لم يعد يحتمل ضجيج المدينة.. عودة الخفّاش العراقي إلى الكهوف 

مرتضى الحدود

10 نيسان 2025

"سحيّر الليل"، لقب الخفّاش في العراق، حيث يعتقد العراقيون والعراقيات أنّه مخلوق كريه، ووجوده نذير شؤم، وعند ظهوره في السماء يجب على أطفال الحي العودة إلى بيوتهم بسرعة قبل أن يلتصق بوجوههم. ولكن هل تتوافق هذه المعتقدات مع طبيعة الخفّاش؟ وأين اختفى؟

قبل أن تختفي، كانت الخفافيش تفصيلةً يوميةً مثيرة في الحياة العراقية، فظهورها عند كلّ غروب يؤذن بمجيء الليل والحذر، وإغلاق الأبواب والنوافذ منعاً لدخول الكائنات الطائرة؛ وهذه علامة ترتبط أكثر بحياة الأطفال، ومواعيد العودة القسرية من الشارع والساحة إلى البيت.   

لا تختلف مدينة الناصرية عن مدن عراقية كثيرة، رحلت عنها الخفافيش دون أن تمتصَّ دماء أحد، أو تلتصق بوجه طفل وتقفأ عينه، كما كانت تخوّف الأمهات أولادهنَّ؛ ليعودوا إلى البيت عندما تنتشر الخفافيش في الحي عند الغروب. 

ارتباط الخفّاش بالحكايات المخيفة يشبه ارتباط “سَبْع السُبَمْبَع” و”سَحّال أبو الطُبَگ” بحوادث اختطاف الأطفال في الليل، لا وجود لها سوى في الألاعيب التي يمارسها الأهل للسيطرة على تحرّكات أطفالهم.  

محمد حميد يعيش خمسينه الآن في مدينة الناصرية، لكنّه ما يزال يتذكر عندما دخل خفّاش إحدى غرف البيت، فاندفع وأشقاؤه مذعورين بينما الأمُّ انهمكت بفتح الشبابيك والتلويح بقطعة قماش لإخراج الكائن الذي تورّط بالدخول إلى بيت عراقي.  

“كانت الخفافيش أسراباً تملأ سماء الناصرية وقت الغروب”، هذا المشهد يتذكره محمد عندما كانت تجبرهم حكايات الأمهات المخيفة عن الحيوان الثديّ الوحيد القادر على الطيران على ترك اللعب والعودة إلى البيت، ومن تلك القصص أنّ الخفّاش قد يلتصق بوجهه، فيصعب التخلّص منه، وربّما يسلخ جلدة وجهه، ولا يطرد الخفّاش إلا مرآة لها إطار من ذهب. وأيّ طفل لم يكن يصدّق حكايا الأُمّهات! 

لشدّة التطيّر منها، لم يتآلف العراقيون مع الخفافيش، مثلما لم يتآلف معها كثيرٌ من البشر، وظلّت الخفافيش كائنات “مكروهة”، ذكرها يقترن بالشؤم والأمراض، وصارت كلمة “الخفّاش” صفة يطلقها الناس على الأشرار من بني جنسهم، ففي كل بلد وربَّما في كلّ مدينة، هناك “خفّاش بشري”، تطارده الشرطة. 

عام 2018، أعلنت شرطة البصرة أخيراً قتل “الخفّاش”، بعد مطاردة واشتباكات مسلّحة استمرّت ساعات، لم يكن المُطارد خفّاش الهيعرة الأوروبية، أو المهاجر الأوروبي، ولا الخفّاش الكحلي، ولا خفّاش القبور ذو العجز العاري، ولم يكن خفّاش روكلي الباهت؛ المُطارد كان حسن صريفة، أخطر تاجر مخدرات في البصرة. 

الاختفاء 

أحد أسئلة محمد في عقده الخامس، هو عن اختفاء الخفّاش من مدينة الناصرية، “هل انقرضت؟” مستغرباً أنّ الغروب ما عاد يأتي بالخفافيش، والإجابة على حيرة محمد هي أنّ الخفافيش لم تنقرض، لكنّها فضّلت الابتعاد عن المدن العراقية، لأسباب تتعلق بسوء الضيافة والتغيّرات المناخية، والضجيج الذي يحدثه البشر. 

دراسات حديثة تكشف عن سلوكيات للخفافيش تتشابه فيها مع البشر، مثل اكتساب “الرضّع” لمهارات التواصل من خلال “الهمهمات”، والتواصل الغذائي بين المجموعات لتحديد مواقع الغذاء، والتباعد الاجتماعي عند إصابة خفّاش ما ضمن المجموعة بمرض أو وعكة صحيّة. 

يتحرّك الخفّاش ويحدد هدفه القادم من خلال تحديد الموقع بالصدى  (Echolocation)، وهي عملية يصدر خلالها الخفّاش موجات صوتية في المكان، وعن طريق ارتدادات تلك الموجات يكتشف الحيوان بدقّة جغرافيا المساحة التي سيطير إليها. 

اقرأ أيضاً

هجرة الطيور “القاتلة” إلى العراق 

مع اقتراب الخفاش من فريسته، تزداد الترددات لتصل إلى أكثر من 160 تردد في الثانية، ومن خلال الأصداء المرتدّة يستطيع الخفّاش تحديد حجم الفريسة أو الجسم، وشكله وملمسه والمسافة التي تفصله عنه واتجاهه. تصل صرخات الخفاش إلى 140 ديسيبل، وهذه تصنّف شديدة الارتفاع.  

قبل أن يصدر صرخاته، يقبض الخفّاش عضلة الأذن الوسطى، لتجنّب الترددات العالية التي يطلقها، وبالتالي لا يصاب بالصمم بسبب صرخاته، هذه الصرخات تتراوح  شدّتها بين 60 ديسيبل، وهو صوت المحادثة العادية، و140 ديسيبل، وهي شدّة الضجيج الذي يمكن أن يكون في حاملة طائرات تعمل بأقصى طاقتها.  

هذه الطريقة في الحركة والطيران، لم تعد عمليةً للخفّاش في الناصرية، ومدن محافظة ذي قار، فالاكتظاظ السكاني وارتفاع درجات الحرارة، والتصحّر، والجفاف، عوامل أدّت إلى تغيّرات قاسية في بيئة ذي قار، جعلت الخّفاش يفضل الهجرة إلى أطراف المدن، والمساحات المفتوحة، والمتروكة. 

الضجيج 

عمر الشيخلي، المدير الفني لمنظمة المناخ الأخضر العراقية، يضيف سبباً آخر لهجرة الخفّاش: الضجيج، والتلوث السمعي الذي يشوّش على مديات الترددات الصوتية التي يطلقها الخفّاش لكي يحدد موقعه. 

تُظهر الدراسات أنّ الضجيج الناتج عن الأنشطة البشرية يؤثر سلباً على الخفافيش، التي تعتمد على تحديد الموقع بالصدى للتنقل والصيد، ولكن الضوضاء البشرية، مثل ضجيج المرور، والمناطق الصناعية يمكن أن تتداخل مع هذه القدرة، فتجعل من الصعب على الخفافيش العثور على فرائسها.  

كذلك يؤدي التلوث الضوضائي إلى تغيير سلوك الخفافيش، مثل زيادة سرعة الطيران أو تجنّب المناطق المضاءة، مما يؤثر على كفاءتها في الصيد، وهذه التأثيرات قد تؤدي إلى انخفاض أعداد الخفافيش التي تتغذّى على الحشرات، وبالتالي الإخلال بالتوازن البيئي، مثلما يحدث الآن في ذي قار، وبقية مناطق العراق. 

يستطيع الخفّاش التكيّف مع البيئات منخفضة الضجيج، فنظامه الراداري يعمل بفاعليّة ضمن مدىً يبلغ 33 متراً عندما يكون التلوث الضوضائي صفر، وتقلّ فاعلية رادار الخفّاش كلّما ارتفع الضجيج، فعندما يكون التلوث الضوضائي 34 ديسيبل، تتراجع قدرة الخفّاش على تحديد موقع فريسته إلى ما يقارب 15متراً. 

ذي قار لا توفّر المساحة الهادئة للخفّاش، فحدود الضجيج فيها تتجاوز قدرة الخفافيش على التحمّل. موفّق الطائي، مدير بيئة ذي قار، كشف لجُمّار أن مستويات التلوث الضوضائي في ذي قار هي: 

  • 40 – 50 ديسيبل، قرب المستشفيات وأماكن الراحة. (النهار أشدّ ضجيجاً) 
  •   50 – 60ديسيبل، في المناطق السكنية. 
  • 65 – 70 ديسيبل، في الأماكن العامة والمناطق الصناعية. 

هذا المستوى من التلوث السمعي، جعل المدينة قاسية على هذه المخلوقات الانطوائية.  

في المقابل، هجرة الخفافيش تسببت بخلل في التوازن البيئي داخل المدينة. يقول عارف شمخي مسؤول شعبة الأهوار في بيئة ذي قار، إنَّ “انخفاض أعداد الخفافيش أو اختفاءها يؤثر بشكل مباشر على التوازن البيئي، ويساهم في زيادة أعداد الحشرات من قبيل البعوض والخنفساء، والحشرات الطائرة”، ويعتقد شمخي أنَّ وجود الخفّاش هو “مؤشر قوي على جودة البيئة”، فهذا الكائن، بحسب شمخي، من الكائنات الحسّاسة للتلوث، بكل أشكاله. 

يحصي العلماء أكثر من 1200 نوع من الخفافيش، فقط ثلاثة منها هي من “مصاصي الدماء”، وغالباً ما تتغذى هذه الأنواع الثلاثة على الحيوانات الأخرى، وليس البشر، وحتّى هذه الأنواع التي يعتقد البشر أنها “مخيفة” اكتشف العلماء وجود مادة كيميائية فيها تُسمّى (Desmoteplase) تقلل من تجلطات الدم، وتدخل في علاج السكتة الدماغية. 

في الولايات المتحدة الأمريكية، تقدّم الخفافيش خدمات جليلة للاقتصاد، فهي توفّر نحو 3.7 مليار دولار سنوياً من قيمة مكافحة الآفات، كما أن خفّاش الفاكهة الكبير، يساهم بنشاط في عمليات تلقيح النباتات. 

في العراق، بحسب عمر الشيخلي الذي يعمل مدرّساً في كلية العلوم بجامعة بغداد أيضاً، هناك 20 نوعاً من الخفافيش، تتغذى على الحشرات والقوارض، والانتباه إلى فائدتها في التوازن البيئي يمكن أن يوفّر كثيراً من الموارد والجهد على مكافحة القوارض السنوية، ففي ذي قار مثلاً، البحث في الانترنت عن “حملات دائرة صحة ذي قار لمكافحة القوارض”، يظهر إطلاق عشرات الحملات لمكافحتها، التي كان يمكن لثلّة من الخفافيش التكفّل بها، لو أنّها تُركت بسلام، فالخفّاش الواحد (البُنّي الصغير)، يستطيع أكل 1000 حشرة في الساعة، بينما تتغذى الخفافيش على أطنان من العث يومياً، لو أُتيحت لها الفرصة. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

قبل أن تختفي، كانت الخفافيش تفصيلةً يوميةً مثيرة في الحياة العراقية، فظهورها عند كلّ غروب يؤذن بمجيء الليل والحذر، وإغلاق الأبواب والنوافذ منعاً لدخول الكائنات الطائرة؛ وهذه علامة ترتبط أكثر بحياة الأطفال، ومواعيد العودة القسرية من الشارع والساحة إلى البيت.   

لا تختلف مدينة الناصرية عن مدن عراقية كثيرة، رحلت عنها الخفافيش دون أن تمتصَّ دماء أحد، أو تلتصق بوجه طفل وتقفأ عينه، كما كانت تخوّف الأمهات أولادهنَّ؛ ليعودوا إلى البيت عندما تنتشر الخفافيش في الحي عند الغروب. 

ارتباط الخفّاش بالحكايات المخيفة يشبه ارتباط “سَبْع السُبَمْبَع” و”سَحّال أبو الطُبَگ” بحوادث اختطاف الأطفال في الليل، لا وجود لها سوى في الألاعيب التي يمارسها الأهل للسيطرة على تحرّكات أطفالهم.  

محمد حميد يعيش خمسينه الآن في مدينة الناصرية، لكنّه ما يزال يتذكر عندما دخل خفّاش إحدى غرف البيت، فاندفع وأشقاؤه مذعورين بينما الأمُّ انهمكت بفتح الشبابيك والتلويح بقطعة قماش لإخراج الكائن الذي تورّط بالدخول إلى بيت عراقي.  

“كانت الخفافيش أسراباً تملأ سماء الناصرية وقت الغروب”، هذا المشهد يتذكره محمد عندما كانت تجبرهم حكايات الأمهات المخيفة عن الحيوان الثديّ الوحيد القادر على الطيران على ترك اللعب والعودة إلى البيت، ومن تلك القصص أنّ الخفّاش قد يلتصق بوجهه، فيصعب التخلّص منه، وربّما يسلخ جلدة وجهه، ولا يطرد الخفّاش إلا مرآة لها إطار من ذهب. وأيّ طفل لم يكن يصدّق حكايا الأُمّهات! 

لشدّة التطيّر منها، لم يتآلف العراقيون مع الخفافيش، مثلما لم يتآلف معها كثيرٌ من البشر، وظلّت الخفافيش كائنات “مكروهة”، ذكرها يقترن بالشؤم والأمراض، وصارت كلمة “الخفّاش” صفة يطلقها الناس على الأشرار من بني جنسهم، ففي كل بلد وربَّما في كلّ مدينة، هناك “خفّاش بشري”، تطارده الشرطة. 

عام 2018، أعلنت شرطة البصرة أخيراً قتل “الخفّاش”، بعد مطاردة واشتباكات مسلّحة استمرّت ساعات، لم يكن المُطارد خفّاش الهيعرة الأوروبية، أو المهاجر الأوروبي، ولا الخفّاش الكحلي، ولا خفّاش القبور ذو العجز العاري، ولم يكن خفّاش روكلي الباهت؛ المُطارد كان حسن صريفة، أخطر تاجر مخدرات في البصرة. 

الاختفاء 

أحد أسئلة محمد في عقده الخامس، هو عن اختفاء الخفّاش من مدينة الناصرية، “هل انقرضت؟” مستغرباً أنّ الغروب ما عاد يأتي بالخفافيش، والإجابة على حيرة محمد هي أنّ الخفافيش لم تنقرض، لكنّها فضّلت الابتعاد عن المدن العراقية، لأسباب تتعلق بسوء الضيافة والتغيّرات المناخية، والضجيج الذي يحدثه البشر. 

دراسات حديثة تكشف عن سلوكيات للخفافيش تتشابه فيها مع البشر، مثل اكتساب “الرضّع” لمهارات التواصل من خلال “الهمهمات”، والتواصل الغذائي بين المجموعات لتحديد مواقع الغذاء، والتباعد الاجتماعي عند إصابة خفّاش ما ضمن المجموعة بمرض أو وعكة صحيّة. 

يتحرّك الخفّاش ويحدد هدفه القادم من خلال تحديد الموقع بالصدى  (Echolocation)، وهي عملية يصدر خلالها الخفّاش موجات صوتية في المكان، وعن طريق ارتدادات تلك الموجات يكتشف الحيوان بدقّة جغرافيا المساحة التي سيطير إليها. 

اقرأ أيضاً

هجرة الطيور “القاتلة” إلى العراق 

مع اقتراب الخفاش من فريسته، تزداد الترددات لتصل إلى أكثر من 160 تردد في الثانية، ومن خلال الأصداء المرتدّة يستطيع الخفّاش تحديد حجم الفريسة أو الجسم، وشكله وملمسه والمسافة التي تفصله عنه واتجاهه. تصل صرخات الخفاش إلى 140 ديسيبل، وهذه تصنّف شديدة الارتفاع.  

قبل أن يصدر صرخاته، يقبض الخفّاش عضلة الأذن الوسطى، لتجنّب الترددات العالية التي يطلقها، وبالتالي لا يصاب بالصمم بسبب صرخاته، هذه الصرخات تتراوح  شدّتها بين 60 ديسيبل، وهو صوت المحادثة العادية، و140 ديسيبل، وهي شدّة الضجيج الذي يمكن أن يكون في حاملة طائرات تعمل بأقصى طاقتها.  

هذه الطريقة في الحركة والطيران، لم تعد عمليةً للخفّاش في الناصرية، ومدن محافظة ذي قار، فالاكتظاظ السكاني وارتفاع درجات الحرارة، والتصحّر، والجفاف، عوامل أدّت إلى تغيّرات قاسية في بيئة ذي قار، جعلت الخّفاش يفضل الهجرة إلى أطراف المدن، والمساحات المفتوحة، والمتروكة. 

الضجيج 

عمر الشيخلي، المدير الفني لمنظمة المناخ الأخضر العراقية، يضيف سبباً آخر لهجرة الخفّاش: الضجيج، والتلوث السمعي الذي يشوّش على مديات الترددات الصوتية التي يطلقها الخفّاش لكي يحدد موقعه. 

تُظهر الدراسات أنّ الضجيج الناتج عن الأنشطة البشرية يؤثر سلباً على الخفافيش، التي تعتمد على تحديد الموقع بالصدى للتنقل والصيد، ولكن الضوضاء البشرية، مثل ضجيج المرور، والمناطق الصناعية يمكن أن تتداخل مع هذه القدرة، فتجعل من الصعب على الخفافيش العثور على فرائسها.  

كذلك يؤدي التلوث الضوضائي إلى تغيير سلوك الخفافيش، مثل زيادة سرعة الطيران أو تجنّب المناطق المضاءة، مما يؤثر على كفاءتها في الصيد، وهذه التأثيرات قد تؤدي إلى انخفاض أعداد الخفافيش التي تتغذّى على الحشرات، وبالتالي الإخلال بالتوازن البيئي، مثلما يحدث الآن في ذي قار، وبقية مناطق العراق. 

يستطيع الخفّاش التكيّف مع البيئات منخفضة الضجيج، فنظامه الراداري يعمل بفاعليّة ضمن مدىً يبلغ 33 متراً عندما يكون التلوث الضوضائي صفر، وتقلّ فاعلية رادار الخفّاش كلّما ارتفع الضجيج، فعندما يكون التلوث الضوضائي 34 ديسيبل، تتراجع قدرة الخفّاش على تحديد موقع فريسته إلى ما يقارب 15متراً. 

ذي قار لا توفّر المساحة الهادئة للخفّاش، فحدود الضجيج فيها تتجاوز قدرة الخفافيش على التحمّل. موفّق الطائي، مدير بيئة ذي قار، كشف لجُمّار أن مستويات التلوث الضوضائي في ذي قار هي: 

  • 40 – 50 ديسيبل، قرب المستشفيات وأماكن الراحة. (النهار أشدّ ضجيجاً) 
  •   50 – 60ديسيبل، في المناطق السكنية. 
  • 65 – 70 ديسيبل، في الأماكن العامة والمناطق الصناعية. 

هذا المستوى من التلوث السمعي، جعل المدينة قاسية على هذه المخلوقات الانطوائية.  

في المقابل، هجرة الخفافيش تسببت بخلل في التوازن البيئي داخل المدينة. يقول عارف شمخي مسؤول شعبة الأهوار في بيئة ذي قار، إنَّ “انخفاض أعداد الخفافيش أو اختفاءها يؤثر بشكل مباشر على التوازن البيئي، ويساهم في زيادة أعداد الحشرات من قبيل البعوض والخنفساء، والحشرات الطائرة”، ويعتقد شمخي أنَّ وجود الخفّاش هو “مؤشر قوي على جودة البيئة”، فهذا الكائن، بحسب شمخي، من الكائنات الحسّاسة للتلوث، بكل أشكاله. 

يحصي العلماء أكثر من 1200 نوع من الخفافيش، فقط ثلاثة منها هي من “مصاصي الدماء”، وغالباً ما تتغذى هذه الأنواع الثلاثة على الحيوانات الأخرى، وليس البشر، وحتّى هذه الأنواع التي يعتقد البشر أنها “مخيفة” اكتشف العلماء وجود مادة كيميائية فيها تُسمّى (Desmoteplase) تقلل من تجلطات الدم، وتدخل في علاج السكتة الدماغية. 

في الولايات المتحدة الأمريكية، تقدّم الخفافيش خدمات جليلة للاقتصاد، فهي توفّر نحو 3.7 مليار دولار سنوياً من قيمة مكافحة الآفات، كما أن خفّاش الفاكهة الكبير، يساهم بنشاط في عمليات تلقيح النباتات. 

في العراق، بحسب عمر الشيخلي الذي يعمل مدرّساً في كلية العلوم بجامعة بغداد أيضاً، هناك 20 نوعاً من الخفافيش، تتغذى على الحشرات والقوارض، والانتباه إلى فائدتها في التوازن البيئي يمكن أن يوفّر كثيراً من الموارد والجهد على مكافحة القوارض السنوية، ففي ذي قار مثلاً، البحث في الانترنت عن “حملات دائرة صحة ذي قار لمكافحة القوارض”، يظهر إطلاق عشرات الحملات لمكافحتها، التي كان يمكن لثلّة من الخفافيش التكفّل بها، لو أنّها تُركت بسلام، فالخفّاش الواحد (البُنّي الصغير)، يستطيع أكل 1000 حشرة في الساعة، بينما تتغذى الخفافيش على أطنان من العث يومياً، لو أُتيحت لها الفرصة.