قچق وعبر المنافذ الحدودية: خرائط تهريب الحنطة بين العراق وإيران 

خليل بركات

27 أيار 2025

لا يعني تسويق كميات كبيرة من الحنطة في العراق نجاحاً زراعياً خالصاً، إذ كثيراً ما يقترن هذا "النجاح" بشبهات تهريب عبر شبكات تمتد بين إيران وكردستان، وتحايل منظم على الدولة.. عن الطرق الملتوية لمافيات الفساد والتجّار لنهب المال العام عبر بوابة الحبوب المدعومة..

في العام الماضي سوقت وزارة التجارة سبعة ملايين طن من الحنطة إلى مخازنها في عموم محافظات العراق، وحققت اكتفاءً ذاتياً، ودعمت المزارعين عبر رفع أسعار الحنطة التي تشتريها منهم إلى 850 ألف دينار عراقي للطن.  

هذا الإغراء في الشراء والتسويق، جعل المزارعين يتسابقون لزراعة أراضيهم وتسويق محاصيلهم، لكن هذا الدعم فتح أبواب الحدود على تنظيم عمليات تهريب الحنطة الرديئة، وتسويقها إلى مخازن وزارة التجارة. 

المثنى واحدة من المدن الزراعية اعتمدت في زراعتها على البادية وأرضها الخصبة لنجاح أي محصول يزرع فيها، وزرعت قرابة 360 ألف دونم من أراضيها، وسوّقت 200 ألف طن.  

لم تكف مخازنها لاستلام هذه الوفرة من المحصول، فاضطرت لإرسالها إلى سايلوات محافظة الديوانية، وتأمينها هناك باسم حساب خاص بالمحافظة. 

لكن هذا النجاح في تسويق الكميات الكبيرة في العراق لا يخلوا من الشبهات وعمليات التهريب والتحايل على الدولة، واتباع طرق ملتوية وغير قانونية وفتح شهية مافيات الفساد والتجار للحصول على أكبر قدر من المال بطرق غير شرعية عبر حبوب الحنطة.  

عام 2023 احبطت هيئة النزاهة محاولة تهريب قرابة 1500 طن من مادة القمح الأسترالي من أحد السايلوات بعد زيادة كميات الحنطة فيه، حيث وجدت هذه الكميات الأسترالية أنها مخلوطة بمادة من الحنطة الرديئة. 

مزارع الحنطة في بادية السماوة
مزارع الحنطة في بادية السماوة، تصوير: الكاتب.

مسارب التهريب 

تتنوع أساليب تهريب الحنطة إلى داخل العراق وخارجه عبر عدة مسارات حدودية برية ومائية، فعلى الحدود مع إيران، يتم التهريب عبر المنافذ الرسمية وكذلك عبر نقاط عبور غير نظامية.  

في الجنوب، يعد منفذ الشلامجة في محافظة البصرة من أبرز المنافذ المستخدمة لتهريب السلع بما فيها الحنطة، حيث يستغل المهربون حركة الشاحنات اليومية الضخمة التي تعبر المنفذ. 

بالرغم من خضوع الشلامجة لسيطرة السلطات العراقية، تشير التقارير إلى وجود تواطؤ أو تغلغل لعناصر مرتبطة بفصائل مسلحة في إدارة المنفذ مما يُسهِّل تمرير شحنات مهربة. 

إلى جانب المنافذ الرسمية، تنشط عمليات التهريب عبر ممرات برية ومائية غير رسمية في محافظة البصرة؛ فهناك عدة نقاط تهريب عبر شط العرب وقضاءي أبو الخصيب والقرنة وحتى الممرات البحرية قرب الفاو، تستخدمها شبكات التهريب بعيداً عن أعين الرقابة. 

في المناطق الوسطى والشمالية، يستغل المهربون الطبيعة الجغرافية وشبكة الطرق الزراعية للالتفاف على نقاط التفتيش.  

اقرأ أيضاً

رحلة في كل بادية المثنى: كيف يصبحُ الثراء فقراً؟!

سُجلت حالات تهريب حنطة مستوردة عبر مدن إقليم كردستان ثم تسريبها إلى محافظات مثل ديالى باستخدام هذه الطرق الزراعية. 

عام 2021 أصدرت الحكومة أوامر مشددة لضبط مداخل المحافظة مع الإقليم، بعد ضبط شاحنات محمَّلة بعشرات الأطنان من الحنطة المستوردة، كانت تحاول الدخول عبر طرق ترابية فرعية.  

وفي أيار من ذلك العام، كشفت مصادر أمنية أن جهاز الاستخبارات أحبط تهريب عشرات الأطنان من الحنطة المستوردة، والتي كانت في طريقها إلى محافظة ديالى عبر طرق زراعية سرّية. 

الحصاد في المزارع التي تروى على الانهار
الحصاد في المزارع التي تروى على الانهار، تصوير: الكاتب.

في المثنى على سبيل المثال، لا تنفي السلطات وجود حنطة مهرّبة تُباع على أنها حنطة محلية، تأكدت السلطات من وجود عمليات تهريب للحنطة من خارج المحافظة ودخولها وبيعها بطريقة رسمية على سايلو السماوة بأسعار مرتفعة من قبل بعض التجار، حيث يتم شراؤها بسعر 400 ألف دينار في المواسم الاعتيادية، وبيعها في موسم التسويق بسعر 850 ألف دينار. 

هذا الأمر أكدته الحكومة المحلية في المحافظة، مما دفع اللجنة الزراعية العليا في المدينة إلى عقد اجتماع طارئ لوضع خطة للحد منها. 

يعترف مؤيد الياسري، نائب محافظ المثنى، ورئيس اللجنة الزراعية، خلال حوار مع جمار، بوجود عمليات لتهريب الحنطة بين المحافظات خلال الموسم الماضي، “رصدنا بعض عمليات التهريب خلال الموسم الماضي عن طريق الأجهزة الأمنية ولذلك عقدنا اجتماعات واتخذنا عدة قرارات لمنع تهريب هذا المحصول لحماية منتجنا وحماية أمننا الغذائي”. 

ويضيف الياسري، “اطلعنا على اسماء الفلاحين المشمولين بالخطة الزراعية وعلى المساحات والأماكن المشمولة وأعدادها لضمان منع تداول وتهريب الحنطة الذي يحصل سواء الداخل أو الخارج من المحافظة”. 

محمد عسّاف (25 عاماً)، مزارع في بادية السماوة يتهم تجاراً كباراً باتباع هذه الحيلة ومضايقتهم دون عدالة، “بالفترة الأخيرة طلعت عدنا ظاهرة جديدة هي اكو مزارعين وتجار كبار يشترون طن الحنطة بسعر 500 ألف دينار من محافظات ثانية، ويخزنوه لموسم التسويق ويسوقون حالهم حالنا ويستلمون 850 ألف”. 

يتخوف عسّاف من قضية تهريب الحنطة ودخولها إلى المحافظة من محافظات أخرى خلال الأشهر الماضية، والتي تم تخزينها في أماكن خاصة بانتظار موسم التسويق بعيدة عن أعين الأجهزة الأمنية كون المهربون احترفوا هذه المهنة، والتي ينتظرونها عاماً كاملاً، لكنه قلق من انعكاسات هذه العملية على محاصيله التي زرعها هذا الموسم. 

“تخزين الحنطة هذا له آثار سلبية كثيرة أبرزها التسويق المباشر من أصحاب النفوذ قبل المزارعين البسطاء، لأن أغلبنا قام بالزراعة بوقت متأخر بسبب شح المياه والشي الآخر هو امتلاء المخازن مبكراً ولا مجال لنا للتسويق لأننا نحصد في وقت متأخر”. 

الحصاد في بادية السماوة
الحصاد في بادية السماوة، تصوير: الكاتب.

ينتقد محمد عساف إجراءات وزارتي التجارة والزراعة أثناء مواسم التسويق، وعدم وضعهما خطط لكيفية استلام المحاصيل والمنتوج الزراعي من المزارعين، رغم تسجيلهم في الخطة الزراعية السنوية. 

في نينوى، شكا مزارعون من قيام جهات مرتبطة بفصائل مسلّحة بالاستيلاء على محاصيلهم، وشرائها بأسعار زهيدة، ثم قامت تلك الجهات بتهريبها برّاً إلى إيران، أو بيعها مجدداً عبر المتنفذين إلى الدولة. 

يستغلّ المهربون شح الحنطة عالمياً، بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، وحركة التهريب تتبع منطق الربح؛ فيتم تهريب الحنطة بالاتجاه الذي يكون السعر فيه أعلى، من خلال إدخال حنطة إيرانية إلى العراق عندما يكون سعر الشراء الحكومي مرتفعاً، أو تهريبها إلى الخارج عندما يرتفع السعر العالمي، وبالتالي يكون سعر الحنطة في الدول المجاورة للعراق أعلى. 

وفي ردّه على جُمّار، حول ضبط عمليات التهريب هذا العام، قال رائد رحيم عيسى، مدير زراعة المثنى، إنَّ اللجنة الزراعية قررت عمليات الحجز الإلكتروني المسبق من قبل المزارع، قبل التسويق، إذ يقوم بعملية الحجز وتسجيل كمية الأراضي المزروعة والمحاصيل المسوقة منها، ومقارنتها مع بياناتها وبيانات الأجهزة الأمنية لتدقيقها والتأكد منها. 

خارطة التهريب  

في الموصل يتحدث مزارعون عن عمليات سلسلة للتسويق في الأسبوع الأول من التسويق، لكن سرعان ما يتغير الحال ويصبح الازدحام كبيراً، وتصطف طوابير الشاحنات طويلاً، يقول عباس صابر، وهو مزارع من الموصل، “أول أربعة أيام تكون عملية التسويق سلسلة وجيدة بعد هذه المدة تأتي أكثر من 60 سيارة محملة بـ 50 طناً حنطة تربك الوضع ولا تتركنا نسوق محاصيلنا”. 

يؤكد عباس أن هذه الشاحنات تأتي من سوق اليابسات في أربيل، من تاجر يسمّى “عامر”، يمتلك شهرة واسعة بتجارة الحنطة، وبعد وصول شاحناته إلى سايلوات الموصل يقوم ببيعها على الدولة بالسعر الرسمي، وأخذ مستحقات المزارع الحقيقي الذي يمتلك طن أو عشرة أو أكثر من الحنطة فقط. 

بدء موسم تسويق الحنطة، وقوات الأمن تنظم دخول وخروج الشحنات في سايلو السماوة
بدء موسم تسويق الحنطة، وقوات الأمن تنظم دخول وخروج الشحنات في سايلو السماوة، تصوير: الكاتب. 

عبد الحميد فتحي، أمين سر اتحاد الجمعيات الفلاحية في الموصل، يطالب وزارة الزراعة وجهاز الأمن الوطني بالتصدي لتهريب الحنطة، “بعد سؤالنا للسائقين من أين أتيتم يقولون جئنا من علوة أربيل، محملة كل سيارة بأربعين طن من الحنطة مقابل ثمن بسيط وهذه لا تحسب على الناتج الوطني”.  

ويؤكد فتحي، أن هذه الحنطة تشترى من أربيل وتأتي من إيران، بسعر يصل أحياناً إلى 100 دولار للطن (150 ألف دينار عراقي)، وهذا الرخص بسبب رداءتها وانخفاض أسعارها هناك. 

أما في إقليم كردستان فهنالك ثلاثة منافذ حدودية رئيسية لا تهرب منها الحنطة لكن عمليات التهريب تكون على مقربة منها بحدود خمسة كيلو متر، بحسب مصدر أمني مطّلع في حكومة الإقليم، تحدّث لجُمّار، “عمليات التهريب تحصل في منافذ ترابية ميسمية قريبة على المنافذ الرئيسية، (قجق) حيث تدخل شاحنات كبيرة من إيران وتقوم بجلب حنطة رديئة جداً وبيعها بأسعار مرتفعة هنا، بعلم حكومة إقليم كردستان، والتي تستخدمها لاحقاً كورقة ضغط على الحكومة المركزية”. 

يتم تخزين هذه الكميات المهربة في مخازن وجملونات كبيرة بانتظار موسم التسويق، ويتم العمل على ذلك بواسطة ترتيب بين تجار إيرانيين وفلاحيين عراقيين، يستفيد التاجر الإيراني من دخول العملة الصعبة إلى بلاده التي تعاني الحصار، ويربح المزارع أو المهرّب العراقي بدون جهد الزراعة الموسمي. 

بالإضافة إلى المهربين، والجماعات المتنفذة والمسلّحة، هناك الموظفون والمسؤولون الفاسدون، ففي قضية تهريب الحنطة الأسترالية من سايلو خان ضاري كشفت التحقيقات أن عدداً من مسؤولي الشركة العامة لتجارة الحبوب، التابعة لوزارة التجارة، تواطؤوا مع المهربين لتسهيل سرقة وإخراج كميات من الحنطة المستوردة دون تسجيلها رسمياً. 

هؤلاء المسؤولون قاموا بتسهيل خلط الحنطة وفتح المخازن لتهريبها خارج السايلو مقابل رشاوى، وفي تحقيق للعالم الجديد عام 2022، كشفت شهادات لسائقي شاحنات في السايلوهات الحكومية عن تعرضهم لابتزاز ورشى من قبل بعض موظفي مخازن الحنطة، يأخذون حوالي 45 دولاراً لكل حمولة. 

في الماضي، كانت هناك جهات أخرى مارست سرقة الحنطة وتهريبها أثناء الحروب والصراعات، أبرزها تنظيم داعش، الذي استولى على مخزونات هائلة إبّان سيطرته على شمال وغرب العراق (2014-2017). ففي عام 2014 نهب داعش أكثر من مليون طن من القمح والشعير من محافظة نينوى وهرّبها إلى سوريا. 

لكن ومنذ هزيمة التنظيم في العراق وسوريا، تراجع دوره في هذا الملف، ليصعد بدلاً منه دور عصابات التهريب المنظمة والفصائل المسلحة، وبعض أصحاب النفوذ السياسي المسلح والمسؤولين المرتشين الذين شكّلوا فيما بينهم سلسلة مترابطة لتسهيل هذه التجارة غير المشروعة. 

اقرأ أيضاً

“الطماطة” في سلّة الصراع السياسي في العراق 

أواخر نيسان 2025  كشف رياض الموسوي، مدير دائرة الرقابة التجارية، عن ضبط شاحنة تحمل 45 طناً من الحنطة المحلية في صلاح الدين، معدّة للتهريب خارج حدود المحافظة وبيعها في السوق السوداء. 

كذلك أعلن جهاز الأمن الوطني في أكثر من مناسبة عن مداهمات وضبط كميات من الحنطة كانت معدّة للتهريب، ففي أيار 2024 ضبط أكثر من 2500 طن من الحنطة المهرّبة والتالفة في 8 محافظات، وفي تموز 2022، كشف السلطات عن إحباط تهريب 2000 طن، واعتقال 13 شخصاً متورطين بالتهريب. 

الفجوة السعرية وسياسات الدعم، خلقت الفارق الكبير بين سعر شراء الحكومة للحنطة والسعر العالمي، وهذا حفّز عمليات التهريب من أجل تحقيق الربح. 

فعلى الرغم من أن هدف الدعم الحكومي هو دعم الفلاح وتحقيق الاكتفاء الذاتي، إلا أنه في ظل اقتصاد ريعي وسوق مفتوح نسبياً، وحدود واسعة وغير مسيطر عليها، شكّل فرصة ذهبية للربح السريع عبر التهريب.  

وهذا جعل السياسة الاقتصادية نفسها (الدعم) عامل جذب لأنشطة غير قانونية، تستنزف موارد الدعم، وهنا تظهر معضلة بين التوازن في دعم الفلاح ومنع المهرّب من الاستفادة، واستمرار هذه المعضلة يعود إلى سوء التخطيط فيما يتعلّق بحدود الإنتاج والاكتفاء الذاتي من الحنطة. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

في العام الماضي سوقت وزارة التجارة سبعة ملايين طن من الحنطة إلى مخازنها في عموم محافظات العراق، وحققت اكتفاءً ذاتياً، ودعمت المزارعين عبر رفع أسعار الحنطة التي تشتريها منهم إلى 850 ألف دينار عراقي للطن.  

هذا الإغراء في الشراء والتسويق، جعل المزارعين يتسابقون لزراعة أراضيهم وتسويق محاصيلهم، لكن هذا الدعم فتح أبواب الحدود على تنظيم عمليات تهريب الحنطة الرديئة، وتسويقها إلى مخازن وزارة التجارة. 

المثنى واحدة من المدن الزراعية اعتمدت في زراعتها على البادية وأرضها الخصبة لنجاح أي محصول يزرع فيها، وزرعت قرابة 360 ألف دونم من أراضيها، وسوّقت 200 ألف طن.  

لم تكف مخازنها لاستلام هذه الوفرة من المحصول، فاضطرت لإرسالها إلى سايلوات محافظة الديوانية، وتأمينها هناك باسم حساب خاص بالمحافظة. 

لكن هذا النجاح في تسويق الكميات الكبيرة في العراق لا يخلوا من الشبهات وعمليات التهريب والتحايل على الدولة، واتباع طرق ملتوية وغير قانونية وفتح شهية مافيات الفساد والتجار للحصول على أكبر قدر من المال بطرق غير شرعية عبر حبوب الحنطة.  

عام 2023 احبطت هيئة النزاهة محاولة تهريب قرابة 1500 طن من مادة القمح الأسترالي من أحد السايلوات بعد زيادة كميات الحنطة فيه، حيث وجدت هذه الكميات الأسترالية أنها مخلوطة بمادة من الحنطة الرديئة. 

مزارع الحنطة في بادية السماوة
مزارع الحنطة في بادية السماوة، تصوير: الكاتب.

مسارب التهريب 

تتنوع أساليب تهريب الحنطة إلى داخل العراق وخارجه عبر عدة مسارات حدودية برية ومائية، فعلى الحدود مع إيران، يتم التهريب عبر المنافذ الرسمية وكذلك عبر نقاط عبور غير نظامية.  

في الجنوب، يعد منفذ الشلامجة في محافظة البصرة من أبرز المنافذ المستخدمة لتهريب السلع بما فيها الحنطة، حيث يستغل المهربون حركة الشاحنات اليومية الضخمة التي تعبر المنفذ. 

بالرغم من خضوع الشلامجة لسيطرة السلطات العراقية، تشير التقارير إلى وجود تواطؤ أو تغلغل لعناصر مرتبطة بفصائل مسلحة في إدارة المنفذ مما يُسهِّل تمرير شحنات مهربة. 

إلى جانب المنافذ الرسمية، تنشط عمليات التهريب عبر ممرات برية ومائية غير رسمية في محافظة البصرة؛ فهناك عدة نقاط تهريب عبر شط العرب وقضاءي أبو الخصيب والقرنة وحتى الممرات البحرية قرب الفاو، تستخدمها شبكات التهريب بعيداً عن أعين الرقابة. 

في المناطق الوسطى والشمالية، يستغل المهربون الطبيعة الجغرافية وشبكة الطرق الزراعية للالتفاف على نقاط التفتيش.  

اقرأ أيضاً

رحلة في كل بادية المثنى: كيف يصبحُ الثراء فقراً؟!

سُجلت حالات تهريب حنطة مستوردة عبر مدن إقليم كردستان ثم تسريبها إلى محافظات مثل ديالى باستخدام هذه الطرق الزراعية. 

عام 2021 أصدرت الحكومة أوامر مشددة لضبط مداخل المحافظة مع الإقليم، بعد ضبط شاحنات محمَّلة بعشرات الأطنان من الحنطة المستوردة، كانت تحاول الدخول عبر طرق ترابية فرعية.  

وفي أيار من ذلك العام، كشفت مصادر أمنية أن جهاز الاستخبارات أحبط تهريب عشرات الأطنان من الحنطة المستوردة، والتي كانت في طريقها إلى محافظة ديالى عبر طرق زراعية سرّية. 

الحصاد في المزارع التي تروى على الانهار
الحصاد في المزارع التي تروى على الانهار، تصوير: الكاتب.

في المثنى على سبيل المثال، لا تنفي السلطات وجود حنطة مهرّبة تُباع على أنها حنطة محلية، تأكدت السلطات من وجود عمليات تهريب للحنطة من خارج المحافظة ودخولها وبيعها بطريقة رسمية على سايلو السماوة بأسعار مرتفعة من قبل بعض التجار، حيث يتم شراؤها بسعر 400 ألف دينار في المواسم الاعتيادية، وبيعها في موسم التسويق بسعر 850 ألف دينار. 

هذا الأمر أكدته الحكومة المحلية في المحافظة، مما دفع اللجنة الزراعية العليا في المدينة إلى عقد اجتماع طارئ لوضع خطة للحد منها. 

يعترف مؤيد الياسري، نائب محافظ المثنى، ورئيس اللجنة الزراعية، خلال حوار مع جمار، بوجود عمليات لتهريب الحنطة بين المحافظات خلال الموسم الماضي، “رصدنا بعض عمليات التهريب خلال الموسم الماضي عن طريق الأجهزة الأمنية ولذلك عقدنا اجتماعات واتخذنا عدة قرارات لمنع تهريب هذا المحصول لحماية منتجنا وحماية أمننا الغذائي”. 

ويضيف الياسري، “اطلعنا على اسماء الفلاحين المشمولين بالخطة الزراعية وعلى المساحات والأماكن المشمولة وأعدادها لضمان منع تداول وتهريب الحنطة الذي يحصل سواء الداخل أو الخارج من المحافظة”. 

محمد عسّاف (25 عاماً)، مزارع في بادية السماوة يتهم تجاراً كباراً باتباع هذه الحيلة ومضايقتهم دون عدالة، “بالفترة الأخيرة طلعت عدنا ظاهرة جديدة هي اكو مزارعين وتجار كبار يشترون طن الحنطة بسعر 500 ألف دينار من محافظات ثانية، ويخزنوه لموسم التسويق ويسوقون حالهم حالنا ويستلمون 850 ألف”. 

يتخوف عسّاف من قضية تهريب الحنطة ودخولها إلى المحافظة من محافظات أخرى خلال الأشهر الماضية، والتي تم تخزينها في أماكن خاصة بانتظار موسم التسويق بعيدة عن أعين الأجهزة الأمنية كون المهربون احترفوا هذه المهنة، والتي ينتظرونها عاماً كاملاً، لكنه قلق من انعكاسات هذه العملية على محاصيله التي زرعها هذا الموسم. 

“تخزين الحنطة هذا له آثار سلبية كثيرة أبرزها التسويق المباشر من أصحاب النفوذ قبل المزارعين البسطاء، لأن أغلبنا قام بالزراعة بوقت متأخر بسبب شح المياه والشي الآخر هو امتلاء المخازن مبكراً ولا مجال لنا للتسويق لأننا نحصد في وقت متأخر”. 

الحصاد في بادية السماوة
الحصاد في بادية السماوة، تصوير: الكاتب.

ينتقد محمد عساف إجراءات وزارتي التجارة والزراعة أثناء مواسم التسويق، وعدم وضعهما خطط لكيفية استلام المحاصيل والمنتوج الزراعي من المزارعين، رغم تسجيلهم في الخطة الزراعية السنوية. 

في نينوى، شكا مزارعون من قيام جهات مرتبطة بفصائل مسلّحة بالاستيلاء على محاصيلهم، وشرائها بأسعار زهيدة، ثم قامت تلك الجهات بتهريبها برّاً إلى إيران، أو بيعها مجدداً عبر المتنفذين إلى الدولة. 

يستغلّ المهربون شح الحنطة عالمياً، بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، وحركة التهريب تتبع منطق الربح؛ فيتم تهريب الحنطة بالاتجاه الذي يكون السعر فيه أعلى، من خلال إدخال حنطة إيرانية إلى العراق عندما يكون سعر الشراء الحكومي مرتفعاً، أو تهريبها إلى الخارج عندما يرتفع السعر العالمي، وبالتالي يكون سعر الحنطة في الدول المجاورة للعراق أعلى. 

وفي ردّه على جُمّار، حول ضبط عمليات التهريب هذا العام، قال رائد رحيم عيسى، مدير زراعة المثنى، إنَّ اللجنة الزراعية قررت عمليات الحجز الإلكتروني المسبق من قبل المزارع، قبل التسويق، إذ يقوم بعملية الحجز وتسجيل كمية الأراضي المزروعة والمحاصيل المسوقة منها، ومقارنتها مع بياناتها وبيانات الأجهزة الأمنية لتدقيقها والتأكد منها. 

خارطة التهريب  

في الموصل يتحدث مزارعون عن عمليات سلسلة للتسويق في الأسبوع الأول من التسويق، لكن سرعان ما يتغير الحال ويصبح الازدحام كبيراً، وتصطف طوابير الشاحنات طويلاً، يقول عباس صابر، وهو مزارع من الموصل، “أول أربعة أيام تكون عملية التسويق سلسلة وجيدة بعد هذه المدة تأتي أكثر من 60 سيارة محملة بـ 50 طناً حنطة تربك الوضع ولا تتركنا نسوق محاصيلنا”. 

يؤكد عباس أن هذه الشاحنات تأتي من سوق اليابسات في أربيل، من تاجر يسمّى “عامر”، يمتلك شهرة واسعة بتجارة الحنطة، وبعد وصول شاحناته إلى سايلوات الموصل يقوم ببيعها على الدولة بالسعر الرسمي، وأخذ مستحقات المزارع الحقيقي الذي يمتلك طن أو عشرة أو أكثر من الحنطة فقط. 

بدء موسم تسويق الحنطة، وقوات الأمن تنظم دخول وخروج الشحنات في سايلو السماوة
بدء موسم تسويق الحنطة، وقوات الأمن تنظم دخول وخروج الشحنات في سايلو السماوة، تصوير: الكاتب. 

عبد الحميد فتحي، أمين سر اتحاد الجمعيات الفلاحية في الموصل، يطالب وزارة الزراعة وجهاز الأمن الوطني بالتصدي لتهريب الحنطة، “بعد سؤالنا للسائقين من أين أتيتم يقولون جئنا من علوة أربيل، محملة كل سيارة بأربعين طن من الحنطة مقابل ثمن بسيط وهذه لا تحسب على الناتج الوطني”.  

ويؤكد فتحي، أن هذه الحنطة تشترى من أربيل وتأتي من إيران، بسعر يصل أحياناً إلى 100 دولار للطن (150 ألف دينار عراقي)، وهذا الرخص بسبب رداءتها وانخفاض أسعارها هناك. 

أما في إقليم كردستان فهنالك ثلاثة منافذ حدودية رئيسية لا تهرب منها الحنطة لكن عمليات التهريب تكون على مقربة منها بحدود خمسة كيلو متر، بحسب مصدر أمني مطّلع في حكومة الإقليم، تحدّث لجُمّار، “عمليات التهريب تحصل في منافذ ترابية ميسمية قريبة على المنافذ الرئيسية، (قجق) حيث تدخل شاحنات كبيرة من إيران وتقوم بجلب حنطة رديئة جداً وبيعها بأسعار مرتفعة هنا، بعلم حكومة إقليم كردستان، والتي تستخدمها لاحقاً كورقة ضغط على الحكومة المركزية”. 

يتم تخزين هذه الكميات المهربة في مخازن وجملونات كبيرة بانتظار موسم التسويق، ويتم العمل على ذلك بواسطة ترتيب بين تجار إيرانيين وفلاحيين عراقيين، يستفيد التاجر الإيراني من دخول العملة الصعبة إلى بلاده التي تعاني الحصار، ويربح المزارع أو المهرّب العراقي بدون جهد الزراعة الموسمي. 

بالإضافة إلى المهربين، والجماعات المتنفذة والمسلّحة، هناك الموظفون والمسؤولون الفاسدون، ففي قضية تهريب الحنطة الأسترالية من سايلو خان ضاري كشفت التحقيقات أن عدداً من مسؤولي الشركة العامة لتجارة الحبوب، التابعة لوزارة التجارة، تواطؤوا مع المهربين لتسهيل سرقة وإخراج كميات من الحنطة المستوردة دون تسجيلها رسمياً. 

هؤلاء المسؤولون قاموا بتسهيل خلط الحنطة وفتح المخازن لتهريبها خارج السايلو مقابل رشاوى، وفي تحقيق للعالم الجديد عام 2022، كشفت شهادات لسائقي شاحنات في السايلوهات الحكومية عن تعرضهم لابتزاز ورشى من قبل بعض موظفي مخازن الحنطة، يأخذون حوالي 45 دولاراً لكل حمولة. 

في الماضي، كانت هناك جهات أخرى مارست سرقة الحنطة وتهريبها أثناء الحروب والصراعات، أبرزها تنظيم داعش، الذي استولى على مخزونات هائلة إبّان سيطرته على شمال وغرب العراق (2014-2017). ففي عام 2014 نهب داعش أكثر من مليون طن من القمح والشعير من محافظة نينوى وهرّبها إلى سوريا. 

لكن ومنذ هزيمة التنظيم في العراق وسوريا، تراجع دوره في هذا الملف، ليصعد بدلاً منه دور عصابات التهريب المنظمة والفصائل المسلحة، وبعض أصحاب النفوذ السياسي المسلح والمسؤولين المرتشين الذين شكّلوا فيما بينهم سلسلة مترابطة لتسهيل هذه التجارة غير المشروعة. 

اقرأ أيضاً

“الطماطة” في سلّة الصراع السياسي في العراق 

أواخر نيسان 2025  كشف رياض الموسوي، مدير دائرة الرقابة التجارية، عن ضبط شاحنة تحمل 45 طناً من الحنطة المحلية في صلاح الدين، معدّة للتهريب خارج حدود المحافظة وبيعها في السوق السوداء. 

كذلك أعلن جهاز الأمن الوطني في أكثر من مناسبة عن مداهمات وضبط كميات من الحنطة كانت معدّة للتهريب، ففي أيار 2024 ضبط أكثر من 2500 طن من الحنطة المهرّبة والتالفة في 8 محافظات، وفي تموز 2022، كشف السلطات عن إحباط تهريب 2000 طن، واعتقال 13 شخصاً متورطين بالتهريب. 

الفجوة السعرية وسياسات الدعم، خلقت الفارق الكبير بين سعر شراء الحكومة للحنطة والسعر العالمي، وهذا حفّز عمليات التهريب من أجل تحقيق الربح. 

فعلى الرغم من أن هدف الدعم الحكومي هو دعم الفلاح وتحقيق الاكتفاء الذاتي، إلا أنه في ظل اقتصاد ريعي وسوق مفتوح نسبياً، وحدود واسعة وغير مسيطر عليها، شكّل فرصة ذهبية للربح السريع عبر التهريب.  

وهذا جعل السياسة الاقتصادية نفسها (الدعم) عامل جذب لأنشطة غير قانونية، تستنزف موارد الدعم، وهنا تظهر معضلة بين التوازن في دعم الفلاح ومنع المهرّب من الاستفادة، واستمرار هذه المعضلة يعود إلى سوء التخطيط فيما يتعلّق بحدود الإنتاج والاكتفاء الذاتي من الحنطة.