"إنزع كرامتك يم الباب": شهادة من داخل الكلية العسكرية العراقية 

أحمد محمد

23 أيار 2025

في الكلية العسكرية العراقية، لا يبدأ اليوم الأول بالتعارف، بل بالإهانة، ويصبح العطش أداة تأديب، والشتيمة جزءاً من المنهج، والضرب روتيناً يومياً.. هذه شهادة ضابط شاب عن تدريب لا يعلّم الانضباط بقدر ما يختبر قدرة الإنسان على الانكسار..

بدأ اليوم الأول في الكلية العسكرية بالإهانة. أخبرونا بأن علينا نزع كرامتنا عند الباب. 

كانت الساعة الخامسة والنصف صباحاً، وقفنا صفاً واحداً وكأننا أسرى، طلب منا الاصطفاف ورفع رؤوسنا إلى الأعلى وعدم النظر إلى أي جهة من الجهات حتى الساعة السابعة والنصف، ومن يخالف يوبخ بكلمات قاسية، وتوجه له إهانات لا يمكن للمرء تحملها، أتذكر عبارات من ذاك اليوم “انت الزمال والزمال الي بصفك”، “انهض لك حيوان لا اطيح حظك”، “احط البسطال بحلكك” و” ما اريد اشوف وجوهكم القبيحة طيح الله حظكم”. وحينما تظهر ملامح التعب على وجوه أحدنا، “لا تصير مثل النسوان” و”البس شيلة احسن لك جبان”. 

اليوم الأول يُسمى بـ”يوم الاستقبال”، ولم يكن على أي حال يوماً عادياً، إذ يُصطلح عليه بين طلبة الكلية العسكرية بـ”يوم گلابي دقلات”، حيث يطلب منا التمرغ في التراب والزحف. 

شعرت بأني في عالم آخر لا أعرفه. عالم يتكوّن من الحر والجوع والعطش والغربة والاغتراب. لا يعرف أحدٌ أحداً، الطلاب من كل محافظات العراق، وتجمعنا غرف مكتظة مهددة بفوضى دخول الضباط، وكل من فيها يشعر بالتعب، والتفكير بالانسحاب. 

اقرأ أيضاً

“الموت الأول”: كيف يواجه الأطباء موت مرضاهم؟ 

الأيام الثلاثة الأولى تسمّى  بـ”الضيفية”، لكننا لم نكن نُضيّف، بل نشهد قسوة غير معهودة، نتدرب تحت شمس لاهبة. 

في اليوم الثالث من “الضيفية” توفي أحد الطلبة من شدّة الحرارة وقسوة التدريب، واختفى، ولم يتحدث عنه أحد، ونحن أيضاً لم نتحدث عنه. اليومان الأولان كانا كفيلين بتدريبنا على القسوة والموت. لم نفكر حتى بالإشاعة التي تسربت بين صفوف الطلاب عن محاولة أحدهم الانتحار نتيجة الضغط والإهانة، جميعنا كان يُفكر بـ”النجمة” التي ستوضع على كتفنا، علينا أن ننجو ولا شيء آخر. 

مُنحنا بعد الضيفية إجازة، ومن ثم التحقنا لمدّة شهر كامل بالكلية العسكرية، وهو يعتبر أول التحاق فعلي، أول طريق لنكون ضباطاً ونتدرج في السلك العسكري. وهنا بالذات، تزداد القسوة والإهانة والانقطاع الحقيقي عن العالم. 

كنا نقاتل، كل يوم، للبقاء على قيد الحياة، وكان جزءاً من صراع البقاء هذا هو الحصول على المياه. من يملك “بطل مي” يملك الدنيا، ويصبح ملكاً.  

العطش أثناء التدريب، يتحوّل إلى لحظة شوق للوصول إلى المياه في الاستراحة التي تحلّ في الساعة العاشرة صباحاً، حيث نحصل على مياه، لكن لشدّة العطش، ولشدّة ما نعبئ جوفنا منها لا يعود باستطاعتنا الأكل. نشرب مياهاً، ولا نأكل، ونعود إلى التدريب مرّة أخرى حتّى الساعة الثالثة ظهراً عندما تحلّ ساعة الغداء، ونُمنح وقتاً للراحة، لنعود بعدها مجدداً إلى التدريب في ساحة العرضات. 

المنهج التدريبي 

كطلبة في الكلية العسكرية، علينا الاستيقاظ في الساعة الرابعة فجراً، لم يكن لدينا منبه، وإنما ضابط يعد من الواحد إلى العشرة، وخلال هذه العدات علينا ارتداء ملابسنا العسكرية، وقبلها، على ذقننا أن تكون محلوقة تماماً. 

من الواحد إلى العشرة، فقط، علينا أن نكون ارتدينا كل شيء، وتجمعنا خارج الحظيرة، لفسح المجال للضباط لتفتيشها. كانت تلك اللحظات تظهرنا وكأننا في حالة حرب فعلية. 

وكان من يتأخر عن الخروج من الحظيرة يُعاقب، والعقوبة هي الخروج الساعة العاشرة ليلاً للقيام بالتدريبات، أي أن العقوبة هي إلغاء وقت الراحة للطالب العسكري، وأداء تدريبات عسكرية إضافية تحت وابل من الإهانة والقسوة. 

لكن حتّى النوم لم يكن مطمئناً، ففيما نغط بنوم عميق إثر التعب من التدريب، كان أحياناً يداهمنا الضباط بـ”التواثي” و”الأحزمة”، وكنا نحاول التصرف بسرعة لنتفادى ضرباتهم، وننجو من آثار تتركها على أجسادنا. 

بعد انتهاء الضباط من تفتيش الحظيرة فجراً، يُسمح لنا بالعودة إليها لتعديل القيافة، ومن ثم الانسحاب فوراً إلى ساحة العرضات، حيث يبدأ التدريب البدني، والذي يوجب علينا رفع رؤوسنا والركض لمسافة 2400 متر خلال مدّة 10 دقائق. 

من يتأخر عن قطع هذه المسافة، سيُعاقب، وسيتعيّن عليه إعادة ركض نفس المسافة وبنفس المُدّة خلال يوم الراحة. 

العطش والتفكير بالانسحاب 

التدريبات قاسية والعطش يلازمها. كنا ننهار ونسقط أحياناً من التعب والعطش، ما يجعل بعضنا يفكّر بالانسحاب من كل ما نعيشه. لكننا كنا جميعنا نفكّر بأهلنا، بعيونهم وهي تنظر إلينا عندما نخبرهم أننا انسحبنا. ماذا سيقول الناس؟ كيف سيعيروننا طوال عمرنا؟ 

سيقال لي أني لا قدرة لي على تحمّل التدريب العسكري، وستلازمني كلمة “جبان”. 

كنا، وكنت أنا على وجه التحديد، أفكر بكل تلك العيون والكلمات، وكانت تلمع وسطها النجمة التي سأضعها على كتفي، فأواصل الضغط على جسدي، وأقنع نفسي بقدرتي على التحمل وإكمال التدريب. 

كنت أنكر كل هذا التعب والضغط، والنكران هذا يتحوّل إلى جزء من يومياتنا. 

لكن ليس هذا وحده ما كان يدفعني إلى الاستمرار تحت الانهيار الجسدي والعصبي والنفسي، فالخطأ والتراجع كان يعني الوقوف أمام سيل من الإهانة بأقذع الكلمات، والضرب من ضباط التجريب. 

والكلام المهين، كان أقسى من العقوبات والضرب. 

كان شكل الطعام يشبه ما تطبخ يد أمي التي أشتاقها، لكن طعمه أسوأ بألف مرة، “تمن ومرق” بلا بهارات بلا أي لذة، أظن أن طعمه السيء يعود للشائعات التي تتحدث عن وضع مطبخ الكلية الكافور في الطعام والشاي لتقليل رغبتنا الجنسية، لكن، أي رغبة تُذكر وسط هذا الحرمان؟ جسدٌ مرهق، بالكاد يتذكر معنى اللذة. 

العودة إلى الحظيرة 

في العاشرة ليلاً ينتهي التدريب، لكن من لديه عقوبة، فسيظل خارج الحظيرة للانتهاء من عقوبته. 

إطفاء النور يعني أن على الجميع أن يكونوا في فراشهم، ومن لا يكون، فسيعاقب. 

لكن هل انتهى اليوم حقّاً؟  

لا. 

في تلك الساعة كنت أفكر بالبدلة العسكرية التي يجب أن تكون مكوية وجاهزة للارتداء في اليوم التالي. كثيرون كانوا مثلي، ولذا ننام ساعة واحدة من العاشرة إلى الحادية عشرة، ومن ثم أستيقظ من نومي لأكوي بدلتي التي إذا لم تكن بأفضل أحوالها، فإني سأعاقب.. 

أتذكر زميلي الذي حُرم من “النزول” لزيارة والدته المريضة، لأن قلم الحبر انفجر من الحرارة ولوث القميص. 

بعد كي البدلة نعود إلى النوم -أملاً بعدم حدوث غارة من الضباط، لتبدأ في اليوم التالي في الساعة الرابعة والنصف صباحاً دورة يوم جديد، على العد من الواحدة إلى العشرة، تفتيش الحظيرة، وصولاً إلى شعور الإنسان بفقدان نفسه. كل يوم أفقد شيئاً من نفسي التي عرفتها، لأصير شخصاً يبرر كل هذا التعذيب النفسي ويعطيه اسم “التدريب”. 

طالب مستجد 

في المرحلة الأولى من التدريب، لم يكن لدي أي متسع من الوقت حتى “للصلاة”، ومرّت الأيام الأولى الـ45 على هذا المنوال والروتين، كنا خارج العالم، لا تواصل مع أحد، ولا نعرف ما يحدث خارج عالم التدريب القاسي والإهانة والعطش المستمر. تسمّى هذه الأيام بـ”الدورة التأهيلية”.  

بعد التأهيل منحت إجازة لثلاثة أيام، وعدت مجدداً إلى الكلية العسكرية تحت مسّمى “طالب مستجد”، وكنا جميعاً نحمل الصفة ذاتها، وكانت هذه الصفة هي بوابة ضباط الكلية لتوجيه أقذع الإهانات وأشد العقوبات لنا. كان كل من هو أعلى منا يمارس سلطته علينا. 

بعد عودتنا، تحول الاستيقاظ إلى الساعة الخامسة فجراً. يبدأ اليوم بالوقوف في ساحة التدريب ورأسنا مرفوع إلى السماء تحت شمس حارقة وساطعة، ولا يُسمح لنا، مرّة أخرى، بخفض أو تحريك رؤوسنا بأي اتجاه. 

نستمر على هذا الوضع الثابت لساعتين، ومن ثم تحل الساعة السابعة صباحاً، إذ يبدأ التدريب البدني بالركض، وهذه المرّة زيادة المسافة والسرعة. تزداد الصعوبة على التحمّل، وتزداد الحاجة إلى المياه، والإهانات تكثر، والضغط النفسي على أشدّه. 

بعد العاشرة، تبدأ الدروس النظرية. يُسمح لنا هنا بالجلوس على كرسي. جميعنا منهكون من الوقوف والركض والعطش، لكنا علينا الانتباه والتركيز حتّى الساعة الثالثة بعد الظهر. 

من يُغمض عينيه يُعاقب، ويحرم من الإجازة التي صارت تمنح كل يوم خميس. علينا تثبيت أنظارنا والإصغاء حتى الوصول إلى ساعة الغداء. كانت تلك ساعات منهكة، ذلك أننا لم ننم، وأننا أنهكنا من التدريب الصباحي. 

عند الساعة الرابعة، نعود إلى ساحة العرضات، تلك تسمى “ساعة تدريب لا منهجية”، لكنها منهجية مُرّة بالركض والعطش والانضباط غير المفهوم. لا يُسمح لنا بأن نرمش عندما يُطلب منا، وإذا أخطأ أحدنا بحركة، أو ابتسم، فسيواجه بالحجز. 

دورة الصاعقة 

بعد انتهاء التدريبات، تأتي دورة الصاعقة، وهي أشد مرحلة قسوة يعرفها طلاب الكلية العسكرية. تكون هذه الدورة في غالبها ركض إلى مسافات طويلة، والخطأ فيها يعني الضرب بكابلات.  

لا شيء أقسى من الصاعقة. يبدأ اليوم عند الساعة الرابعة فجراً وينتهي عند العاشرة ليلاً. المنهج مفتوح، والإهانة والضرب والعطش مفتوحة كذلك، بلا حدود، ولا نقاش، ولا كلام. 

“نفذ ثم ناقش”، قيل لنا، ولكننا كنا ننفذ فحسب. 

بعد الصاعقة، تأتي فترة “الفرضية” التي نقضيها لمدة عشرة أيام داخل خندق، وهو في الواقع حفرة، في صحراء مفتوحة، تحاذينا العقارب والأفاعي من دون أن يكون لدينا أمصال ضدها، ولا فرق طبيّة تنقذنا إذا ما لدغتنا. وكنا ننهار، وسط كل هذا، من العطش. 

أتذكر في أحد أيام تدريبات “الصاعقة”، بدأ التدريب عند الرابعة صباحا وتدربنا طوال اليوم من دون توقف، ولم نعد إلى القاطع إلا عند منتصف الليل. كنا معاقبين، لذا نمنا لساعة واحدة فقط. وفجأة اقتحموا المكان، ألقوا رمانات صوتية، وأطلقوا النار في الهواء، وبدأوا بضربنا بالكابلات. كان علينا أن نبدّل ملابسنا ونخرج فوراً. دفعوا صديقي وسقط على الأرض، كُسر ضلعه ورغم ذلك لم ينجُ من إتمام التدريب. 

وعلى الرغم من شدة البرد الذي يضرب العظام، أخذونا إلى “المخاضة”، حفرة عملاقة بمياه آسنة، موحلة وقذرة، حتى الكلاب لا تسبح فيها، جعلونا نقفز داخلها، ثم تعرضنا للضرب بالكابلات، والزحف على الأرض الخشنة حتى تجرّحت أجسادنا.  

عدنا إلى القاطع الساعة الثالثة والنصف فجراً، وما إن غيرنا ملابسنا حتى بدأت الساعة الرابعة بمنهج جديد. 

في اليومين الشاقين اللذين لم أنم فيهما سوى ساعة، ركضت 15 كيلومتراً خلال 60 دقيقة، وكنت أرتدي حقيبة ظهر تزن 25 كيلوغراماً. 

تنتهي دورة الصاعقة والتدريب بما يعرف بـ”قفزة الثقة” من على جسر 14 رمضان في بغداد، في صقيع شهر كانون الأول. نهر دجلة لا يضم المياه بين دفتيه، وإنما سكاكين صقيعية. 

بوضعية استعداد، يدانا تلامس أفخاذنا، لنرمي أجسادنا في المياه. 

أخيراً التخرج 

أعود اليوم لأتذكر كل ما مررت به، وأتذكر أن هناك شخصاً سقط في أيامه الأولى من التدريب، وأفكر بشابين سقطا من الإنهاك والعطش؛ هؤلاء كلهم، حلموا بالنجمة مثلي. 

النجمة الآن على كتفي، وأفكر كيف تحملت؟ كيف نجوت؟ وهل يجب أن يتحمل الإنسان كل هذا ليصبح ضابطاً؟ أفكر كيف أنني تغيّرت تماماً، ولم أعد الشاب الذي دخل إلى الكلية العسكرية فجراً ووافق على ترك كرامته عند بابها. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

بدأ اليوم الأول في الكلية العسكرية بالإهانة. أخبرونا بأن علينا نزع كرامتنا عند الباب. 

كانت الساعة الخامسة والنصف صباحاً، وقفنا صفاً واحداً وكأننا أسرى، طلب منا الاصطفاف ورفع رؤوسنا إلى الأعلى وعدم النظر إلى أي جهة من الجهات حتى الساعة السابعة والنصف، ومن يخالف يوبخ بكلمات قاسية، وتوجه له إهانات لا يمكن للمرء تحملها، أتذكر عبارات من ذاك اليوم “انت الزمال والزمال الي بصفك”، “انهض لك حيوان لا اطيح حظك”، “احط البسطال بحلكك” و” ما اريد اشوف وجوهكم القبيحة طيح الله حظكم”. وحينما تظهر ملامح التعب على وجوه أحدنا، “لا تصير مثل النسوان” و”البس شيلة احسن لك جبان”. 

اليوم الأول يُسمى بـ”يوم الاستقبال”، ولم يكن على أي حال يوماً عادياً، إذ يُصطلح عليه بين طلبة الكلية العسكرية بـ”يوم گلابي دقلات”، حيث يطلب منا التمرغ في التراب والزحف. 

شعرت بأني في عالم آخر لا أعرفه. عالم يتكوّن من الحر والجوع والعطش والغربة والاغتراب. لا يعرف أحدٌ أحداً، الطلاب من كل محافظات العراق، وتجمعنا غرف مكتظة مهددة بفوضى دخول الضباط، وكل من فيها يشعر بالتعب، والتفكير بالانسحاب. 

اقرأ أيضاً

“الموت الأول”: كيف يواجه الأطباء موت مرضاهم؟ 

الأيام الثلاثة الأولى تسمّى  بـ”الضيفية”، لكننا لم نكن نُضيّف، بل نشهد قسوة غير معهودة، نتدرب تحت شمس لاهبة. 

في اليوم الثالث من “الضيفية” توفي أحد الطلبة من شدّة الحرارة وقسوة التدريب، واختفى، ولم يتحدث عنه أحد، ونحن أيضاً لم نتحدث عنه. اليومان الأولان كانا كفيلين بتدريبنا على القسوة والموت. لم نفكر حتى بالإشاعة التي تسربت بين صفوف الطلاب عن محاولة أحدهم الانتحار نتيجة الضغط والإهانة، جميعنا كان يُفكر بـ”النجمة” التي ستوضع على كتفنا، علينا أن ننجو ولا شيء آخر. 

مُنحنا بعد الضيفية إجازة، ومن ثم التحقنا لمدّة شهر كامل بالكلية العسكرية، وهو يعتبر أول التحاق فعلي، أول طريق لنكون ضباطاً ونتدرج في السلك العسكري. وهنا بالذات، تزداد القسوة والإهانة والانقطاع الحقيقي عن العالم. 

كنا نقاتل، كل يوم، للبقاء على قيد الحياة، وكان جزءاً من صراع البقاء هذا هو الحصول على المياه. من يملك “بطل مي” يملك الدنيا، ويصبح ملكاً.  

العطش أثناء التدريب، يتحوّل إلى لحظة شوق للوصول إلى المياه في الاستراحة التي تحلّ في الساعة العاشرة صباحاً، حيث نحصل على مياه، لكن لشدّة العطش، ولشدّة ما نعبئ جوفنا منها لا يعود باستطاعتنا الأكل. نشرب مياهاً، ولا نأكل، ونعود إلى التدريب مرّة أخرى حتّى الساعة الثالثة ظهراً عندما تحلّ ساعة الغداء، ونُمنح وقتاً للراحة، لنعود بعدها مجدداً إلى التدريب في ساحة العرضات. 

المنهج التدريبي 

كطلبة في الكلية العسكرية، علينا الاستيقاظ في الساعة الرابعة فجراً، لم يكن لدينا منبه، وإنما ضابط يعد من الواحد إلى العشرة، وخلال هذه العدات علينا ارتداء ملابسنا العسكرية، وقبلها، على ذقننا أن تكون محلوقة تماماً. 

من الواحد إلى العشرة، فقط، علينا أن نكون ارتدينا كل شيء، وتجمعنا خارج الحظيرة، لفسح المجال للضباط لتفتيشها. كانت تلك اللحظات تظهرنا وكأننا في حالة حرب فعلية. 

وكان من يتأخر عن الخروج من الحظيرة يُعاقب، والعقوبة هي الخروج الساعة العاشرة ليلاً للقيام بالتدريبات، أي أن العقوبة هي إلغاء وقت الراحة للطالب العسكري، وأداء تدريبات عسكرية إضافية تحت وابل من الإهانة والقسوة. 

لكن حتّى النوم لم يكن مطمئناً، ففيما نغط بنوم عميق إثر التعب من التدريب، كان أحياناً يداهمنا الضباط بـ”التواثي” و”الأحزمة”، وكنا نحاول التصرف بسرعة لنتفادى ضرباتهم، وننجو من آثار تتركها على أجسادنا. 

بعد انتهاء الضباط من تفتيش الحظيرة فجراً، يُسمح لنا بالعودة إليها لتعديل القيافة، ومن ثم الانسحاب فوراً إلى ساحة العرضات، حيث يبدأ التدريب البدني، والذي يوجب علينا رفع رؤوسنا والركض لمسافة 2400 متر خلال مدّة 10 دقائق. 

من يتأخر عن قطع هذه المسافة، سيُعاقب، وسيتعيّن عليه إعادة ركض نفس المسافة وبنفس المُدّة خلال يوم الراحة. 

العطش والتفكير بالانسحاب 

التدريبات قاسية والعطش يلازمها. كنا ننهار ونسقط أحياناً من التعب والعطش، ما يجعل بعضنا يفكّر بالانسحاب من كل ما نعيشه. لكننا كنا جميعنا نفكّر بأهلنا، بعيونهم وهي تنظر إلينا عندما نخبرهم أننا انسحبنا. ماذا سيقول الناس؟ كيف سيعيروننا طوال عمرنا؟ 

سيقال لي أني لا قدرة لي على تحمّل التدريب العسكري، وستلازمني كلمة “جبان”. 

كنا، وكنت أنا على وجه التحديد، أفكر بكل تلك العيون والكلمات، وكانت تلمع وسطها النجمة التي سأضعها على كتفي، فأواصل الضغط على جسدي، وأقنع نفسي بقدرتي على التحمل وإكمال التدريب. 

كنت أنكر كل هذا التعب والضغط، والنكران هذا يتحوّل إلى جزء من يومياتنا. 

لكن ليس هذا وحده ما كان يدفعني إلى الاستمرار تحت الانهيار الجسدي والعصبي والنفسي، فالخطأ والتراجع كان يعني الوقوف أمام سيل من الإهانة بأقذع الكلمات، والضرب من ضباط التجريب. 

والكلام المهين، كان أقسى من العقوبات والضرب. 

كان شكل الطعام يشبه ما تطبخ يد أمي التي أشتاقها، لكن طعمه أسوأ بألف مرة، “تمن ومرق” بلا بهارات بلا أي لذة، أظن أن طعمه السيء يعود للشائعات التي تتحدث عن وضع مطبخ الكلية الكافور في الطعام والشاي لتقليل رغبتنا الجنسية، لكن، أي رغبة تُذكر وسط هذا الحرمان؟ جسدٌ مرهق، بالكاد يتذكر معنى اللذة. 

العودة إلى الحظيرة 

في العاشرة ليلاً ينتهي التدريب، لكن من لديه عقوبة، فسيظل خارج الحظيرة للانتهاء من عقوبته. 

إطفاء النور يعني أن على الجميع أن يكونوا في فراشهم، ومن لا يكون، فسيعاقب. 

لكن هل انتهى اليوم حقّاً؟  

لا. 

في تلك الساعة كنت أفكر بالبدلة العسكرية التي يجب أن تكون مكوية وجاهزة للارتداء في اليوم التالي. كثيرون كانوا مثلي، ولذا ننام ساعة واحدة من العاشرة إلى الحادية عشرة، ومن ثم أستيقظ من نومي لأكوي بدلتي التي إذا لم تكن بأفضل أحوالها، فإني سأعاقب.. 

أتذكر زميلي الذي حُرم من “النزول” لزيارة والدته المريضة، لأن قلم الحبر انفجر من الحرارة ولوث القميص. 

بعد كي البدلة نعود إلى النوم -أملاً بعدم حدوث غارة من الضباط، لتبدأ في اليوم التالي في الساعة الرابعة والنصف صباحاً دورة يوم جديد، على العد من الواحدة إلى العشرة، تفتيش الحظيرة، وصولاً إلى شعور الإنسان بفقدان نفسه. كل يوم أفقد شيئاً من نفسي التي عرفتها، لأصير شخصاً يبرر كل هذا التعذيب النفسي ويعطيه اسم “التدريب”. 

طالب مستجد 

في المرحلة الأولى من التدريب، لم يكن لدي أي متسع من الوقت حتى “للصلاة”، ومرّت الأيام الأولى الـ45 على هذا المنوال والروتين، كنا خارج العالم، لا تواصل مع أحد، ولا نعرف ما يحدث خارج عالم التدريب القاسي والإهانة والعطش المستمر. تسمّى هذه الأيام بـ”الدورة التأهيلية”.  

بعد التأهيل منحت إجازة لثلاثة أيام، وعدت مجدداً إلى الكلية العسكرية تحت مسّمى “طالب مستجد”، وكنا جميعاً نحمل الصفة ذاتها، وكانت هذه الصفة هي بوابة ضباط الكلية لتوجيه أقذع الإهانات وأشد العقوبات لنا. كان كل من هو أعلى منا يمارس سلطته علينا. 

بعد عودتنا، تحول الاستيقاظ إلى الساعة الخامسة فجراً. يبدأ اليوم بالوقوف في ساحة التدريب ورأسنا مرفوع إلى السماء تحت شمس حارقة وساطعة، ولا يُسمح لنا، مرّة أخرى، بخفض أو تحريك رؤوسنا بأي اتجاه. 

نستمر على هذا الوضع الثابت لساعتين، ومن ثم تحل الساعة السابعة صباحاً، إذ يبدأ التدريب البدني بالركض، وهذه المرّة زيادة المسافة والسرعة. تزداد الصعوبة على التحمّل، وتزداد الحاجة إلى المياه، والإهانات تكثر، والضغط النفسي على أشدّه. 

بعد العاشرة، تبدأ الدروس النظرية. يُسمح لنا هنا بالجلوس على كرسي. جميعنا منهكون من الوقوف والركض والعطش، لكنا علينا الانتباه والتركيز حتّى الساعة الثالثة بعد الظهر. 

من يُغمض عينيه يُعاقب، ويحرم من الإجازة التي صارت تمنح كل يوم خميس. علينا تثبيت أنظارنا والإصغاء حتى الوصول إلى ساعة الغداء. كانت تلك ساعات منهكة، ذلك أننا لم ننم، وأننا أنهكنا من التدريب الصباحي. 

عند الساعة الرابعة، نعود إلى ساحة العرضات، تلك تسمى “ساعة تدريب لا منهجية”، لكنها منهجية مُرّة بالركض والعطش والانضباط غير المفهوم. لا يُسمح لنا بأن نرمش عندما يُطلب منا، وإذا أخطأ أحدنا بحركة، أو ابتسم، فسيواجه بالحجز. 

دورة الصاعقة 

بعد انتهاء التدريبات، تأتي دورة الصاعقة، وهي أشد مرحلة قسوة يعرفها طلاب الكلية العسكرية. تكون هذه الدورة في غالبها ركض إلى مسافات طويلة، والخطأ فيها يعني الضرب بكابلات.  

لا شيء أقسى من الصاعقة. يبدأ اليوم عند الساعة الرابعة فجراً وينتهي عند العاشرة ليلاً. المنهج مفتوح، والإهانة والضرب والعطش مفتوحة كذلك، بلا حدود، ولا نقاش، ولا كلام. 

“نفذ ثم ناقش”، قيل لنا، ولكننا كنا ننفذ فحسب. 

بعد الصاعقة، تأتي فترة “الفرضية” التي نقضيها لمدة عشرة أيام داخل خندق، وهو في الواقع حفرة، في صحراء مفتوحة، تحاذينا العقارب والأفاعي من دون أن يكون لدينا أمصال ضدها، ولا فرق طبيّة تنقذنا إذا ما لدغتنا. وكنا ننهار، وسط كل هذا، من العطش. 

أتذكر في أحد أيام تدريبات “الصاعقة”، بدأ التدريب عند الرابعة صباحا وتدربنا طوال اليوم من دون توقف، ولم نعد إلى القاطع إلا عند منتصف الليل. كنا معاقبين، لذا نمنا لساعة واحدة فقط. وفجأة اقتحموا المكان، ألقوا رمانات صوتية، وأطلقوا النار في الهواء، وبدأوا بضربنا بالكابلات. كان علينا أن نبدّل ملابسنا ونخرج فوراً. دفعوا صديقي وسقط على الأرض، كُسر ضلعه ورغم ذلك لم ينجُ من إتمام التدريب. 

وعلى الرغم من شدة البرد الذي يضرب العظام، أخذونا إلى “المخاضة”، حفرة عملاقة بمياه آسنة، موحلة وقذرة، حتى الكلاب لا تسبح فيها، جعلونا نقفز داخلها، ثم تعرضنا للضرب بالكابلات، والزحف على الأرض الخشنة حتى تجرّحت أجسادنا.  

عدنا إلى القاطع الساعة الثالثة والنصف فجراً، وما إن غيرنا ملابسنا حتى بدأت الساعة الرابعة بمنهج جديد. 

في اليومين الشاقين اللذين لم أنم فيهما سوى ساعة، ركضت 15 كيلومتراً خلال 60 دقيقة، وكنت أرتدي حقيبة ظهر تزن 25 كيلوغراماً. 

تنتهي دورة الصاعقة والتدريب بما يعرف بـ”قفزة الثقة” من على جسر 14 رمضان في بغداد، في صقيع شهر كانون الأول. نهر دجلة لا يضم المياه بين دفتيه، وإنما سكاكين صقيعية. 

بوضعية استعداد، يدانا تلامس أفخاذنا، لنرمي أجسادنا في المياه. 

أخيراً التخرج 

أعود اليوم لأتذكر كل ما مررت به، وأتذكر أن هناك شخصاً سقط في أيامه الأولى من التدريب، وأفكر بشابين سقطا من الإنهاك والعطش؛ هؤلاء كلهم، حلموا بالنجمة مثلي. 

النجمة الآن على كتفي، وأفكر كيف تحملت؟ كيف نجوت؟ وهل يجب أن يتحمل الإنسان كل هذا ليصبح ضابطاً؟ أفكر كيف أنني تغيّرت تماماً، ولم أعد الشاب الذي دخل إلى الكلية العسكرية فجراً ووافق على ترك كرامته عند بابها.