"الموت الأول": كيف يواجه الأطباء موت مرضاهم؟ 

جمان أركان

22 أيار 2025

نص حميمي، تروي كاتبة وطبيبة عراقية من خلاله كيف كان موت والدها أول درس حقيقي لها في الطب، ثم تصحبنا بين حكايات أربعة أطباء من أجيال وتخصصات مختلفة، واجه كل منهم "الموت الأول" لمرضاه بطريقته الخاصة..

كانت الساعة تقترب من الثالثة بعد الظهر، حين انطفأ صدر والدي بين يديّ. لم تكن لحظة درامية كما تصوّرها المسلسلات؛ لم يصرخ، لم يتشنج، لم يكن هنالك صوت. كان الأمر أشبه بانسحابٍ صامت من الحياة، وكأن شيئاً داخله اختار أن يتوقف بهدوء. 

في تلك اللحظة، كنت طالبة في السنة الرابعة من كلية الطب. ومن بين كل ما تعلمته حتى ذلك اليوم -من علامات السكتة إلى دلالات السُبات الدماغي- لم يكن هناك شيء يهيئني لرؤية أبي يموت. لا المنهاج، ولا المحاضرات، ولا التدريب السريري، ولا حتى القصص التي يتداولها الطلبة على سبيل التمرين النفسي:  
“ماذا تفعل إن مات أحد أمامك؟” 

لكنه لم يكن “أحداً”، كان أبي. وحين لفظ أنفاسه الأخيرة في بيتنا، لم أفقد والدي فقط، بل فقدت أيضاً التصور البسيط والمثالي عن الطب بوصفه مهنة لإنقاذ الحياة. 

منذ ذلك اليوم، لم أعد أرى الطب كمهنة تعالج المرضى وتعيدهم إلى الحياة، بل كمهنة تتقاطع مع الموت، تعايشه وتعاينه، وأحياناً ترافقه حتى الباب. كنت أراقب جسده المسجى في الغرفة، وأفكر لا كابنة، بل كطبيبة أيضاً: هل فعلت ما بوسعي؟ هل كنت سأُنقذه لو كنت أذكى، أو أسرع، أو أكثر تدريباً؟ 

هذه الأسئلة لم تفارقني. كبرت معي، تحوّلت من شكٍ شخصي إلى سؤال داخلي لفهم العلاقة بين الطبيب والموت. 

خلال عامٍ واحد، وبين ممرات مدينة الطب حيث أتدرب، بدأت أعتاد على صوت النعي. على أسرّة فارغة فجأة. على وداعٍ لا يُقال بالكلمات، بل بنزع سوار، أو توقيع ورقة خروج بلا عودة… لكن، هل الاعتياد يعني التصالح؟ أم أنه فقط شكل آخر من التباعد؟ 

اقرأ أيضاً

طب العرب: “هذا دواك وعلى الله شفاك”  

في هذا النص، لا أحاول أن أروي كيف مرّ بي الموت فقط، بل كيف مرّ بزملائي الأطباء أيضاً. جمعت تجارب أربعة منهم، من اختصاصات وأجيال مختلفة. لكلٍ منهم قصته، لكلٍ منهم جثته الأولى، سؤاله الأول، وأحياناً عقدته الأولى. 

سنبدأ من الحرب، من طبيب جراحة عصبية رأى الموت في المستشفى وفي الطريق إليه، ثم ننتقل إلى طبيبة اختارت أن تبتعد عنه فغاص فيها بعمق أكبر، ثم إلى طبيب نفسي اكتشف أن ما بعد الوفاة أحياناً أقسى من لحظتها. وأخيراً، طبيبٌ كان لا يخاف من الجثث حتى التقاها وهي تنظر إليه بعيني طفلة. 

كل حكاية من هذه الحكايات لا تجيب عن السؤال الكبير: هل يمكن للطبيب أن يعتاد على الموت؟ بل توسّعه، وتضيف إليه ظلالاً جديدة. 

الموت داخل الجدران وخارجها 

في عام 2004، حين كان العراق يغلي بنيران الحرب الطائفية، بدأ علي طارق تدريبه كطبيب مقيم أقدم في جراحة الجملة العصبية. كان في بداية الثلاثين من عمره، يحمل حقيبة أدواته كل صباح ويمرّ وسط جثث مرمية على الأرصفة أو سيارات إسعاف تستنجد بأضواء عاجلة. لم يكن عليه أن ينتظر وصوله إلى المستشفى كي يرى الموت، إذ كان يرافقه من الباب إلى الباب. 

يقول “لم يكن الهروب خياراً، ولا الإنكار نوعاً من الشجاعة. كنت أعمل، وأتجاوب، وأجري العمليات، وأحتفظ بانفعالاتي حتى آخر ساعة من اليوم إلى أن أغلق الباب وأواجه كل ما أخّرته طيلة النهار”. 

عام 2007، قُصف الطابق الثامن من مستشفى الشهيد عدنان -الذي أصبح لاحقاً مستشفى غازي الحريري- بصاروخ. كان د. علي في طابق آخر، فنجا جسدياً، لكن ذاكرته لم تنجُ. ظلّ المشهد عالقاً بداخله: المرضى، الصراخ، الروائح، الأجساد المشطورة. 

في موقف آخر، كان يشاهد التلفاز مع زميله، حين أذيع خبر وفاة شخص، فالتفت الزميل فجأة وقال: “هذا أبوي”. لم يكن هناك وقت للبكاء أو الذهول، فقط صمت ثقيل، واستئناف للحياة كأن شيئاً لم يحدث. 

شيئاً فشيئاً، بدأ د. علي في بناء مثلث أخلاقي يحميه من التبلّد؛ ركنه الأول: الصدق مع المريض، ومع الأهل، ومع النفس. يقول لمرضاه وعائلاتهم كل شيء، حتى أسوأ الاحتمالات. 

الركن الثاني في مثله: الحد الأقصى من الجهد، فإن فعل كل ما بوسعه، ينام مطمئناً، أما الركن الثالث فهو: طلب الرأي الآخر، إذ لا يتردد في إحالة المريض إلى طبيب آخر، ولا يشعر أن ذلك ينتقص من قدراته. بل على العكس، يمنح المريض فرصة ثانية. 

“الصدق ليس رفاهية، بل ضرورة. أقول للمريض: ربما أنجح بنسبة 20 بالمئة فقط. أقولها وأنا أنظر في عينيه، لا كي أخيفه، بل كيلا أخدعه”. 

لكن أكثر ما يؤلمه اليوم، بعد كل هذه السنوات، أن هذا الصدق، ببساطة، غير مألوف في كثير من عيادات العراق. هناك من يعد المرضى بشفاء غير مضمون، من يختصر احتمالات النجاة في كلمات مطمئنة لا تستند إلى الطب، بل إلى الرغبة في التخفيف. 

“المجاملة تسبق أحياناً المصلحة الطبية، مما يضر المريض ومعاناته”. 

في نهاية كل يوم، حين يطفئ النور في غرفة العمليات، لا يفكر د. علي طارق بعدد المرضى الذين أنقذهم. بل يسأل نفسه بصوتٍ داخلي: هل كنت صادقاً؟ هل فعلت كل ما بوسعي؟ هل شاركتهم القرارات الطبية التي اتخذتها؟ 

حين تكون الإجابة نعم، يستطيع أن يغلق عينيه، وينام. 

لا أتجاوز الموت، بل أراقبه عن بعد 

خلال سنواتها الأولى في كلية الطب، لم تكن د. ع.ع تفكر كثيراً بالموت. 

 كانت تراه من بعيد، وتتعامل معه كمعلومة. حالة تمرّ. خانة تُملأ في السجل. كانت تعرف أنه سيأتي، يوماً ما، لكن العقل يترك للزمن مهمة التعامل معه. 

حين بدأت سنتها الأولى في الإقامة في مستشفى بغداد التعليمي، كان جسدها في الطوارئ، لكن ذهنها لم يكن هناك بعد. لم تكن مسؤولة بعد عن القرارات الثقيلة، لا عن إعلان الوفاة، ولا عن خطة العلاج. كانت تقف دائماً خطوة خلف الطبيب الأقدم. خطوة واحدة، لكنها تحميها من كل شيء. 

اقرأ أيضاً

قابلة للاشتعال: مستشفيات بغداد بلا معدّات سلامة ضد الحرائق  

لم تتحدث عن أول مريض توفي أمامها. لم تكن هناك لحظة واحدة فاصلة. بل تراكمٌ صامت لوجوه لم تنهض، لجثث لا تنظر، لصمتٍ يتسلل من أسرة المرضى إلى داخل الطبيب الشاب. 

لكن، مثل كثيرين، بدأت تبحث عن “الاختصاص الآمن”. ذهبت إلى الفسلجة العصبية: علم دقيق، أجهزة، رسومات كهربائية، لا أحياء ولا أموات، مجرّد إشارات على شاشة. 

“شعرت أن هذا لا يشبهني، ولا يشبه غاية الطب بتخفيف معاناة البشر. لم أتحمّل البُعد، فغيّرت التخصص بعد أسبوع فقط”. 

وعادت. 

عادت إلى الوجوه، إلى الدم، إلى الارتباك، إلى المسؤولية.  

“ربما لا يمنح الطب حصانة من الندم” تقول. “ولكنّه يعلّم صاحبه أن أصل المهنة ليس إنقاذ الجميع، بل بذل كل ما يُمكن لتجنّب فقدان من يمكن إنقاذه”. 

في إحدى النوبات، أُحضر شاب ذو 16 عاماً إلى الطوارئ، كان قلبه قد توقف، لكن عائلته رفضت التصديق… قالوا إنه اعتاد على نوبات مماثلة ونجا منها مراراً، كرروا الإنكار، فكررت الحقيقة، ولم يلتقيا في منتصف الطريق. 

منذ ذلك اليوم، وهي تدرّس حالته لطلابها. ومنذ ذلك اليوم، لا يفارقها وجهه. 
“هل كنت أستطيع أن أفعل شيئاً آخر؟ هل قصّرت؟” 

ربما لا يمنحنا الطب حصانة من الحزن، لكنه يعلّمنا التواضع أمام الحياة. يعلّمنا أننا لا نُنقذ دائماً. وأننا، أحياناً، لا نتجاوز الموت، بل نتعايش معه… بصمت، ومن مسافة محسوبة. 

الطفلة التي لم أستطع إنقاذها 

بدأ حميد يونس مشواره الطبي في مدينة العمارة. شاب في العشرينات، يحمل سماعةً جديدة وكثيراً من الأسئلة. 

 في البداية، كانت الأدوار التي أنيطت به بسيطة: مراقبة،و تدوين ملاحظات، وأحياناً الوقوف خلف الأطباء الأقدم دون أن ينطق بكلمة. رأى كثيرين يموتون، لكنه لم يشعر حينها أن أحداً مات فعلاً داخله. 

“لم تكن الجثث تؤثر بي. لا لأنها لا تستحق الحزن، بل لأنني لم أكن أتحمّل مسؤوليتها بعد. كنت في الظل؛ أراقب، وأتعلم، ثم أنصرف.” 

لكن كل ذلك تغيّر حين انتقل إلى الديوانية. هناك، كان الطبيب الوحيد في المناوبة. الكلمة التي ينطقها تُترجم فوراً إلى إجراء. القلم الذي يوقع به يُعلّق عليه مصير. لم يعد هناك من يقف أمامه بخطوة، صار وحده. 

في إحدى ليالي الطوارئ، أُحضرت طفلة في الخامسة من عمرها. بيضاء البشرة، خصلات شعرها مائلة إلى الصفرة، وعيناها الواسعتان تسبحان في خوف مكتوم. كانت قد لُدغت من أفعى في إحدى مناطق البادية. والدتها جاءت بها راكضة، وملامحها تقول كل شيء حتى قبل أن تنطق. 

كان المصل المتوفر مخصصاً لأفاعٍ من نوع مختلف. قرأ د. حميد كل ما توفر من بروتوكولات، بحث في كل مرجع، سأل، توقّف، فكّر… راقب الطفلة وهي تذبل شيئاً فشيئاً. علامات التسمم بدأت تظهر واحدة تلو الأخرى. 

“أمضيت الليل أحاول أن أسبق الزمن. لكن الزمن كان أسرع.” 

في لحظة ما، بدأت والدتها تنعاها وهي ما تزال على قيد الحياة. لم يكن حلماً، بل مشهداً بانورامياً تتداخل فيه أنفاس الطفلة مع بكاء الأم، وتنهيدة الطبيب مع صرير الأجهزة. 

“بعد تلك الحادثة، لم أعد كما كنت، بدأ قلبي يلين، لا، بل يذوب. بدأت أغضب، كأهالي المرضى، حين يموت أحدهم. بدأت أشعر بالخجل، كلما لاح تقصير. 
تقلصت شجاعتي الجراحية، صرت أتردد، أُبطئ قراراتي”. 

ببطء، بدأ يشعر أنه لا ينتمي إلى غرف الطوارئ. لم يعد يحتمل فكرة أن يكون مسؤولاً عن حياة شخص في كل لحظة. تحوّل إحساسه بالواجب إلى خوف من الفقد، وصار الموت يقترب منه لا كمجرد احتمال، بل كرفيق دائم. 

غيّر اختصاصه. ذهب إلى الطب النفسي. 

“لأنني لم أستطع أن أتجاوز الطفلة… تجاوزتُ الاختصاص”. 

يقول اليوم إنه لا ينسى؛ لا وجوه المرضى ولا أصواتهم، لكنه على الأقل، تعلّم أن الطب لا يطلب من الطبيب أن يكون بطلاً، بل إنساناً مستعداً للخذلان.  

والذاكرة -كما يصفها- تتوسّع حين يصبح المرء مسؤولاً. 

حين يخذل القلب مرتين 

كانت نوبته الليلية هادئة، كما تبدو معظم الليالي في بدايتها. رجل خمسيني أُدخل إلى الطوارئ، بحالة غير مقلقة ظاهرياً. لا تاريخ مرضي معروف، لا مؤشرات حادة. بدا أنه سيبيت الليلة تحت المراقبة، لا أكثر. 

لكن في ساعة ما قبل الفجر، تغيّر كل شيء. 

جهاز القلب أطلق صفيراً قاطعاً. بدأ د. عمار عباس، طبيب نفسي ومقيم أقدم، يقرأ النمط فوراً: ارتجاف بطيني، وهو أحد أكثر أشكال النوبات القلبية فتكاً. لكنه أحياناً قابل للسيطرة. 

ركض، نادى على الممرضين، أعدّ جهاز الإنعاش، بدأ الضغط، التنفس الصناعي، الصدمات الكهربائية. 45 دقيقة من المحاولات المتواصلة… 

والنتيجة واحدة، صمت. جسد لا يستجيب. وجه انطفأت ملامحه دون وداع. 

“كنت أُعيد اللحظة، وأتساءل: هل أخطأت؟”. 

بعد أشهر، جاءت حالة مشابهة. فتاة شابة في وضع حرج، أعاد د. عمار معها الخطوات نفسها، بحذر، بتركيز، وربما برغبة دفينة في التكفير. ونجحت المحاولة. بقيت على قيد الحياة. تعافَت. تابع حالتها شخصياً، يطمئن عليها حتى من نوبات أخرى لا تخصه. 

“شعرت أنني عوّضت نفسياً بها خسارة ذلك الرجل الخمسيني”. 

بمرور الوقت، بدأ يلاحظ نمطاً خفياً، الموت المتوقع، شيخ طاعن، مريض مزمن، حالة منتهية — يمكن احتماله. 

أما الموت المفاجئ — شابة، طفل، ضحية عنف — فهو شيء آخر. موجة تجرف من الداخل. 

“في إحدى نوبات الإشراف الأولى، مات رجل مسن أمامي. كنا، نحن الأطباء الجدد، مذهولين، بينما الطبيب الأقدم بدا وكأنه يطوي ورقة لا أكثر.  

بعدها بمدة، توفيت امرأة طاعنة في السن، أصبح المشهد مألوفاً، لكن ما لم يصبح مألوفاً أبداً هو النظر في عيون أهل المريض.” 

“نحن نتعامل مع قصص، مع حيوات، مع أهالٍ، مع ماضٍ مجهول وحاضر مفاجئ. تتكوّن بيننا وبين المريض علاقة -حتى لو لم تتجاوز الساعات- علاقة شائكة تنبت لحظة موته، وتُلازمنا بعدها”. 

ربما ينجح الطبيب في تحصين نفسه. يلبس قناع التماسك. لكن في مكانٍ ما داخله، هناك ندبة. 

الاعتياد حملاً لا راحة 

بعد كل تلك القصص، عدتُ إلى سؤالي الأول: هل يمكن للطبيب أن يعتاد على الموت؟ 

ربما الإجابة ليست نعم أو لا، بل: يعتاد على مشهده، لا على معناه.  

يعتاد على مراسمه، لا على وزنه. يتعلم أن يقول لذوي المريض “البقاء لله” دون أن يرتجف صوته، لكنّه لا يتعلم كيف ينسى. 

في الممرات الطويلة للمستشفيات، نتدرّب على المسافة، على اللغة المحايدة، على الملامح الباردة، لكن في الداخل، تحت المعاطف البيضاء، نحن نحتفظ بجثث كثيرة بعضها يعود إلى مرضى لم ننجح في إنقاذهم، وبعضها يعود إلى أنفسنا حين خذلناها. 

ربما لم أعد أطرح سؤال “هل كنت أستطيع إنقاذه؟” كما في البداية. ولكنني كلما أغلقت ملف مريض، أسأل نفسي سؤالاً آخر: هل كنت حاضرة؟ هل بقيت إنسانة؟ 

وأحياناً، في مهنة كهذه، هذا هو أقصى ما يمكن فعله: أن تبقى إنساناً. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

كانت الساعة تقترب من الثالثة بعد الظهر، حين انطفأ صدر والدي بين يديّ. لم تكن لحظة درامية كما تصوّرها المسلسلات؛ لم يصرخ، لم يتشنج، لم يكن هنالك صوت. كان الأمر أشبه بانسحابٍ صامت من الحياة، وكأن شيئاً داخله اختار أن يتوقف بهدوء. 

في تلك اللحظة، كنت طالبة في السنة الرابعة من كلية الطب. ومن بين كل ما تعلمته حتى ذلك اليوم -من علامات السكتة إلى دلالات السُبات الدماغي- لم يكن هناك شيء يهيئني لرؤية أبي يموت. لا المنهاج، ولا المحاضرات، ولا التدريب السريري، ولا حتى القصص التي يتداولها الطلبة على سبيل التمرين النفسي:  
“ماذا تفعل إن مات أحد أمامك؟” 

لكنه لم يكن “أحداً”، كان أبي. وحين لفظ أنفاسه الأخيرة في بيتنا، لم أفقد والدي فقط، بل فقدت أيضاً التصور البسيط والمثالي عن الطب بوصفه مهنة لإنقاذ الحياة. 

منذ ذلك اليوم، لم أعد أرى الطب كمهنة تعالج المرضى وتعيدهم إلى الحياة، بل كمهنة تتقاطع مع الموت، تعايشه وتعاينه، وأحياناً ترافقه حتى الباب. كنت أراقب جسده المسجى في الغرفة، وأفكر لا كابنة، بل كطبيبة أيضاً: هل فعلت ما بوسعي؟ هل كنت سأُنقذه لو كنت أذكى، أو أسرع، أو أكثر تدريباً؟ 

هذه الأسئلة لم تفارقني. كبرت معي، تحوّلت من شكٍ شخصي إلى سؤال داخلي لفهم العلاقة بين الطبيب والموت. 

خلال عامٍ واحد، وبين ممرات مدينة الطب حيث أتدرب، بدأت أعتاد على صوت النعي. على أسرّة فارغة فجأة. على وداعٍ لا يُقال بالكلمات، بل بنزع سوار، أو توقيع ورقة خروج بلا عودة… لكن، هل الاعتياد يعني التصالح؟ أم أنه فقط شكل آخر من التباعد؟ 

اقرأ أيضاً

طب العرب: “هذا دواك وعلى الله شفاك”  

في هذا النص، لا أحاول أن أروي كيف مرّ بي الموت فقط، بل كيف مرّ بزملائي الأطباء أيضاً. جمعت تجارب أربعة منهم، من اختصاصات وأجيال مختلفة. لكلٍ منهم قصته، لكلٍ منهم جثته الأولى، سؤاله الأول، وأحياناً عقدته الأولى. 

سنبدأ من الحرب، من طبيب جراحة عصبية رأى الموت في المستشفى وفي الطريق إليه، ثم ننتقل إلى طبيبة اختارت أن تبتعد عنه فغاص فيها بعمق أكبر، ثم إلى طبيب نفسي اكتشف أن ما بعد الوفاة أحياناً أقسى من لحظتها. وأخيراً، طبيبٌ كان لا يخاف من الجثث حتى التقاها وهي تنظر إليه بعيني طفلة. 

كل حكاية من هذه الحكايات لا تجيب عن السؤال الكبير: هل يمكن للطبيب أن يعتاد على الموت؟ بل توسّعه، وتضيف إليه ظلالاً جديدة. 

الموت داخل الجدران وخارجها 

في عام 2004، حين كان العراق يغلي بنيران الحرب الطائفية، بدأ علي طارق تدريبه كطبيب مقيم أقدم في جراحة الجملة العصبية. كان في بداية الثلاثين من عمره، يحمل حقيبة أدواته كل صباح ويمرّ وسط جثث مرمية على الأرصفة أو سيارات إسعاف تستنجد بأضواء عاجلة. لم يكن عليه أن ينتظر وصوله إلى المستشفى كي يرى الموت، إذ كان يرافقه من الباب إلى الباب. 

يقول “لم يكن الهروب خياراً، ولا الإنكار نوعاً من الشجاعة. كنت أعمل، وأتجاوب، وأجري العمليات، وأحتفظ بانفعالاتي حتى آخر ساعة من اليوم إلى أن أغلق الباب وأواجه كل ما أخّرته طيلة النهار”. 

عام 2007، قُصف الطابق الثامن من مستشفى الشهيد عدنان -الذي أصبح لاحقاً مستشفى غازي الحريري- بصاروخ. كان د. علي في طابق آخر، فنجا جسدياً، لكن ذاكرته لم تنجُ. ظلّ المشهد عالقاً بداخله: المرضى، الصراخ، الروائح، الأجساد المشطورة. 

في موقف آخر، كان يشاهد التلفاز مع زميله، حين أذيع خبر وفاة شخص، فالتفت الزميل فجأة وقال: “هذا أبوي”. لم يكن هناك وقت للبكاء أو الذهول، فقط صمت ثقيل، واستئناف للحياة كأن شيئاً لم يحدث. 

شيئاً فشيئاً، بدأ د. علي في بناء مثلث أخلاقي يحميه من التبلّد؛ ركنه الأول: الصدق مع المريض، ومع الأهل، ومع النفس. يقول لمرضاه وعائلاتهم كل شيء، حتى أسوأ الاحتمالات. 

الركن الثاني في مثله: الحد الأقصى من الجهد، فإن فعل كل ما بوسعه، ينام مطمئناً، أما الركن الثالث فهو: طلب الرأي الآخر، إذ لا يتردد في إحالة المريض إلى طبيب آخر، ولا يشعر أن ذلك ينتقص من قدراته. بل على العكس، يمنح المريض فرصة ثانية. 

“الصدق ليس رفاهية، بل ضرورة. أقول للمريض: ربما أنجح بنسبة 20 بالمئة فقط. أقولها وأنا أنظر في عينيه، لا كي أخيفه، بل كيلا أخدعه”. 

لكن أكثر ما يؤلمه اليوم، بعد كل هذه السنوات، أن هذا الصدق، ببساطة، غير مألوف في كثير من عيادات العراق. هناك من يعد المرضى بشفاء غير مضمون، من يختصر احتمالات النجاة في كلمات مطمئنة لا تستند إلى الطب، بل إلى الرغبة في التخفيف. 

“المجاملة تسبق أحياناً المصلحة الطبية، مما يضر المريض ومعاناته”. 

في نهاية كل يوم، حين يطفئ النور في غرفة العمليات، لا يفكر د. علي طارق بعدد المرضى الذين أنقذهم. بل يسأل نفسه بصوتٍ داخلي: هل كنت صادقاً؟ هل فعلت كل ما بوسعي؟ هل شاركتهم القرارات الطبية التي اتخذتها؟ 

حين تكون الإجابة نعم، يستطيع أن يغلق عينيه، وينام. 

لا أتجاوز الموت، بل أراقبه عن بعد 

خلال سنواتها الأولى في كلية الطب، لم تكن د. ع.ع تفكر كثيراً بالموت. 

 كانت تراه من بعيد، وتتعامل معه كمعلومة. حالة تمرّ. خانة تُملأ في السجل. كانت تعرف أنه سيأتي، يوماً ما، لكن العقل يترك للزمن مهمة التعامل معه. 

حين بدأت سنتها الأولى في الإقامة في مستشفى بغداد التعليمي، كان جسدها في الطوارئ، لكن ذهنها لم يكن هناك بعد. لم تكن مسؤولة بعد عن القرارات الثقيلة، لا عن إعلان الوفاة، ولا عن خطة العلاج. كانت تقف دائماً خطوة خلف الطبيب الأقدم. خطوة واحدة، لكنها تحميها من كل شيء. 

اقرأ أيضاً

قابلة للاشتعال: مستشفيات بغداد بلا معدّات سلامة ضد الحرائق  

لم تتحدث عن أول مريض توفي أمامها. لم تكن هناك لحظة واحدة فاصلة. بل تراكمٌ صامت لوجوه لم تنهض، لجثث لا تنظر، لصمتٍ يتسلل من أسرة المرضى إلى داخل الطبيب الشاب. 

لكن، مثل كثيرين، بدأت تبحث عن “الاختصاص الآمن”. ذهبت إلى الفسلجة العصبية: علم دقيق، أجهزة، رسومات كهربائية، لا أحياء ولا أموات، مجرّد إشارات على شاشة. 

“شعرت أن هذا لا يشبهني، ولا يشبه غاية الطب بتخفيف معاناة البشر. لم أتحمّل البُعد، فغيّرت التخصص بعد أسبوع فقط”. 

وعادت. 

عادت إلى الوجوه، إلى الدم، إلى الارتباك، إلى المسؤولية.  

“ربما لا يمنح الطب حصانة من الندم” تقول. “ولكنّه يعلّم صاحبه أن أصل المهنة ليس إنقاذ الجميع، بل بذل كل ما يُمكن لتجنّب فقدان من يمكن إنقاذه”. 

في إحدى النوبات، أُحضر شاب ذو 16 عاماً إلى الطوارئ، كان قلبه قد توقف، لكن عائلته رفضت التصديق… قالوا إنه اعتاد على نوبات مماثلة ونجا منها مراراً، كرروا الإنكار، فكررت الحقيقة، ولم يلتقيا في منتصف الطريق. 

منذ ذلك اليوم، وهي تدرّس حالته لطلابها. ومنذ ذلك اليوم، لا يفارقها وجهه. 
“هل كنت أستطيع أن أفعل شيئاً آخر؟ هل قصّرت؟” 

ربما لا يمنحنا الطب حصانة من الحزن، لكنه يعلّمنا التواضع أمام الحياة. يعلّمنا أننا لا نُنقذ دائماً. وأننا، أحياناً، لا نتجاوز الموت، بل نتعايش معه… بصمت، ومن مسافة محسوبة. 

الطفلة التي لم أستطع إنقاذها 

بدأ حميد يونس مشواره الطبي في مدينة العمارة. شاب في العشرينات، يحمل سماعةً جديدة وكثيراً من الأسئلة. 

 في البداية، كانت الأدوار التي أنيطت به بسيطة: مراقبة،و تدوين ملاحظات، وأحياناً الوقوف خلف الأطباء الأقدم دون أن ينطق بكلمة. رأى كثيرين يموتون، لكنه لم يشعر حينها أن أحداً مات فعلاً داخله. 

“لم تكن الجثث تؤثر بي. لا لأنها لا تستحق الحزن، بل لأنني لم أكن أتحمّل مسؤوليتها بعد. كنت في الظل؛ أراقب، وأتعلم، ثم أنصرف.” 

لكن كل ذلك تغيّر حين انتقل إلى الديوانية. هناك، كان الطبيب الوحيد في المناوبة. الكلمة التي ينطقها تُترجم فوراً إلى إجراء. القلم الذي يوقع به يُعلّق عليه مصير. لم يعد هناك من يقف أمامه بخطوة، صار وحده. 

في إحدى ليالي الطوارئ، أُحضرت طفلة في الخامسة من عمرها. بيضاء البشرة، خصلات شعرها مائلة إلى الصفرة، وعيناها الواسعتان تسبحان في خوف مكتوم. كانت قد لُدغت من أفعى في إحدى مناطق البادية. والدتها جاءت بها راكضة، وملامحها تقول كل شيء حتى قبل أن تنطق. 

كان المصل المتوفر مخصصاً لأفاعٍ من نوع مختلف. قرأ د. حميد كل ما توفر من بروتوكولات، بحث في كل مرجع، سأل، توقّف، فكّر… راقب الطفلة وهي تذبل شيئاً فشيئاً. علامات التسمم بدأت تظهر واحدة تلو الأخرى. 

“أمضيت الليل أحاول أن أسبق الزمن. لكن الزمن كان أسرع.” 

في لحظة ما، بدأت والدتها تنعاها وهي ما تزال على قيد الحياة. لم يكن حلماً، بل مشهداً بانورامياً تتداخل فيه أنفاس الطفلة مع بكاء الأم، وتنهيدة الطبيب مع صرير الأجهزة. 

“بعد تلك الحادثة، لم أعد كما كنت، بدأ قلبي يلين، لا، بل يذوب. بدأت أغضب، كأهالي المرضى، حين يموت أحدهم. بدأت أشعر بالخجل، كلما لاح تقصير. 
تقلصت شجاعتي الجراحية، صرت أتردد، أُبطئ قراراتي”. 

ببطء، بدأ يشعر أنه لا ينتمي إلى غرف الطوارئ. لم يعد يحتمل فكرة أن يكون مسؤولاً عن حياة شخص في كل لحظة. تحوّل إحساسه بالواجب إلى خوف من الفقد، وصار الموت يقترب منه لا كمجرد احتمال، بل كرفيق دائم. 

غيّر اختصاصه. ذهب إلى الطب النفسي. 

“لأنني لم أستطع أن أتجاوز الطفلة… تجاوزتُ الاختصاص”. 

يقول اليوم إنه لا ينسى؛ لا وجوه المرضى ولا أصواتهم، لكنه على الأقل، تعلّم أن الطب لا يطلب من الطبيب أن يكون بطلاً، بل إنساناً مستعداً للخذلان.  

والذاكرة -كما يصفها- تتوسّع حين يصبح المرء مسؤولاً. 

حين يخذل القلب مرتين 

كانت نوبته الليلية هادئة، كما تبدو معظم الليالي في بدايتها. رجل خمسيني أُدخل إلى الطوارئ، بحالة غير مقلقة ظاهرياً. لا تاريخ مرضي معروف، لا مؤشرات حادة. بدا أنه سيبيت الليلة تحت المراقبة، لا أكثر. 

لكن في ساعة ما قبل الفجر، تغيّر كل شيء. 

جهاز القلب أطلق صفيراً قاطعاً. بدأ د. عمار عباس، طبيب نفسي ومقيم أقدم، يقرأ النمط فوراً: ارتجاف بطيني، وهو أحد أكثر أشكال النوبات القلبية فتكاً. لكنه أحياناً قابل للسيطرة. 

ركض، نادى على الممرضين، أعدّ جهاز الإنعاش، بدأ الضغط، التنفس الصناعي، الصدمات الكهربائية. 45 دقيقة من المحاولات المتواصلة… 

والنتيجة واحدة، صمت. جسد لا يستجيب. وجه انطفأت ملامحه دون وداع. 

“كنت أُعيد اللحظة، وأتساءل: هل أخطأت؟”. 

بعد أشهر، جاءت حالة مشابهة. فتاة شابة في وضع حرج، أعاد د. عمار معها الخطوات نفسها، بحذر، بتركيز، وربما برغبة دفينة في التكفير. ونجحت المحاولة. بقيت على قيد الحياة. تعافَت. تابع حالتها شخصياً، يطمئن عليها حتى من نوبات أخرى لا تخصه. 

“شعرت أنني عوّضت نفسياً بها خسارة ذلك الرجل الخمسيني”. 

بمرور الوقت، بدأ يلاحظ نمطاً خفياً، الموت المتوقع، شيخ طاعن، مريض مزمن، حالة منتهية — يمكن احتماله. 

أما الموت المفاجئ — شابة، طفل، ضحية عنف — فهو شيء آخر. موجة تجرف من الداخل. 

“في إحدى نوبات الإشراف الأولى، مات رجل مسن أمامي. كنا، نحن الأطباء الجدد، مذهولين، بينما الطبيب الأقدم بدا وكأنه يطوي ورقة لا أكثر.  

بعدها بمدة، توفيت امرأة طاعنة في السن، أصبح المشهد مألوفاً، لكن ما لم يصبح مألوفاً أبداً هو النظر في عيون أهل المريض.” 

“نحن نتعامل مع قصص، مع حيوات، مع أهالٍ، مع ماضٍ مجهول وحاضر مفاجئ. تتكوّن بيننا وبين المريض علاقة -حتى لو لم تتجاوز الساعات- علاقة شائكة تنبت لحظة موته، وتُلازمنا بعدها”. 

ربما ينجح الطبيب في تحصين نفسه. يلبس قناع التماسك. لكن في مكانٍ ما داخله، هناك ندبة. 

الاعتياد حملاً لا راحة 

بعد كل تلك القصص، عدتُ إلى سؤالي الأول: هل يمكن للطبيب أن يعتاد على الموت؟ 

ربما الإجابة ليست نعم أو لا، بل: يعتاد على مشهده، لا على معناه.  

يعتاد على مراسمه، لا على وزنه. يتعلم أن يقول لذوي المريض “البقاء لله” دون أن يرتجف صوته، لكنّه لا يتعلم كيف ينسى. 

في الممرات الطويلة للمستشفيات، نتدرّب على المسافة، على اللغة المحايدة، على الملامح الباردة، لكن في الداخل، تحت المعاطف البيضاء، نحن نحتفظ بجثث كثيرة بعضها يعود إلى مرضى لم ننجح في إنقاذهم، وبعضها يعود إلى أنفسنا حين خذلناها. 

ربما لم أعد أطرح سؤال “هل كنت أستطيع إنقاذه؟” كما في البداية. ولكنني كلما أغلقت ملف مريض، أسأل نفسي سؤالاً آخر: هل كنت حاضرة؟ هل بقيت إنسانة؟ 

وأحياناً، في مهنة كهذه، هذا هو أقصى ما يمكن فعله: أن تبقى إنساناً.