"نريد أن نعرف هل هذا قبر والدنا أم لا!".. متى ستفتح المقابر الجماعية في سنجار؟ 

ليث حسين

29 نيسان 2025

"هل هذا القبر لنا؟ هل هذه العظام لأحبابنا؟" في هذا التحقيق، نروي قصة انتظار أهالي سنجار أمام المقابر الجماعية في أمل العثور على رفاة أحبابهم.. لكن البيروقراطية والتنازع الإداري يعطلان كل شيء..

في ليلة الثاني من آب 2014، كانت الحياة تمضي كالمعتاد في مجمع الجزيرة (سيبا شيخ خدر) جنوب جبل سنجار، حيث العوائل تمارس يومياتها البسيطة بين البيوت الطينية، غير مدركة أن الصباح يضمر آخر عهد لها بالحياة كما عرفتها. 

اجتاح تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) المنطقة صباح اليوم التالي، وعمّت الفوضى والذعر، وفُقد أثر والد عدول حسين. 

“حسّيت بيومها اجت نهايتنا”، تقول عدول، التي كانت حينها فتاة في مقتبل العمر، لم تستوعب سوى أن والدها اختفى وسط الجموع الهاربة أو المحتجزة. 

لم يصل عنه أي خبر بعدها، لا صوت ولا أثر، فقط روايات متفرقة من ناجين ممن بقوا محاصرين حينها، وهؤلاء أكدوا لاحقاً أن والدها كان من بين كبار السن الذين أعدمهم “داعش” في المجمع. 

أهالي ضحايا المفقودين في سنجار، المصدر: دائرة الطب العدلي. 

حفرة في الأرض.. وأخرى في القلب 

على مدى تسع سنوات، بقيت عدول وأفراد عائلتها معلقين بين الأمل واليأس، يتساءلون عن مصير أبيها. 

في تشرين الأول 2023، تم فتح مقبرة جماعية في المجمع، قيل إنها تضم رفات من أعدموا يوم الاجتياح. 

وقفت عدول هناك، تنظر إلى الحفرة التي انتُشلت منها بقايا بشرية، وهي تتمتم في سرها: “يا رب يكون بينهم.. ويا أهلي”، متشبثة بأي احتمال يقرّبها من الحقيقة. 

قدّمت عدول وعائلتها عينات فحص الـDNA ثلاث مرات لفريق الطب العدلي، أملاً في تطابق النتائج مع رفات والدها، لكن حتى الآن، لا جواب. 

“في كل مرة يتصلون بنا نذهب إلى الموصل لنتلقى خبراً، ولكن نسمع الجملة ذاتها: لا يوجد تطابق”، تقول بحسرة لـ”جمّار”، وكأنها تعيد شريط الانتظار الطويل الذي لا ينتهي. 

وتتساءل: “إلى متى نبقى ننتظر؟ نريد أن نعرف فقط هل هذا قبر والدنا أم لا”. 

وبينما تطول المدة، يبقى الأمل معلقاً في أروقة التحاليل المختبرية، في انتظار هوية تُعاد لأصحابها، وفي قلب عدول، الذي لم يهدأ منذ 2014. 

انتظار بلا نهاية  

على الرغم من مرور أكثر من ثماني سنوات على تحرير سنجار من قبضة “داعش”، ما تزال المقابر الجماعية تروي فصولاً من المأساة التي لم تُطوَ صفحاتها بعد. 

أمهات، آباء، وأبناء غادروا بيوتهم ذات صباح مشؤوم، ولم يعودوا أبداً. بعضهم عُثر عليه في حفر جماعية، وآخرون ما زالوا مجرد أسماء في ذاكرة ذويهم. 

اقرأ أيضاً

“كأنّه مخزن”.. مرضى في “المستشفى الوحيد” بسنجار  

وفي كل مرة تُفتح فيها مقبرة جديدة، يعود الأمل لأهالي الضحايا، لكن الأمل وحده لا يكفي حين تتباطأ الإجراءات، ويبقى التعرف على الرفات معلقاً بين المختبرات والتقارير الرسمية. 

قصة حيدر خدر هي قصة انتظار طويل أخرى، لكنه هذه المرة لم ينتظر خبراً عن مقبرة جماعية، بل عن رفات عُثر عليه داخل أحد البيوت في ناحية القحطانية (تل عزير). 

منذ أيار العام الماضي وهو ينتظر معرفة ما إذا كانت هذه رفات أمه أم لا. 

حاول التحرك نحو الجهات المتخصصة لانتشال الرفات وإجراء الفحوصات اللازمة. الملابس والعلامات تشير إلى أنها تعود لوالدته، لكن هذا لا يكفي ليمنحه اليقين. 

“عندما أبلغت الجهات المسؤولة، ظننت أنهم سيأتون في اليوم ذاته، لكنهم جاؤوا بعد أيام، ثم بدأت دوامة التحاليل، ولم تصدر نتيجة حتى الآن” يقول حيدر لـ”جمّار”. 

ويرى أن الحكومة مقصّرة جداً في التعامل مع هذا الملف. 

ولا يعني ملف المقابر الجماعية التعرف على الضحايا فقط، بل يعني العدالة لأهاليهم، وإنهاء المعاناة النفسية لمن عاشوا سنوات من القلق والتساؤلات، ومع ذلك، كل تأخير في نتائج الفحوصات هو تأجيل لعدالة كان يجب تحقيقها منذ سنوات. 

حيدر وغيره من أهالي الضحايا لا يريدون سوى شيء واحد: معرفة الحقيقة، ودفن أحبائهم بكرامة، بدلاً من أن تبقى رفاتهم مُهملة، بلا اسم، بلا قبر، بلا وداع يليق بهم. 

مقبرة كوجو في سنجار، المصدر: دائرة الطب العدلي. 

عشرات المقابر 

بحسب إحصائيات حصل عليها “جمّار” بشكل حصري من منظمة بتريكور لحقوق الإنسان، تم العثور حتى الآن على 93 مقبرة جماعية في قضاء سنجار غرب محافظة نينوى، والتي خلفها اجتياح تنظيم “داعش” للمنطقة. 

ومن بين هذه المقابر، تم فتح 58 مقبرة، حيث جرى انتشال 798 رفاتاً. 

وعلى الرغم من مرور سنوات على تحرير المنطقة، لم يتم التعرف سوى على 274 شخصاً من بين الضحايا، والذين أعيد دفنهم بمراسم رسمية، بينما ما تزال مئات العائلات تنتظر بفارغ الصبر الكشف عن مصير أحبائها. 

ويقول خيري علي، رئيس بتريكور، إن التأخير المستمر في فتح المقابر الجماعية بسنجار يعود إلى أسباب معقدة تتعلق بالتداخلات الإدارية والسياسية. 

وبحسب كلامه، وقع التأخير بسبب تنازع الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان على سنجار. 

حتى عام 2017، كانت المدينة تحت سيطرة حكومة الإقليم، ومنذ تشرين الأول 2017، تحولت إلى سيطرة الحكومة الاتحادية، لكن إدارة المدينة تؤدي أعمالها من خارجها، وهذا ما أثر سلباً على ملف المقابر الجماعية، ويضاف إلى ذلك وجود نقص في الدعم اللوجستي والكوادر المتخصصة. 

وعلى الرغم من مرور أكثر من تسع سنوات على تحرير المنطقة من قبضة “داعش”، ما تزال العديد من المقابر الجماعية تنتظر أن تُفتح، ما يؤثر بشكل مباشر على عائلات الضحايا الذين يعيشون في حالة من الانتظار المؤلم بحثاً عن إجابات لمصير أحبائهم. 

تداخلات تعيق العدالة 

لطالما كانت التحديات السياسية والإدارية في العراق، وخاصة في المناطق التي تعرضت للتدمير على يد “داعش”، أحد أبرز العقبات التي تقف أمام تحقيق العدالة. 

ويشير علي إلى أن هناك تداخلاً واضحاً بين السلطات الاتحادية في بغداد وحكومة إقليم كردستان بشأن فتح المقابر الجماعية في سنجار. 

في البداية، كانت هناك محاولات لفتح المقابر الجماعية من قبل السلطات المحلية في كردستان، لكن ذلك اصطدم بعراقيل من الجهات الاتحادية التي كانت تصر على أن هذه العمليات من مسؤولية مؤسسة الشهداء، وهي الجهة الرسمية التي تدير ملف المقابر الجماعية على مستوى العراق. 

هذه التداخلات بين السلطات أدت إلى تعقيد الأمور وتأخير عملية انتشال الرفات. 

وذكرت مؤسسة الشهداء لـ”جمّار” أن الحكومة لم توفر لها الدعم اللازم كمؤسسة للوقوف على هذا الملف، أو تقديم حلول بشأنه. 

وكانت إحدى أبرز الحالات التي أظهرت هذا التداخل، قيام حكومة الإقليم بفتح مقبرة جماعية في منطقة خانصور في عام 2015. 

ومع أن هذه الخطوة كانت تهدف إلى تسريع عملية انتشال رفات الضحايا، إلا أنها قوبلت بانتقادات من قبل السلطات في بغداد التي عدتها خطوة غير قانونية، باعتبار أن المقابر تقع ضمن اختصاص الحكومة الاتحادية. 

ونتيجة لذلك، تم دفن الرفات من جديد، ولكن من دون وجود معالم واضحة أو إجراءات قانونية تؤكد هوية الضحايا، ما جعل عملية التعرف على هويتهم أكثر تعقيداً، ومع ذلك كانت هناك شهادات من ذوي الضحايا بأن هذه الرفات تعود لأبنائهم. 

المباشرة بفتح المقابر الجماعية في قرية كوجو، المصدر: دائرة الطب العدلي 

نقص الكوادر 

إلى جانب التداخلات السياسية، يعاني الفريق الوطني المكلف بفتح المقابر الجماعية في العراق من نقص حاد في الكوادر المتخصصة في هذا المجال بحسب كلامهم، ما يزيد من صعوبة عمله. 

دائرة حماية وتنقيب المقابر الجماعية في العراق التابعة لمؤسسة الشهداء، والتي أسست بموجب قانون رقم 13 لسنة 2015 ويديرها حالياً ضياء الساعدي، وهي مسؤولة عن الكشف والتنقيب عن المقابر الجماعية. 

افتتحت الدائرة أكثر من 100 مقبرة جماعية منذ 2019، وهي تضم أقساماً متخصصة، منها التنقيب والأدلة الجنائية والتوثيق، وعدد كادرها محدود وتعاني من نقص في الموارد البشرية والتقنية، وجميع أعضائها موظفون حكوميون وليسوا متطوعين. 

وفقاً لعلي، فإن العمليات المعقدة التي تتطلب تقنيات متقدمة لا يمكن أن تتم من دون وجود فرق متخصصة. 

“الموضوع ليس مجرد فتح القبور واستخراج الرفات، بل يتطلب عمليات دقيقة جداً تشمل الحفاظ على الأدلة، استخراج الحمض النووي، والتأكد من تطابقه مع عائلات الضحايا” يقول. 

وهذا يتطلب فرقاً مدربة على أعلى مستوى من الكفاءة، بالإضافة إلى تقنيات حديثة للكشف عن الهوية، ويرى علي أن الفرق المتوافرة متدربة بشكل جيد لكنها بحاجة لدعم أكثر من قبل الجهات المعنية. 

ويشير إلى أن النقص في هذه الكوادر يؤثر بشكل كبير على سرعة تنفيذ العمليات في عدد كبير من المقابر الجماعية. 

التحدي أكبر من الإمكانيات 

أحد أبرز التحديات التي يواجهها الفريق المتخصص بفتح المقابر الجماعية في سنجار هو العدد الكبير من المقابر المكتشفة، حيث وصلت إلى 93 مقبرة جماعية تم العثور عليها حتى الآن موزعة بين مناطق عدة. 

يقول علي إنه على الرغم من الجهود المبذولة من قبل الفريق الوطني، لكن ما زال عدد كبير من المقابر لم يُفتح، والفريق الوطني كان قد وضع خطة لفتح عدد معين من المقابر كل عام، إلا أن العدد الذي تم اكتشافه فاق التوقعات، ما يعني أن عملهم يتجاوز الخطة الموضوعة، ما يؤدي إلى تراكم الأعمال والتأخير في تنفيذها. 

وفي ما يتعلق بالعائلات التي فقدت أحباءها في تلك المجازر، يؤكد علي أن التأخير في فتح المقابر له تأثير نفسي كبير على أفراد هذه العائلات. 

ويلفت إلى أن التأخير لا يقتصر فقط على الانتظار وآثاره النفسية، بل له أيضاً تداعيات قانونية، فالعديد من العائلات لا تستطيع الحصول على مستحقاتها القانونية، خاصة التعويضات، طالما أن عملية التعرف على الرفات لم تكتمل بعد. 

ويدعو علي إلى توحيد الجهود بين الحكومة الاتحادية وحكومة كردستان لضمان تسريع عملية فتح المقابر الجماعية وتوفير الموارد اللازمة للفرق العاملة في هذا المجال. 

كما يدعو إلى وضع خطة وطنية شاملة لمتابعة ملف المقابر الجماعية، تتضمن تحديد أولويات العمل وتوفير التمويل وتدريب فرق متخصصة. 

الأهالي يتسلمون رفاة ابناءهم من دائرة الطب العدلي في بغداد ، المصدر: دائرة الطب العدلي 

بيانات شحيحة 

من التحديات الكبيرة التي تواجهها عمليات تحديد هويات ضحايا المقابر الجماعية في العراق، قلة قاعدة البيانات الخاصة بأسماء ذوي الشهداء، وهذا يعني أن عدد الضحايا أعلى بكثير من ذوي الضحايا الذين فقدوا أبناءهم والذين يعيشون في العراق، وخاصة أن هناك عددا كبيرا من أهالي الضحايا يسكنون خارج العراق ولا يتابعون ملفات أبنائهم الموجودة رفاتهم في المقابر الجماعية، حيث لا تتناسب مع الأعداد الكبيرة من الضحايا الذين ما يزالون مجهولي الهوية. 

هذا النقص الكبير في البيانات يجعل من الصعب مطابقة الرفات التي يتم اكتشافها مع العائلات المفقودة، ما يؤدي إلى تأخير عملية التسليم الفعلي للرفات إلى ذويها. 

يقول أحمد قصي، رئيس فريق التنقيب عن المقابر الجماعية في العراق، إن “التحديات عبارة عن عدم وجود دعم كاف من الحكومة وقلة الكوادر، لأن هناك أعدادا كبيرة من المقابر لم تفتح، وكل عام يتم العمل وفقاً لخطة”. 

ويضيف قصي لـ”جمّار” أن الفريق الوطني يتكون من كوادر متخصصة تعمل تحت إشراف إدارة حماية المقابر الجماعية والمفقودين في مؤسسة الشهداء، إضافة إلى إدارة الطب العدلي في بغداد. 

ويشير إلى أن جميع الرفات التي يتم اكتشافها في المقابر الجماعية تُرفع وتُسلم إلى دائرة الطب العدلي بموجب محاضر تسليم رسمية، ليتم مطابقة العينات العظمية التي تُؤخذ من الرفات مع عينات الدم التي يتم سحبها من عوائل الضحايا. 

ويتم ذلك عبر فرق متخصصة تهتم بجمع المعلومات وسحب عينات الدم من العوائل. وبعد إجراء الفحوصات والتأكد من تطابق العينات، يتم تسليم الرفات إلى ذويها، حيث تُقام مراسم دفن لائقة بهم بالمغدورين. 

بعد تحرير المناطق من “داعش” عام 2017، تم تشكيل فريق التنقيب لإجراء الكشف الأولي على مواقع المقابر الجماعية. 

توجه الفريق آنذاك إلى سنجار، وتم إجراء الكشف الفني على جميع المواقع المشكوك فيها، وتم تثبيت المقابر الجماعية وتحديد المناطق التي لا تحتوي على مقابر جماعية. 

ومع استمرار عملية ترميم قضاء سنجار وعودة العوائل إلى مناطقها، تم اكتشاف مواقع جديدة للمقابر الجماعية، كما حدث داخل مدرسة في منطقة حي آزادي، حيث تم الكشف عن مقبرة جماعية أخرى بتبليغ من الأهالي. 

وجميع المقابر التي عُثر عليها تم الكشف عنها وتوثيقها من قبل كوادر الدائرة المعنية، وأدرجت في الخطط الرسمية للدائرة. 

وبحسب الخطط السنوية لعام 2025، هناك مرحلتان لأعمال التنقيب في سنجار، المرحلة الأولى بدأت في شباط الماضي، بينما ستبدأ الثانية في آب المقبل. 

وبحسب قصي، شملت المرحلة الأولى من أعمال التنقيب فتح أكثر من خمسة مواقع لمقابر جماعية في سنجار. 

ولا يمكن تحديد عدد القبور داخل المقابر الجماعية بشكل دقيق قبل بدء التنقيب، ولكن في كشف أولي أجري في شباط، تبين أن عدد القبور تجاوز عشرة في الموقع الواحد. 

وفي المرحلة الثانية المقررة في آب، سيتم فتح أكثر من أربعة أو خمسة مواقع أخرى يضم كل واحد منها أكثر من عشرة قبور. 

ولم يُعرف عدد المقابر بعد، ولا عدد الجثث التي يضمها كل قبر. 

ولا تقتصر الخطة السنوية على سنجار فقط، بل تشمل جميع محافظات العراق التي تعرضت لمجازر جماعية على يد النظام السابق، بالإضافة إلى المقابر التي ارتكبها تنظيما القاعدة وداعش. 

وفي ما يتعلق بأعمال المطابقة والفحوصات المختبرية، يؤكد قصي أن هذه الأعمال مستمرة في دائرة الطب العدلي، حيث يتم إجراء الفحوصات الأولية على الرفات المرفوعة من المقابر الجماعية وتطابقها مع عينات الدم المسحوبة من عائلات الضحايا. 

“نحن نعمل بكل جدية لتسريع هذه العملية، ولكن كما تعلمون، فإن الأمر يتطلب وقتاً لضمان صحة النتائج” يقول قصي. 

وليست هناك أرقام واضحة لعدد ذوي الضحايا الذين لم يتعرفوا بعد على أبنائهم. 

ويدعو قصي الحكومة الاتحادية إلى دعم جهود فريق التنقيب والمساعدة في توفير الموارد اللازمة لتسريع عمليات التنقيب والتوثيق. 

من الاتصالات السرية إلى الضياع التام 

في إحدى زوايا مدينة سنجار، تجلس نورا مراد، وهي تحمل في قلبها وجعاً لا يمكن للكلمات أن تصفه. 

فقدت نورا أكثر من ثمانية من أفراد عائلتها في نكبة “داعش”، بينهم ثلاثة من أسرتها والبقية من أسرة عمها. 

كانت آخر مرة سمعت فيها أصواتهم قبل أن ينقطع الاتصال، ومنذ تلك اللحظة، لا تعرف عنهم شيئاً. 

تقول نورا بصوت مليء بالحزن: “كنا نتكلم معهم بشكل سري في بداية الهجوم، كانوا يطمئنونا على وضعهم، يقولون إنهم كانوا يُنقلون من مكان إلى آخر، بين مناطق نينوى، من دون أن يعرفوا ما سيحدث لهم في النهاية”. 

لكن مع مرور الأيام وتوالي الأحداث، بدأ الخوف يتسرب إلى قلبها مع كل مكالمة كانت تتلقاها، وكل حديث كان يزداد غموضاً، إلى أن جاء اليوم الذي انقطعت فيه جميع وسائل الاتصال بعد نحو عام من الإبادة. 

لم تعد نورا تعرف هل أنهم أحياء أم أموات، وهل كانوا في مكان آمن أم تعرضوا لهجوم عنيف. 

في البداية كانوا يخبرونها بأنهم في مكان آمن، ولكن فُقد الاتصال بهم فجأة. 

ولاحقاً سمعت من بعض الناجين أن أغلب أفراد عائلتها تم ذبحهم في إحدى المقابر بالقرب من طريق الجبل، وهو مكان سُمع عنه الكثير. 

حديث الناجين كان أشبه بكابوس مرعب، وصفوا كيف تم قتل معظمهم، ولكن على الرغم من مرور أكثر من ثماني سنوات على الحادثة، فإن المقبرة، وهي مقبرة بربوش التي يُعتقد أنهم دفنوا فيها، لم تُفتح بعد. 

وعلى الرغم من المحاولات العديدة من نورا وبقية ذوي الضحايا لتبليغ الجهات المتخصصة، بقيت الأمور في حالة جمود، ولم يتم الكشف عن أي تفاصيل جديدة حول مصير أحبائها. 

ومع استمرار الصمت الرسمي حول مصير عائلتها، يظل الأمل في العثور على رفات أفراد عائلتها بعيداً. 

تقول لـ”جمّار” إنها تعلم في أعماقها أن أياً منهم قد لا يعود، “لكن يبقى الأمل في فتح المقابر الجماعية، وفي رؤية رفاتهم ليعودوا إلى بيوتهم، حتى وإن كان ذلك متأخراً”. 

وفي الوقت ذاته، ترى أن تأخير فتح هذه المقابر والتقصير في التحقيق يجعلها تشعر بأن قضيتهم نسيت، كما لو أن حياتهم وأرواحهم لا تعني شيئاً للسلطات. 

مراسم تشييع وتسليم رفات 41 شهيدا من شهداء الايزيديين، المصدر: دائرة الطب العدلي 

منتصف 2025 

يوضح زيد العباس، مدير عام دائرة الطب العدلي، أن قاعدة البيانات المتاحة حول ذوي الشهداء غير كافية ولا تتناسب مع أعداد الضحايا، ما يعقّد عملية تنقيب المقابر الجماعية. 

ويشير إلى أن هناك العديد من الجثث التي تم اكتشافها في المقابر الجماعية ولم يتم التعرف على هويات أصحابها بعد. 

ومع تعذر التعرف على عدد كبير من الشهداء، تزداد عملية التوثيق والمطابقة صعوبة. 

وكانت دائرة الطب العدلي قد اتفقت مع اللجنة الدولية للمفقودين (ICMP)، على ضرورة إتمام قاعدة البيانات لذوي ضحايا الإبادة الجماعية، خاصة بالنسبة لأولئك الذين يعيشون خارج العراق. 

كما تم الاتفاق على جمع عينات دم من هؤلاء الأشخاص لمطابقتها مع الرفات التي تم اكتشافها، ومن المتوقع تنفيذ بنود الاتفاق منتصف 2025″. 

ويقول العباس لـ”جمّار” إن هذا التعاون مع اللجنة الدولية يهدف إلى تسريع عملية تحديد هويات الضحايا وضمان أن عملية المطابقة تسير بشكل دقيق وفعال. 

وعلى الرغم من التحديات الكبيرة، يؤكد العباس أن دائرة الطب العدلي ما تزال مستمرة في عملية تحديد هويات الضحايا، وأن هناك خطة شاملة تم وضعها لإنهاء هذا الملف الإنساني. 

وتشتمل الخطة على تحديث قاعدة البيانات بشكل مستمر، وجمع عينات دم من عائلات الضحايا، وكذلك إجراء فحوصات دقيقة للتأكد من تطابق العينات مع الرفات التي تم اكتشافها. 

“العملية تحتاج إلى وقت، ولكننا ملتزمون بإتمام هذه المهمة الإنسانية لتقديم العدالة لعائلات الضحايا”، يقول العباس. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

في ليلة الثاني من آب 2014، كانت الحياة تمضي كالمعتاد في مجمع الجزيرة (سيبا شيخ خدر) جنوب جبل سنجار، حيث العوائل تمارس يومياتها البسيطة بين البيوت الطينية، غير مدركة أن الصباح يضمر آخر عهد لها بالحياة كما عرفتها. 

اجتاح تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) المنطقة صباح اليوم التالي، وعمّت الفوضى والذعر، وفُقد أثر والد عدول حسين. 

“حسّيت بيومها اجت نهايتنا”، تقول عدول، التي كانت حينها فتاة في مقتبل العمر، لم تستوعب سوى أن والدها اختفى وسط الجموع الهاربة أو المحتجزة. 

لم يصل عنه أي خبر بعدها، لا صوت ولا أثر، فقط روايات متفرقة من ناجين ممن بقوا محاصرين حينها، وهؤلاء أكدوا لاحقاً أن والدها كان من بين كبار السن الذين أعدمهم “داعش” في المجمع. 

أهالي ضحايا المفقودين في سنجار، المصدر: دائرة الطب العدلي. 

حفرة في الأرض.. وأخرى في القلب 

على مدى تسع سنوات، بقيت عدول وأفراد عائلتها معلقين بين الأمل واليأس، يتساءلون عن مصير أبيها. 

في تشرين الأول 2023، تم فتح مقبرة جماعية في المجمع، قيل إنها تضم رفات من أعدموا يوم الاجتياح. 

وقفت عدول هناك، تنظر إلى الحفرة التي انتُشلت منها بقايا بشرية، وهي تتمتم في سرها: “يا رب يكون بينهم.. ويا أهلي”، متشبثة بأي احتمال يقرّبها من الحقيقة. 

قدّمت عدول وعائلتها عينات فحص الـDNA ثلاث مرات لفريق الطب العدلي، أملاً في تطابق النتائج مع رفات والدها، لكن حتى الآن، لا جواب. 

“في كل مرة يتصلون بنا نذهب إلى الموصل لنتلقى خبراً، ولكن نسمع الجملة ذاتها: لا يوجد تطابق”، تقول بحسرة لـ”جمّار”، وكأنها تعيد شريط الانتظار الطويل الذي لا ينتهي. 

وتتساءل: “إلى متى نبقى ننتظر؟ نريد أن نعرف فقط هل هذا قبر والدنا أم لا”. 

وبينما تطول المدة، يبقى الأمل معلقاً في أروقة التحاليل المختبرية، في انتظار هوية تُعاد لأصحابها، وفي قلب عدول، الذي لم يهدأ منذ 2014. 

انتظار بلا نهاية  

على الرغم من مرور أكثر من ثماني سنوات على تحرير سنجار من قبضة “داعش”، ما تزال المقابر الجماعية تروي فصولاً من المأساة التي لم تُطوَ صفحاتها بعد. 

أمهات، آباء، وأبناء غادروا بيوتهم ذات صباح مشؤوم، ولم يعودوا أبداً. بعضهم عُثر عليه في حفر جماعية، وآخرون ما زالوا مجرد أسماء في ذاكرة ذويهم. 

اقرأ أيضاً

“كأنّه مخزن”.. مرضى في “المستشفى الوحيد” بسنجار  

وفي كل مرة تُفتح فيها مقبرة جديدة، يعود الأمل لأهالي الضحايا، لكن الأمل وحده لا يكفي حين تتباطأ الإجراءات، ويبقى التعرف على الرفات معلقاً بين المختبرات والتقارير الرسمية. 

قصة حيدر خدر هي قصة انتظار طويل أخرى، لكنه هذه المرة لم ينتظر خبراً عن مقبرة جماعية، بل عن رفات عُثر عليه داخل أحد البيوت في ناحية القحطانية (تل عزير). 

منذ أيار العام الماضي وهو ينتظر معرفة ما إذا كانت هذه رفات أمه أم لا. 

حاول التحرك نحو الجهات المتخصصة لانتشال الرفات وإجراء الفحوصات اللازمة. الملابس والعلامات تشير إلى أنها تعود لوالدته، لكن هذا لا يكفي ليمنحه اليقين. 

“عندما أبلغت الجهات المسؤولة، ظننت أنهم سيأتون في اليوم ذاته، لكنهم جاؤوا بعد أيام، ثم بدأت دوامة التحاليل، ولم تصدر نتيجة حتى الآن” يقول حيدر لـ”جمّار”. 

ويرى أن الحكومة مقصّرة جداً في التعامل مع هذا الملف. 

ولا يعني ملف المقابر الجماعية التعرف على الضحايا فقط، بل يعني العدالة لأهاليهم، وإنهاء المعاناة النفسية لمن عاشوا سنوات من القلق والتساؤلات، ومع ذلك، كل تأخير في نتائج الفحوصات هو تأجيل لعدالة كان يجب تحقيقها منذ سنوات. 

حيدر وغيره من أهالي الضحايا لا يريدون سوى شيء واحد: معرفة الحقيقة، ودفن أحبائهم بكرامة، بدلاً من أن تبقى رفاتهم مُهملة، بلا اسم، بلا قبر، بلا وداع يليق بهم. 

مقبرة كوجو في سنجار، المصدر: دائرة الطب العدلي. 

عشرات المقابر 

بحسب إحصائيات حصل عليها “جمّار” بشكل حصري من منظمة بتريكور لحقوق الإنسان، تم العثور حتى الآن على 93 مقبرة جماعية في قضاء سنجار غرب محافظة نينوى، والتي خلفها اجتياح تنظيم “داعش” للمنطقة. 

ومن بين هذه المقابر، تم فتح 58 مقبرة، حيث جرى انتشال 798 رفاتاً. 

وعلى الرغم من مرور سنوات على تحرير المنطقة، لم يتم التعرف سوى على 274 شخصاً من بين الضحايا، والذين أعيد دفنهم بمراسم رسمية، بينما ما تزال مئات العائلات تنتظر بفارغ الصبر الكشف عن مصير أحبائها. 

ويقول خيري علي، رئيس بتريكور، إن التأخير المستمر في فتح المقابر الجماعية بسنجار يعود إلى أسباب معقدة تتعلق بالتداخلات الإدارية والسياسية. 

وبحسب كلامه، وقع التأخير بسبب تنازع الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان على سنجار. 

حتى عام 2017، كانت المدينة تحت سيطرة حكومة الإقليم، ومنذ تشرين الأول 2017، تحولت إلى سيطرة الحكومة الاتحادية، لكن إدارة المدينة تؤدي أعمالها من خارجها، وهذا ما أثر سلباً على ملف المقابر الجماعية، ويضاف إلى ذلك وجود نقص في الدعم اللوجستي والكوادر المتخصصة. 

وعلى الرغم من مرور أكثر من تسع سنوات على تحرير المنطقة من قبضة “داعش”، ما تزال العديد من المقابر الجماعية تنتظر أن تُفتح، ما يؤثر بشكل مباشر على عائلات الضحايا الذين يعيشون في حالة من الانتظار المؤلم بحثاً عن إجابات لمصير أحبائهم. 

تداخلات تعيق العدالة 

لطالما كانت التحديات السياسية والإدارية في العراق، وخاصة في المناطق التي تعرضت للتدمير على يد “داعش”، أحد أبرز العقبات التي تقف أمام تحقيق العدالة. 

ويشير علي إلى أن هناك تداخلاً واضحاً بين السلطات الاتحادية في بغداد وحكومة إقليم كردستان بشأن فتح المقابر الجماعية في سنجار. 

في البداية، كانت هناك محاولات لفتح المقابر الجماعية من قبل السلطات المحلية في كردستان، لكن ذلك اصطدم بعراقيل من الجهات الاتحادية التي كانت تصر على أن هذه العمليات من مسؤولية مؤسسة الشهداء، وهي الجهة الرسمية التي تدير ملف المقابر الجماعية على مستوى العراق. 

هذه التداخلات بين السلطات أدت إلى تعقيد الأمور وتأخير عملية انتشال الرفات. 

وذكرت مؤسسة الشهداء لـ”جمّار” أن الحكومة لم توفر لها الدعم اللازم كمؤسسة للوقوف على هذا الملف، أو تقديم حلول بشأنه. 

وكانت إحدى أبرز الحالات التي أظهرت هذا التداخل، قيام حكومة الإقليم بفتح مقبرة جماعية في منطقة خانصور في عام 2015. 

ومع أن هذه الخطوة كانت تهدف إلى تسريع عملية انتشال رفات الضحايا، إلا أنها قوبلت بانتقادات من قبل السلطات في بغداد التي عدتها خطوة غير قانونية، باعتبار أن المقابر تقع ضمن اختصاص الحكومة الاتحادية. 

ونتيجة لذلك، تم دفن الرفات من جديد، ولكن من دون وجود معالم واضحة أو إجراءات قانونية تؤكد هوية الضحايا، ما جعل عملية التعرف على هويتهم أكثر تعقيداً، ومع ذلك كانت هناك شهادات من ذوي الضحايا بأن هذه الرفات تعود لأبنائهم. 

المباشرة بفتح المقابر الجماعية في قرية كوجو، المصدر: دائرة الطب العدلي 

نقص الكوادر 

إلى جانب التداخلات السياسية، يعاني الفريق الوطني المكلف بفتح المقابر الجماعية في العراق من نقص حاد في الكوادر المتخصصة في هذا المجال بحسب كلامهم، ما يزيد من صعوبة عمله. 

دائرة حماية وتنقيب المقابر الجماعية في العراق التابعة لمؤسسة الشهداء، والتي أسست بموجب قانون رقم 13 لسنة 2015 ويديرها حالياً ضياء الساعدي، وهي مسؤولة عن الكشف والتنقيب عن المقابر الجماعية. 

افتتحت الدائرة أكثر من 100 مقبرة جماعية منذ 2019، وهي تضم أقساماً متخصصة، منها التنقيب والأدلة الجنائية والتوثيق، وعدد كادرها محدود وتعاني من نقص في الموارد البشرية والتقنية، وجميع أعضائها موظفون حكوميون وليسوا متطوعين. 

وفقاً لعلي، فإن العمليات المعقدة التي تتطلب تقنيات متقدمة لا يمكن أن تتم من دون وجود فرق متخصصة. 

“الموضوع ليس مجرد فتح القبور واستخراج الرفات، بل يتطلب عمليات دقيقة جداً تشمل الحفاظ على الأدلة، استخراج الحمض النووي، والتأكد من تطابقه مع عائلات الضحايا” يقول. 

وهذا يتطلب فرقاً مدربة على أعلى مستوى من الكفاءة، بالإضافة إلى تقنيات حديثة للكشف عن الهوية، ويرى علي أن الفرق المتوافرة متدربة بشكل جيد لكنها بحاجة لدعم أكثر من قبل الجهات المعنية. 

ويشير إلى أن النقص في هذه الكوادر يؤثر بشكل كبير على سرعة تنفيذ العمليات في عدد كبير من المقابر الجماعية. 

التحدي أكبر من الإمكانيات 

أحد أبرز التحديات التي يواجهها الفريق المتخصص بفتح المقابر الجماعية في سنجار هو العدد الكبير من المقابر المكتشفة، حيث وصلت إلى 93 مقبرة جماعية تم العثور عليها حتى الآن موزعة بين مناطق عدة. 

يقول علي إنه على الرغم من الجهود المبذولة من قبل الفريق الوطني، لكن ما زال عدد كبير من المقابر لم يُفتح، والفريق الوطني كان قد وضع خطة لفتح عدد معين من المقابر كل عام، إلا أن العدد الذي تم اكتشافه فاق التوقعات، ما يعني أن عملهم يتجاوز الخطة الموضوعة، ما يؤدي إلى تراكم الأعمال والتأخير في تنفيذها. 

وفي ما يتعلق بالعائلات التي فقدت أحباءها في تلك المجازر، يؤكد علي أن التأخير في فتح المقابر له تأثير نفسي كبير على أفراد هذه العائلات. 

ويلفت إلى أن التأخير لا يقتصر فقط على الانتظار وآثاره النفسية، بل له أيضاً تداعيات قانونية، فالعديد من العائلات لا تستطيع الحصول على مستحقاتها القانونية، خاصة التعويضات، طالما أن عملية التعرف على الرفات لم تكتمل بعد. 

ويدعو علي إلى توحيد الجهود بين الحكومة الاتحادية وحكومة كردستان لضمان تسريع عملية فتح المقابر الجماعية وتوفير الموارد اللازمة للفرق العاملة في هذا المجال. 

كما يدعو إلى وضع خطة وطنية شاملة لمتابعة ملف المقابر الجماعية، تتضمن تحديد أولويات العمل وتوفير التمويل وتدريب فرق متخصصة. 

الأهالي يتسلمون رفاة ابناءهم من دائرة الطب العدلي في بغداد ، المصدر: دائرة الطب العدلي 

بيانات شحيحة 

من التحديات الكبيرة التي تواجهها عمليات تحديد هويات ضحايا المقابر الجماعية في العراق، قلة قاعدة البيانات الخاصة بأسماء ذوي الشهداء، وهذا يعني أن عدد الضحايا أعلى بكثير من ذوي الضحايا الذين فقدوا أبناءهم والذين يعيشون في العراق، وخاصة أن هناك عددا كبيرا من أهالي الضحايا يسكنون خارج العراق ولا يتابعون ملفات أبنائهم الموجودة رفاتهم في المقابر الجماعية، حيث لا تتناسب مع الأعداد الكبيرة من الضحايا الذين ما يزالون مجهولي الهوية. 

هذا النقص الكبير في البيانات يجعل من الصعب مطابقة الرفات التي يتم اكتشافها مع العائلات المفقودة، ما يؤدي إلى تأخير عملية التسليم الفعلي للرفات إلى ذويها. 

يقول أحمد قصي، رئيس فريق التنقيب عن المقابر الجماعية في العراق، إن “التحديات عبارة عن عدم وجود دعم كاف من الحكومة وقلة الكوادر، لأن هناك أعدادا كبيرة من المقابر لم تفتح، وكل عام يتم العمل وفقاً لخطة”. 

ويضيف قصي لـ”جمّار” أن الفريق الوطني يتكون من كوادر متخصصة تعمل تحت إشراف إدارة حماية المقابر الجماعية والمفقودين في مؤسسة الشهداء، إضافة إلى إدارة الطب العدلي في بغداد. 

ويشير إلى أن جميع الرفات التي يتم اكتشافها في المقابر الجماعية تُرفع وتُسلم إلى دائرة الطب العدلي بموجب محاضر تسليم رسمية، ليتم مطابقة العينات العظمية التي تُؤخذ من الرفات مع عينات الدم التي يتم سحبها من عوائل الضحايا. 

ويتم ذلك عبر فرق متخصصة تهتم بجمع المعلومات وسحب عينات الدم من العوائل. وبعد إجراء الفحوصات والتأكد من تطابق العينات، يتم تسليم الرفات إلى ذويها، حيث تُقام مراسم دفن لائقة بهم بالمغدورين. 

بعد تحرير المناطق من “داعش” عام 2017، تم تشكيل فريق التنقيب لإجراء الكشف الأولي على مواقع المقابر الجماعية. 

توجه الفريق آنذاك إلى سنجار، وتم إجراء الكشف الفني على جميع المواقع المشكوك فيها، وتم تثبيت المقابر الجماعية وتحديد المناطق التي لا تحتوي على مقابر جماعية. 

ومع استمرار عملية ترميم قضاء سنجار وعودة العوائل إلى مناطقها، تم اكتشاف مواقع جديدة للمقابر الجماعية، كما حدث داخل مدرسة في منطقة حي آزادي، حيث تم الكشف عن مقبرة جماعية أخرى بتبليغ من الأهالي. 

وجميع المقابر التي عُثر عليها تم الكشف عنها وتوثيقها من قبل كوادر الدائرة المعنية، وأدرجت في الخطط الرسمية للدائرة. 

وبحسب الخطط السنوية لعام 2025، هناك مرحلتان لأعمال التنقيب في سنجار، المرحلة الأولى بدأت في شباط الماضي، بينما ستبدأ الثانية في آب المقبل. 

وبحسب قصي، شملت المرحلة الأولى من أعمال التنقيب فتح أكثر من خمسة مواقع لمقابر جماعية في سنجار. 

ولا يمكن تحديد عدد القبور داخل المقابر الجماعية بشكل دقيق قبل بدء التنقيب، ولكن في كشف أولي أجري في شباط، تبين أن عدد القبور تجاوز عشرة في الموقع الواحد. 

وفي المرحلة الثانية المقررة في آب، سيتم فتح أكثر من أربعة أو خمسة مواقع أخرى يضم كل واحد منها أكثر من عشرة قبور. 

ولم يُعرف عدد المقابر بعد، ولا عدد الجثث التي يضمها كل قبر. 

ولا تقتصر الخطة السنوية على سنجار فقط، بل تشمل جميع محافظات العراق التي تعرضت لمجازر جماعية على يد النظام السابق، بالإضافة إلى المقابر التي ارتكبها تنظيما القاعدة وداعش. 

وفي ما يتعلق بأعمال المطابقة والفحوصات المختبرية، يؤكد قصي أن هذه الأعمال مستمرة في دائرة الطب العدلي، حيث يتم إجراء الفحوصات الأولية على الرفات المرفوعة من المقابر الجماعية وتطابقها مع عينات الدم المسحوبة من عائلات الضحايا. 

“نحن نعمل بكل جدية لتسريع هذه العملية، ولكن كما تعلمون، فإن الأمر يتطلب وقتاً لضمان صحة النتائج” يقول قصي. 

وليست هناك أرقام واضحة لعدد ذوي الضحايا الذين لم يتعرفوا بعد على أبنائهم. 

ويدعو قصي الحكومة الاتحادية إلى دعم جهود فريق التنقيب والمساعدة في توفير الموارد اللازمة لتسريع عمليات التنقيب والتوثيق. 

من الاتصالات السرية إلى الضياع التام 

في إحدى زوايا مدينة سنجار، تجلس نورا مراد، وهي تحمل في قلبها وجعاً لا يمكن للكلمات أن تصفه. 

فقدت نورا أكثر من ثمانية من أفراد عائلتها في نكبة “داعش”، بينهم ثلاثة من أسرتها والبقية من أسرة عمها. 

كانت آخر مرة سمعت فيها أصواتهم قبل أن ينقطع الاتصال، ومنذ تلك اللحظة، لا تعرف عنهم شيئاً. 

تقول نورا بصوت مليء بالحزن: “كنا نتكلم معهم بشكل سري في بداية الهجوم، كانوا يطمئنونا على وضعهم، يقولون إنهم كانوا يُنقلون من مكان إلى آخر، بين مناطق نينوى، من دون أن يعرفوا ما سيحدث لهم في النهاية”. 

لكن مع مرور الأيام وتوالي الأحداث، بدأ الخوف يتسرب إلى قلبها مع كل مكالمة كانت تتلقاها، وكل حديث كان يزداد غموضاً، إلى أن جاء اليوم الذي انقطعت فيه جميع وسائل الاتصال بعد نحو عام من الإبادة. 

لم تعد نورا تعرف هل أنهم أحياء أم أموات، وهل كانوا في مكان آمن أم تعرضوا لهجوم عنيف. 

في البداية كانوا يخبرونها بأنهم في مكان آمن، ولكن فُقد الاتصال بهم فجأة. 

ولاحقاً سمعت من بعض الناجين أن أغلب أفراد عائلتها تم ذبحهم في إحدى المقابر بالقرب من طريق الجبل، وهو مكان سُمع عنه الكثير. 

حديث الناجين كان أشبه بكابوس مرعب، وصفوا كيف تم قتل معظمهم، ولكن على الرغم من مرور أكثر من ثماني سنوات على الحادثة، فإن المقبرة، وهي مقبرة بربوش التي يُعتقد أنهم دفنوا فيها، لم تُفتح بعد. 

وعلى الرغم من المحاولات العديدة من نورا وبقية ذوي الضحايا لتبليغ الجهات المتخصصة، بقيت الأمور في حالة جمود، ولم يتم الكشف عن أي تفاصيل جديدة حول مصير أحبائها. 

ومع استمرار الصمت الرسمي حول مصير عائلتها، يظل الأمل في العثور على رفات أفراد عائلتها بعيداً. 

تقول لـ”جمّار” إنها تعلم في أعماقها أن أياً منهم قد لا يعود، “لكن يبقى الأمل في فتح المقابر الجماعية، وفي رؤية رفاتهم ليعودوا إلى بيوتهم، حتى وإن كان ذلك متأخراً”. 

وفي الوقت ذاته، ترى أن تأخير فتح هذه المقابر والتقصير في التحقيق يجعلها تشعر بأن قضيتهم نسيت، كما لو أن حياتهم وأرواحهم لا تعني شيئاً للسلطات. 

مراسم تشييع وتسليم رفات 41 شهيدا من شهداء الايزيديين، المصدر: دائرة الطب العدلي 

منتصف 2025 

يوضح زيد العباس، مدير عام دائرة الطب العدلي، أن قاعدة البيانات المتاحة حول ذوي الشهداء غير كافية ولا تتناسب مع أعداد الضحايا، ما يعقّد عملية تنقيب المقابر الجماعية. 

ويشير إلى أن هناك العديد من الجثث التي تم اكتشافها في المقابر الجماعية ولم يتم التعرف على هويات أصحابها بعد. 

ومع تعذر التعرف على عدد كبير من الشهداء، تزداد عملية التوثيق والمطابقة صعوبة. 

وكانت دائرة الطب العدلي قد اتفقت مع اللجنة الدولية للمفقودين (ICMP)، على ضرورة إتمام قاعدة البيانات لذوي ضحايا الإبادة الجماعية، خاصة بالنسبة لأولئك الذين يعيشون خارج العراق. 

كما تم الاتفاق على جمع عينات دم من هؤلاء الأشخاص لمطابقتها مع الرفات التي تم اكتشافها، ومن المتوقع تنفيذ بنود الاتفاق منتصف 2025″. 

ويقول العباس لـ”جمّار” إن هذا التعاون مع اللجنة الدولية يهدف إلى تسريع عملية تحديد هويات الضحايا وضمان أن عملية المطابقة تسير بشكل دقيق وفعال. 

وعلى الرغم من التحديات الكبيرة، يؤكد العباس أن دائرة الطب العدلي ما تزال مستمرة في عملية تحديد هويات الضحايا، وأن هناك خطة شاملة تم وضعها لإنهاء هذا الملف الإنساني. 

وتشتمل الخطة على تحديث قاعدة البيانات بشكل مستمر، وجمع عينات دم من عائلات الضحايا، وكذلك إجراء فحوصات دقيقة للتأكد من تطابق العينات مع الرفات التي تم اكتشافها. 

“العملية تحتاج إلى وقت، ولكننا ملتزمون بإتمام هذه المهمة الإنسانية لتقديم العدالة لعائلات الضحايا”، يقول العباس.