من النهر الشحيح إلى الشط المالح: التاريخ المتعرج لـ "عطش البصرة" 

عبد الله السعد

06 أيار 2025

من معاهدة لوزان إلى شط العرب، ومن قناة البدعة إلى مشاريع تحلية البحر، يستعرض هذا المقال التاريخ المتعرج لعطش البصرة، ويكشف كيف تحوّلت المدينة الأغنى بالماء في الخيال الشعبي إلى واحدة من أكثر مدن العراق عطشاً وملوحة وتهميشاً.

يواجه العراق منذ بدايات تأسيس الدولة العراقية المعاصرة مطلع عشرينات القرن الماضي تحدياً خطيراً، يتمثل في ملف المياه، والخلافات بينه وبين ثلاث دول في جواره حول هذا الملف. بدأ النزاع مبكراً مع الجارة الشمالية، تركيا، حول حصة العراق من مياه نهري دجلة والفرات بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية وتأسيس الدولة العراقية، واستغلت تركيا نص المادة 109 من معاهدة لوزان 1923، للتهرب من توقيع أي اتفاق بينها وبين كلّ من العراق وسوريا بشأن الحصة المائية لكلٍّ منها، ذلك أن نص المادة المشار إليها آنفاً قد أوكل الأمر إلى الدول المعنية لتوقيع اتفاق بينها بقصد حماية المصالح والحقوق التي حصل عليها كل منها، وفي حال عدم الاتفاق ينظّم الأمر عن طريق التحكيم الدولي.  

وعلى الرغم من توقيع اتفاقية الصداقة وحسن الجوار عام 1946 بين العراق وتركيا، وما تضمنته من تفاهمات بشأن ملف المياه، إلّا أن أنقرة لم تلتزم ببنود الاتفاقية الخاصة بملف المياه، واستمرت بالتهرب والمماطلة والتسويف، لتشرع عام 1966 بتشييد سد كيبان، الذي تم تدشينه عام 1974، ما أسفر عن إثارة هواجس العراق فور الإعلان عن ملء خزان السد، الذي يعُد واحداً من أهم السدود على مجرى نهر الفرات في تركيا، والذي يبلغ ارتفاعه 207 متر، وتبلغ طاقته التخزينية 30.6 مليار متر مكعب. 

تركيا تدشن سد كيبان في السبعينيات. المصدر: Turangazetesi. 

استغلت تركيا حالة الحرب بين العراق وإيران، التي اندلعت يوم 22 أيلول 1980 ووضعت أوزارها يوم 8 آب 1988، وانشغال العراق بتلك الحرب لتشرع منتصف ثمانينات القرن الماضي بتنفيذ مشروع جنوب شرق الاناضول “GAP”، الذي يتضمن تشييد عدد من السدود والأنفاق على مجرى نهري دجلة والفرات، إضافة إلى قنوات ريّ وعدد من محطات توليد الطاقة الكهربائية. 

وبموازاة النزاع بين تركيا والعراق حول ملف المياه كان هناك نزاع آخر بين العراق وإيران حول الملف نفسه، انطلاقاً من مطالبة طهران بعد استقلال بغداد بتقاسم السيادة على شط العرب بين الطرفين، إلى أن تم التوصل لأول اتفاق بينهما بتوقيع معاهدة عام 1937، التي تقضي باعتراف إيران بسيادة العراق على ضفتي شط العرب، باستثناء مناطق معينة من الضفة الشرقية تكون فيها السيادة لصالح إيران. 

ولكن الحال لم تستمرّ على ما هي عليه، حيث بادرت إيران فور سقوط النظام الملكي وقيام النظام الجمهوري في العراق، إلى المطالبة بإعادة ترسيم الحدود في شط العرب بالاعتماد على خط التالوك، لتشهد العلاقة بين البلدين توتراً خاصة بعد رد رئيس الوزراء العراقي في حينه، عبدالكريم قاسم، على الطلب الإيراني، بالمطالبة بإقليم خوزستان “عربستان”، المطلّ على الضفة الشرقية لشط العرب، ما أسفر عن اندلاع مناوشات بين الجانبين، لكنها لم تتطور إلى إعلان الحرب. 

اقرأ أيضاً

شط العرب: اصطياد “المغذيات” بدلاً من الأسماك 

وسعياً من إيران باتجاه تحقيق هدفها بفرض سيادتها على الضفة الشرقية لشط العرب، عمدت إلى تقديم الدعم اللوجستي للقوى الكردية المناهضة لنظام الحكم في بغداد، خلال سنوات الحرب بين الطرفين شمالي العراق، التي اندلعت عام 1961، واستمرت حتى عام 1969، لتبادر إيران في العام ذاته إلى إلغاء معاهدة عام 1973 سابقة الذكر، من طرف واحد، قبل أن تقوم بتحشيد قواتها المسلحة بمختلف صنوفها على طول الشريط الحدودي مع العراق تحسباً لأي ردّ من قبل الجانب العراقي، لكن النظام العراقي -الوليد في حينه بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي- لم يردّ. وتوجّه إلى ميناء أم قصر الذي كان قد تم تدشينه عام 1964، ليكون منفذه على الخليج، قبل أن يلحق به ميناء خور الزبير، الذي تم تدشينه عام 1974.  

واستمراراً للضغوطات الإيرانية على العراق، فقد عمدت إيران مرة أخرى، إلى تقديم الدعم اللوجستي للقوى الكردية في حربها الثانية ضد نظام الحكم في العراق، التي اندلعت يوم 16 نيسان 1974، لتنجح إيران بإخضاع العراق لرغباتها، وإجباره على توقيع اتفاقية الجزائر يوم 6 آذار 1975، التي تنازل العراق بموجبها عن نصف شط العرب لصالح إيران، مقابل وقف الدعم الإيراني للقوى الكردية في حربها ضد النظام العراقي، التي انتهت بدورها يوم 25 آذار 1975. 

وبحلول شهر تشرين الأول 1977 بدأت التظاهرات المناهضة لنظام شاه إيران محمد رضا بهلوي تعمّ المدن الإيرانية، لتعقبها الثورة الإسلامية في ايران، التي اندلعت يوم 7 كانون الثاني 1978، وانتهت بسقوط حكم الشاه يوم 11 شباط 1979، وقيام الجمهورية الإسلامية في إيران، بزعامة آية الله الخميني

وبعد خمسة أشهر تقريباً على قيام الجمهورية الإسلامية في إيران، وتحديداً يوم 16 تموز 1979، شهد العراق حدثاً مهماً للغاية، تمثّل بوصول صدام حسين إلى منصب رئيس الجمهورية في العراق خلفاً لسلفه أحمد حسن البكر، لتشهد العلاقة بين إيران والعراق حالة من التوتر الشديد، أسفرت عن إعلان الحرب بين الطرفين يوم 22 أيلول 1980. 

وقد دشّنت إيران خلال سنوات حكم الشاه، وما تلاها من سنوات حكم النظام القائم حالياً في إيران، العديد من السدود على نهر الكارون وروافد نهر دجلة، بهدف تقليص حصة العراق المائية؛ سعياً منها إلى تدمير القطاع الزراعي في العراق، كما وعمدت بعد سقوط نظام صدام في شهر نيسان 2003 إلى اعتماد سياسة إغراق السوق، التي تعد واحدة من أخطر أسلحة الحروب الاقتصادية، التي تقوم على أساس ضخّ كميات كبيرة جداً من مختلف البضائع الإيرانية إلى الأسواق العراقية، وبيعها للمستهلك بأقل من سعر كلفة الإنتاج، لتفرض سيطرتها على الأسواق المحلية، وتمنع المنتج المحلي من الحصول على فرصة للمنافسة، وبما يضمن تكبيد المزارعين والصناعيين خسائر مالية فادحة تكون السبب الرئيسي وراء هجرهم لأعمالهم، ومن ثمّ تدمير القطاع الزراعي والقطاع الصناعي في العراق، لتصبح إيران بعد ذلك هي المتحكّمة بلقمة عيش العراقيين، وقرارهم السياسي. 

وكذلك كانت حال سوريا، التي عمدت إلى تنفيذ العديد من السدود على مجرى نهر الفرات، وإهمّها سد الفرات و سد البعث و سد تشرين، لتشهد العلاقات بين العراق وسوريا توتراً أثّر ذلك بين حين وآخر، بسبب انخفاض واردات العراق المائية من نهر الفرات عبر الأراضي السورية. 

وكان للسياسات المائية التي انتهجتها الدول الثلاث تجاه العراق -التي يمكن وصفها بأنها إعلان لحالة حرب المياه ضد العراق- تداعيات خطيرة في المشهد العراقي، حيث تسببت تلك السياسات التعسفية بتقليص حصة العراق المائية إلى نسب منخفضة جداً، ما أسفر عن خسارة العراق لمساحات شاسعة من المسطحات المائية والأراضي الزراعية، وزيادة في معدلات التصحّر، وما ترتب إثر ذلك من خسارة كبيرة في الإنتاج الزراعي والحيواني، واختلال التركيبة السكانية جراء هجرة المزارعين ومربّي المواشي والأغنام لمناطق سكناهم باتجاه مراكز المدن، إضافة إلى ارتفاع درجات الحرارة وارتفاع معدلات التلوث البيئي، وتفشي الأمراض وشحّ المياه. 

وكانت محافظة البصرة أبرز المحافظات العراقية، والأكثر تضرراً جراء السياسيات المائية التعسفية التي انتهجتها الدول الثلاث على مدار العقود المنصرمة، لكونها تقع في أقصى جنوب العراق عند نهاية مجريي دجلة والفرات. حيث بدأت أزمة المياه الصالحة للاستهلاك البشري فعلياً في البصرة إثر اندلاع الحرب بين العراق وإيران يوم 22 أيلول 1980، بعد تعرض العديد من محطات تصفية وضخ مياه الإسالة وخطوط النقل وشبكات توزيع المياه لأضرار فادحة جرّاء القصف  الإيراني، بالتزامن مع تلوث مياه شط العرب -الذي كان يُعدّ في حينه والأنهار المتفرعة منه المصدر الوحيد للماء الخام لأغلب تلك المحطات- بسبب تسرب كميات كبيرة من الوقود والزيوت من السفن التي كانت ترسو فيه عند اندلاع الحرب إثر تعرّضها لإصابات بالغة نتيجة القصف الإيراني، إضافة إلى توقف عمليات الكري الدورية لمسار شط العرب بسبب ظروف الحرب. 

صدام حسين ومحمد رضا بهلوي عام 1975 أثناء توقيع اتفاقية الجزائر. المصدر: موسوعة مطالعات تاريخ إيران المعاصر. 

ورغم إعادة إعمار محطات تصفية وضخ المياه وخطوط النقل وشبكات التوزيع بعد فترة وجيزة من تعرضها للضرر جراء القصف، إلّا أن تلك المحطات عجزت عن معالجة الملوثات النفطية وغيرها من الملوثات الصناعية التي تلوثت بها مياه شط العرب والأنهار المتفرعة منه بنسب عالية. 

ولعدم وجود بديل عن مياه الإسالة سوى مياه الأنهار، فقد اضطر أغلب أهالي البصرة إلى استخدام مياه الإسالة لأغراض الغسل والطبخ والشرب على الرغم من عدم صلاحيتها، ما أسفر عن تفشي الإصابات بالأمراض الجلدية والمعوية والكلوية، فيما عمد الميسورين منهم لشراء المياه المعبّأة لأغراض الشرب، التي باتت متاحة على نطاق ضيق في الأسواق المحلية منتصف ثمانينات القرن الماضي، لتستمر الحال على ما هي عليه من سيء إلى أسوأ دون وجود حلول تلوح في الأفق بسبب استمرار الحرب بين العراق وإيران. 

وبعد أن وضعت الحرب أوزارها بإعلان وقف إطلاق النار بين طرفي الحرب يوم 8 آب 1988، استجابة لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 598 لسنة 1987 عاد الأمل ليتجدد في نفوس البصريين بحل أزمة المياه، التي باتت تمثل خطراً حقيقياً يهدد حياتهم، ولكنه سرعان ما تلاشى إثر قيام مؤسسات الدولة المعنية بفتح مذبات خطوط المجاري على شط العرب والأنهار المتفرعة منه إبان الحملة الكبرى لإعادة إعمار البصرة، التي انطلقت فور وقف إطلاق النار بين العراق وإيران، ما أسفر عن تحول أغلب أنهار البصرة المتفرعة من شط العرب، وخاصة تلك الواقعة في مركز المدينة إلى أنهار آسنة.  

واشتدت وطأة أزمة مياه الإسالة في البصرة بعد غزو العراق للكويت في الثاني من آب 1990،   وفرض العقوبات الاقتصادية على العراق وفقاً لقرار مجلس الامن الدولي رقم 661 في السادس من آب 1990، وما ترتّب على تلك العقوبات من تداعيات طالت مجمل الأوضاع في العراق، وكان أبرزها عدم قدرة العراق على استيراد المعدّات والمواد الاحتياطية والمواد الكيماوية التي تحتاجها محطات تصفية وضخ المياه، ومحطات معالجة مياه المجاري في عموم المحافظات العراقية، التي صارت بدورها ترمي مخلفاتها في الأنهار، لتنتهي مسيرة تلك المخلفات في شط العرب لكونه يقع في نهاية مسار نهري دجلة والفرات. 

وسعياً من الحكومة حينها للتخفيف من وطأة الأزمة على أهالي البصرة، عمدت إلى تشييد خزانات من الخرسانة، بطاقة استيعابية تتراوح بين 2000 لتر إلى 2500 لتر لكل خزان، وتوزيع تلك الخزانات في عدد من أحياء البصرة، وخاصة الأحياء الشعبية والمناطق الريفية، وملء تلك الخزانات بالمياه العذبة بواسطة السيارات الحوضية، التي تنقل المياه العذبة من محطتين لتحلية المياه، مملوكتين للشركة العامة للصناعات الورقية في البصرة والشركة العامة للصناعات البتروكيماوية في البصرة، ليتزود الأهالي بالمياه العذبة من تلك الخزانات مجاناً بواسطة الأوعية البلاستيكية والأواني المنزلية بمختلف أنواعها وأحجامها، قبل أن يتم تدشين محطة النبع الصافي. 

تلوّث المياه في البصرة. المصدر: وزارة البيئة. 

ومحطة النبع الصافي هي محطة أهلية تم تشييدها في حينه من قبل أحد رجال الأعمال، وكانت تجهز بالماء الخام من نهر الغراف شمالي مدينة الناصرية بواسطة الشاحنات الحوضية، لتقوم بتصفيته من العوالق والأطيان وتنقيته، ومن ثمّ بيعه للسكان بصورة مباشرة داخل المحطة أو عبر وكلاء المحطة الذين توزّعوا على عموم مناطق وأحياء البصرة، الذين كانت تصل لهم المياه العذبة من المحطة بواسطة الشاحنات الحوضية.   

وبسبب المعوقات التي كانت تعترض طريق صدور قرار من مجلس الأمن الدولي يقضي برفع العقوبات الاقتصادية التي فرضت على العراق وفقاً لقرار مجلس الامن آنف الذكر، وبسبب تفاقم الأزمة في البصرة، وما ترتب عليها من تداعيات خطيرة، فقد وجدت الحكومة نفسها مضطرة في حينه لتنفيذ مشروع “وفاء القائد”، الذي صار يُعرف اليوم بمشروع قناة البدعة. 

 وقناة البدعة هي عبارة عن قناة مائية صناعية مفتوحة يبلغ طولها الكلي 238.5 كيلومتر، تم تبطين 144 كيلومتراً منها بالخرسانة، فيما تم تبطين المسافة المتبقية منها، البالغة 94.5 كيلومتراً بالتربة الطينية المنتخبة قليلة الملوحة، وتنقل المياه من نهر الغراف على تخوم قضاء الشطرة شمالي محافظة ذي قار إلى مدن الناصرية وسوق الشيوخ والبصرة، وتمتد القناة بنسبة 69.8 % منها ضمن الحدود الإدارية لمحافظة ذي قار، وبنسبة 30.2 % منها ضمن الحدود الإدارية لمحافظة البصرة. 

وعند تدشين مشروع قناة البدعة عام 1997 صارت المياه العذبة تصل عموم مناطق مركز محافظة البصرة، ومراكز أقضية الزبير وشط العرب وأبي الخصيب والفاو، فيما ظلّت بقية المناطق تعتمد على المصادر القديمة لتأمين الماء الخام لمشاريع الماء، أما مناطق شمالي البصرة فظلّت تعتمد على أعالي شط العرب ونهري دجلة والفرات مصادر تأمين للماء الخام. 

وفور تدشين مشروع قناة البدعة أصدرت وزارة الري في حينه تعميمات منعت بموجبها استخدام ماء شط العرب لأغراض الإسالة، لكنه وعلى الرغم من وصول المياه العذبة إلى الأهالي من سكان المناطق المشار إليها آنفاً، لم يستخدموها لأغراض الشرب والطبخ، خشية تلوّثها أثناء مرورها من خلال شبكات التوزيع المتهالكة، وبقي الأهالي يشترون المياه الصالحة للاستهلاك البشري. 

محطّات الضخ العائمة في البدعة. المصدر: وزارة الموارد المائية. 

واستمرّت الحال على ما هي عليه حتى سقوط نظام صدام يوم 9 نيسان 2003، لتبدأ مرحلة جديدة من مراحل معاناة أهالي البصرة.  شهدت المحافظة بعد سقوط نظام صدام زيادة كبيرة في الكثافة السكانية إثر الزيادة في معدلات النمو السكاني وعودة عشرات الآلاف من أبنائها الذين هجروها نحو إيران ودول أخرى خلال سنوات حكم صدام، ونزوح مئات الآلاف من أبناء المحافظات المجاورة ومحافظات أخرى إليها، لأسباب عدة، ما أسفر عن استحداث العشرات من الأحياء السكنية الجديدة، وتجريف عشرات آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية وتفتيتها وتحويلها إلى مناطق سكنية، وانتشار العشوائيات وما رافقها من تجاوزات كبيرة وخطيرة على شبكات الإسالة، واستحداث دوائر ومؤسسات حكومية مختلفة، وتشييد مبانٍ تعليمية وتربوية ومجمعات تجارية وترفيهية ومرافق سياحية ومنشآت صناعية وزراعية وحقول للدواجن وغيرها من المشاريع، إضافة الى توافد مئات الآلاف من الوافدين العرب والأجانب للعمل في البصرة، ليرتفع الطلب على الماء بصورة كبيرة جداً.   

ولكن مقابل هذا الطلب، لم تأخذ الجهات المعنية الأمر على محمل الجد، ما أضطرها الى إعادة تشغيل أغلب محطات تصفية وضخ الماء، بالاعتماد على مياه شط العرب، سعياً منها لتأمين احتياجات الأهالي الآنية، بالتزامن مع ارتفاع نسب التلوث والتراكيز الملحية في مياه شط العرب جراء قلة الإطلاقات المائية التي تصل إليه من نهر دجلة عبر ناظم قلعة صالح، إثر السياسات المائية التي اعتمدتها دول الجوار، وأسفرت -كما أسلفنا- عن انخفاض كبير في حصة العراق المائية.   

وقد بادرت بعض الدول المانحة والمنظمات الدولية لمساعدة العراق في حل أزمة المياه الصالحة للاستخدام البشري في البصرة، عبر تقديم منح مالية لتمويل أعمال إعادة تأهيل وتطوير مشاريع تصفية وتعقيم المياه العاملة في البصرة، أو التبرع بالعشرات من محطات تصفية وتحلية المياه ذات الطاقات الإنتاجية المتوسطة والصغيرة، بغية نصبها وتشغيلها واستثمار إنتاجها للتخفيف عن كاهل الأهالي، ولكن الأعم الأغلب من تلك المحطات لم تكن ذات جدوى لكونها ذات طاقات إنتاجية متواضعة لا يمكن لأي منها تأمين حاجة قرية صغيرة من قرى البصرة. ولذلك، بقيت حبيسة المستودعات أو في العراء حتى تهالكت، فيما تم نصب بعض المحطات ذات الطاقات الإنتاجية المتوسطة، وتأجيرها من قبل مديرية ماء البصرة للقطاع الخاص، ليتم تشغيلها وبيع الماء المنتج للأهالي. 

ولقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية من الدول التي تبرعت بعشرات ملايين الدولارات لتمويل أعمال إعادة تأهيل وتطوير عدد من مشاريع الماء، إضافة إلى التبرع بمبلغ 25 مليون دولار لتنفيذ ثلاثة مشاريع مائية، تضمن كل منها خزاناً أرضياً كبيراً من الخرسانة، وآخرَ هوائي، تتغذى بالماء من مشروع ماء العباس، الذي يتغذى بدوره من قناة البدعة، بهدف تزويد حي الحسين وتوابعه بالماء الصالح للاستخدام البشري، ولكن تلك المشاريع لم تدخل حيّز الخدمة رغم مرور أكثر من 14 عاماً على إنجازها، بسبب عدم التنسيق المسبق بين الجانب الأميركي والجانب العراقي، ما تسبب بتعرض تلك المشاريع الثلاثة للاندثار، لتتكفل منظمة اليونيسف مؤخراً بإعادة تأهيلها تباعاً. 

تلوث شط العرب في البصرة. المصدر: هالة عبد الله.

كما بادرت بعض الدول لتقديم القروض المالية للعراق بهدف تنفيذ مشاريع كبرى لتحلية المياه في البصرة، ومساعدته على تجاوز الأزمة، ومن تلك الدول كانت اليابان، التي أقرضت العراق قرضاً مالياً لتمويل مشروع ماء البصرة الكبير في الهارثة شمالي مركز محافظة البصرة، الذي يتكون من أربع مراحل، وما زالت المرحلتان الأولى والثانية منها قيد الإنجاز، على الرغم من مرور أكثر من عشر سنوات على انطلاق الأعمال التنفيذية للمشروع، فيما أنجزت المرحلتين الثالثة والرابعة من مراحل المشروع.  

وقدمت المملكة المتحدة قرضاً لتمويل مشروع لتحلية مياه البحر في البصرة، بطاقة إنتاجية قدرها مليون متر مكعب / يوم، من الماء الصالح للشرب، لكنه وعلى الرغم من توقيع اتفاقية ثنائية بين الجانبين بهذا الصدد عام 2017، إلا أنه لم يتم توقيع عقد تنفيذ المشروع لغاية الساعة، لينتهي الأمر بانسحاب الشركات البريطانية التي خاضت جولات طويلة من المفاوضات مع الجانب العراقي، بعد أن تيقنت من عدم جدية المسؤولين عن هذا الملف في العراق، وإصرارهم على تحصيل عمولات مالية كبيرة قبل إحالة المشروع لتلك الشركات وتوقيع العقود الخاصة بتنفيذ المشروع معها. 

وكان لسوء التخطيط والإدارة وتفشي الفساد المالي والإداري دور بارز في عدم وجود حلول جذرية لأزمة المياه الصالحة للاستخدام البشري في البصرة. فقد أُنفقت مئات المليارات من الدنانير العراقية على أعمال صيانة وإعادة تأهيل مشاريع الماء المتهالكة والخطوط الناقلة وشبكات التوزيع، وتنفيذ مشاريع جديدة قبل دراستها بعناية، دون البحث بجدية عن حلول جذرية للأزمة، ما أسفر عن تفاقم الأوضاع دون الوصول إلى حل جذري.  

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

يواجه العراق منذ بدايات تأسيس الدولة العراقية المعاصرة مطلع عشرينات القرن الماضي تحدياً خطيراً، يتمثل في ملف المياه، والخلافات بينه وبين ثلاث دول في جواره حول هذا الملف. بدأ النزاع مبكراً مع الجارة الشمالية، تركيا، حول حصة العراق من مياه نهري دجلة والفرات بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية وتأسيس الدولة العراقية، واستغلت تركيا نص المادة 109 من معاهدة لوزان 1923، للتهرب من توقيع أي اتفاق بينها وبين كلّ من العراق وسوريا بشأن الحصة المائية لكلٍّ منها، ذلك أن نص المادة المشار إليها آنفاً قد أوكل الأمر إلى الدول المعنية لتوقيع اتفاق بينها بقصد حماية المصالح والحقوق التي حصل عليها كل منها، وفي حال عدم الاتفاق ينظّم الأمر عن طريق التحكيم الدولي.  

وعلى الرغم من توقيع اتفاقية الصداقة وحسن الجوار عام 1946 بين العراق وتركيا، وما تضمنته من تفاهمات بشأن ملف المياه، إلّا أن أنقرة لم تلتزم ببنود الاتفاقية الخاصة بملف المياه، واستمرت بالتهرب والمماطلة والتسويف، لتشرع عام 1966 بتشييد سد كيبان، الذي تم تدشينه عام 1974، ما أسفر عن إثارة هواجس العراق فور الإعلان عن ملء خزان السد، الذي يعُد واحداً من أهم السدود على مجرى نهر الفرات في تركيا، والذي يبلغ ارتفاعه 207 متر، وتبلغ طاقته التخزينية 30.6 مليار متر مكعب. 

تركيا تدشن سد كيبان في السبعينيات. المصدر: Turangazetesi. 

استغلت تركيا حالة الحرب بين العراق وإيران، التي اندلعت يوم 22 أيلول 1980 ووضعت أوزارها يوم 8 آب 1988، وانشغال العراق بتلك الحرب لتشرع منتصف ثمانينات القرن الماضي بتنفيذ مشروع جنوب شرق الاناضول “GAP”، الذي يتضمن تشييد عدد من السدود والأنفاق على مجرى نهري دجلة والفرات، إضافة إلى قنوات ريّ وعدد من محطات توليد الطاقة الكهربائية. 

وبموازاة النزاع بين تركيا والعراق حول ملف المياه كان هناك نزاع آخر بين العراق وإيران حول الملف نفسه، انطلاقاً من مطالبة طهران بعد استقلال بغداد بتقاسم السيادة على شط العرب بين الطرفين، إلى أن تم التوصل لأول اتفاق بينهما بتوقيع معاهدة عام 1937، التي تقضي باعتراف إيران بسيادة العراق على ضفتي شط العرب، باستثناء مناطق معينة من الضفة الشرقية تكون فيها السيادة لصالح إيران. 

ولكن الحال لم تستمرّ على ما هي عليه، حيث بادرت إيران فور سقوط النظام الملكي وقيام النظام الجمهوري في العراق، إلى المطالبة بإعادة ترسيم الحدود في شط العرب بالاعتماد على خط التالوك، لتشهد العلاقة بين البلدين توتراً خاصة بعد رد رئيس الوزراء العراقي في حينه، عبدالكريم قاسم، على الطلب الإيراني، بالمطالبة بإقليم خوزستان “عربستان”، المطلّ على الضفة الشرقية لشط العرب، ما أسفر عن اندلاع مناوشات بين الجانبين، لكنها لم تتطور إلى إعلان الحرب. 

اقرأ أيضاً

شط العرب: اصطياد “المغذيات” بدلاً من الأسماك 

وسعياً من إيران باتجاه تحقيق هدفها بفرض سيادتها على الضفة الشرقية لشط العرب، عمدت إلى تقديم الدعم اللوجستي للقوى الكردية المناهضة لنظام الحكم في بغداد، خلال سنوات الحرب بين الطرفين شمالي العراق، التي اندلعت عام 1961، واستمرت حتى عام 1969، لتبادر إيران في العام ذاته إلى إلغاء معاهدة عام 1973 سابقة الذكر، من طرف واحد، قبل أن تقوم بتحشيد قواتها المسلحة بمختلف صنوفها على طول الشريط الحدودي مع العراق تحسباً لأي ردّ من قبل الجانب العراقي، لكن النظام العراقي -الوليد في حينه بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي- لم يردّ. وتوجّه إلى ميناء أم قصر الذي كان قد تم تدشينه عام 1964، ليكون منفذه على الخليج، قبل أن يلحق به ميناء خور الزبير، الذي تم تدشينه عام 1974.  

واستمراراً للضغوطات الإيرانية على العراق، فقد عمدت إيران مرة أخرى، إلى تقديم الدعم اللوجستي للقوى الكردية في حربها الثانية ضد نظام الحكم في العراق، التي اندلعت يوم 16 نيسان 1974، لتنجح إيران بإخضاع العراق لرغباتها، وإجباره على توقيع اتفاقية الجزائر يوم 6 آذار 1975، التي تنازل العراق بموجبها عن نصف شط العرب لصالح إيران، مقابل وقف الدعم الإيراني للقوى الكردية في حربها ضد النظام العراقي، التي انتهت بدورها يوم 25 آذار 1975. 

وبحلول شهر تشرين الأول 1977 بدأت التظاهرات المناهضة لنظام شاه إيران محمد رضا بهلوي تعمّ المدن الإيرانية، لتعقبها الثورة الإسلامية في ايران، التي اندلعت يوم 7 كانون الثاني 1978، وانتهت بسقوط حكم الشاه يوم 11 شباط 1979، وقيام الجمهورية الإسلامية في إيران، بزعامة آية الله الخميني

وبعد خمسة أشهر تقريباً على قيام الجمهورية الإسلامية في إيران، وتحديداً يوم 16 تموز 1979، شهد العراق حدثاً مهماً للغاية، تمثّل بوصول صدام حسين إلى منصب رئيس الجمهورية في العراق خلفاً لسلفه أحمد حسن البكر، لتشهد العلاقة بين إيران والعراق حالة من التوتر الشديد، أسفرت عن إعلان الحرب بين الطرفين يوم 22 أيلول 1980. 

وقد دشّنت إيران خلال سنوات حكم الشاه، وما تلاها من سنوات حكم النظام القائم حالياً في إيران، العديد من السدود على نهر الكارون وروافد نهر دجلة، بهدف تقليص حصة العراق المائية؛ سعياً منها إلى تدمير القطاع الزراعي في العراق، كما وعمدت بعد سقوط نظام صدام في شهر نيسان 2003 إلى اعتماد سياسة إغراق السوق، التي تعد واحدة من أخطر أسلحة الحروب الاقتصادية، التي تقوم على أساس ضخّ كميات كبيرة جداً من مختلف البضائع الإيرانية إلى الأسواق العراقية، وبيعها للمستهلك بأقل من سعر كلفة الإنتاج، لتفرض سيطرتها على الأسواق المحلية، وتمنع المنتج المحلي من الحصول على فرصة للمنافسة، وبما يضمن تكبيد المزارعين والصناعيين خسائر مالية فادحة تكون السبب الرئيسي وراء هجرهم لأعمالهم، ومن ثمّ تدمير القطاع الزراعي والقطاع الصناعي في العراق، لتصبح إيران بعد ذلك هي المتحكّمة بلقمة عيش العراقيين، وقرارهم السياسي. 

وكذلك كانت حال سوريا، التي عمدت إلى تنفيذ العديد من السدود على مجرى نهر الفرات، وإهمّها سد الفرات و سد البعث و سد تشرين، لتشهد العلاقات بين العراق وسوريا توتراً أثّر ذلك بين حين وآخر، بسبب انخفاض واردات العراق المائية من نهر الفرات عبر الأراضي السورية. 

وكان للسياسات المائية التي انتهجتها الدول الثلاث تجاه العراق -التي يمكن وصفها بأنها إعلان لحالة حرب المياه ضد العراق- تداعيات خطيرة في المشهد العراقي، حيث تسببت تلك السياسات التعسفية بتقليص حصة العراق المائية إلى نسب منخفضة جداً، ما أسفر عن خسارة العراق لمساحات شاسعة من المسطحات المائية والأراضي الزراعية، وزيادة في معدلات التصحّر، وما ترتب إثر ذلك من خسارة كبيرة في الإنتاج الزراعي والحيواني، واختلال التركيبة السكانية جراء هجرة المزارعين ومربّي المواشي والأغنام لمناطق سكناهم باتجاه مراكز المدن، إضافة إلى ارتفاع درجات الحرارة وارتفاع معدلات التلوث البيئي، وتفشي الأمراض وشحّ المياه. 

وكانت محافظة البصرة أبرز المحافظات العراقية، والأكثر تضرراً جراء السياسيات المائية التعسفية التي انتهجتها الدول الثلاث على مدار العقود المنصرمة، لكونها تقع في أقصى جنوب العراق عند نهاية مجريي دجلة والفرات. حيث بدأت أزمة المياه الصالحة للاستهلاك البشري فعلياً في البصرة إثر اندلاع الحرب بين العراق وإيران يوم 22 أيلول 1980، بعد تعرض العديد من محطات تصفية وضخ مياه الإسالة وخطوط النقل وشبكات توزيع المياه لأضرار فادحة جرّاء القصف  الإيراني، بالتزامن مع تلوث مياه شط العرب -الذي كان يُعدّ في حينه والأنهار المتفرعة منه المصدر الوحيد للماء الخام لأغلب تلك المحطات- بسبب تسرب كميات كبيرة من الوقود والزيوت من السفن التي كانت ترسو فيه عند اندلاع الحرب إثر تعرّضها لإصابات بالغة نتيجة القصف الإيراني، إضافة إلى توقف عمليات الكري الدورية لمسار شط العرب بسبب ظروف الحرب. 

صدام حسين ومحمد رضا بهلوي عام 1975 أثناء توقيع اتفاقية الجزائر. المصدر: موسوعة مطالعات تاريخ إيران المعاصر. 

ورغم إعادة إعمار محطات تصفية وضخ المياه وخطوط النقل وشبكات التوزيع بعد فترة وجيزة من تعرضها للضرر جراء القصف، إلّا أن تلك المحطات عجزت عن معالجة الملوثات النفطية وغيرها من الملوثات الصناعية التي تلوثت بها مياه شط العرب والأنهار المتفرعة منه بنسب عالية. 

ولعدم وجود بديل عن مياه الإسالة سوى مياه الأنهار، فقد اضطر أغلب أهالي البصرة إلى استخدام مياه الإسالة لأغراض الغسل والطبخ والشرب على الرغم من عدم صلاحيتها، ما أسفر عن تفشي الإصابات بالأمراض الجلدية والمعوية والكلوية، فيما عمد الميسورين منهم لشراء المياه المعبّأة لأغراض الشرب، التي باتت متاحة على نطاق ضيق في الأسواق المحلية منتصف ثمانينات القرن الماضي، لتستمر الحال على ما هي عليه من سيء إلى أسوأ دون وجود حلول تلوح في الأفق بسبب استمرار الحرب بين العراق وإيران. 

وبعد أن وضعت الحرب أوزارها بإعلان وقف إطلاق النار بين طرفي الحرب يوم 8 آب 1988، استجابة لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 598 لسنة 1987 عاد الأمل ليتجدد في نفوس البصريين بحل أزمة المياه، التي باتت تمثل خطراً حقيقياً يهدد حياتهم، ولكنه سرعان ما تلاشى إثر قيام مؤسسات الدولة المعنية بفتح مذبات خطوط المجاري على شط العرب والأنهار المتفرعة منه إبان الحملة الكبرى لإعادة إعمار البصرة، التي انطلقت فور وقف إطلاق النار بين العراق وإيران، ما أسفر عن تحول أغلب أنهار البصرة المتفرعة من شط العرب، وخاصة تلك الواقعة في مركز المدينة إلى أنهار آسنة.  

واشتدت وطأة أزمة مياه الإسالة في البصرة بعد غزو العراق للكويت في الثاني من آب 1990،   وفرض العقوبات الاقتصادية على العراق وفقاً لقرار مجلس الامن الدولي رقم 661 في السادس من آب 1990، وما ترتّب على تلك العقوبات من تداعيات طالت مجمل الأوضاع في العراق، وكان أبرزها عدم قدرة العراق على استيراد المعدّات والمواد الاحتياطية والمواد الكيماوية التي تحتاجها محطات تصفية وضخ المياه، ومحطات معالجة مياه المجاري في عموم المحافظات العراقية، التي صارت بدورها ترمي مخلفاتها في الأنهار، لتنتهي مسيرة تلك المخلفات في شط العرب لكونه يقع في نهاية مسار نهري دجلة والفرات. 

وسعياً من الحكومة حينها للتخفيف من وطأة الأزمة على أهالي البصرة، عمدت إلى تشييد خزانات من الخرسانة، بطاقة استيعابية تتراوح بين 2000 لتر إلى 2500 لتر لكل خزان، وتوزيع تلك الخزانات في عدد من أحياء البصرة، وخاصة الأحياء الشعبية والمناطق الريفية، وملء تلك الخزانات بالمياه العذبة بواسطة السيارات الحوضية، التي تنقل المياه العذبة من محطتين لتحلية المياه، مملوكتين للشركة العامة للصناعات الورقية في البصرة والشركة العامة للصناعات البتروكيماوية في البصرة، ليتزود الأهالي بالمياه العذبة من تلك الخزانات مجاناً بواسطة الأوعية البلاستيكية والأواني المنزلية بمختلف أنواعها وأحجامها، قبل أن يتم تدشين محطة النبع الصافي. 

تلوّث المياه في البصرة. المصدر: وزارة البيئة. 

ومحطة النبع الصافي هي محطة أهلية تم تشييدها في حينه من قبل أحد رجال الأعمال، وكانت تجهز بالماء الخام من نهر الغراف شمالي مدينة الناصرية بواسطة الشاحنات الحوضية، لتقوم بتصفيته من العوالق والأطيان وتنقيته، ومن ثمّ بيعه للسكان بصورة مباشرة داخل المحطة أو عبر وكلاء المحطة الذين توزّعوا على عموم مناطق وأحياء البصرة، الذين كانت تصل لهم المياه العذبة من المحطة بواسطة الشاحنات الحوضية.   

وبسبب المعوقات التي كانت تعترض طريق صدور قرار من مجلس الأمن الدولي يقضي برفع العقوبات الاقتصادية التي فرضت على العراق وفقاً لقرار مجلس الامن آنف الذكر، وبسبب تفاقم الأزمة في البصرة، وما ترتب عليها من تداعيات خطيرة، فقد وجدت الحكومة نفسها مضطرة في حينه لتنفيذ مشروع “وفاء القائد”، الذي صار يُعرف اليوم بمشروع قناة البدعة. 

 وقناة البدعة هي عبارة عن قناة مائية صناعية مفتوحة يبلغ طولها الكلي 238.5 كيلومتر، تم تبطين 144 كيلومتراً منها بالخرسانة، فيما تم تبطين المسافة المتبقية منها، البالغة 94.5 كيلومتراً بالتربة الطينية المنتخبة قليلة الملوحة، وتنقل المياه من نهر الغراف على تخوم قضاء الشطرة شمالي محافظة ذي قار إلى مدن الناصرية وسوق الشيوخ والبصرة، وتمتد القناة بنسبة 69.8 % منها ضمن الحدود الإدارية لمحافظة ذي قار، وبنسبة 30.2 % منها ضمن الحدود الإدارية لمحافظة البصرة. 

وعند تدشين مشروع قناة البدعة عام 1997 صارت المياه العذبة تصل عموم مناطق مركز محافظة البصرة، ومراكز أقضية الزبير وشط العرب وأبي الخصيب والفاو، فيما ظلّت بقية المناطق تعتمد على المصادر القديمة لتأمين الماء الخام لمشاريع الماء، أما مناطق شمالي البصرة فظلّت تعتمد على أعالي شط العرب ونهري دجلة والفرات مصادر تأمين للماء الخام. 

وفور تدشين مشروع قناة البدعة أصدرت وزارة الري في حينه تعميمات منعت بموجبها استخدام ماء شط العرب لأغراض الإسالة، لكنه وعلى الرغم من وصول المياه العذبة إلى الأهالي من سكان المناطق المشار إليها آنفاً، لم يستخدموها لأغراض الشرب والطبخ، خشية تلوّثها أثناء مرورها من خلال شبكات التوزيع المتهالكة، وبقي الأهالي يشترون المياه الصالحة للاستهلاك البشري. 

محطّات الضخ العائمة في البدعة. المصدر: وزارة الموارد المائية. 

واستمرّت الحال على ما هي عليه حتى سقوط نظام صدام يوم 9 نيسان 2003، لتبدأ مرحلة جديدة من مراحل معاناة أهالي البصرة.  شهدت المحافظة بعد سقوط نظام صدام زيادة كبيرة في الكثافة السكانية إثر الزيادة في معدلات النمو السكاني وعودة عشرات الآلاف من أبنائها الذين هجروها نحو إيران ودول أخرى خلال سنوات حكم صدام، ونزوح مئات الآلاف من أبناء المحافظات المجاورة ومحافظات أخرى إليها، لأسباب عدة، ما أسفر عن استحداث العشرات من الأحياء السكنية الجديدة، وتجريف عشرات آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية وتفتيتها وتحويلها إلى مناطق سكنية، وانتشار العشوائيات وما رافقها من تجاوزات كبيرة وخطيرة على شبكات الإسالة، واستحداث دوائر ومؤسسات حكومية مختلفة، وتشييد مبانٍ تعليمية وتربوية ومجمعات تجارية وترفيهية ومرافق سياحية ومنشآت صناعية وزراعية وحقول للدواجن وغيرها من المشاريع، إضافة الى توافد مئات الآلاف من الوافدين العرب والأجانب للعمل في البصرة، ليرتفع الطلب على الماء بصورة كبيرة جداً.   

ولكن مقابل هذا الطلب، لم تأخذ الجهات المعنية الأمر على محمل الجد، ما أضطرها الى إعادة تشغيل أغلب محطات تصفية وضخ الماء، بالاعتماد على مياه شط العرب، سعياً منها لتأمين احتياجات الأهالي الآنية، بالتزامن مع ارتفاع نسب التلوث والتراكيز الملحية في مياه شط العرب جراء قلة الإطلاقات المائية التي تصل إليه من نهر دجلة عبر ناظم قلعة صالح، إثر السياسات المائية التي اعتمدتها دول الجوار، وأسفرت -كما أسلفنا- عن انخفاض كبير في حصة العراق المائية.   

وقد بادرت بعض الدول المانحة والمنظمات الدولية لمساعدة العراق في حل أزمة المياه الصالحة للاستخدام البشري في البصرة، عبر تقديم منح مالية لتمويل أعمال إعادة تأهيل وتطوير مشاريع تصفية وتعقيم المياه العاملة في البصرة، أو التبرع بالعشرات من محطات تصفية وتحلية المياه ذات الطاقات الإنتاجية المتوسطة والصغيرة، بغية نصبها وتشغيلها واستثمار إنتاجها للتخفيف عن كاهل الأهالي، ولكن الأعم الأغلب من تلك المحطات لم تكن ذات جدوى لكونها ذات طاقات إنتاجية متواضعة لا يمكن لأي منها تأمين حاجة قرية صغيرة من قرى البصرة. ولذلك، بقيت حبيسة المستودعات أو في العراء حتى تهالكت، فيما تم نصب بعض المحطات ذات الطاقات الإنتاجية المتوسطة، وتأجيرها من قبل مديرية ماء البصرة للقطاع الخاص، ليتم تشغيلها وبيع الماء المنتج للأهالي. 

ولقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية من الدول التي تبرعت بعشرات ملايين الدولارات لتمويل أعمال إعادة تأهيل وتطوير عدد من مشاريع الماء، إضافة إلى التبرع بمبلغ 25 مليون دولار لتنفيذ ثلاثة مشاريع مائية، تضمن كل منها خزاناً أرضياً كبيراً من الخرسانة، وآخرَ هوائي، تتغذى بالماء من مشروع ماء العباس، الذي يتغذى بدوره من قناة البدعة، بهدف تزويد حي الحسين وتوابعه بالماء الصالح للاستخدام البشري، ولكن تلك المشاريع لم تدخل حيّز الخدمة رغم مرور أكثر من 14 عاماً على إنجازها، بسبب عدم التنسيق المسبق بين الجانب الأميركي والجانب العراقي، ما تسبب بتعرض تلك المشاريع الثلاثة للاندثار، لتتكفل منظمة اليونيسف مؤخراً بإعادة تأهيلها تباعاً. 

تلوث شط العرب في البصرة. المصدر: هالة عبد الله.

كما بادرت بعض الدول لتقديم القروض المالية للعراق بهدف تنفيذ مشاريع كبرى لتحلية المياه في البصرة، ومساعدته على تجاوز الأزمة، ومن تلك الدول كانت اليابان، التي أقرضت العراق قرضاً مالياً لتمويل مشروع ماء البصرة الكبير في الهارثة شمالي مركز محافظة البصرة، الذي يتكون من أربع مراحل، وما زالت المرحلتان الأولى والثانية منها قيد الإنجاز، على الرغم من مرور أكثر من عشر سنوات على انطلاق الأعمال التنفيذية للمشروع، فيما أنجزت المرحلتين الثالثة والرابعة من مراحل المشروع.  

وقدمت المملكة المتحدة قرضاً لتمويل مشروع لتحلية مياه البحر في البصرة، بطاقة إنتاجية قدرها مليون متر مكعب / يوم، من الماء الصالح للشرب، لكنه وعلى الرغم من توقيع اتفاقية ثنائية بين الجانبين بهذا الصدد عام 2017، إلا أنه لم يتم توقيع عقد تنفيذ المشروع لغاية الساعة، لينتهي الأمر بانسحاب الشركات البريطانية التي خاضت جولات طويلة من المفاوضات مع الجانب العراقي، بعد أن تيقنت من عدم جدية المسؤولين عن هذا الملف في العراق، وإصرارهم على تحصيل عمولات مالية كبيرة قبل إحالة المشروع لتلك الشركات وتوقيع العقود الخاصة بتنفيذ المشروع معها. 

وكان لسوء التخطيط والإدارة وتفشي الفساد المالي والإداري دور بارز في عدم وجود حلول جذرية لأزمة المياه الصالحة للاستخدام البشري في البصرة. فقد أُنفقت مئات المليارات من الدنانير العراقية على أعمال صيانة وإعادة تأهيل مشاريع الماء المتهالكة والخطوط الناقلة وشبكات التوزيع، وتنفيذ مشاريع جديدة قبل دراستها بعناية، دون البحث بجدية عن حلول جذرية للأزمة، ما أسفر عن تفاقم الأوضاع دون الوصول إلى حل جذري.