قمة بغداد العربية... ضِيْقُ المَتْنِ وسِعَةُ الهامِش
20 أيار 2025
رغم التحضيرات المكثّفة والإنفاق الباذخ، لم تحقّق "قمة بغداد 2025" ما كانت الحكومة تأمله من حضور عربي واسع أو مخرجات مؤثرة. خمسة رؤساء فقط حضروا، وغاب كبار اللاعبين، فيما بقي السؤال العراقي معلقاً: لماذا كل هذا العناء لقمة لا تغيّر شيئاً؟ عن القمة العربية وضِيْقُ المَتْنِ وسِعَةُ الهامِش
وأخيراً، انعقدت القمة، التي لم ترتقِ إلى القمة. بالقرب من دجلة بغداد، اجتمع العرب على حياء يوم 17 أيار الحالي على ثلاثية “حوار وتضامن وتنمية” في مشهد غاب عنه المحاورون الرئيسيون وحضر التضامن خجولاً، لم يتعدَّ تأثيره تأثير الجامعة العربية في حياة العرب، فيما لم ينمُ بين بلدان العرب خلال السنوات الماضية سوى العنف والفرقة.
جاءت القمّة العربية الـ 34 ـ رابع قمّة تحتضنها بغداد تاريخياًـ لتُعيد متناً واحداً سبق أن تكرّر كثيراً في القمم العربية السابقة: وهو محوريّة القضية الفلسطينية في الواقع العربيّ المعاصر، بالإضافة إلى إشارات خجولة لضرورة إنهاء الصراع العربيّ ـ العربيّ على قضايا متشابكة وشديدة التعقيد.

صراعٌ كان من جُملة آثارِهِ تراجعٌ لافتٌ لحضور زعماء الدول العربية في الصورة الرسمية لقمّة بغداد، إذ لم يقف في صفّها الأماميّ سوى خمسة رؤساء عرب (المصريّ عبد الفتاح السيسي، القطريّ تميم بن حمد، الفلسطيني محمود عباس، الصومالي حسن شيخ محمود، ورئيس مجلس القيادة اليمنيّ رشاد العليمي) وسْط غيابٍ لافت لزعماء دول مجلس التعاون الخليجي ودول المغرب العربيّ بالإضافة إلى لبنان والأردن وسوريا، رغم تأكيدات عراقية سابقة، كانت تريد أن تبدو واثقة بتعهّدات الرؤساء العرب بالحضور والتمثيل على أعلى المستويات، وأن تبدو أكثر ثقة بضآلة أثر التهديدات والاحتجاجات التي توعّدت بها أطراف عراقية في حال شارك رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا أحمد الشرع، حتّى وإن سبق القمّةَ بأيّام بيان رسميّ لوزارة الداخلية العراقية تشدّد فيه على “عدم تنظيم أيّ تظاهرة مهما كانت الأسباب خدمية أو غيرها”، وهو ما يُعيد إلى الأذهان إجراءات أمنيّة عراقية سبقت القمة العربية التي استضافتها بغداد عام 2012؛ حينَ أقدمت السلطات على اعتقال مئات الشبّان العراقيّين بحجّة أنّها إجراءات احترازيّة وتوقيف مؤقّت، من دون توجيه أيّة تُهَمٍ لهؤلاء المعتقلين الذين ما يزال مصير بعضهم مجهولاً إلى الآن وفق تقارير.
ومع أنّ قمّة بغداد لم تنتهِ عندما غادرها أمير دولة قطر، تميم بن حمد، قبل إلقاء كلمته المُدرجة ضمن أعمال الدورة الـ 34، إلاّ أنّ ذلك أثار كثيراً من التأويلات بشأن المشاركة القطرية التي لم يكن من أمرها إلا لقاءً خاصاً جمع الأخير برئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، في مشهد يوصل رسائل يُمكن أن تُقرأ على هامش هذا اللقاء أكثر ممّا حملها متن اللقاء ذات نفسه، ولا سيّما أنّ أمير دولة قطر كان الزعيم الخليجي الوحيد القادم إلى بغداد بُعيد جولة أجراها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى المملكة العربية السعودية ودولة قطر والإمارات العربية المتحدة، بالتزامن مع زيارة قائد فيلق القدس الإيراني الجنرال إسماعيل قاآني إلى العراق، ليبقى الباب موارباً أمام أسئلة عديدة بشأن هذا الغياب الخليجي والحضور القطريّ المقتضب، وهو ما يبدو على النقيض ممّا بشّرت به الحكومة العراقية من مفاجآت ووعود.
انتهت قمّة بغداد، ببيانٍ ختاميّ حثّ فيه القادة العرب على “تقديم الدعم السياسي والماليّ لإعادة إعمار غزّة” وترحيبٍ بـ “رفع العقوبات عن سوريا”، بيان سبقته كلمة رئيس الوزراء العراقي التي تضمّنت الإعلان عن تأسيس صندوقين لإعادة إعمار غزّة ولبنان؛ وكانت نواتهما تبرعات عراقية بـ 40 مليون دولار، كما سبقت القمّة ذاتها تبرعات عراقية بأكثر من 400 ألف طن من الحنطة إلى سوريا وتونس مجتمعتَين.
وعلى الرغم من هذه المساعي العراقية الكثيرة لإنجاح استضافة القمة العربية في بغداد، وهو ما أكّده وأشاد به الزعماء الحاضرون من حسن تنظيم واستقبال، وما رافقها من إنفاق حكوميّ باذخ يشابه ما حدث إبّان قمة بغداد 2012، إلاّ أنّ للداخل العراقي رأياً مختلفاً تشظّى بين نِقمةٍ شعبيةٍ مدفوعةٍ بتُهَم فساد تجاه حكومة السوداني، وبين تعريضٍ سياسيّ بنوايا هذه الحكومة التي تُتّهم ـ ولا تكاد تَثْبُتُ براءَتُها ـ بالسعي وراء ولاية ثانية مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية العراقية في تشرين الثاني المقبل.
انتهت القمة، ولم يزل رجعُ صدى سؤال عراقيّ يُشاكس كثيرين: لماذا كل هذا السعي المحموم لاستضافة قمّة عربيّة رغم الانقسام الذي يظهر جليّاً على سطح المشهد العراقي السياسيّ والشعبيّ؟ ما الذي يُمكن أن تعود به أمثال هذه القمم على العراق من منافع ومكتسبات؟ أَمِن أجل التأثير؟ ليس لـ “قمة عربية” تأثير خلال العقود الأخيرة، وليست أيّة قمة منصة للاستعراض وإثبات الوجود والتأثير في الآخرين.
نعم… نجح العراق تنظيميّاً في امتحانه لقمة 2025، ولكنه فشل بوضوح دبلوماسيّاً وسياسيّاً، فلا القضيّة الفلسطينية جمعت الإخوة الأعداء، ولا التحدّيات العربية الراهنة وجدت طريقها إلى الحلّ. وإن كان في القمّة العربية فرصة لإعادة العراق إلى الواجهة مرّة أخرى فإنّ عودته لم تتعدّ حدود الإشادة بكرمه وحُسن استقباله لضيوفه والتطوّر العمراني الذي حققه مؤخّراً، ثمّ لا شيء.
ويبدو أنّ هذه الإشادة هي كلّ ما بحثت عنه حكومة السوداني في سرّها، حتّى وإن أظهرت على لسان وكيل وزارة خارجيّتها هشام العلوي “شعوراً بخيبة الأمل وعتباً حقيقياً تجاه الغيابات بعد تلقّي تأكيدات سابقة من عدّة قادة بالحضور ثمّ انسحابهم في اللحظات الأخيرة” لتعود وزارة الخارجية بعد ذلك للحديث عن عدم استبعادها تأثير اتفاقية خور عبد الله بين العراق والكويت على الحضور الخليجي، بالإضافة إلى الجدل المحلّي الذي رافق التحضير للقمّة والاستعداد لها، ما عكس تبايناً في بيئة الاستقبال.

وبينما كانت الحكومة ومروّجوها على وسائل التواصل تفتخر بالتنظيم وتتباهى بالقاعة، وتشارك مقاطع مصوّرة لطريق المطار الذي أعيد تعبيدُه من أجل عجلات الرؤساء الذين لم يحضروا؛ ظهر المتحدث باسم الحكومة العراقية، باسم العوادي، في لقاء متلفز بُعَيْد انفضاض القمة، ومن أجل الدقة هو انفجر ولم يظهر ظهوراً عادياً، إذ أطفأ لغته الفصحى أو البيضاء، وأسدل الستار عن شعبوية أثارت مواقع التواصل ومدونيها والرأي العام خلال ساعات، مستدعياً لغةً غاضبة وموغلةً بالعشائرية والعنترية.
خلال “الانفجار العوّادي” هذا، انبثقت جُمَلٌ أهمها: “احنا نشتري كرامتنا، نشتري رجولتنا، عدنا فلوس” وأشياء لا تخلو من التهديد على الطريقة القبائلية.
يكشف التصريح الغاضب هذا عن تناقض حادّ في الرؤية العراقية، تناقض بين القوى السياسية، وآخر داخل الحكومة، وثالث أكثر حساسية داخل مكتب رئيسها، حيث تصدر المواقف الهادئة والمتّزنة على كفّ البيانات الرسمية، والشعبوية الفوضوية المتناقضة على كفّها الآخر متجسّدة بمتحدثها، لأنه وببساطة؛ العراق ليس غنياً، بل تعاني موازنته الجدلية عجزاً مقدراً بنحو 64 ترليون دينار -أكثر من 50 مليار دولار- سيتّسع كلّما انخفضت أسعار النفط، وستنخفض وفق القراءات المختصة كلها.
وخلال سيّل ما قاله الناطق الرسمي، انبثق شيء يوحي بطريقة أو أخرى، بما يبدو أنه المحرّك الحقيقي للاستماتة العراقية من أجل القمّة: “مكاسب القمة نقول للآخرين احترمونا”.
هنا يتجسّد النكوص السياسي العراقي، تتجلّى كلّ عناصر الفشل الدبلوماسي وتُفتَضَح، حيث لن يحترم العالم دولة متشظّية، ينقسم قادتها على نفسهم ويتحاربون على مواردها كغنائم، لن يُلتفت لدولة يندثر فيها العلم ويتراجع لحساب الرجعية والتشدّد الديني والمذهبي والصعود القبلي، لن يُشترى ودّ دولة تداري خرابها ببعض الجسور الضيقة الرديئة، والأبنية الموزّعة على مكاتب الأحزاب الاقتصادية، لأن الدول الحقيقية لا تشتري احترام الآخرين لها، بل تفرضه، وهذا ما لم ينجح به كل من قاد العراق منذ أكثر من 30 عاماً.

جسّدت تصريحات العوادي هذه، وأخرى قال فيها إن القمّة “بمثابة درس”، الأزمة العراقيّة الداخليّة المتجذّرة، التي تسرّبت، بنحو أو بآخر، إلى الحاضرين فيها والغائبين عنها على حدّ سواء، وهي ليست أزمة سياسيّة أو انتخابيّة فحسب، بل إنّ آثارها الجسيمة امتدّت لتؤثر مباشرة في حياة العراقيين الذين تفرّقت بهم الآراء إلى حدّ جعلهم يُغفلون أيّ أثر إيجابيّ للعراق على المشهد العربي الراهن ما دام العراق نفسه غير قادر على حلّ أبسط مشاكله، سواء تلك التي ارتبطت بمتون الحالة السياسية المرتبكة، أو تلك التي نبتت في الهوامش، والتي كُتِب لها أن تظلّ مستعصية لسنوات كالكهرباء والماء والهواء.
* تنشر هذه المادة بالشراكة مع الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية ”نيريج“.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
وأخيراً، انعقدت القمة، التي لم ترتقِ إلى القمة. بالقرب من دجلة بغداد، اجتمع العرب على حياء يوم 17 أيار الحالي على ثلاثية “حوار وتضامن وتنمية” في مشهد غاب عنه المحاورون الرئيسيون وحضر التضامن خجولاً، لم يتعدَّ تأثيره تأثير الجامعة العربية في حياة العرب، فيما لم ينمُ بين بلدان العرب خلال السنوات الماضية سوى العنف والفرقة.
جاءت القمّة العربية الـ 34 ـ رابع قمّة تحتضنها بغداد تاريخياًـ لتُعيد متناً واحداً سبق أن تكرّر كثيراً في القمم العربية السابقة: وهو محوريّة القضية الفلسطينية في الواقع العربيّ المعاصر، بالإضافة إلى إشارات خجولة لضرورة إنهاء الصراع العربيّ ـ العربيّ على قضايا متشابكة وشديدة التعقيد.

صراعٌ كان من جُملة آثارِهِ تراجعٌ لافتٌ لحضور زعماء الدول العربية في الصورة الرسمية لقمّة بغداد، إذ لم يقف في صفّها الأماميّ سوى خمسة رؤساء عرب (المصريّ عبد الفتاح السيسي، القطريّ تميم بن حمد، الفلسطيني محمود عباس، الصومالي حسن شيخ محمود، ورئيس مجلس القيادة اليمنيّ رشاد العليمي) وسْط غيابٍ لافت لزعماء دول مجلس التعاون الخليجي ودول المغرب العربيّ بالإضافة إلى لبنان والأردن وسوريا، رغم تأكيدات عراقية سابقة، كانت تريد أن تبدو واثقة بتعهّدات الرؤساء العرب بالحضور والتمثيل على أعلى المستويات، وأن تبدو أكثر ثقة بضآلة أثر التهديدات والاحتجاجات التي توعّدت بها أطراف عراقية في حال شارك رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا أحمد الشرع، حتّى وإن سبق القمّةَ بأيّام بيان رسميّ لوزارة الداخلية العراقية تشدّد فيه على “عدم تنظيم أيّ تظاهرة مهما كانت الأسباب خدمية أو غيرها”، وهو ما يُعيد إلى الأذهان إجراءات أمنيّة عراقية سبقت القمة العربية التي استضافتها بغداد عام 2012؛ حينَ أقدمت السلطات على اعتقال مئات الشبّان العراقيّين بحجّة أنّها إجراءات احترازيّة وتوقيف مؤقّت، من دون توجيه أيّة تُهَمٍ لهؤلاء المعتقلين الذين ما يزال مصير بعضهم مجهولاً إلى الآن وفق تقارير.
ومع أنّ قمّة بغداد لم تنتهِ عندما غادرها أمير دولة قطر، تميم بن حمد، قبل إلقاء كلمته المُدرجة ضمن أعمال الدورة الـ 34، إلاّ أنّ ذلك أثار كثيراً من التأويلات بشأن المشاركة القطرية التي لم يكن من أمرها إلا لقاءً خاصاً جمع الأخير برئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، في مشهد يوصل رسائل يُمكن أن تُقرأ على هامش هذا اللقاء أكثر ممّا حملها متن اللقاء ذات نفسه، ولا سيّما أنّ أمير دولة قطر كان الزعيم الخليجي الوحيد القادم إلى بغداد بُعيد جولة أجراها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى المملكة العربية السعودية ودولة قطر والإمارات العربية المتحدة، بالتزامن مع زيارة قائد فيلق القدس الإيراني الجنرال إسماعيل قاآني إلى العراق، ليبقى الباب موارباً أمام أسئلة عديدة بشأن هذا الغياب الخليجي والحضور القطريّ المقتضب، وهو ما يبدو على النقيض ممّا بشّرت به الحكومة العراقية من مفاجآت ووعود.
انتهت قمّة بغداد، ببيانٍ ختاميّ حثّ فيه القادة العرب على “تقديم الدعم السياسي والماليّ لإعادة إعمار غزّة” وترحيبٍ بـ “رفع العقوبات عن سوريا”، بيان سبقته كلمة رئيس الوزراء العراقي التي تضمّنت الإعلان عن تأسيس صندوقين لإعادة إعمار غزّة ولبنان؛ وكانت نواتهما تبرعات عراقية بـ 40 مليون دولار، كما سبقت القمّة ذاتها تبرعات عراقية بأكثر من 400 ألف طن من الحنطة إلى سوريا وتونس مجتمعتَين.
وعلى الرغم من هذه المساعي العراقية الكثيرة لإنجاح استضافة القمة العربية في بغداد، وهو ما أكّده وأشاد به الزعماء الحاضرون من حسن تنظيم واستقبال، وما رافقها من إنفاق حكوميّ باذخ يشابه ما حدث إبّان قمة بغداد 2012، إلاّ أنّ للداخل العراقي رأياً مختلفاً تشظّى بين نِقمةٍ شعبيةٍ مدفوعةٍ بتُهَم فساد تجاه حكومة السوداني، وبين تعريضٍ سياسيّ بنوايا هذه الحكومة التي تُتّهم ـ ولا تكاد تَثْبُتُ براءَتُها ـ بالسعي وراء ولاية ثانية مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية العراقية في تشرين الثاني المقبل.
انتهت القمة، ولم يزل رجعُ صدى سؤال عراقيّ يُشاكس كثيرين: لماذا كل هذا السعي المحموم لاستضافة قمّة عربيّة رغم الانقسام الذي يظهر جليّاً على سطح المشهد العراقي السياسيّ والشعبيّ؟ ما الذي يُمكن أن تعود به أمثال هذه القمم على العراق من منافع ومكتسبات؟ أَمِن أجل التأثير؟ ليس لـ “قمة عربية” تأثير خلال العقود الأخيرة، وليست أيّة قمة منصة للاستعراض وإثبات الوجود والتأثير في الآخرين.
نعم… نجح العراق تنظيميّاً في امتحانه لقمة 2025، ولكنه فشل بوضوح دبلوماسيّاً وسياسيّاً، فلا القضيّة الفلسطينية جمعت الإخوة الأعداء، ولا التحدّيات العربية الراهنة وجدت طريقها إلى الحلّ. وإن كان في القمّة العربية فرصة لإعادة العراق إلى الواجهة مرّة أخرى فإنّ عودته لم تتعدّ حدود الإشادة بكرمه وحُسن استقباله لضيوفه والتطوّر العمراني الذي حققه مؤخّراً، ثمّ لا شيء.
ويبدو أنّ هذه الإشادة هي كلّ ما بحثت عنه حكومة السوداني في سرّها، حتّى وإن أظهرت على لسان وكيل وزارة خارجيّتها هشام العلوي “شعوراً بخيبة الأمل وعتباً حقيقياً تجاه الغيابات بعد تلقّي تأكيدات سابقة من عدّة قادة بالحضور ثمّ انسحابهم في اللحظات الأخيرة” لتعود وزارة الخارجية بعد ذلك للحديث عن عدم استبعادها تأثير اتفاقية خور عبد الله بين العراق والكويت على الحضور الخليجي، بالإضافة إلى الجدل المحلّي الذي رافق التحضير للقمّة والاستعداد لها، ما عكس تبايناً في بيئة الاستقبال.

وبينما كانت الحكومة ومروّجوها على وسائل التواصل تفتخر بالتنظيم وتتباهى بالقاعة، وتشارك مقاطع مصوّرة لطريق المطار الذي أعيد تعبيدُه من أجل عجلات الرؤساء الذين لم يحضروا؛ ظهر المتحدث باسم الحكومة العراقية، باسم العوادي، في لقاء متلفز بُعَيْد انفضاض القمة، ومن أجل الدقة هو انفجر ولم يظهر ظهوراً عادياً، إذ أطفأ لغته الفصحى أو البيضاء، وأسدل الستار عن شعبوية أثارت مواقع التواصل ومدونيها والرأي العام خلال ساعات، مستدعياً لغةً غاضبة وموغلةً بالعشائرية والعنترية.
خلال “الانفجار العوّادي” هذا، انبثقت جُمَلٌ أهمها: “احنا نشتري كرامتنا، نشتري رجولتنا، عدنا فلوس” وأشياء لا تخلو من التهديد على الطريقة القبائلية.
يكشف التصريح الغاضب هذا عن تناقض حادّ في الرؤية العراقية، تناقض بين القوى السياسية، وآخر داخل الحكومة، وثالث أكثر حساسية داخل مكتب رئيسها، حيث تصدر المواقف الهادئة والمتّزنة على كفّ البيانات الرسمية، والشعبوية الفوضوية المتناقضة على كفّها الآخر متجسّدة بمتحدثها، لأنه وببساطة؛ العراق ليس غنياً، بل تعاني موازنته الجدلية عجزاً مقدراً بنحو 64 ترليون دينار -أكثر من 50 مليار دولار- سيتّسع كلّما انخفضت أسعار النفط، وستنخفض وفق القراءات المختصة كلها.
وخلال سيّل ما قاله الناطق الرسمي، انبثق شيء يوحي بطريقة أو أخرى، بما يبدو أنه المحرّك الحقيقي للاستماتة العراقية من أجل القمّة: “مكاسب القمة نقول للآخرين احترمونا”.
هنا يتجسّد النكوص السياسي العراقي، تتجلّى كلّ عناصر الفشل الدبلوماسي وتُفتَضَح، حيث لن يحترم العالم دولة متشظّية، ينقسم قادتها على نفسهم ويتحاربون على مواردها كغنائم، لن يُلتفت لدولة يندثر فيها العلم ويتراجع لحساب الرجعية والتشدّد الديني والمذهبي والصعود القبلي، لن يُشترى ودّ دولة تداري خرابها ببعض الجسور الضيقة الرديئة، والأبنية الموزّعة على مكاتب الأحزاب الاقتصادية، لأن الدول الحقيقية لا تشتري احترام الآخرين لها، بل تفرضه، وهذا ما لم ينجح به كل من قاد العراق منذ أكثر من 30 عاماً.

جسّدت تصريحات العوادي هذه، وأخرى قال فيها إن القمّة “بمثابة درس”، الأزمة العراقيّة الداخليّة المتجذّرة، التي تسرّبت، بنحو أو بآخر، إلى الحاضرين فيها والغائبين عنها على حدّ سواء، وهي ليست أزمة سياسيّة أو انتخابيّة فحسب، بل إنّ آثارها الجسيمة امتدّت لتؤثر مباشرة في حياة العراقيين الذين تفرّقت بهم الآراء إلى حدّ جعلهم يُغفلون أيّ أثر إيجابيّ للعراق على المشهد العربي الراهن ما دام العراق نفسه غير قادر على حلّ أبسط مشاكله، سواء تلك التي ارتبطت بمتون الحالة السياسية المرتبكة، أو تلك التي نبتت في الهوامش، والتي كُتِب لها أن تظلّ مستعصية لسنوات كالكهرباء والماء والهواء.
* تنشر هذه المادة بالشراكة مع الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية ”نيريج“.