزلان حتى اللحظة.

كانت السنوات من 2019 ولغاية 2022 الاكثر قسوة داخل المحمية، لم تجد الغزلان ما تأكله، يقول أحد حرّاس المحمية السابقين، إنه كان يضطر أحيانا لهز جذع شجرة سدر معمرة بقوة، ويترك أوراقها المتساقطة تتصارع عليها الغزلان لسد الجوع.
ويستذكر بحزن ما شاهده من تساقط لفروة الجلد لعدد من الغزلان، بسبب الجوع، “بقت بس جلد وعظم”.
تقدم حالياً وجبة بسيطة من الشعير يومياً للغزلان، تبقيها على قيد الحياة، كما أنّ الربيع يمنح الريم طاقة وبهجة، حيث تتجول بحركات راقصة داخل المحمية، وعندما تستشعر خطراً ما، تتحوّل الحركات الراقصة إلى قفزات سريعة متتالية، يساعدها في ذلك قوامها الرشيق ووزنها الخفيف.
تحمل الذكور فوق رأسها قرنين ينحنيان قليلاً للخلف مثل تاج ملكي يستخدمها الريم للدفاع عن نفسه، كما تستخدم لأثبات الفحولة في موسم التكاثر، حيث تتنافس الذكور بقسوة أحياناً، تتسبب بتكسير هذه القرون.
أحلام لم تتحقق
في البدء كانت خطة المحمية طموحة جداً، فقد اختير موقعها عند تأسيسها عام 2000 في البيئة الطبيعية التي عاشت فيها سلالات الريم العربي لقرون طويلة، والتي تنتشر في البيئات المنبسطة على امتداد الشريط الحدودي مع إيران.
اختار موقع المحمية المهندس الزراعي قيس جليل، مدير الثروة الحيوانية في زراعة ديالى آنذاك، يقول جليل لجُمّار إن أعداد غزلان الريم في البرية تقلّصت كثيراً بسبب الصيد الجائر وظروف الحرب العراقية الإيرانية، التي دارت جزء من معاركها الشرسة في تلك المنطقة التي ما تزال تحتفظ ببعض آثارها.
قدّم جليل مقترحات عديدة لم تنفذ، يتحدث لجُمّار عن مشروع لإنشاء سد صغير لحصد مياه الأمطار التي تنحدر للمنطقة في الشتاء من المناطق الجبلية بين العراق وإيران، “نستطيع خزن المياه عبر هذا السد للصيف، حتى نتمكن من زراعة مساحات واسعة من العشب والاشجار في المحمية وخارجها، ونزيد من المساحات الخضراء”.
قدم أيضاً مشروعاً لتربية النعام داخل المحمية نفسها لأنها تتعايش مع غزلان الريم، كما أنّها ستكون أوّل محمية رسمية للنعام في العراق، لكن مشروعه اصطدم بغياب التخصيص المالي.
كما أنّ أفكاراً أخرى قدمها ولم تصغ لها السلطات المسؤولة، مثل بيع نسبة من الولادات الجديدة من الذكور حصراً بمزادات علنية، لضمان توفير تمويل ذاتي لإدارة المحميّة وتوسعتها تدريجياً.
أُحيل خليل للتقاعد قبل سنوات، وظل يتابع بأسف ما آلت إلية المحميّة التي شيدها وأشرف عليها لأكثر من 15 عاماً، ويشعر أن إهمالها أمرٌ مقصود لغايات لا يعرفها، لكنّه يعرف يقيناً أن المحميّة في خطر.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
كان من المفترض أن تضم محميّة غزلان الريم في مندلي، أعداداً كبيرة منها، فالمحمية التي تمتد على مساحة 400 دونم كان هذا هو هدفها، حماية الريم وتوفير بيئة مناسبة وآمنة لتكاثرها.
اليوم تتراجع أعداد غزلان الريم في المحميّة، وحدث هذا خلال السنوات الست الأخيرة، من 364 غزالاً إلى 30 فقط.
تقع المحمية التي أُنشأت قبل 25 عاماً في الموطن الطبيعي لغزلان الريم بمندلي، على بعد خمسة كيلومترات من الحدود العراقية الإيرانية، وبنحو 160 كم عن العاصمة بغداد.
قبل عام 2019، كانت تدار المحمية محلياً، وتشرف عليها مديرية زراعة ديالى، لكن في ذلك العام تحوّلت مسؤوليتها إلى دائرة الغابات والتصحر في وزارة الزراعة، وزادت أوضاعها سوءاً، وتلاحق إدارتها اليوم تهماً بالتقصير والإهمال والفساد.
عاش غزال الريم العربي لقرون طويلة في هذه البيئة التي اكتسب منها لونه المتماهي مع الصحراء، واستطاع بسرعته التي تصل تقريباً إلى 70 كم في الساعة أن ينجو من مفترساته الطبيعية، لكن مع الصيد الجائر باستخدام الأسلحة لم تعد سرعته ضامنة للحفاظ عليه في البيئة العراقية.
يمتاز الريم بعينين بارزتين ولامعتين وشديدتي السواد، كانتا مصدراً للإلهام الشعري في العصور القديمة والحديثة، كما أن موقع عينيه على جانبي الرأس تمنحانه رؤية واسعة بمدى يقترب من 300 درجة مما يمكنّه من رصد المفترسات من مختلف الاتجاهات.
في المحمية، يفرش الربيع سجادة خضراء من العشب ممتدة على امتداد مساحتها والمسورة بسياج حديدي، في هذه الفترة تنعم غزلان الريم بمستوى مقبول من التغذية الطبيعية، لكن مع ارتفاع حرارة الصيف واختفاء الحشائش تواجه الغزلان خطراً وجودياً كل عام.
يحتاج الغزال لنصف كيلوغرام فقط من الشعير يومياً وأحياناً أقل من هذه الكمية الضئيلة، ولأنه متكيف مع الطبيعة الصحراوية فلا يستهلك غير كميات قليلة من المياه، ولا تتطلب حياته أو ولادته رعاية طبية إلا نادراً، رغم ذلك يموت في محميات يفترض أنّها انشأت لحمايته من الانقراض.

يعود تاريخ المحمية للعام 2000، حين بدأت برعاية 19 غزالاً، ووصلت إلى أكثر من 100، قبل أن تُسرق وتُقتل، وتهرب للبرية أثناء الفوضى التي أعقبت سقوط النظام السابق عام 2003، لاحقاً في عام 2011، أُعيدت المحميّة مجدداً، بنقل 21 غزالاً من محمية الرطبة في محافظة الأنبار إليها.
خلال 8 سنوات من إعادة افتتاح المحميّة تضاعف عدد الغزلان نحو 17 مرة، لتصل إلى 364 رأساً رغم قلّة الأعلاف والاهتمام، وكان غالباً ما يتبرع الموظفون بمبالغ لشراء الأعلاف أو يحصلون على أكياس الشعير من مزارعي المنطقة، وكان دعم الدولة للمحمية بالأعلاف والأدوية نادر جداً، كما يقول قيس صادق مدير المحمية آنذاك.
يقول صادق لجُمّار، “عندما وصل عدد الغزلان إلى 364 تقريباً، رفعت الراية البيضاء وأخبرت الإدارة عدم قدرتنا على توفير الأعلاف والاحتياجات الأخرى للغزلان مجدداً”.
المحمية لا تحمي
منذ أن تسلّمت دائرة الغابات والتصحر في وزارة الزراعة إدارة المحمية وأعداد الغزلان تتراجع.
تمتاز غزلان الريم العربي بتكاثرها السريع، مرتين في السنة، وغالباً ما تضع توائم، مما يعني إمكانية تضاعف أعدادها خلال سنوات قليلة، لكن ما حصل للمحمية في السنوات الأخيرة كان صادماً.
أين اختفت الغزلان؟ هل يمكن للجفاف وقلّة الغذاء أن يؤدي إلى هلاك أكثر من 90 بالمئة من القطيع؟
رفض المتحدث باسم وزارة الزراعة التعليق على هذا السؤال، وكذلك فعلت دائرة الغابات والتصحر في الوزارة، كما رفضا دخول وسائل الإعلام للمحميّة، وهذا ما أكده صحفيون محليون رُفضت طلباتهم بدخول المحمية.

تحدث لجُمّار مصدر من داخل المحمية، رفض الكشف عن هويته، أشار إلى أنّ النفوق الكبير للغزلان قد حدث نتيجة الجفاف ونقص الأعلاف خاصة للفترة من 2019 ولغاية 2022، حيث لم تتلق المحمية أي دعم حكومي، ولم يصلها أي أعلاف نهائياً.
يضيف المصدر، “في بعض الأيام كان يموت يوميا 15 غزالاً بسبب الجوع”، ولم يتحدث المصدر عن تفاصيل تخص نفوق الغزلان، سوى أنها لم تصلها أي أعلاف كافية طوال الفترة المذكورة ما بين 2019 و2022، وبحسبه كان هذا أبرز سبب للنفوق.
ويشير المصدر إلى نقل ما يقارب 50 غزالاً من المحمية قبل أكثر من عامين إلى محمية في كركوك، لغرض إنقاذها من الجوع.
لكن قيس صادق يكشف عن حصول عمليات نقل ليلية غامضة للغزلان خارج المحمية، عرف بها من خلال حرّاس المحمية الذين استمروا في عملهم حتى بعد نقل الصلاحيات.
“التبرير بالهلاكات غير كاف لأنّ المحمية يمنا 8 سنوات، ما صار بيها هلاكات أبد”، يقول صادق.
لا يعرف صادق أين ذهبت الغزلان تحديداً، لكنه يشير إلى أن نقلها إذا كان بشكل رسمي ينبغي أن يحدث أثناء الدوام الرسمي، ووفقاً لإجراءات إدارية معقدة، ولجان من أطراف مختلفة، “عند نقل الغزلان من محمية إلى أخرى ينبغي الحفاظ على التوازن بحيث يبقى ذكر لكل 9 إناث، لكن المحمية حالياً 70 بالمئة منها ذكور”.

يشكك علي الزهيري، قائمقام مندلي، في أن يكون الجفاف السبب الوحيد، ويرجح احتمالية بيع الغزلان بشكل غير قانوني، وكانت هذه مجرد شكوك للزهيري، لم تتضمن أي دليل يقدمه لجمّار حول ذلك، لأنه يرى على أي حال أن الجفاف لا يمكن أن يكون سبباً كافياً لنفوق الغزال، ويؤكد أن حالات النفوق لم تُوثق وفق الإجراءات الرسمية.
وتتطلب الاجراءات الرسمية التي تجرى عند نفوق أحد الغزلان توثيق الجثة فيديوياً، وتقديم تقرير بذلك، مع تشريح الجثة لمعرفة سبب الوفاة، كما يتم الاحتفاظ برأس الغزال الميت لحين حسم الإجراءات والتثبت من سبب الوفاة بحسب قيس صادق.

يدعو الزهيري إلى إجراء تحقيق للكشف عمّا حصل للريم في المحمية، كما يسعى أيضاً لإعادة صلاحيات الإشراف عليها من قبل الإدارة المحلية، أو طرحها للاستثمار والتطوير.
يتفق محمد المندلاوي، مدير إعلام زراعة ديالى مع الحديث والروايات حول غموض في مصير الريم داخل المحميّة، كما أن المناشدات التي تطلقها دائرته باستمرار لإنقاذ المحميّة لم تجد من يستمع لها.
تتراوح أسعار أنثى غزال الريم بحدود 1500 دولار، فيما يبلغ سعر الذكر منها نحو نصف سعر الأنثى، وتنتشر تربيتها في محميات خاصة وتباع أحياناً لبعض المطاعم الفاخرة، وينتشر بيعها في مجموعات خاصة بالهواة والمربين في مواقع التواصل الاجتماعي.
تعتبر تربية أو المتاجرة بالحيوانات المهددة بالإنقراض ومنها الريم ممنوعة كما يقول يوسف سعدي، الخبير البيئي، وفقاً لقانوني، حماية وتحسين البيئة رقم 27 لسنة 2009، ووقانون حماية الحيوانات البرية رقم 17 لسنة 2010، الذي تنص المادة الثانية منه على منع صيد الحيوانات البرّية (من ضمنها الغزلان)، إلا في حالات خاصة تتعلق بإجراء تجارب علمية.
جلد وعظم
تبدو محميّة مندلي من شدة الإهمال وكأنها مهجورة، حيث يعمل فيها حالياً موظفين اثنين فقط، أحدهم مهندس زراعي والآخر سائق، ولا يوجد فيها حرّاس خافرين، ولا كاميرات للمراقبة، كذلك فهي ومنذ تأسيسها وحتى الآن لم تُزوّد بالطاقة الكهربائية الوطنية، وفيها مولد كهربائي فقط، وغير مجهز بالوقود.
في مواسم الأمطار، تجرف مياه السيول التي تمر عبر الشريط الحدودي مع إيران، الألغام من مخلفات حرب الثمانينات، وتستقر بعضها في أطراف المحميّة، وتترك من دون معالجة، لحسن الحظ لم تنفجر أي من تلك الألغام على الغزلان حتى اللحظة.

كانت السنوات من 2019 ولغاية 2022 الاكثر قسوة داخل المحمية، لم تجد الغزلان ما تأكله، يقول أحد حرّاس المحمية السابقين، إنه كان يضطر أحيانا لهز جذع شجرة سدر معمرة بقوة، ويترك أوراقها المتساقطة تتصارع عليها الغزلان لسد الجوع.
ويستذكر بحزن ما شاهده من تساقط لفروة الجلد لعدد من الغزلان، بسبب الجوع، “بقت بس جلد وعظم”.
تقدم حالياً وجبة بسيطة من الشعير يومياً للغزلان، تبقيها على قيد الحياة، كما أنّ الربيع يمنح الريم طاقة وبهجة، حيث تتجول بحركات راقصة داخل المحمية، وعندما تستشعر خطراً ما، تتحوّل الحركات الراقصة إلى قفزات سريعة متتالية، يساعدها في ذلك قوامها الرشيق ووزنها الخفيف.
تحمل الذكور فوق رأسها قرنين ينحنيان قليلاً للخلف مثل تاج ملكي يستخدمها الريم للدفاع عن نفسه، كما تستخدم لأثبات الفحولة في موسم التكاثر، حيث تتنافس الذكور بقسوة أحياناً، تتسبب بتكسير هذه القرون.
أحلام لم تتحقق
في البدء كانت خطة المحمية طموحة جداً، فقد اختير موقعها عند تأسيسها عام 2000 في البيئة الطبيعية التي عاشت فيها سلالات الريم العربي لقرون طويلة، والتي تنتشر في البيئات المنبسطة على امتداد الشريط الحدودي مع إيران.
اختار موقع المحمية المهندس الزراعي قيس جليل، مدير الثروة الحيوانية في زراعة ديالى آنذاك، يقول جليل لجُمّار إن أعداد غزلان الريم في البرية تقلّصت كثيراً بسبب الصيد الجائر وظروف الحرب العراقية الإيرانية، التي دارت جزء من معاركها الشرسة في تلك المنطقة التي ما تزال تحتفظ ببعض آثارها.
قدّم جليل مقترحات عديدة لم تنفذ، يتحدث لجُمّار عن مشروع لإنشاء سد صغير لحصد مياه الأمطار التي تنحدر للمنطقة في الشتاء من المناطق الجبلية بين العراق وإيران، “نستطيع خزن المياه عبر هذا السد للصيف، حتى نتمكن من زراعة مساحات واسعة من العشب والاشجار في المحمية وخارجها، ونزيد من المساحات الخضراء”.
قدم أيضاً مشروعاً لتربية النعام داخل المحمية نفسها لأنها تتعايش مع غزلان الريم، كما أنّها ستكون أوّل محمية رسمية للنعام في العراق، لكن مشروعه اصطدم بغياب التخصيص المالي.
كما أنّ أفكاراً أخرى قدمها ولم تصغ لها السلطات المسؤولة، مثل بيع نسبة من الولادات الجديدة من الذكور حصراً بمزادات علنية، لضمان توفير تمويل ذاتي لإدارة المحميّة وتوسعتها تدريجياً.
أُحيل خليل للتقاعد قبل سنوات، وظل يتابع بأسف ما آلت إلية المحميّة التي شيدها وأشرف عليها لأكثر من 15 عاماً، ويشعر أن إهمالها أمرٌ مقصود لغايات لا يعرفها، لكنّه يعرف يقيناً أن المحميّة في خطر.