شط العرب: اصطياد “المغذيات” بدلاً من الأسماك 

هالة عبدالله

13 نيسان 2025

في شط العرب، لم تعد الشباك والصنارات تُخرج أسماكاً، بل أكياساً طبية ومخلّفات بشرية، والأسماك لم تعد قادرة على النمو، فلجأت إلى التقزّم كي تبقى على قيد الحياة..

“ماي الشط يمتى شفته أخضر؟ هسه تغير، السمجة تريد ماي حلو” يقول جاسم عبد اللطيف (78 عاماً)، صياد سمك، تحدث عن مياه شط العرب، إذ يعتبر تغير لون المياه وتلوثها سبباً في اختفاء أسماك كثيرة مثل الزبيدي، أو صغر حجم أسماك الشانك فلم تعد تأكل الطُعم ولا تلتقطه صنارات الصيادين أو شباكهم.  

يجلس جاسم منذ ساعات مع الطُعم المرمي في مياه شط العرب الخضراء، ولا أسماك أمامه سوى مئات أسماك الزوري، التي لا يتجاوز حجمها أصبع يد، وجميعها تتجمع حول علبة مغلقة فيها مرق فاصولياء، أغلب الظن أنه مخلفات عزيمة “مندي” على شط العرب، لكن العلبة مغلقة، والزوري جائع. 

أين ذهبت الأسماك في شط العرب؟ 

كيف تضاءل حجمها؟ 

إذا ما قلّ الغذاء، أو ساءت جودة المياه، أو صار الأوكسجين رفاهية لا يمكن الحصول عليها تحت الماء، يستخدم السمك حيلة دفاعية تحميه من تبعات الظروف المحيطة، وهي التقزّم.  

يشرح علي عزيز، باحث علمي من كلية علوم البحار في جامعة البصرة، أن السمك يلجأ لهذه الحيلة ليحافظ على جيناته واستمراريته، فيعمل على تقليل حجمه، وزيادة بيوضه للتكاثر. 

العملية لا تتوقف، بحسب عزيز، فكلما زادت أزمة الموارد للسمكة، كلما وجهت طاقتها لتقليل حجمها وتكاثرها، لكي يتناسب مع الموارد المتوفرة. 

أبو محمد، أمضى ساعتين وهو ينتظر أن يصطاد شيئاً، لكن هذا الانتظار ليس الأول، إذ أمضى الأيام الثلاثة الأخيرة، بمعدل ساعتين أو ثلاث كل يوم، وهو يقابل شط العرب منتظراً أن يصطاد شيئاً، لكنه لم يصطد شيئاً سوى سمكة صغيرة، بالكاد تغطي ربع كفّ يده. 

يتذكر أبو محمد أحجام السمك في شبابه، ذات مرة، بدت مجموعات الكطان (الشبوط) كأنما “بلم وأنكلب” على حدّ تعبيره، ووصلت أوزانها لـ 50 كيلو وقتها، لكنه اليوم، بالكاد يحصل على “كيلوين إلى أربعة كيلوات” فقط. 

وحين يُقارن بين المياه سابقاً والآن، “الماي جان حلو، مو مثل هسه، ماي مجاري هذا، جان زلال الماي”، حسب وصفه. 

أبو محمد والسمكة الوحيدة التي اصطادها، المصدر: الكاتبة.  

تتنوع المشاكل في شط العرب، بين اللسان الملحي، والمياه الثقيلة، والمخلفات الطبية، والمخلفات التي يتركها الناس على ضفافه.   

في دراسة أجرتها إيمان كريم عباس، المُدرّسة بقسم الجغرافيا في جامعة البصرة، اكتشفت مخالفات عديدة، وعلى رأسها المخلفات التي تصرفها المستشفيات في شط العرب أو الأنهار المغذية له. 

مستشفى التعليمي مثلاً، كان يصرف 150 إلى 400 متر مكعب باليوم في وقت الدراسة عام 2016 (ما يساوي خزانيّ مياه كبيرين منزليين) من المخلفات السائلة، قسم منها يذهب للمجاري العامة، وقسم إلى نهر البراضعية ومن ثم إلى شط العرب. 

الأنابيب التي يرصدها الجميع ويصورها وهي تُخرج مياهاً لا يعرف أحد مصدرها، ليست دليلاً أو حافزاً للحكومة المحلية لاتخاذ قرارٍ بشأنها. 

حين انتشر فيديوعن أنبوب يصبّ مياهه في شط العرب، ورجّح الجميع أنه من مستشفى التعليمي، أو من محطة تحلية البراضعية، خرج “مسؤول الورشة الخافر” الذي لم يعرّف عن اسمه، وقال إن الأنبوب قديم ويعود لمحطة تحلية المياه RO، وذو مياه نظيفة.  

لكنه ليس الأنبوب الوحيد مجهول الهوية الذي يصبّ في شط العرب، هناك على الأقل ثلاثة أنابيب ظاهرة للعين تصب في شط العرب، اثنان فوق الأحجار، وواحد تحتها.  

أنابيب تصبّ مياهها في شط العرب، المصدر: الكاتبة.

لسان الشط “مالح”

يمكن تعريف اللسان الملحي بأنه ارتفاع نسبة مركبات ملحية مثل كلوريد المغنيسيوم والصوديوم والكالسيوم في المجرى السفلي للشطّ عند انخفاض مستواه خلال مواسم الجفاف، مما يجعل مياهه غير صالحة للاستخدام الحي. 

“وحدة من الأسباب اللي أذت السمج وخلته يقل عدنا هي ملوحة الماي”، يقول علي حيدر (20 عاماً) من الصالحية في البصرة، وهو صياد هاوٍ ورث صيد السمك عن عائلته.  

ارتفاع ملوحة المياه يقدّم تحديات جديدة للأسماك، إذ تصبح الأولوية هي محاولة السيطرة على توازن الماء والأملاح في أجسادها، الأمر الذي يدفع أعضاءها (مثل الكلى والخياشيم) لبذل طاقة ومجهود أعلى في محاولة لحفظ أجسادها من الجفاف. 

هذه العمليات تزيد من إجهاد السمك، الأمر الذي يُبقي مساحة صغيرة جداً للنمو والتطور، فتفقد الأسماك قدرتها على النمو بصورة سليمة، بالتالي، تنخفض أحجامها أو تتقزم.  

يعاني شط العرب من ضعف الإمدادات المائية من نهري دجلة والفرات، ما يساهم في زيادة اللسان الملحي للشط، وفي تصريح سابق، ذكر هادي عبد الحسين خضير، رئيس القسم البيولوجي في مديرية بيئة البصرة، أن “كمية الإطلاقات المائية من محافظة ميسان شمالاً باتجاه البصرة غير كافية، ما يضعف التدفق، ويتسبب في صعود اللسان الملحي من الخليج إلى شط العرب أثناء حالة المد وتغلغل اللسان الملحي”. 

عام 2022، ألقى مهدي رشيد الحمداني، وزير الموارد المائية السابق، اللوم على جمهورية إيران الإسلامية بعد أن أقامت سداً على نهر الكارون. حيث حوّل السدّ اتجاه مجرى النهر وبقية الروافد المائية التي تصب في شط العرب. مما خفّض المنسوب ورفع اللسان الملحي. 

بحسب منظمة الصحة العالمية، فإن مجموع المواد الصلبة الذائبة (TDS) في الماء لا يجب أن يتجاوز 500 TDS لتكون صالحة للاستخدام البشري والحياة الحيوانية والنباتية. والمواد الصلبة الذائبة تشمل الأملاح، والمعادن، وأيونات المعادن، وغيرها من المواد الصلبة. 

في أيلول الماضي، اعتبر جمعة شياع، مدير الموارد المائية في محافظة البصرة، أن نسبة الـTDS  في شط العرب، والتي تصل لـ 2000 TDS، هي نسبة جيدة وليست شديدة الارتفاع، رغم أنها أضعاف ما ذكرته منظمة الصحة العالمية.

سمكة ميتة في شط العرب قرب أبلام متروكة، المصدر: الكاتبة  

في آب عام 2021، شهدت 29 مزرعة سمكية في ناحية السيبة في البصرة موت أسماكها بسبب موجة الملوحة التي أصابت المحافظة منذ نهايات شهر آيار، فارتفعت نسبة الملوحة من 4000 TDS نهايات أيار لتصل لـ 18 ألف TDS. حينها، سجل المزارعون خسائر مالية وصلت لـ 50 مليون دينار بين الأسماك والأعلاف.  

منذ سنوات وحكومة البصرة تقدّم الوعود بإنشاء سدّ على شطّ العرب يقلل من اللسان الملحي الذي يصل لشط العرب من الخليج، ويضرّ بالثروة السمكية التي يتمتع بها. عام 2015، أعلن صباح البزوني، رئيس مجلس محافظة البصرة السابق، أن محسن الشمري، وزير الموارد المائية السابق، وافق “من حيث المبدأ” على إنشاء سدّ على شط العرب، إضافة إلى محطات تحلية تساعد على حل أزمة الملوحة. يتكرر الوعد كلما حلّت حكومة محلية جديدة، لكن حتى الآن، لا أثر للسد الذي سيحمي أهالي البصرة وأسماكها من المدّ الملحي. 

يتأمل أبو محمد أن تغلق الحكومة تفرعات الشط في البصرة كلها، مؤقتاً لتصفية المياه، وبناء سدّ قرب أبو الخصيب، على أمل أن يساعد في تنظيف شط العرب من الملوحة والتلوث. 

لا تتوقف مطالبات أهالي البصرة بمعالجة مياه الصرف الصحي قبل رميها في مياه شط العرب. ليس صعباً على سكان البصرة رؤية ما جاء من حمامات منازلهم وهو يشق طريقه إلى شطهم المُحبّب، حيث السمك الذي يأكلونه، والماء الذي يستخدمونه، والكورنيش الذي يحبون المشي عليه.  

على منصة “يوتيوب”، يحاول المواطنون والمواطنات نشر مقاطع مصوّرة لـ “فضح” و “مناشدة” الحكومة المحلية، ذاتها التي تسمح للبراز بالتجول مع أسماك البلطي، وتعِد بمحاسبة “المقصّرين” الذين يتركون المياه الآسنة تشق طريقها لشط العرب وكل ما يغذّيه من أنهار. أما القنوات الفضائية البصرية، تصوّر بلا توقف، أنابيب المجاري التي لا تتوقف عن مدّ الشط بحصّته منها، ولا أحد يستمع لكل هذه المناشدات اليائسة.  

“ما حصلنا بس الويلات والآهات من المجمعات التجارية”، يقول مواطن بصري، وهو يتحسر على المشاريع التجارية التي تنمو في قضاء شط العرب، ومعها ينمو معدل المياه الثقيلة التي تلهو بحرية في المياه الخضراء التي يغذي منازل القضاء كماء للشرب والاستخدام. 

بطبيعة الحال، ليس أهالي البصرة وحدهم من يشربون فضلات المشاريع، فالأسماك تشاركهم الماء.  

مياه ملوثة تخرج لشط العرب من أنبوب تحت الأحجار، المصدر: الكاتبة. 

ملتقى الأحبّة والملوثات 

قبل أن يتشكّل شط العرب، هناك دجلة والفرات، حيث يصلان إلى البصرة ومعهما كل المخلفات التي حملاها من باقي محافظات العراق، ففي كركوك مثلاً، انتهت التسربات النفطية من شركة نفط الشمال وحقولها لتكوين وادٍ نفطي، يقتل ما حوله من أراضٍ زراعية، ويجد طريقه خفيةً إلى شط العرب. 

أما المصافي النفطية في بغداد والمستشفيات، فقد عَمِدت إلى تصريف مياهها ومخلفاتها إلى نهر دجلة، الذي تصدر منه رائحة كريهة في بعض المناطق التي يمر فيها. 

 في عام 2022، اتهمت وزارة الموارد المائية أمانة بغداد، ودوائر بلدية المحافظة بتلويث كِلا نهري دجلة والفرات. ألقى علي راضي، الناطق باسم وزارة الموارد المائية آنذاك، اللوم على الجهات القطاعية، مؤكداً أن “مسؤولية تلوثها يقع بشكل كبير على الجهات القطاعية المستهلكة للمياه”. 

بقع زيتية في شط العرب، المصدر: الكاتبة.  

ليست المؤسسات الحكومية وحدها المسؤولة عن التلوث، يقول علي، “البيت اللي يفلشونه، اللوريات بدل ما تأخذ الكسر لغير مكان، تشمره على أطراف الشط”، حيث لا يلتزم المواطنون والمواطنات بالحفاظ على نظافة المكان، وتفتقر المياه إلى رقابة السلطة لحمايتها من التلوث أو معالجتها منه. 

ويضيف علي “مصلحين الأبلام يبدل دهن المكينة وصبه كله بالشط، كل فترة أسبوع أسبوعين نروح نلكا الشط وجهه فسفوري”. 

على شط الصالحية، اصطاد علي وأصدقاؤه أكياس مغذي، أو أكياس إدرار، أو أكياس دم، مرمية من مستشفى أو مركز طبي، وتقطع الأكياس طريقها وصولاً لشطّ الصالحية، حيث يجلس علي وأصدقاؤه على أمل اصطياد سمكة بدلاً عن الأمراض المغلفة.   

حسب دراسة من مجموعة أساتذة من الهند، أُجريت عن طبيعة تأثيرات العوامل الكيميائية والفيزيائية للمياه على الأسماك، فإن واحدة من أهم مشاكل الدول النامية هي إهمال المعالجة السلمية للمياه الناتجة عن الاستخدامات البشرية. الملوثات التي تتسرّب إلى أجساد الأسماك بسبب تصريف مياه الاستخدام البشري، أو التجاري، تؤدي لتغيير أنشطة الناقلات العصبية، أو تؤثر على الهرمونات، كلاهما يلعبان دوراً مهماً في إدارة شهية السمكة وقدرتها الجسدية على النمو، الأمر الذي يمكن أن يعيق عملية النمو.  

بقعة سوداء في منتصف شط العرب، المصدر: الكاتبة.

يقول رياض العيداني، باحث بالشأن البيئي، إن أنواع الأسماك التي اختفت بسبب التلوث هي “الشبوط، والسمتي، والبياح، وحتى الروبيان، والكثير من الأنواع الأخرى منها السلاحف”. ويضيف، “كانت تدخل عندنا أسماك بحرية، هم هاجرت بسبب التلوث”.  

تكثر خلايا الأزمة وملفات التحقيق وعزم الحكومة المحلية على إيجاد الحلول. لكن الحلول لم تر النور يوماً.  

في عام 2018 شكّلت الحكومة المحلية للبصرة خلية أزمة للتصدي لنفوق الأسماك الذي وصل للآلاف مما سبب كارثة بيئية واقتصادية واجتماعية، حيث خسرت المسطحات المائية تنوعها، وخسر بائعو السمك ومربوه مصدر دخلهم، وخسر المجتمع العراقي وجبة يعتمد عليها.  

تكررت أزمة النفوق عام 2019، وعام 2021، وعام 2022، وعام 2023، وعام 2024، بمعنى، أن الأسماك تنفق تقريباً كل عام في الأعوام الستة الأخيرة.  

يعدّ علي عزيز الأسماك منبّهات بيئية، كلما قلّت نسبة الأوكسجين أو ازداد تلوث الماء، يموت نوع من السمك، أو تقلّ أعداده، مما يعطي إشارة للمُراقبين. لاحظ عزيز أن الأسماك المحلية اختفت بالكامل من مياه شط العرب، مثل التي ذكرها العيداني، ولم يبقَ سوى أنواع قليلة تقاوم التلوث، منها البلطي، الذي يستطيع النجاة في مثل هذه الظروف. 

لكن عزيز ينبّه إلى أن حتى الأسماك المقاوِمة للتلوث قد تختفي إذا ما ارتفعت نسبته أكثر. ويعتبر مستقبل شط العرب “مُقلقاً” كون نسبة التلوث تزداد بصورة مستمرة، مع قلة الحلول الموجودة حتى الآن.  

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

“ماي الشط يمتى شفته أخضر؟ هسه تغير، السمجة تريد ماي حلو” يقول جاسم عبد اللطيف (78 عاماً)، صياد سمك، تحدث عن مياه شط العرب، إذ يعتبر تغير لون المياه وتلوثها سبباً في اختفاء أسماك كثيرة مثل الزبيدي، أو صغر حجم أسماك الشانك فلم تعد تأكل الطُعم ولا تلتقطه صنارات الصيادين أو شباكهم.  

يجلس جاسم منذ ساعات مع الطُعم المرمي في مياه شط العرب الخضراء، ولا أسماك أمامه سوى مئات أسماك الزوري، التي لا يتجاوز حجمها أصبع يد، وجميعها تتجمع حول علبة مغلقة فيها مرق فاصولياء، أغلب الظن أنه مخلفات عزيمة “مندي” على شط العرب، لكن العلبة مغلقة، والزوري جائع. 

أين ذهبت الأسماك في شط العرب؟ 

كيف تضاءل حجمها؟ 

إذا ما قلّ الغذاء، أو ساءت جودة المياه، أو صار الأوكسجين رفاهية لا يمكن الحصول عليها تحت الماء، يستخدم السمك حيلة دفاعية تحميه من تبعات الظروف المحيطة، وهي التقزّم.  

يشرح علي عزيز، باحث علمي من كلية علوم البحار في جامعة البصرة، أن السمك يلجأ لهذه الحيلة ليحافظ على جيناته واستمراريته، فيعمل على تقليل حجمه، وزيادة بيوضه للتكاثر. 

العملية لا تتوقف، بحسب عزيز، فكلما زادت أزمة الموارد للسمكة، كلما وجهت طاقتها لتقليل حجمها وتكاثرها، لكي يتناسب مع الموارد المتوفرة. 

أبو محمد، أمضى ساعتين وهو ينتظر أن يصطاد شيئاً، لكن هذا الانتظار ليس الأول، إذ أمضى الأيام الثلاثة الأخيرة، بمعدل ساعتين أو ثلاث كل يوم، وهو يقابل شط العرب منتظراً أن يصطاد شيئاً، لكنه لم يصطد شيئاً سوى سمكة صغيرة، بالكاد تغطي ربع كفّ يده. 

يتذكر أبو محمد أحجام السمك في شبابه، ذات مرة، بدت مجموعات الكطان (الشبوط) كأنما “بلم وأنكلب” على حدّ تعبيره، ووصلت أوزانها لـ 50 كيلو وقتها، لكنه اليوم، بالكاد يحصل على “كيلوين إلى أربعة كيلوات” فقط. 

وحين يُقارن بين المياه سابقاً والآن، “الماي جان حلو، مو مثل هسه، ماي مجاري هذا، جان زلال الماي”، حسب وصفه. 

أبو محمد والسمكة الوحيدة التي اصطادها، المصدر: الكاتبة.  

تتنوع المشاكل في شط العرب، بين اللسان الملحي، والمياه الثقيلة، والمخلفات الطبية، والمخلفات التي يتركها الناس على ضفافه.   

في دراسة أجرتها إيمان كريم عباس، المُدرّسة بقسم الجغرافيا في جامعة البصرة، اكتشفت مخالفات عديدة، وعلى رأسها المخلفات التي تصرفها المستشفيات في شط العرب أو الأنهار المغذية له. 

مستشفى التعليمي مثلاً، كان يصرف 150 إلى 400 متر مكعب باليوم في وقت الدراسة عام 2016 (ما يساوي خزانيّ مياه كبيرين منزليين) من المخلفات السائلة، قسم منها يذهب للمجاري العامة، وقسم إلى نهر البراضعية ومن ثم إلى شط العرب. 

الأنابيب التي يرصدها الجميع ويصورها وهي تُخرج مياهاً لا يعرف أحد مصدرها، ليست دليلاً أو حافزاً للحكومة المحلية لاتخاذ قرارٍ بشأنها. 

حين انتشر فيديوعن أنبوب يصبّ مياهه في شط العرب، ورجّح الجميع أنه من مستشفى التعليمي، أو من محطة تحلية البراضعية، خرج “مسؤول الورشة الخافر” الذي لم يعرّف عن اسمه، وقال إن الأنبوب قديم ويعود لمحطة تحلية المياه RO، وذو مياه نظيفة.  

لكنه ليس الأنبوب الوحيد مجهول الهوية الذي يصبّ في شط العرب، هناك على الأقل ثلاثة أنابيب ظاهرة للعين تصب في شط العرب، اثنان فوق الأحجار، وواحد تحتها.  

أنابيب تصبّ مياهها في شط العرب، المصدر: الكاتبة.

لسان الشط “مالح”

يمكن تعريف اللسان الملحي بأنه ارتفاع نسبة مركبات ملحية مثل كلوريد المغنيسيوم والصوديوم والكالسيوم في المجرى السفلي للشطّ عند انخفاض مستواه خلال مواسم الجفاف، مما يجعل مياهه غير صالحة للاستخدام الحي. 

“وحدة من الأسباب اللي أذت السمج وخلته يقل عدنا هي ملوحة الماي”، يقول علي حيدر (20 عاماً) من الصالحية في البصرة، وهو صياد هاوٍ ورث صيد السمك عن عائلته.  

ارتفاع ملوحة المياه يقدّم تحديات جديدة للأسماك، إذ تصبح الأولوية هي محاولة السيطرة على توازن الماء والأملاح في أجسادها، الأمر الذي يدفع أعضاءها (مثل الكلى والخياشيم) لبذل طاقة ومجهود أعلى في محاولة لحفظ أجسادها من الجفاف. 

هذه العمليات تزيد من إجهاد السمك، الأمر الذي يُبقي مساحة صغيرة جداً للنمو والتطور، فتفقد الأسماك قدرتها على النمو بصورة سليمة، بالتالي، تنخفض أحجامها أو تتقزم.  

يعاني شط العرب من ضعف الإمدادات المائية من نهري دجلة والفرات، ما يساهم في زيادة اللسان الملحي للشط، وفي تصريح سابق، ذكر هادي عبد الحسين خضير، رئيس القسم البيولوجي في مديرية بيئة البصرة، أن “كمية الإطلاقات المائية من محافظة ميسان شمالاً باتجاه البصرة غير كافية، ما يضعف التدفق، ويتسبب في صعود اللسان الملحي من الخليج إلى شط العرب أثناء حالة المد وتغلغل اللسان الملحي”. 

عام 2022، ألقى مهدي رشيد الحمداني، وزير الموارد المائية السابق، اللوم على جمهورية إيران الإسلامية بعد أن أقامت سداً على نهر الكارون. حيث حوّل السدّ اتجاه مجرى النهر وبقية الروافد المائية التي تصب في شط العرب. مما خفّض المنسوب ورفع اللسان الملحي. 

بحسب منظمة الصحة العالمية، فإن مجموع المواد الصلبة الذائبة (TDS) في الماء لا يجب أن يتجاوز 500 TDS لتكون صالحة للاستخدام البشري والحياة الحيوانية والنباتية. والمواد الصلبة الذائبة تشمل الأملاح، والمعادن، وأيونات المعادن، وغيرها من المواد الصلبة. 

في أيلول الماضي، اعتبر جمعة شياع، مدير الموارد المائية في محافظة البصرة، أن نسبة الـTDS  في شط العرب، والتي تصل لـ 2000 TDS، هي نسبة جيدة وليست شديدة الارتفاع، رغم أنها أضعاف ما ذكرته منظمة الصحة العالمية.

سمكة ميتة في شط العرب قرب أبلام متروكة، المصدر: الكاتبة  

في آب عام 2021، شهدت 29 مزرعة سمكية في ناحية السيبة في البصرة موت أسماكها بسبب موجة الملوحة التي أصابت المحافظة منذ نهايات شهر آيار، فارتفعت نسبة الملوحة من 4000 TDS نهايات أيار لتصل لـ 18 ألف TDS. حينها، سجل المزارعون خسائر مالية وصلت لـ 50 مليون دينار بين الأسماك والأعلاف.  

منذ سنوات وحكومة البصرة تقدّم الوعود بإنشاء سدّ على شطّ العرب يقلل من اللسان الملحي الذي يصل لشط العرب من الخليج، ويضرّ بالثروة السمكية التي يتمتع بها. عام 2015، أعلن صباح البزوني، رئيس مجلس محافظة البصرة السابق، أن محسن الشمري، وزير الموارد المائية السابق، وافق “من حيث المبدأ” على إنشاء سدّ على شط العرب، إضافة إلى محطات تحلية تساعد على حل أزمة الملوحة. يتكرر الوعد كلما حلّت حكومة محلية جديدة، لكن حتى الآن، لا أثر للسد الذي سيحمي أهالي البصرة وأسماكها من المدّ الملحي. 

يتأمل أبو محمد أن تغلق الحكومة تفرعات الشط في البصرة كلها، مؤقتاً لتصفية المياه، وبناء سدّ قرب أبو الخصيب، على أمل أن يساعد في تنظيف شط العرب من الملوحة والتلوث. 

لا تتوقف مطالبات أهالي البصرة بمعالجة مياه الصرف الصحي قبل رميها في مياه شط العرب. ليس صعباً على سكان البصرة رؤية ما جاء من حمامات منازلهم وهو يشق طريقه إلى شطهم المُحبّب، حيث السمك الذي يأكلونه، والماء الذي يستخدمونه، والكورنيش الذي يحبون المشي عليه.  

على منصة “يوتيوب”، يحاول المواطنون والمواطنات نشر مقاطع مصوّرة لـ “فضح” و “مناشدة” الحكومة المحلية، ذاتها التي تسمح للبراز بالتجول مع أسماك البلطي، وتعِد بمحاسبة “المقصّرين” الذين يتركون المياه الآسنة تشق طريقها لشط العرب وكل ما يغذّيه من أنهار. أما القنوات الفضائية البصرية، تصوّر بلا توقف، أنابيب المجاري التي لا تتوقف عن مدّ الشط بحصّته منها، ولا أحد يستمع لكل هذه المناشدات اليائسة.  

“ما حصلنا بس الويلات والآهات من المجمعات التجارية”، يقول مواطن بصري، وهو يتحسر على المشاريع التجارية التي تنمو في قضاء شط العرب، ومعها ينمو معدل المياه الثقيلة التي تلهو بحرية في المياه الخضراء التي يغذي منازل القضاء كماء للشرب والاستخدام. 

بطبيعة الحال، ليس أهالي البصرة وحدهم من يشربون فضلات المشاريع، فالأسماك تشاركهم الماء.  

مياه ملوثة تخرج لشط العرب من أنبوب تحت الأحجار، المصدر: الكاتبة. 

ملتقى الأحبّة والملوثات 

قبل أن يتشكّل شط العرب، هناك دجلة والفرات، حيث يصلان إلى البصرة ومعهما كل المخلفات التي حملاها من باقي محافظات العراق، ففي كركوك مثلاً، انتهت التسربات النفطية من شركة نفط الشمال وحقولها لتكوين وادٍ نفطي، يقتل ما حوله من أراضٍ زراعية، ويجد طريقه خفيةً إلى شط العرب. 

أما المصافي النفطية في بغداد والمستشفيات، فقد عَمِدت إلى تصريف مياهها ومخلفاتها إلى نهر دجلة، الذي تصدر منه رائحة كريهة في بعض المناطق التي يمر فيها. 

 في عام 2022، اتهمت وزارة الموارد المائية أمانة بغداد، ودوائر بلدية المحافظة بتلويث كِلا نهري دجلة والفرات. ألقى علي راضي، الناطق باسم وزارة الموارد المائية آنذاك، اللوم على الجهات القطاعية، مؤكداً أن “مسؤولية تلوثها يقع بشكل كبير على الجهات القطاعية المستهلكة للمياه”. 

بقع زيتية في شط العرب، المصدر: الكاتبة.  

ليست المؤسسات الحكومية وحدها المسؤولة عن التلوث، يقول علي، “البيت اللي يفلشونه، اللوريات بدل ما تأخذ الكسر لغير مكان، تشمره على أطراف الشط”، حيث لا يلتزم المواطنون والمواطنات بالحفاظ على نظافة المكان، وتفتقر المياه إلى رقابة السلطة لحمايتها من التلوث أو معالجتها منه. 

ويضيف علي “مصلحين الأبلام يبدل دهن المكينة وصبه كله بالشط، كل فترة أسبوع أسبوعين نروح نلكا الشط وجهه فسفوري”. 

على شط الصالحية، اصطاد علي وأصدقاؤه أكياس مغذي، أو أكياس إدرار، أو أكياس دم، مرمية من مستشفى أو مركز طبي، وتقطع الأكياس طريقها وصولاً لشطّ الصالحية، حيث يجلس علي وأصدقاؤه على أمل اصطياد سمكة بدلاً عن الأمراض المغلفة.   

حسب دراسة من مجموعة أساتذة من الهند، أُجريت عن طبيعة تأثيرات العوامل الكيميائية والفيزيائية للمياه على الأسماك، فإن واحدة من أهم مشاكل الدول النامية هي إهمال المعالجة السلمية للمياه الناتجة عن الاستخدامات البشرية. الملوثات التي تتسرّب إلى أجساد الأسماك بسبب تصريف مياه الاستخدام البشري، أو التجاري، تؤدي لتغيير أنشطة الناقلات العصبية، أو تؤثر على الهرمونات، كلاهما يلعبان دوراً مهماً في إدارة شهية السمكة وقدرتها الجسدية على النمو، الأمر الذي يمكن أن يعيق عملية النمو.  

بقعة سوداء في منتصف شط العرب، المصدر: الكاتبة.

يقول رياض العيداني، باحث بالشأن البيئي، إن أنواع الأسماك التي اختفت بسبب التلوث هي “الشبوط، والسمتي، والبياح، وحتى الروبيان، والكثير من الأنواع الأخرى منها السلاحف”. ويضيف، “كانت تدخل عندنا أسماك بحرية، هم هاجرت بسبب التلوث”.  

تكثر خلايا الأزمة وملفات التحقيق وعزم الحكومة المحلية على إيجاد الحلول. لكن الحلول لم تر النور يوماً.  

في عام 2018 شكّلت الحكومة المحلية للبصرة خلية أزمة للتصدي لنفوق الأسماك الذي وصل للآلاف مما سبب كارثة بيئية واقتصادية واجتماعية، حيث خسرت المسطحات المائية تنوعها، وخسر بائعو السمك ومربوه مصدر دخلهم، وخسر المجتمع العراقي وجبة يعتمد عليها.  

تكررت أزمة النفوق عام 2019، وعام 2021، وعام 2022، وعام 2023، وعام 2024، بمعنى، أن الأسماك تنفق تقريباً كل عام في الأعوام الستة الأخيرة.  

يعدّ علي عزيز الأسماك منبّهات بيئية، كلما قلّت نسبة الأوكسجين أو ازداد تلوث الماء، يموت نوع من السمك، أو تقلّ أعداده، مما يعطي إشارة للمُراقبين. لاحظ عزيز أن الأسماك المحلية اختفت بالكامل من مياه شط العرب، مثل التي ذكرها العيداني، ولم يبقَ سوى أنواع قليلة تقاوم التلوث، منها البلطي، الذي يستطيع النجاة في مثل هذه الظروف. 

لكن عزيز ينبّه إلى أن حتى الأسماك المقاوِمة للتلوث قد تختفي إذا ما ارتفعت نسبته أكثر. ويعتبر مستقبل شط العرب “مُقلقاً” كون نسبة التلوث تزداد بصورة مستمرة، مع قلة الحلول الموجودة حتى الآن.