إعادة توزيع الأدوار: عن إقصاء وعودة محمد الحلبوسي
11 أيار 2025
محمد الحلبوسي، الذي أُقصي عن رئاسة البرلمان بتهمة التزوير، ثم أُسقطت التهمة عنه. فهل تفتح "البراءة" الباب أمام عودته لرئاسة المجلس؟ وما تأثير هذا التحول على الصراعات السياسية داخل المكونين السني والشيعي؟ وهل تعكس هذه التطورات بداية إعادة توزيع أدوار جديدة في المشهد العراقي؟
أسهم رئيس مجلس النواب السابق، محمد الحلبوسي، بشكل كبير في إعادة تشكيل الواقع السياسي السُني بعد عام 2014 حيث وظّف، بشكل ملفت، منصبه كرئيس مجلس نواب لدورة عام 2018 ودورة عام 2021 حتى إخراجه، لخدمة مشروعه السياسي ومضاعفة جمهوره في المناطق السنية.
إن هذا النمو المضطرد والمتصاعد شكّل واحداً من أكثر التحديات السياسية لدى الفاعل السياسي الشيعي لرغبته بقيادة المكون السني بصورة غير مباشرة، أو التأثير بقراره السياسي عبر تشتيته وشق صفه. لأن واقع المكون السني أنه لا يُضبط بمرجعية سياسية واجتماعية ودينية ناظمة كما هو ممكن للبيت السياسي الشيعي، الذي عاش بعض حالات التماسك بعد عام 2003 بفضل المرجعية الدينية، غير أن دخول السياسيين الشيعة في دوامات الفشل السياسي ومواجهات اجتماعية مباشرة، أضعف قدرته على لعب هذا الدور تجاه الفواعل الأخرى –دور قيادة المكونات الأخرى أو التأثير بها- مما أدى إلى ظهور مساحة حركة سياسية واجتماعية سنية وظّفها الحلبوسي بشكل كبير لدرجة محاولته هو التأثير في تفاعلات البيت الشيعي.

إن الديناميات التي تعيشها المساحة الاجتماعية السنية والقدرة على إزاحة الزعامات الصورية بشكل مستمر، وخلق بدائل سياسية أو بدائل سياسية ساندة، تشكل هاجساً لصانع القرار السياسي الشيعي، كونه لا يستطيع فعل ذلك بشكل سريع كما يفعل المجتمع السني بعد الأزمات، فعلى الرغم من دخول المناطق السنية في موجات إرهاب متكررة كان آخرها عام 2014 إلّا أن هذه المناطق عادت وبنت نفسها اجتماعياً وسياسياً من جديد في ضوء تصاعد سياسي واقتصادي وعمراني نسبي، وآخر كبير يعيشه الإقليم الكردي كذلك، بينما تعيش المناطق الشيعية في تعاسة كبيرة وفساد متفاقم سببُه القيادات السياسية المتصدية لتمثيل هذا المكون في تلك المناطق.
المكاشفة الشيعية المؤجلة
تحاول القوى السياسية الشيعية تأجيل المكاشفة الكبرى مع مجتمعها رغم الضغوطات الاجتماعية الكبيرة، حيث كانت تظاهرات تشرين عام 2019 واحدة من فرص إعادة صياغة المشهد السياسي العراقي بشكل عام والشيعي بشكل خاص، غير أن قدرة القوى السياسية الشيعية على المطاولة واختراق تشرين وتمزيقها وتشتيتها أجّل المكاشفة إلى موعد قادم بشكل حتمي؛ كون هذه القوى التي قررت التأجيل لم تتعظ من الفشل ولم تعالج أسبابه.
إن فشل القيادة السياسية الشيعية باحتواء ثورة تشرين وإجراء إصلاحات مباشرة تشمل مفاصل النظام السياسي، في ظل تصاعد قوى سنية مؤثرة مثل مشروع تقدم بقيادة رئيس مجلس النواب، ضاعف التحديات، لا بل إن قدرة الحلبوسي نفسه على مغازلة تشرين والتماهي مع مطالبها ودعمها في بعض الأحيان جعل المشهد يبدو أن تشرين ثارت ضد القوى السياسية الإسلامية الشيعية فقط، من ثمّ جاء الحلبوسي ليلعب دور الأخ الأكبر والوسيط بين قوى شيعية كلاسيكية لم تستطع التفاهم فيما بينها لتشكيل مظلة شيعية، بعد مخرجات انتخابات 2021.

على إثر ذلك، شخّص الساسة الشيعة الآتي تجاه الحلبوسي:
- إن ركوب الحلبوسي موجة تشرين ودفع كرة النار التي ظهرت منها إلى حضن الفاعل السياسي الشيعي كان يجب أن يكون إنذاراً مبكراً إلى أن الشيعة هذه المرة يواجهون خصماً ذكياً عنيداً معززاً بأرضيةٍ اجتماعيةٍ قوية.
- لم تدرك قوى الإطار التنسيقي، إلّا متأخرة، أنّ النمو المضطرد لمشروع الحلبوسي ورغباته ستكون جامحة لهذا الحد، حيث كان نائباً في البرلمان عام 2014، ومن ثمّ محافظاً للأنبار عام 2016 من ثمّ رئيساً للبرلمان عام 2018 ورئيساً للبرلمان لدورة ثانية عام 2021 وزعيماً سياسياً بعدها. هذا التسارع الزعاماتي الكبير جعل الحلبوسي يمارس أدواراً وساطاتية داخلية وخارجية صدمت القوى الكلاسيكية الشيعية بشكل مباشر لا بل كان صوته مسموعاً أكثر من أصوات قوى سياسية شيعية كانت مؤسسة لهذا النظام السياسي بعد عام 2003.
- أصبح الحلبوسي، بحسب وجهة نظر الفاعل السياسي الشيعي، البوابة الرئيسية لسياسات خارجية متعددة متمثلة بالقوى الخليجية وتركيا والأردن ومصر وحتى دول أوربية عديدة مثل فرنسا وبريطانيا.
- فضلاً عن قدرة الحلبوسي على تكوين رأي عام برّاق للترويج لنجاحاته مقابل الترويج المباشر لفشل القوى السياسية الشيعية، حيث دفع الحلبوسي عبر منصاته الإعلامية المختلفة هذه الحقائق وبدأ المجتمع الشيعي على إثرها من عقد المقارنات بين مناطقه ومن يقودها والمناطق السنية بقيادة الحلبوسي.
- إن دخول الحلبوسي بشكل كبير داخل البيت الشيعي والعمل على تعميق خلافاته عبر محاولة تشكيل حكومة الأغلبية مع أحد الأطراف الشيعية -التيار الصدري- دون الأخرى مثلت القشة التي قصمت ظهر البعير.
كانت هذه المؤشرات كافية لتوجيه ضربة للحلبوسي وإقصائه عن المشهد العام بقرار قضائي مباشر، قاد إلى إخراجه من مجلس النواب ورئاسته بقرار قطعي غير قابل للنقض أو الاستئناف؛ كون قرارات المحكمة الاتحادية قرارات لا تخضع للتمييز ولا للنقض.
قصّ أجنحة الحلبوسي
أدركت قوى الإطار التنسيقي -متأخرة- أن تفتُّت البيت السياسي الشيعي يجب أن يرافقه تفتت داخل البيت السياسي السني والكردي، إذ أن بقاء الفاعل السياسي الشيعي مشتتاً بهذه الطريقة، يعيش صدامات متكررة مع جمهوره، في ظل نمو وتطور البيتين السياسيين السُني والكردي، قد يقود إلى خروج السلطة من يد الشيعة في العراق. ولعل السيطرة على رئاسة الوزراء والنسبة الأكبر من التمثيل السياسي الحاكم والبقاء في واجهة السلطة في العراق بالنسبة للأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية يمثل تحدياً حقيقياً، تحاول هذه القوى تجاوزه، لهذا تحاول الربط بين انهيارها وانهيار العملية السياسية في البلاد، مستثمرة الخلافات الموجودة أصلاً في الدواخل السنية والكردية.

نمت هواجس القيادة السياسية الشيعية المتصدّية، مع نمو أرقام الحلبوسي في انتخابات البرلمان عام 2021 النيابية حيث حصل على 37 مقعداً نيابياً، وهو رقم كبير مقارنةً بمقاعد القوى السنية الأخرى. هذا التفوق والصعود جعل الحلبوسي يلعب في مساحات أبعد من مساحة البيت السياسي السني، إذْ دخل إلى دهاليز البيت السياسي الشيعي وأسهم بشكل مباشر وغير مباشر في شق هذا البيت عبر التحالف مع التيار الصدري والحزب الديمقراطي الكردستاني، لتشكيل كيان سياسي جديد غرضه تشكيل حكومة “أغلبية سياسية وطنية” كما أطلق عليها حينها، غير أن الضغوطات الكبيرة التي صبّها الإطار التنسيقي والنزول إلى الشوارع واستخدام العنف المسلح، دفع زعيم التيار الصدري نحو توجيه نوابه إلى الاستقالة من البرلمان والانسحاب من المشهد السياسي العراقي برمته، لكي يعود الحلبوسي من جديد للتحالف مع قوى الإطار التنسيقي، وعلى إثر ذلك تم تشكيل الحكومة برئاسة محمد شياع السوداني، غير أن الفاعل السياسي الشيعي –الإطاري– لم ينسَ ما فعله الحلبوسي، ومسعود بارزاني، من شق في البيت السياسي الشيعي، فبعد استقرار وضع الحكومة وتشكيلها، فعَّلَ الإطار التنسيقي ملفاً قضائياً مباشراً ضد الحلبوسي أدى إلى إقصائه بتهم الحنث باليمين الدستورية على إثر القضية التي رفعها النائب السني السابق ليث الدليمي ضد الحلبوسي.
هذه العملية جاءت قبل انتخابات مجالس المحافظات بأشهر قليلة عام 2023، لتنهار معها قدرة الحلبوسي على الهيمنة داخل المناطق السنية حيث حصد 22 مقعداً في مجالس المحافظات على النحو التالي:
المحافظة | عدد المقاعد |
بغداد | 8 |
الأنبار | 6 |
ديالى | 3 |
نينوى | 2 |
صلاح الدين | 2 |
كركوك | 1 |
المجموع | 22 |
هنا، دخل الحلبوسي دوامة سياسية كان مفتاح إيقافها بيد الإطار التنسيقي نفسه، ولأن الإطار التنسيقي بحاجة للحلبوسي كحليف سني قوي وصاعد -له خلافات جذرية مع قوى سياسية سنية أخرى يمكن الاستثمار بها- اتُخِذ القرار باعادته للمشهد، لكن بصورة مشروطة لحين إثبات ولائه وعدم تمرده على الهيكل السياسي الذي يُسيّر البلاد، كما فعل بعد انتخابات 2021.
الحلبوسي يعود
عودة رئيس البرلمان السابق، محمد الحلبوسي، من جديد للواجهة التنافسية السياسية عام 2025 قبل 6 أشهر من الانتخابات النيابية المزمع إجراؤها نهاية هذا العام بعد تبرئته من محكمة الجنايات التمييزية، تمثل تحولاً كبيراً في المشهد السياسي العراقي، إذ كان الحلبوسي في مرحلة ما يمثل تحدياً للإطار التنسيقي، ولا يمكن قراءة فسح المجال أمام عودته إلى الواجهة من جديد، إلّا بصفته تكتيكاً ذكياً بالنسبة للفاعل السياسي الشيعي، قد يُكسبُه مجموعة نقاط رئيسة، بمقدمتها الإيحاء بأن الإطار التنسيقي الشيعي يؤمن بالديمقراطية، إضافة إلى إرسال رسالة إلى المجتمع الدولي -في ظل الحديث عن ضغوطات كبيرة على الحكومة واتهامها بأنها إقصائية ومسلحة وحكومة تهديد وسلاح– بأن هذه الحكومة تتعامل مع القوى السياسية والشركاء من المكونات كلّها بروح الديمقراطية، وأن عودة الحلبوسي هي واحدة من تمظهرات الديمقراطية التي يسعى الإطار إلى تطبيقها في ظل الضغط العالي على حكومة الإطار والطلب منها تصحيح مساراتها مع إيران ومعالجة ملفات الإقصاء والشركاء.
أيضاً، لا يمكن إغفال مكسب الاحتواء والترويض المبكر، فقدرة الحلبوسي على كسب ودّ الشارع السُني في محافظتي بغداد والأنبار ماتزال كبيرة جداً، حيث ما يزال يلعب دوراً سياسياً رئيساً لهذا المكون في هاتين المحافظتين، لهذا جاءت قراءة الفاعل السياسي الشيعي هذه المرة مبكرة لدوره المتشعب، إذْ أن تبرئته التي جاءت في شهر أيار 2025 قد تتلاشى بقرار قضائي آخر مختلف من جهة مختلفة. كما تساعد عودة الحلبوسي على إبقاء البيت السني مشتتاً، حيث تغيّر التوازنات في المشهد السياسي السني، فلم تعد الإمكانية واردة لهيمنة طرف أو اثنين، بل صارت هناك مواطن قوة عديدة متمثلة بتحالف الحسم بقيادة وزير الدفاع العراقي، ثابت العباسي، وتحالف العزم بقيادة النائب مثنى السامرائي، وتحالف السيادة بقيادة خميس الخنجر، سيضاف لهم تقدم الحلبوسي. لأن تجربة انتخابات عام 2021 ومخرجاتها التي منحت الحلبوسي النسبة الأكبر من التمثيل السني ووضعته في موقف متقدم، أثّرت وبشكل كبير على دور القوى السياسية الشيعية وساهمت بتعميق انقسامها، وتوحي الطريقة التي أُقصي بها الحلبوسي وتلك التي أعادته بالترويض، بأن إعادته هذه المرة وهو يحمل سيفاً من جليد عام 2025 بعد أن كان يحمل سيفاً من نار عام 2021 تمثل واحدة من الضرورات السياسية للمتصدين لتمثيل الشيعة سياسياً، فهم يدركون وزن الحلبوسي الاجتماعي الذي يمكن أن يضعه بمقدمة ممثلي المجتمع السني.
لهذا، فإن إبقاء الباب مفتوحاً أمام القضاء لإعادة الحظر عليه تمثل ورقة بيد قوى الإطار ضده من أجل إخضاعه وتسييره أو إنهائه مرة ثانية إنْ تمرّد.
يُضافُ إلى كلّ ما تقدّم احتمالية أن القوى السياسية الإطارية-الشيعية- استثمرت استثماراً اجتماعياً ناجحاً على الورق، بإعادة الحلبوسي المعروف بميله للخطاب والمبنيات المدنية، كي يكون مصدّاً اجتماعياً داخل المجتمع السني بوجه الخطاب السلفي الجهادي المتنامي في المنطقة منذ إسقاط نظام بشار الأسد في سوريا وسيطرة فصائل ذات تاريخ جهادي متطرف.
الاستثمار بالحلبوسي
لا ينبغي إغفال الضغوطات الخارجية التي يتعرّض لها العراق من أجل إعادة صياغة العديد من مواقفه الخارجية والداخلية وتحقيق نوع من التوازن والشفافية لإبعاده عن دوامات الصراع داخل المنطقة، حيث إن انهيار مشروع “محور المقاومة” وتراجع الدور الإيراني، أدخل العراق في دوامة سؤال مركزي “هل التغيير الذي حصل في المنطقة سيمتد إلى العراق ونظامه السياسي أم سيتجاوزه؟” وفي محاولة لتفادي التصادم مع رغبات القوى الإقليمية والدولية المؤثرة، بدأت قوى الإطار التنسيقي -التي كانت جزءاً من محور إيران المقاوم- إجراء جملة من الإصلاحات، منها وعلى رأسها، إعادة الحلبوسي إلى المشهد السياسي العراقي والسنّي كونه يمتلك قدرة تمثيل مجموعة اجتماعية كبيرة داخل العراق، حيث تحاول قوى الإطار هنا أن تقول إنها: قوى غير إقصائية وتؤمن بالعمل المؤسساتي، وأن القضاء هو من أقصى الحلبوسي وهو من أعاده، فلا دواعٍ لاستهداف العراق كونه يطور تجربة ديمقراطية قادرة على النمو بشكل كبير خلال الفترة الماضية؛ بمعنى أن إعادة الحلبوسي إلى المشهد وإطلاق سراح النائب السابق، أحمد العلواني، كقوى دخلت في مواجهة مع الفاعل الشيعي بمثابة رسالة أراد الإطار إرسالها للمجتمع الإقليمي والدولي أنه يرغب بدخول مرحلة انتقال وإصلاح سياسي مباشر بعيداً عن عمليات التغيير العنيفة.

كما يدرك الجميع امتلاك الحلبوسي علاقات مميزة مع قوى خليجية وعربية وغير عربية، يمكن من خلالها تقليل الأخطار المحتملة تجاه قوى الإطار.
لذا، يمكن القول إن عنوان هذه العودة يندرج ضمن الأدوار الوظيفية التي يريد الفاعل السياسي الشيعي إيكالها للحبلوسي ضمن الحدود المسيطر عليها.
* تنشر هذه المادة بالشراكة مع الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية ”نيريج“.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
أسهم رئيس مجلس النواب السابق، محمد الحلبوسي، بشكل كبير في إعادة تشكيل الواقع السياسي السُني بعد عام 2014 حيث وظّف، بشكل ملفت، منصبه كرئيس مجلس نواب لدورة عام 2018 ودورة عام 2021 حتى إخراجه، لخدمة مشروعه السياسي ومضاعفة جمهوره في المناطق السنية.
إن هذا النمو المضطرد والمتصاعد شكّل واحداً من أكثر التحديات السياسية لدى الفاعل السياسي الشيعي لرغبته بقيادة المكون السني بصورة غير مباشرة، أو التأثير بقراره السياسي عبر تشتيته وشق صفه. لأن واقع المكون السني أنه لا يُضبط بمرجعية سياسية واجتماعية ودينية ناظمة كما هو ممكن للبيت السياسي الشيعي، الذي عاش بعض حالات التماسك بعد عام 2003 بفضل المرجعية الدينية، غير أن دخول السياسيين الشيعة في دوامات الفشل السياسي ومواجهات اجتماعية مباشرة، أضعف قدرته على لعب هذا الدور تجاه الفواعل الأخرى –دور قيادة المكونات الأخرى أو التأثير بها- مما أدى إلى ظهور مساحة حركة سياسية واجتماعية سنية وظّفها الحلبوسي بشكل كبير لدرجة محاولته هو التأثير في تفاعلات البيت الشيعي.

إن الديناميات التي تعيشها المساحة الاجتماعية السنية والقدرة على إزاحة الزعامات الصورية بشكل مستمر، وخلق بدائل سياسية أو بدائل سياسية ساندة، تشكل هاجساً لصانع القرار السياسي الشيعي، كونه لا يستطيع فعل ذلك بشكل سريع كما يفعل المجتمع السني بعد الأزمات، فعلى الرغم من دخول المناطق السنية في موجات إرهاب متكررة كان آخرها عام 2014 إلّا أن هذه المناطق عادت وبنت نفسها اجتماعياً وسياسياً من جديد في ضوء تصاعد سياسي واقتصادي وعمراني نسبي، وآخر كبير يعيشه الإقليم الكردي كذلك، بينما تعيش المناطق الشيعية في تعاسة كبيرة وفساد متفاقم سببُه القيادات السياسية المتصدية لتمثيل هذا المكون في تلك المناطق.
المكاشفة الشيعية المؤجلة
تحاول القوى السياسية الشيعية تأجيل المكاشفة الكبرى مع مجتمعها رغم الضغوطات الاجتماعية الكبيرة، حيث كانت تظاهرات تشرين عام 2019 واحدة من فرص إعادة صياغة المشهد السياسي العراقي بشكل عام والشيعي بشكل خاص، غير أن قدرة القوى السياسية الشيعية على المطاولة واختراق تشرين وتمزيقها وتشتيتها أجّل المكاشفة إلى موعد قادم بشكل حتمي؛ كون هذه القوى التي قررت التأجيل لم تتعظ من الفشل ولم تعالج أسبابه.
إن فشل القيادة السياسية الشيعية باحتواء ثورة تشرين وإجراء إصلاحات مباشرة تشمل مفاصل النظام السياسي، في ظل تصاعد قوى سنية مؤثرة مثل مشروع تقدم بقيادة رئيس مجلس النواب، ضاعف التحديات، لا بل إن قدرة الحلبوسي نفسه على مغازلة تشرين والتماهي مع مطالبها ودعمها في بعض الأحيان جعل المشهد يبدو أن تشرين ثارت ضد القوى السياسية الإسلامية الشيعية فقط، من ثمّ جاء الحلبوسي ليلعب دور الأخ الأكبر والوسيط بين قوى شيعية كلاسيكية لم تستطع التفاهم فيما بينها لتشكيل مظلة شيعية، بعد مخرجات انتخابات 2021.

على إثر ذلك، شخّص الساسة الشيعة الآتي تجاه الحلبوسي:
- إن ركوب الحلبوسي موجة تشرين ودفع كرة النار التي ظهرت منها إلى حضن الفاعل السياسي الشيعي كان يجب أن يكون إنذاراً مبكراً إلى أن الشيعة هذه المرة يواجهون خصماً ذكياً عنيداً معززاً بأرضيةٍ اجتماعيةٍ قوية.
- لم تدرك قوى الإطار التنسيقي، إلّا متأخرة، أنّ النمو المضطرد لمشروع الحلبوسي ورغباته ستكون جامحة لهذا الحد، حيث كان نائباً في البرلمان عام 2014، ومن ثمّ محافظاً للأنبار عام 2016 من ثمّ رئيساً للبرلمان عام 2018 ورئيساً للبرلمان لدورة ثانية عام 2021 وزعيماً سياسياً بعدها. هذا التسارع الزعاماتي الكبير جعل الحلبوسي يمارس أدواراً وساطاتية داخلية وخارجية صدمت القوى الكلاسيكية الشيعية بشكل مباشر لا بل كان صوته مسموعاً أكثر من أصوات قوى سياسية شيعية كانت مؤسسة لهذا النظام السياسي بعد عام 2003.
- أصبح الحلبوسي، بحسب وجهة نظر الفاعل السياسي الشيعي، البوابة الرئيسية لسياسات خارجية متعددة متمثلة بالقوى الخليجية وتركيا والأردن ومصر وحتى دول أوربية عديدة مثل فرنسا وبريطانيا.
- فضلاً عن قدرة الحلبوسي على تكوين رأي عام برّاق للترويج لنجاحاته مقابل الترويج المباشر لفشل القوى السياسية الشيعية، حيث دفع الحلبوسي عبر منصاته الإعلامية المختلفة هذه الحقائق وبدأ المجتمع الشيعي على إثرها من عقد المقارنات بين مناطقه ومن يقودها والمناطق السنية بقيادة الحلبوسي.
- إن دخول الحلبوسي بشكل كبير داخل البيت الشيعي والعمل على تعميق خلافاته عبر محاولة تشكيل حكومة الأغلبية مع أحد الأطراف الشيعية -التيار الصدري- دون الأخرى مثلت القشة التي قصمت ظهر البعير.
كانت هذه المؤشرات كافية لتوجيه ضربة للحلبوسي وإقصائه عن المشهد العام بقرار قضائي مباشر، قاد إلى إخراجه من مجلس النواب ورئاسته بقرار قطعي غير قابل للنقض أو الاستئناف؛ كون قرارات المحكمة الاتحادية قرارات لا تخضع للتمييز ولا للنقض.
قصّ أجنحة الحلبوسي
أدركت قوى الإطار التنسيقي -متأخرة- أن تفتُّت البيت السياسي الشيعي يجب أن يرافقه تفتت داخل البيت السياسي السني والكردي، إذ أن بقاء الفاعل السياسي الشيعي مشتتاً بهذه الطريقة، يعيش صدامات متكررة مع جمهوره، في ظل نمو وتطور البيتين السياسيين السُني والكردي، قد يقود إلى خروج السلطة من يد الشيعة في العراق. ولعل السيطرة على رئاسة الوزراء والنسبة الأكبر من التمثيل السياسي الحاكم والبقاء في واجهة السلطة في العراق بالنسبة للأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية يمثل تحدياً حقيقياً، تحاول هذه القوى تجاوزه، لهذا تحاول الربط بين انهيارها وانهيار العملية السياسية في البلاد، مستثمرة الخلافات الموجودة أصلاً في الدواخل السنية والكردية.

نمت هواجس القيادة السياسية الشيعية المتصدّية، مع نمو أرقام الحلبوسي في انتخابات البرلمان عام 2021 النيابية حيث حصل على 37 مقعداً نيابياً، وهو رقم كبير مقارنةً بمقاعد القوى السنية الأخرى. هذا التفوق والصعود جعل الحلبوسي يلعب في مساحات أبعد من مساحة البيت السياسي السني، إذْ دخل إلى دهاليز البيت السياسي الشيعي وأسهم بشكل مباشر وغير مباشر في شق هذا البيت عبر التحالف مع التيار الصدري والحزب الديمقراطي الكردستاني، لتشكيل كيان سياسي جديد غرضه تشكيل حكومة “أغلبية سياسية وطنية” كما أطلق عليها حينها، غير أن الضغوطات الكبيرة التي صبّها الإطار التنسيقي والنزول إلى الشوارع واستخدام العنف المسلح، دفع زعيم التيار الصدري نحو توجيه نوابه إلى الاستقالة من البرلمان والانسحاب من المشهد السياسي العراقي برمته، لكي يعود الحلبوسي من جديد للتحالف مع قوى الإطار التنسيقي، وعلى إثر ذلك تم تشكيل الحكومة برئاسة محمد شياع السوداني، غير أن الفاعل السياسي الشيعي –الإطاري– لم ينسَ ما فعله الحلبوسي، ومسعود بارزاني، من شق في البيت السياسي الشيعي، فبعد استقرار وضع الحكومة وتشكيلها، فعَّلَ الإطار التنسيقي ملفاً قضائياً مباشراً ضد الحلبوسي أدى إلى إقصائه بتهم الحنث باليمين الدستورية على إثر القضية التي رفعها النائب السني السابق ليث الدليمي ضد الحلبوسي.
هذه العملية جاءت قبل انتخابات مجالس المحافظات بأشهر قليلة عام 2023، لتنهار معها قدرة الحلبوسي على الهيمنة داخل المناطق السنية حيث حصد 22 مقعداً في مجالس المحافظات على النحو التالي:
المحافظة | عدد المقاعد |
بغداد | 8 |
الأنبار | 6 |
ديالى | 3 |
نينوى | 2 |
صلاح الدين | 2 |
كركوك | 1 |
المجموع | 22 |
هنا، دخل الحلبوسي دوامة سياسية كان مفتاح إيقافها بيد الإطار التنسيقي نفسه، ولأن الإطار التنسيقي بحاجة للحلبوسي كحليف سني قوي وصاعد -له خلافات جذرية مع قوى سياسية سنية أخرى يمكن الاستثمار بها- اتُخِذ القرار باعادته للمشهد، لكن بصورة مشروطة لحين إثبات ولائه وعدم تمرده على الهيكل السياسي الذي يُسيّر البلاد، كما فعل بعد انتخابات 2021.
الحلبوسي يعود
عودة رئيس البرلمان السابق، محمد الحلبوسي، من جديد للواجهة التنافسية السياسية عام 2025 قبل 6 أشهر من الانتخابات النيابية المزمع إجراؤها نهاية هذا العام بعد تبرئته من محكمة الجنايات التمييزية، تمثل تحولاً كبيراً في المشهد السياسي العراقي، إذ كان الحلبوسي في مرحلة ما يمثل تحدياً للإطار التنسيقي، ولا يمكن قراءة فسح المجال أمام عودته إلى الواجهة من جديد، إلّا بصفته تكتيكاً ذكياً بالنسبة للفاعل السياسي الشيعي، قد يُكسبُه مجموعة نقاط رئيسة، بمقدمتها الإيحاء بأن الإطار التنسيقي الشيعي يؤمن بالديمقراطية، إضافة إلى إرسال رسالة إلى المجتمع الدولي -في ظل الحديث عن ضغوطات كبيرة على الحكومة واتهامها بأنها إقصائية ومسلحة وحكومة تهديد وسلاح– بأن هذه الحكومة تتعامل مع القوى السياسية والشركاء من المكونات كلّها بروح الديمقراطية، وأن عودة الحلبوسي هي واحدة من تمظهرات الديمقراطية التي يسعى الإطار إلى تطبيقها في ظل الضغط العالي على حكومة الإطار والطلب منها تصحيح مساراتها مع إيران ومعالجة ملفات الإقصاء والشركاء.
أيضاً، لا يمكن إغفال مكسب الاحتواء والترويض المبكر، فقدرة الحلبوسي على كسب ودّ الشارع السُني في محافظتي بغداد والأنبار ماتزال كبيرة جداً، حيث ما يزال يلعب دوراً سياسياً رئيساً لهذا المكون في هاتين المحافظتين، لهذا جاءت قراءة الفاعل السياسي الشيعي هذه المرة مبكرة لدوره المتشعب، إذْ أن تبرئته التي جاءت في شهر أيار 2025 قد تتلاشى بقرار قضائي آخر مختلف من جهة مختلفة. كما تساعد عودة الحلبوسي على إبقاء البيت السني مشتتاً، حيث تغيّر التوازنات في المشهد السياسي السني، فلم تعد الإمكانية واردة لهيمنة طرف أو اثنين، بل صارت هناك مواطن قوة عديدة متمثلة بتحالف الحسم بقيادة وزير الدفاع العراقي، ثابت العباسي، وتحالف العزم بقيادة النائب مثنى السامرائي، وتحالف السيادة بقيادة خميس الخنجر، سيضاف لهم تقدم الحلبوسي. لأن تجربة انتخابات عام 2021 ومخرجاتها التي منحت الحلبوسي النسبة الأكبر من التمثيل السني ووضعته في موقف متقدم، أثّرت وبشكل كبير على دور القوى السياسية الشيعية وساهمت بتعميق انقسامها، وتوحي الطريقة التي أُقصي بها الحلبوسي وتلك التي أعادته بالترويض، بأن إعادته هذه المرة وهو يحمل سيفاً من جليد عام 2025 بعد أن كان يحمل سيفاً من نار عام 2021 تمثل واحدة من الضرورات السياسية للمتصدين لتمثيل الشيعة سياسياً، فهم يدركون وزن الحلبوسي الاجتماعي الذي يمكن أن يضعه بمقدمة ممثلي المجتمع السني.
لهذا، فإن إبقاء الباب مفتوحاً أمام القضاء لإعادة الحظر عليه تمثل ورقة بيد قوى الإطار ضده من أجل إخضاعه وتسييره أو إنهائه مرة ثانية إنْ تمرّد.
يُضافُ إلى كلّ ما تقدّم احتمالية أن القوى السياسية الإطارية-الشيعية- استثمرت استثماراً اجتماعياً ناجحاً على الورق، بإعادة الحلبوسي المعروف بميله للخطاب والمبنيات المدنية، كي يكون مصدّاً اجتماعياً داخل المجتمع السني بوجه الخطاب السلفي الجهادي المتنامي في المنطقة منذ إسقاط نظام بشار الأسد في سوريا وسيطرة فصائل ذات تاريخ جهادي متطرف.
الاستثمار بالحلبوسي
لا ينبغي إغفال الضغوطات الخارجية التي يتعرّض لها العراق من أجل إعادة صياغة العديد من مواقفه الخارجية والداخلية وتحقيق نوع من التوازن والشفافية لإبعاده عن دوامات الصراع داخل المنطقة، حيث إن انهيار مشروع “محور المقاومة” وتراجع الدور الإيراني، أدخل العراق في دوامة سؤال مركزي “هل التغيير الذي حصل في المنطقة سيمتد إلى العراق ونظامه السياسي أم سيتجاوزه؟” وفي محاولة لتفادي التصادم مع رغبات القوى الإقليمية والدولية المؤثرة، بدأت قوى الإطار التنسيقي -التي كانت جزءاً من محور إيران المقاوم- إجراء جملة من الإصلاحات، منها وعلى رأسها، إعادة الحلبوسي إلى المشهد السياسي العراقي والسنّي كونه يمتلك قدرة تمثيل مجموعة اجتماعية كبيرة داخل العراق، حيث تحاول قوى الإطار هنا أن تقول إنها: قوى غير إقصائية وتؤمن بالعمل المؤسساتي، وأن القضاء هو من أقصى الحلبوسي وهو من أعاده، فلا دواعٍ لاستهداف العراق كونه يطور تجربة ديمقراطية قادرة على النمو بشكل كبير خلال الفترة الماضية؛ بمعنى أن إعادة الحلبوسي إلى المشهد وإطلاق سراح النائب السابق، أحمد العلواني، كقوى دخلت في مواجهة مع الفاعل الشيعي بمثابة رسالة أراد الإطار إرسالها للمجتمع الإقليمي والدولي أنه يرغب بدخول مرحلة انتقال وإصلاح سياسي مباشر بعيداً عن عمليات التغيير العنيفة.

كما يدرك الجميع امتلاك الحلبوسي علاقات مميزة مع قوى خليجية وعربية وغير عربية، يمكن من خلالها تقليل الأخطار المحتملة تجاه قوى الإطار.
لذا، يمكن القول إن عنوان هذه العودة يندرج ضمن الأدوار الوظيفية التي يريد الفاعل السياسي الشيعي إيكالها للحبلوسي ضمن الحدود المسيطر عليها.
* تنشر هذه المادة بالشراكة مع الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية ”نيريج“.