من هارون الرشيد حتى "ناعور مال هموم".. عن الغناء والخمر ومرونة الفقيه في بغداد 

إيهاب شغيدل

30 آذار 2025

من قاعات الخلفاء العباسيين إلى الحانات الشعبية.. رحلة غامضة في الموسيقى التي تختلط بالخمر، حيث يصبح الغناء والخمرة مرآة لتحولات سياسية واجتماعية شائكة.

يشير صاحب الأغاني أبو الفرج الأصفهاني 1 إلى أن الغناء العربي انتقل من الحجاز إلى العراق أواخر العصر الأموي. كان ابن رامين الكوفي يستقدم مغنيات من الحجاز، ويقيم داراً واسعة يقصدها الناس لسماع الغناء. قبل ذلك “لم2 يبق حكم الوادي في الكوفة سقاء ولا طحان ولا مكار إلا وغنى فيها”. ما أن نشأت بغداد وأصبحت حاضرة العالم الإسلامي جذبت المغنين والمغنيات من كافة أنحاء الدولة، “أصبحت3 بغداد داراً كبيرة للغناء”. أصبح المغنين طبقات، جاء في الأولى4: إبراهيم الموصلي/ إسماعيل ابو القاسم/ وابن جامع/ منصور الضارب. وفي الثانية: سليم بن سلام/ وعمرو الغزال، وفي الثالثة أصحاب المعازف والطنابير. ودلالة على تقدير الخلفاء في بغداد للمطربين، حين توفي إبراهيم الموصلي صلى عليه المأمون. 

ارتبطت العديد من التحولات النفسية والفقهية التي حدثت في الخلافة الإسلامية بنقل الخلافة إلى بغداد في نهاية القرن الثاني للهجرة، أخذ الفقه يتبنى أوضاعاً تجارية جديدة، فرضها توسع رقعة من جهة الدولة وتغير الحياة الاجتماعية من جهة أخرى، فتطورت التجارة واتسعت حركة نقل البضائع.  

فن العمارة بدأ أيضاً في التطور، ونشطت الترجمة والاهتمام بالحلي والمتع والفنون والأدب، وهذا كله أدى لظهور مهن وأعمال جديدة، ونشوء طبقات اجتماعية جديدة منها: التجار والحرفيين إضافة لطبقة الشعراء والمغنين، وبالنتيجة علاقات اجتماعية جديدة لم تكن شائعة، مما استدعى أوضاعاً فقهية جديدة، من ذلك وضع محمد بن الحسن الشيباني كتاب “المخارج والحيل” وهو كتاب يبحث في كيفية الخروج من طائلة الحكم الفقهي، ذلك عن طريق حيلة جائزة شرعاً، وجاء الكتاب على شكل أبواب منها: باب الصلح، باب النكاح، باب إجازة الدور، باب المضاربة والخروج منها. باب الحيل في البيع والشرى في الدور والرقيق، وجاء في “باب5 الحيل في اليمين التي تستحلف بها النساء أزواجهن”:  

“قلت: أرأيت الرجل يريد أن يغيب فتقول له امرأته كل جارية تشتريها فهي حرة إلى أن ترجع إلى الكوفة كيف الحيلة في ذلك حتى يشتري ولا تعتق؟ قال يقول الرجل نعم يعني نعم بني تغلب أو نعم بعض أحياء العرب، قلت فإن أبت إلا أن يكون الزوج هو الذي يقول كل جارية أشتريها فهي حرة، كيف يصنع؟ قال فليقل ذلك ويعني بذلك كل جارية سفينة، فإن الله يقول: وله الجوار المنشآت في البحر”. 

تلك المرونة الفقهية التي فرضتها الحياة الجديدة، أسهمت في صياغة أنماط عيش وعلاقات لم تكن شائعة إلى حد ما، وجزء كبير من تلك الأنماط هو ما يتعلق بالتمتع والرفاه، الذي يتناسب مع الثراء الذي أصاب تجار ووجهاء بغداد، وهجرة المطربين والشعراء إليها للتقرب من الخليفة. 

في المقابل يرى هنري جورج فارمر في كتابه الشهير تاريخ الموسيقى العربية، أن التقدم الذي حققته الموسيقى لا يعود للرخاء الاقتصادي والسياسي كما تذهب غالبية التحليلات، لكن حسب هنري فإنّ مردّ هذا التقدم يعود لأثر6:” عقائد الشيعة والمعتزلة على الفكر الإسلامي ثم الهيمنة الكاملة لثقافة اليونان العلمية على الحياة العامة، إن السبب الأول أوجد موقفاً متسامحاً تجاه الموسيقى”. فكما هو معروف أن المذهب الشيعي ليس متشدداً في تحريم الموسيقى، وهذا انعكس حتى على الجماعات التي ترتبط بالتشيع منها إخوان الصفاء وخلان الوفاء وقد أفردت الرسالة الخامسة من رسائلهم للموسيقى، وهذا التسامح الفقهي يشترك به الشيعة مع المعتزلة.  

الظروف هذه تعززت بإقبال أهل بغداد على الملذات الحسية، وانتشرت دور الخمر والغناء في المجالس الأدبية والحفلات الاجتماعية. أدار إبراهيم الموصلي في بغداد معهداً للموسيقى لا تتوفر معلومات عنه، المعهد سبق مناهج زرياب، الموصلي عاش مع بداية العصر العباسي الأول وعاصر المنصور والمهدي والرشيد، وعاش زرياب في الفترة تلت وفاة إبراهيم الموصلي، حيث وُلد زرياب في السنوات الأخيرة من حياة إبراهيم. لكن شهرة زرياب تعود لانتقاله من بغداد إلى الأندلس، مما جعله شخصية ثقافية عالمية الطابع، حيث أسهم في نقل الثقافة العباسية إلى الغرب الإسلامي وإثراء الموسيقى والحياة الاجتماعية في الأندلس. 

كتاب الأغاني قال الكثير عن المغنين والشعراء والخمر في العصر العباسي ببغداد. بل أن الفكرة الأساس لكتاب الأغاني بدأت عندما أمر هارون الرشيد إبراهيم الموصلي أن ينتخب مئة صوت ويكتب عنهم، لكن الأصفهاني صاحب الكتاب أضاف ما اختاره من مصادر متنوعة أخرى، وتوسع في الأخبار. 

سبق الأمويين العباسيين في إقامة القصور الفارهة، إلا أنهم في بادئ أمرهم فضلوا الابتعاد عن اللهو، كان لهم من الندماء بعض الأدباء والمحدثين وأهل الخبرة، خالد بن صفوان يجالس عمر بن عبد العزيز، وهشام بن عبد الملك، ومن ثمّ رافق أبا العباس السفاح، وتقول المصادر 7التاريخية إن خالد دفع السفاح لتبني الجواري، لكن تطور الخلافة وتوسعها الذي شكل مصدراً هاماً للرقيق، هو ما دفع الخلافة العباسية لتبني الإماء والجواري والعبيد والغلمان. عرف عن الرشيد أنه كان يستكثر منهم، قيل إنه سار يوماً وبين يديه 400 منهم، وتشير بعض المصادر إلى أن الرشيد وزوجته زبيدة امتلك كلّ واحد منهما قرابة ألفي جارية، وعلى هذا سار الأمين والمأمون ومن بعدهما المعتصم والواثق.  

تنحدر غالبية الجواري والإماء من أجناس وأعراق مختلفة، كان الكثير منهن ملكن فنون الأدب والغناء والموسيقى ما شكل تنوعاً في ذلك الوقت، منهن: عنان جارية الناطفي التي كانت تجيد الغناء ونظم الشعر وعرف عنها المرح وسرعة البديهة، وسكن جارية محمود الوراق التي كانت تتميز بأسلوبها في الغناء، وعريب التي كانت تغني للواثق وهي جارية الأمين والمأمون والتي تعد من أشهر مغنيات العصر العباسي، وكانت تجيد العزف على العود ونظم الشعر. يقول الأصفهاني 8في عريب “لا توجد امرأة أضرب من عريب، ولا أحسن صنعة، ولا أجمل وجهاً، ولا أخف روحاً، ولا أحسن خطاباً، ولا ألعب بالشطرنج والنرد”، ولدت عريب سنة 181 هـ، يعرف عن عريب أنها كانت كثيرة العشاق وأنها ما إن تهجر أحدهم حتى يتهالك، وقال حاتم بن عدي بعد أن تركته9: “ورشوا  على وجهي من الماء واندبوا قتيل عريب لا قتيل حروب”. ودنانير التي يضعها كتاب الأغاني في طبقة “الإماء الشواعر” وهي المولودة في الكوفة، ورباها محمد بن كناسة. ويعرف عن بن كناسة أنه زاهد؛ لذا يشك الأصفهاني في أنها تغني، وينسبها عبد الكريم العلاف إلى خالد بن يحيى البرمكي، يشير العلاف إلى أنها انتقلت إلى دار البرمكي وكان الرشيد يحضر مجلسه وأعجب بغنائها وطرب لها ذات مرة، وتولى الموصلي الإشراف على تعلمها الغناء، حتى أن الموصلي كان يقول 10للبرمكي: “إذا فقدتني ودنانير عندك فإنك لم تفقدني”، وبعد ما وقع للبرامكة على يد الرشيد انتقلت دنانير إلى دار الرشيد، وأمرها الرشيد أن تغني فأبت قائلة: يا أمير المؤمنين إني آليت ألا أغني بعد وفاة سيدي أبداً، فقال الرشيد متهكماً: ومن سيدك؟، قالت: خالد بن يحيى، فغضب الرشيد وأمر بضربها،11 ثم أمرت بالغناء، وكانت تغني وهي تبكي من شدة الضرب. يشير التوحيدي 12في الإمتاع والمؤانسة لوجود 460 جارية مغنية فيقول: “وقد أَحصَيْنا — ونحن جماعةٌ في الكَرْخ – أربعمائةٍ وستّين جارية في الجانبَين، ومائةً وعشرين حُرّة، وخمسةً وتسعين من الصِّبيان البُدُور، يجمعون بين الحِذْق والحُسن والظَّرْف والعِشرة”. وهذا العدد كان كافياً لإنتاج أنماط غنائية عديدة.  

أسهم انفتاح الحضارة العربية على الفرس والبيزنطية في تطور الخمر والغناء معاً. طوَّر العالم جابر بن حيان، آلة للتقطير في زمن هارون الرشيد، واستخدمها في تقطير العطر والكحل، ثم استخدمها لاحقاً العالم أبو بكر الرازي “وهو من بلاد فارس”، لتقطير الكحول، ومنها جاء اسم الكحول في العربية. وازدهرت صناعة الخمر نتيجة لتطور الزراعة والعناية بالعنب، سيما في العراق والشام. وقت بدأ الاهتمام بتدوين الموسيقى.  

في بغداد العباسية لا يمكن الإشارة إلى الغناء دون الخمر، فقد ارتبطا أيما ارتباط، وتطور أحدهما جنباً الى جنب مع الآخر، يقول الجاحظ13: “لم يشرب عمر بن عبد العزيز منذ أفضت إليه الخلافة إلى أن فارق الحياة الدنيا، ولا يسمع غناء”. وهذا يشير إلى ارتباطهما.  

يروي الجاحظ14 أن الرشيد سأل يوماً العازف وخبير الأصوات ومعلم العزف “برصوم الزامر”: ما تقول في ابن الجامع؟ فحرك رأسه وقال: خمر قطربل يعقل ويذهب العقل، وقال: ماذا تقول في إبراهيم الموصلي؟ قال: بستان فيه خوخ وكمثرى وتفاح وشوك وخرنوب، وقال: فماذا تقول في سليم بن سلام فقال: ما أحسن خصابه. تشير هذه المحادثة إلى الاهتمام الذي يوليه الرشيد للغناء والموسيقى، كما يمكن اعتبارها عملية نقد فني. ويرى شوقي ضيف 15أن الغناء بالنسبة للعباسيين “نعيمهم في دنياهم”. 

في بغداد العباسية نافست المغنيات الشاعر العربي صديق الخليفة على حظوته المعتادة، والمغنيات في الغالب من “القيان” وإن كان بعضهن من الإماء والجواري، حتى بات الشاعر يحسد النخاس الذي يملك قيان متميزات في تقديم الترفيه، يقال إن أبي دلامة شاعر المهدي مر بإحدى دور النخاسين فرأى النعم والترف، فأنشد 16أمام الخليفة المهدي: 

“إن كنت تبغي العيش حلواً صافيا       فالشعر أعذبه وكن نخاساً” 

لكن في زمن الرشيد تطور عمل القيان، إبراهيم الموصلي تكفل بتعليم القيان البيض تحديداً فن الغناء، ذلك حسب طلب الرشيد. يرى الباحث 17عبد الكريم العلاف أن القيان والجواري كان لهن الفضل الأكبر في نهوض الموسيقى وترقية الآداب العامة والشعر خاصة، فالعرب 18ينسبون الأغنية الأولى ليوبال بن قايين وكانت مرثاة لهابيل، وأن أول من غنى على الآلات الغنائية هن بنات قايين، لذا يطلق اسم القينة على المغنية التي تعزف، لذا يستنتج العلاف تأثيرهن في الموسيقى والأدب. 

تبعاً لهذا التحول تبدلت موضوعات الشعر، وبدأ في فتح آفاق جديدة، منها ما أخذ يتسع ويكثر من مدح الخمرة والمتع، أشهرها خمريات أبو نواس، وقال العديد من الشعراء في الخمرة ذلك بسبب تسامح الخليفة والفقه مع المتع والغناء، بل جعلهما من دلائل عصره الذهبي، “وأخذ الشعراء يتفكهون في شعرهم بحرمة الخمر كالذي قال: 

مَنْ ذا يُحَرِّم ماء الْمُزْنِ خَالَطَهُ في جَوْف خَابِيَةٍ مَاءُ العناقِيدِ 

إني لَأَكْرَهُ تشديد الرواة لَنَا فيه ويُعْجِبُنِي قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودِ 

أغراض الشعر العربي هي الهجاء والمدح والذم والرثاء والغزل والفخر وغير ذلك، لكن هذه الأغراض سوف تضاف لها واحدة في بغداد “الخمريات”، التي تكاد تكون نوعاً مستقلاً من الشعر، فتح أبو نواس هذا النهج أو ارتبط به، ثم توسع الشعر الذي كان الغرض منه الغناء، وبدأ هذا الارتباط انطلاقاً من قصر الخلافة.  

غالبية المغنين في العصر العباسي من الموصل: زرياب الذي تتلمذ على يد إسحاق الموصلي، ووالده إبراهيم الموصلي هم أعمدة الغناء والثقافة الموسيقية في بغداد العباسية، ويعود السبب، حسب الباحث محمود جمعة، “إلى أن نينوى أولى مدن الشرق التي اتصلت بالمسيحية الأوروبية والتي كان أساسها التراتيل بوصفها جزءاً من المنظومة التبشيرية التي تقوم عليها الديانة”، لكن سبب قدومهم إلى بغداد هو تطور الآلات الموسيقية، وكثرة دور الغناء، والرخاء الاقتصادي الذي باتت تحققه الموسيقى في بغداد. 

ذاك الرخاء لم يستمر، وبدأ عصر انحلال الدولة العباسية مع المتوكل، حيث اعتمد على الجنود الأتراك في تأمين السلطة، ونشبت خلافات داخلية بين الوزراء وازدادت حدة التوتر الطائفي، وأثقل كاهل الدولة نتيجة لارتفاع تكاليف الجيش، وقادة الجيش على القرار السياسي، ما دعا المتوكل لبناء قصره في سامراء بعيداً عن بغداد، وانتهى الأمر باغتيال المتوكل. بدأ تفكك الدولة، قبل ذلك حاول المتوكل أن يستعيد قوته عبر جملة من الإجراءات التعسفية والتشدد الديني، فصودرت مكتبة الكندي الفيلسوف والمنظر الموسيقي الذي يعد أول من وضع قواعد للموسيقى في العالم العربي والإسلامي، واقترح إضافة الوتر الخامس إلى العود.  

استمرت الحضارة العباسية بالتأرجح، وخرجت من بغداد. فيما بعد انهارت الدولة العباسية، وقلّ حضور الموسيقى والخمر في كتب التاريخ، وعانى تدوين الموسيقى من تراجع ملحوظ، لكن ارتباط الغناء بالخمر استمر، وصار محكوماً من قبل الأوضاع السياسية والاقتصادية، في سنوات الرخاء تزدهر دور الخمر والغناء والمجالس الأدبية، وتغيب في غيابها. 

البعد الاستعاري للخمر في الفنون 

إذا كان لبغداد خصوصية في علاقة الخمر بالغناء، فإن تلك الخصوصية تشتبك مع الفاعلية الوجدانية التي تحققها الثنائية، في الشعر كإرث بشري، لا غنى فيه عن توظيف الخمر، لامتداد دلالته لما هو أبعد من كونه مادة مسكرة، فهو يعكس وجوه متعددة من النفس البشرية، يستعير الفن والأدب من كل ما يحيط بالخمرة، منها: الزجاجة، والكأس، ولون الشراب، والنديم، والساقي. 

من ناحية اخرى الاستعارة الأكثر شيوعاً للخمر هي “الانغماس” سواء في الحب أو الحزن أو أي حالة وجدانية أخرى، الخمر في توظيفاته الدارجة، رفيق الوحدة والخذلان، والاحتفال والفرح، كما أنه يعكس الصراع القائم بين الوعي واللاوعي، من ذلك ترك الشعر توصيفات لا تحصى، وتشبيهات لا نهائية في الخمر، وهذا الكم الاستعاري امتدّ للأغنيات التي عمادها الشعر، من جانب آخر تظهر الموسيقى الجوانب الروحية والتأملية التي يعكسها الخمر، الموسيقى تضفي على الخمر بعداً فلسفيا وروحانياً، والخمرة تثري الموسيقى بمعان تتجاوز المادي إلى ما هو رمزي وإنساني، ما يجعل العلاقة بينهما أحد أبرز أشكال التعبير الثقافي والفني في التاريخ البشري. ارتبط الخمر بالإنتاج الإبداعي، في الشعر هو رمز التحرر كما عند المعري والخيام وابو نواس. وبقيت هذه الثنائية فاعلة حتى اللحظة خصوصاً مع الشعراء والمطربين الذي يعرف عنهم التمرد.  

10 اغاني من اختيار عامل الحانة 

وإن اختلف الجلاس في السن والمزاج والطبع، إلا أن هناك مشترك واحد هو ما يجب أن يجمعهم، فحين يجلسون سوية ماذا يسمعون؟ أحد العاملين في حانة بغدادية اختار لنا 10 أغنيات يجمع على سماعها غالبية رواد الحانة:  

هذه القائمة ليست نهائية، وهي عينة عشوائية لنوعية الأغنيات التي تسمع في السهرات، لكنها لا تخفي أن عدداً كبيراً من الشبان اليوم يفضلون الأغاني الراقصة مع الخمر وآخرها: صدك بغداد، لا تتمادى ، ناعور مال هموم. وغيرها. 

عراق السكارى بالصوت 

قد يشرب الخمر دونما أدنى صوت، ذلك لا يخفي أن الصوت رفيق جلسات الشرب، وما إن دخل الوسيط الصوتي حيز التداول، قلما تغيب الأغاني عن تلك الجلسات، إذ ليس ضرورياً وجود القيان والمغنين في المكان، الأسطوانة والكاسيت والتلفاز واليوتيوب وغيره من الوسائط حلت بدلاً من الحضور المادي للمطرب، انطلاقاً من ذلك صار بالإمكان إحضار المطرب الذي تود، حينما  تحب، رغم تنوع ما يسمع من ناحية الوقت والمزاج وغيرها، إلا أن جلسات الخمر بقيت محافظة على شيء من الخصوصية، خصوصية تمنحها حق التباهي في اختيار أغانيها بعناية، تماشياً مع اختيار الندماء والكأس والطاولة بالعناية ذاتها. 

تتنوع جلسات الخمر في مستوى الإصغاء، تبعاً للجالسين، لكن ذلك لا ينفي اتفاق الجلاس في كل الحانات أن هناك ركائز غنائية لا تغيب عن جلسات الخمر، تتنوع هذه الركائز حسب الوقت، في البدء كان قراء المقام البغدادي يحييون ليالي الخمر في بغداد، وما إن بدأت الإذاعة تبث لبعض المطربين دون سواهم صارت ثمة قائمة أكثر وضوحاً، وقت انتشر ناظم الغزالي وأصبح مطرب البلد الأول، لم تكن تكتمل جلسة خمر دون صوته، رافقته زهور حسين التي كانت أغانيها مفضلة لجزء كبير من الخمارة، وبشكل أقل سليمة مراد، لكن الريف العراقي لم يكن قد تعرف بعد على أجهزة التسجيل الحديثة كما أن وصول الخمر لهم ليس يسيراً كما هو الحال في بغداد، لذلك كان تأتي مجموعات منهم، مفضلين في ذلك الوقت أغانيهم الريفية، عبر داخل حسن وحضيري أبو عزيز وناصر حكيم، يبقى الإجماع في تلك الفترة على الغزالي. 

مع التحول من الملكية إلى الجمهورية، تحول الذوق الفني في العراق، ولم يعد حكراً على ثنائية الغناء البغدادي- الريفي، وجاء المد اليساري بأغانيه التي تشكل حاضنة كبيرة للخمارة، فقد ازدهرت منذ نهاية الستينيات أغاني حسين نعمة وفؤاد سالم، وسعدون جابر وغيرهم، فتكاد لا تتوقف الحانات عن تشغيل أغنياتهم، وهذا يرتبط أيضاً في نظرة اليسار تجاه الخمرة، وهو ما عزز بافتتاح العديد من الأندية والصالات والحانات ذات المزاج اليساري.  

ابتداء من الثمانينات لا شك أن أكثر مطرب ارتبط إرثه الفني بالخمر هو سعدي الحلي، الذي يجمع عليه أبناء جنوب ووسط العراق ولا يختلف معهم كثيراً أبناء الشمال والغرب، يقول ضياء (62 عاماً) وهو أحد مدمني صوت سعدي الحلي، أن “ماكو واحد يشرب ما يسمع سعدي، جان عندي أصدقاء يجون من الموصل وصلاح الدين هم يحبون سعدي، سعدي الوحيد يعدل المزاج”. خلاف ضياء، كانت حانات بغداد في الستينات تشأغانٍ عربية منها اغاني ام كلثوم وفريد الأطرش وأسمهان. لم تختفِ الاصوات العربية في الاندية والبارات ولكنها أخذت تخفت قليلاً، مع ظهور الجيل الغنائي الأبرز في العراق وهي الجيل السبعيني، الذي كان محملاً بالثورة ومفاهيم الحرية والتحرر والصخب، وقرب خطابه من الطبقات الاجتماعية المتوسطة وما دونها.  

غيرت الحرب العراقية الإيرانية مزاج العراقيين في الخمر، فصارت جلسات الخمر ليست للسمر والسعادة والبهجة، بل أصبحت جلسات عتاب على الحياة، جلسات بكائية حزينة، ذلك ما جعل أغاني تلك الجلسات تمر عبر هذا الحزن الذي طبع النفس العراقية، فصارت أغاني سلمان المنكوب وياس خضر وقحطان العطار من علامات تلك الفترة، مع نهاية الثمانينيات، ضجت القاعات والحانات بصوت رياض أحمد الذي سيكون أحد أكبر مطربي جلسات الخمر لوقت طويل، فيما بعد سيفتح الخمر مزاجه لصوت شجي يكاد يغالي بعض سامعيه في وضعه بمرتبة عليا حين تدور الخمر في الكأس، وهو صوت كريم منصور.  

لم يحدث الكثير من التغيير، في التسعينيات، تلك الفترة التي شهدت ظهور عبد فلك وحسن بريسم وهما بنفس مزاج منصور تقريباً، في أثناء ذلك لم تنل أصوات مثل كاظم الساهر ومهند محسن حصتها من مزاج السكارى، حتى باتت تعرف بالأصوات النهارية، التي لا تنسجم مع مزاج الليل، قد تبدو هذه تقسيمة ليست نقدية ولا علمية لكن فعالة في المدى الاجتماعي، كما تقول دعابة رائجة: “منو يسمع عبرت الشط علمودك وهو يشرب عرك!”، رغم أن الاغنية موضع التهكم توظف الخمر بشكل غير مباشر. 

كبيرة هي قائمة الأغاني العراقية وظفت الخمر، منها: 

 اي شيء في العيد، لا تدر ايها الساقي، يا نديم الخمرة، عبادي العماري، سكر كاس الخمر، ابد لا تنفعل، نصحة سكارى، شرب الخمر مو عادة، أكثر من مطرب عراقي غنى، البيت الشهير للمتصوف محمد بن سكران بن أبي السعادات، منهم فهد النوري، مع ذلك يتجنب المطرب التوظيف المباشر للخمر في الأغنية، ذلك لأسباب اجتماعية، هذا لا يمنع التوظيف غير المباشر، كما في: حن واني احن، عرفت روحي

يمثل ارتباط الغناء بالخمر في بغداد لوحة ثقافية غنية بالتنوع والتداخلات الحضارية التي تركت بصمتها على الهوية الموسيقية والأدبية لتلك الحقبة. فقد كان الثراء الاقتصادي، والانفتاح الفكري، والتسامح الفقهي عوامل أسهمت في ازدهار الموسيقى والغناء، وجعلتهما جزءاً أساسياً من حياة النخبة والشعب على حد سواء. ومن خلال المزج بين التراث الشعري والفني وتطور الآلات الموسيقية، أصبحت بغداد مركزاً عالمياً للإبداع الفني. 

ومع ذلك، كانت تلك الفنون تعكس كذلك تقلبات الأحوال السياسية والاجتماعية، حيث تأثرت بازدهار الدولة وواجهت تراجعاً مع انحلالها. ومع امتداد تأثير الخمر والغناء إلى الأدب والشعر، استمر هذا الإرث ليصبح جزءاً لا يتجزأ من الوجدان الثقافي العربي، شاهداً على قدرة الفنون على تجاوز المادي إلى ما هو إنساني ورمزي، مما يربط الماضي بالحاضر ويؤكد استمرارية تلك الروح الإبداعية حتى يومنا هذا. 

رغم الانقطاع التاريخي بين بغداد العباسية، وبغداد اليوم، إلا أن ذلك لا ينفي وجود خيوط رفيعة وعوالم ما تزال مشتبكة تحدث بالطريقة نفسها في الزمنين، الانقطاع الذي يعود للاستعمار الذي سيطر على بغداد نحو ستة قرون لم يعلن انتهاء الحانات ومغنين ومغنيات الحانات، ولم يوقف المجالس والدور التي ما تزال تخلط الخمرة بالموسيقى، ففي بداية القرن العشرين ومع اتضاح ملامح الدولة الحديثة افتتحت العديد من المجالس والتي تعود لأعيان ووجهاء وأدباء وشعراء، مجالس كانت تستمد طاقتها من الأصوات والعازفين والكحول خصوصاً تلك التي تقيمها العوائل التي تبنت خطاب التقدم والتحرر، هذا خلاف المجالس التي كانت ذات سياق تعليمية وثقافية والتي كان يقام بعضها في الجوامع.  

  • أنجز هذا النص ضمن برنامج “الصحافة الثقافية النقدية” (2023-2024)، الذي تديره مؤسسة الصندوق العربي للثقافة والفنون-آفاق بالشراكة مع الأكاديمية البديلة ممثلةً بشبكة فبراير، وأشرف مَعَن أبو طالب على تحرير النص بشكل كامل. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

يشير صاحب الأغاني أبو الفرج الأصفهاني 1 إلى أن الغناء العربي انتقل من الحجاز إلى العراق أواخر العصر الأموي. كان ابن رامين الكوفي يستقدم مغنيات من الحجاز، ويقيم داراً واسعة يقصدها الناس لسماع الغناء. قبل ذلك “لم2 يبق حكم الوادي في الكوفة سقاء ولا طحان ولا مكار إلا وغنى فيها”. ما أن نشأت بغداد وأصبحت حاضرة العالم الإسلامي جذبت المغنين والمغنيات من كافة أنحاء الدولة، “أصبحت3 بغداد داراً كبيرة للغناء”. أصبح المغنين طبقات، جاء في الأولى4: إبراهيم الموصلي/ إسماعيل ابو القاسم/ وابن جامع/ منصور الضارب. وفي الثانية: سليم بن سلام/ وعمرو الغزال، وفي الثالثة أصحاب المعازف والطنابير. ودلالة على تقدير الخلفاء في بغداد للمطربين، حين توفي إبراهيم الموصلي صلى عليه المأمون. 

ارتبطت العديد من التحولات النفسية والفقهية التي حدثت في الخلافة الإسلامية بنقل الخلافة إلى بغداد في نهاية القرن الثاني للهجرة، أخذ الفقه يتبنى أوضاعاً تجارية جديدة، فرضها توسع رقعة من جهة الدولة وتغير الحياة الاجتماعية من جهة أخرى، فتطورت التجارة واتسعت حركة نقل البضائع.  

فن العمارة بدأ أيضاً في التطور، ونشطت الترجمة والاهتمام بالحلي والمتع والفنون والأدب، وهذا كله أدى لظهور مهن وأعمال جديدة، ونشوء طبقات اجتماعية جديدة منها: التجار والحرفيين إضافة لطبقة الشعراء والمغنين، وبالنتيجة علاقات اجتماعية جديدة لم تكن شائعة، مما استدعى أوضاعاً فقهية جديدة، من ذلك وضع محمد بن الحسن الشيباني كتاب “المخارج والحيل” وهو كتاب يبحث في كيفية الخروج من طائلة الحكم الفقهي، ذلك عن طريق حيلة جائزة شرعاً، وجاء الكتاب على شكل أبواب منها: باب الصلح، باب النكاح، باب إجازة الدور، باب المضاربة والخروج منها. باب الحيل في البيع والشرى في الدور والرقيق، وجاء في “باب5 الحيل في اليمين التي تستحلف بها النساء أزواجهن”:  

“قلت: أرأيت الرجل يريد أن يغيب فتقول له امرأته كل جارية تشتريها فهي حرة إلى أن ترجع إلى الكوفة كيف الحيلة في ذلك حتى يشتري ولا تعتق؟ قال يقول الرجل نعم يعني نعم بني تغلب أو نعم بعض أحياء العرب، قلت فإن أبت إلا أن يكون الزوج هو الذي يقول كل جارية أشتريها فهي حرة، كيف يصنع؟ قال فليقل ذلك ويعني بذلك كل جارية سفينة، فإن الله يقول: وله الجوار المنشآت في البحر”. 

تلك المرونة الفقهية التي فرضتها الحياة الجديدة، أسهمت في صياغة أنماط عيش وعلاقات لم تكن شائعة إلى حد ما، وجزء كبير من تلك الأنماط هو ما يتعلق بالتمتع والرفاه، الذي يتناسب مع الثراء الذي أصاب تجار ووجهاء بغداد، وهجرة المطربين والشعراء إليها للتقرب من الخليفة. 

في المقابل يرى هنري جورج فارمر في كتابه الشهير تاريخ الموسيقى العربية، أن التقدم الذي حققته الموسيقى لا يعود للرخاء الاقتصادي والسياسي كما تذهب غالبية التحليلات، لكن حسب هنري فإنّ مردّ هذا التقدم يعود لأثر6:” عقائد الشيعة والمعتزلة على الفكر الإسلامي ثم الهيمنة الكاملة لثقافة اليونان العلمية على الحياة العامة، إن السبب الأول أوجد موقفاً متسامحاً تجاه الموسيقى”. فكما هو معروف أن المذهب الشيعي ليس متشدداً في تحريم الموسيقى، وهذا انعكس حتى على الجماعات التي ترتبط بالتشيع منها إخوان الصفاء وخلان الوفاء وقد أفردت الرسالة الخامسة من رسائلهم للموسيقى، وهذا التسامح الفقهي يشترك به الشيعة مع المعتزلة.  

الظروف هذه تعززت بإقبال أهل بغداد على الملذات الحسية، وانتشرت دور الخمر والغناء في المجالس الأدبية والحفلات الاجتماعية. أدار إبراهيم الموصلي في بغداد معهداً للموسيقى لا تتوفر معلومات عنه، المعهد سبق مناهج زرياب، الموصلي عاش مع بداية العصر العباسي الأول وعاصر المنصور والمهدي والرشيد، وعاش زرياب في الفترة تلت وفاة إبراهيم الموصلي، حيث وُلد زرياب في السنوات الأخيرة من حياة إبراهيم. لكن شهرة زرياب تعود لانتقاله من بغداد إلى الأندلس، مما جعله شخصية ثقافية عالمية الطابع، حيث أسهم في نقل الثقافة العباسية إلى الغرب الإسلامي وإثراء الموسيقى والحياة الاجتماعية في الأندلس. 

كتاب الأغاني قال الكثير عن المغنين والشعراء والخمر في العصر العباسي ببغداد. بل أن الفكرة الأساس لكتاب الأغاني بدأت عندما أمر هارون الرشيد إبراهيم الموصلي أن ينتخب مئة صوت ويكتب عنهم، لكن الأصفهاني صاحب الكتاب أضاف ما اختاره من مصادر متنوعة أخرى، وتوسع في الأخبار. 

سبق الأمويين العباسيين في إقامة القصور الفارهة، إلا أنهم في بادئ أمرهم فضلوا الابتعاد عن اللهو، كان لهم من الندماء بعض الأدباء والمحدثين وأهل الخبرة، خالد بن صفوان يجالس عمر بن عبد العزيز، وهشام بن عبد الملك، ومن ثمّ رافق أبا العباس السفاح، وتقول المصادر 7التاريخية إن خالد دفع السفاح لتبني الجواري، لكن تطور الخلافة وتوسعها الذي شكل مصدراً هاماً للرقيق، هو ما دفع الخلافة العباسية لتبني الإماء والجواري والعبيد والغلمان. عرف عن الرشيد أنه كان يستكثر منهم، قيل إنه سار يوماً وبين يديه 400 منهم، وتشير بعض المصادر إلى أن الرشيد وزوجته زبيدة امتلك كلّ واحد منهما قرابة ألفي جارية، وعلى هذا سار الأمين والمأمون ومن بعدهما المعتصم والواثق.  

تنحدر غالبية الجواري والإماء من أجناس وأعراق مختلفة، كان الكثير منهن ملكن فنون الأدب والغناء والموسيقى ما شكل تنوعاً في ذلك الوقت، منهن: عنان جارية الناطفي التي كانت تجيد الغناء ونظم الشعر وعرف عنها المرح وسرعة البديهة، وسكن جارية محمود الوراق التي كانت تتميز بأسلوبها في الغناء، وعريب التي كانت تغني للواثق وهي جارية الأمين والمأمون والتي تعد من أشهر مغنيات العصر العباسي، وكانت تجيد العزف على العود ونظم الشعر. يقول الأصفهاني 8في عريب “لا توجد امرأة أضرب من عريب، ولا أحسن صنعة، ولا أجمل وجهاً، ولا أخف روحاً، ولا أحسن خطاباً، ولا ألعب بالشطرنج والنرد”، ولدت عريب سنة 181 هـ، يعرف عن عريب أنها كانت كثيرة العشاق وأنها ما إن تهجر أحدهم حتى يتهالك، وقال حاتم بن عدي بعد أن تركته9: “ورشوا  على وجهي من الماء واندبوا قتيل عريب لا قتيل حروب”. ودنانير التي يضعها كتاب الأغاني في طبقة “الإماء الشواعر” وهي المولودة في الكوفة، ورباها محمد بن كناسة. ويعرف عن بن كناسة أنه زاهد؛ لذا يشك الأصفهاني في أنها تغني، وينسبها عبد الكريم العلاف إلى خالد بن يحيى البرمكي، يشير العلاف إلى أنها انتقلت إلى دار البرمكي وكان الرشيد يحضر مجلسه وأعجب بغنائها وطرب لها ذات مرة، وتولى الموصلي الإشراف على تعلمها الغناء، حتى أن الموصلي كان يقول 10للبرمكي: “إذا فقدتني ودنانير عندك فإنك لم تفقدني”، وبعد ما وقع للبرامكة على يد الرشيد انتقلت دنانير إلى دار الرشيد، وأمرها الرشيد أن تغني فأبت قائلة: يا أمير المؤمنين إني آليت ألا أغني بعد وفاة سيدي أبداً، فقال الرشيد متهكماً: ومن سيدك؟، قالت: خالد بن يحيى، فغضب الرشيد وأمر بضربها،11 ثم أمرت بالغناء، وكانت تغني وهي تبكي من شدة الضرب. يشير التوحيدي 12في الإمتاع والمؤانسة لوجود 460 جارية مغنية فيقول: “وقد أَحصَيْنا — ونحن جماعةٌ في الكَرْخ – أربعمائةٍ وستّين جارية في الجانبَين، ومائةً وعشرين حُرّة، وخمسةً وتسعين من الصِّبيان البُدُور، يجمعون بين الحِذْق والحُسن والظَّرْف والعِشرة”. وهذا العدد كان كافياً لإنتاج أنماط غنائية عديدة.  

أسهم انفتاح الحضارة العربية على الفرس والبيزنطية في تطور الخمر والغناء معاً. طوَّر العالم جابر بن حيان، آلة للتقطير في زمن هارون الرشيد، واستخدمها في تقطير العطر والكحل، ثم استخدمها لاحقاً العالم أبو بكر الرازي “وهو من بلاد فارس”، لتقطير الكحول، ومنها جاء اسم الكحول في العربية. وازدهرت صناعة الخمر نتيجة لتطور الزراعة والعناية بالعنب، سيما في العراق والشام. وقت بدأ الاهتمام بتدوين الموسيقى.  

في بغداد العباسية لا يمكن الإشارة إلى الغناء دون الخمر، فقد ارتبطا أيما ارتباط، وتطور أحدهما جنباً الى جنب مع الآخر، يقول الجاحظ13: “لم يشرب عمر بن عبد العزيز منذ أفضت إليه الخلافة إلى أن فارق الحياة الدنيا، ولا يسمع غناء”. وهذا يشير إلى ارتباطهما.  

يروي الجاحظ14 أن الرشيد سأل يوماً العازف وخبير الأصوات ومعلم العزف “برصوم الزامر”: ما تقول في ابن الجامع؟ فحرك رأسه وقال: خمر قطربل يعقل ويذهب العقل، وقال: ماذا تقول في إبراهيم الموصلي؟ قال: بستان فيه خوخ وكمثرى وتفاح وشوك وخرنوب، وقال: فماذا تقول في سليم بن سلام فقال: ما أحسن خصابه. تشير هذه المحادثة إلى الاهتمام الذي يوليه الرشيد للغناء والموسيقى، كما يمكن اعتبارها عملية نقد فني. ويرى شوقي ضيف 15أن الغناء بالنسبة للعباسيين “نعيمهم في دنياهم”. 

في بغداد العباسية نافست المغنيات الشاعر العربي صديق الخليفة على حظوته المعتادة، والمغنيات في الغالب من “القيان” وإن كان بعضهن من الإماء والجواري، حتى بات الشاعر يحسد النخاس الذي يملك قيان متميزات في تقديم الترفيه، يقال إن أبي دلامة شاعر المهدي مر بإحدى دور النخاسين فرأى النعم والترف، فأنشد 16أمام الخليفة المهدي: 

“إن كنت تبغي العيش حلواً صافيا       فالشعر أعذبه وكن نخاساً” 

لكن في زمن الرشيد تطور عمل القيان، إبراهيم الموصلي تكفل بتعليم القيان البيض تحديداً فن الغناء، ذلك حسب طلب الرشيد. يرى الباحث 17عبد الكريم العلاف أن القيان والجواري كان لهن الفضل الأكبر في نهوض الموسيقى وترقية الآداب العامة والشعر خاصة، فالعرب 18ينسبون الأغنية الأولى ليوبال بن قايين وكانت مرثاة لهابيل، وأن أول من غنى على الآلات الغنائية هن بنات قايين، لذا يطلق اسم القينة على المغنية التي تعزف، لذا يستنتج العلاف تأثيرهن في الموسيقى والأدب. 

تبعاً لهذا التحول تبدلت موضوعات الشعر، وبدأ في فتح آفاق جديدة، منها ما أخذ يتسع ويكثر من مدح الخمرة والمتع، أشهرها خمريات أبو نواس، وقال العديد من الشعراء في الخمرة ذلك بسبب تسامح الخليفة والفقه مع المتع والغناء، بل جعلهما من دلائل عصره الذهبي، “وأخذ الشعراء يتفكهون في شعرهم بحرمة الخمر كالذي قال: 

مَنْ ذا يُحَرِّم ماء الْمُزْنِ خَالَطَهُ في جَوْف خَابِيَةٍ مَاءُ العناقِيدِ 

إني لَأَكْرَهُ تشديد الرواة لَنَا فيه ويُعْجِبُنِي قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودِ 

أغراض الشعر العربي هي الهجاء والمدح والذم والرثاء والغزل والفخر وغير ذلك، لكن هذه الأغراض سوف تضاف لها واحدة في بغداد “الخمريات”، التي تكاد تكون نوعاً مستقلاً من الشعر، فتح أبو نواس هذا النهج أو ارتبط به، ثم توسع الشعر الذي كان الغرض منه الغناء، وبدأ هذا الارتباط انطلاقاً من قصر الخلافة.  

غالبية المغنين في العصر العباسي من الموصل: زرياب الذي تتلمذ على يد إسحاق الموصلي، ووالده إبراهيم الموصلي هم أعمدة الغناء والثقافة الموسيقية في بغداد العباسية، ويعود السبب، حسب الباحث محمود جمعة، “إلى أن نينوى أولى مدن الشرق التي اتصلت بالمسيحية الأوروبية والتي كان أساسها التراتيل بوصفها جزءاً من المنظومة التبشيرية التي تقوم عليها الديانة”، لكن سبب قدومهم إلى بغداد هو تطور الآلات الموسيقية، وكثرة دور الغناء، والرخاء الاقتصادي الذي باتت تحققه الموسيقى في بغداد. 

ذاك الرخاء لم يستمر، وبدأ عصر انحلال الدولة العباسية مع المتوكل، حيث اعتمد على الجنود الأتراك في تأمين السلطة، ونشبت خلافات داخلية بين الوزراء وازدادت حدة التوتر الطائفي، وأثقل كاهل الدولة نتيجة لارتفاع تكاليف الجيش، وقادة الجيش على القرار السياسي، ما دعا المتوكل لبناء قصره في سامراء بعيداً عن بغداد، وانتهى الأمر باغتيال المتوكل. بدأ تفكك الدولة، قبل ذلك حاول المتوكل أن يستعيد قوته عبر جملة من الإجراءات التعسفية والتشدد الديني، فصودرت مكتبة الكندي الفيلسوف والمنظر الموسيقي الذي يعد أول من وضع قواعد للموسيقى في العالم العربي والإسلامي، واقترح إضافة الوتر الخامس إلى العود.  

استمرت الحضارة العباسية بالتأرجح، وخرجت من بغداد. فيما بعد انهارت الدولة العباسية، وقلّ حضور الموسيقى والخمر في كتب التاريخ، وعانى تدوين الموسيقى من تراجع ملحوظ، لكن ارتباط الغناء بالخمر استمر، وصار محكوماً من قبل الأوضاع السياسية والاقتصادية، في سنوات الرخاء تزدهر دور الخمر والغناء والمجالس الأدبية، وتغيب في غيابها. 

البعد الاستعاري للخمر في الفنون 

إذا كان لبغداد خصوصية في علاقة الخمر بالغناء، فإن تلك الخصوصية تشتبك مع الفاعلية الوجدانية التي تحققها الثنائية، في الشعر كإرث بشري، لا غنى فيه عن توظيف الخمر، لامتداد دلالته لما هو أبعد من كونه مادة مسكرة، فهو يعكس وجوه متعددة من النفس البشرية، يستعير الفن والأدب من كل ما يحيط بالخمرة، منها: الزجاجة، والكأس، ولون الشراب، والنديم، والساقي. 

من ناحية اخرى الاستعارة الأكثر شيوعاً للخمر هي “الانغماس” سواء في الحب أو الحزن أو أي حالة وجدانية أخرى، الخمر في توظيفاته الدارجة، رفيق الوحدة والخذلان، والاحتفال والفرح، كما أنه يعكس الصراع القائم بين الوعي واللاوعي، من ذلك ترك الشعر توصيفات لا تحصى، وتشبيهات لا نهائية في الخمر، وهذا الكم الاستعاري امتدّ للأغنيات التي عمادها الشعر، من جانب آخر تظهر الموسيقى الجوانب الروحية والتأملية التي يعكسها الخمر، الموسيقى تضفي على الخمر بعداً فلسفيا وروحانياً، والخمرة تثري الموسيقى بمعان تتجاوز المادي إلى ما هو رمزي وإنساني، ما يجعل العلاقة بينهما أحد أبرز أشكال التعبير الثقافي والفني في التاريخ البشري. ارتبط الخمر بالإنتاج الإبداعي، في الشعر هو رمز التحرر كما عند المعري والخيام وابو نواس. وبقيت هذه الثنائية فاعلة حتى اللحظة خصوصاً مع الشعراء والمطربين الذي يعرف عنهم التمرد.  

10 اغاني من اختيار عامل الحانة 

وإن اختلف الجلاس في السن والمزاج والطبع، إلا أن هناك مشترك واحد هو ما يجب أن يجمعهم، فحين يجلسون سوية ماذا يسمعون؟ أحد العاملين في حانة بغدادية اختار لنا 10 أغنيات يجمع على سماعها غالبية رواد الحانة:  

هذه القائمة ليست نهائية، وهي عينة عشوائية لنوعية الأغنيات التي تسمع في السهرات، لكنها لا تخفي أن عدداً كبيراً من الشبان اليوم يفضلون الأغاني الراقصة مع الخمر وآخرها: صدك بغداد، لا تتمادى ، ناعور مال هموم. وغيرها. 

عراق السكارى بالصوت 

قد يشرب الخمر دونما أدنى صوت، ذلك لا يخفي أن الصوت رفيق جلسات الشرب، وما إن دخل الوسيط الصوتي حيز التداول، قلما تغيب الأغاني عن تلك الجلسات، إذ ليس ضرورياً وجود القيان والمغنين في المكان، الأسطوانة والكاسيت والتلفاز واليوتيوب وغيره من الوسائط حلت بدلاً من الحضور المادي للمطرب، انطلاقاً من ذلك صار بالإمكان إحضار المطرب الذي تود، حينما  تحب، رغم تنوع ما يسمع من ناحية الوقت والمزاج وغيرها، إلا أن جلسات الخمر بقيت محافظة على شيء من الخصوصية، خصوصية تمنحها حق التباهي في اختيار أغانيها بعناية، تماشياً مع اختيار الندماء والكأس والطاولة بالعناية ذاتها. 

تتنوع جلسات الخمر في مستوى الإصغاء، تبعاً للجالسين، لكن ذلك لا ينفي اتفاق الجلاس في كل الحانات أن هناك ركائز غنائية لا تغيب عن جلسات الخمر، تتنوع هذه الركائز حسب الوقت، في البدء كان قراء المقام البغدادي يحييون ليالي الخمر في بغداد، وما إن بدأت الإذاعة تبث لبعض المطربين دون سواهم صارت ثمة قائمة أكثر وضوحاً، وقت انتشر ناظم الغزالي وأصبح مطرب البلد الأول، لم تكن تكتمل جلسة خمر دون صوته، رافقته زهور حسين التي كانت أغانيها مفضلة لجزء كبير من الخمارة، وبشكل أقل سليمة مراد، لكن الريف العراقي لم يكن قد تعرف بعد على أجهزة التسجيل الحديثة كما أن وصول الخمر لهم ليس يسيراً كما هو الحال في بغداد، لذلك كان تأتي مجموعات منهم، مفضلين في ذلك الوقت أغانيهم الريفية، عبر داخل حسن وحضيري أبو عزيز وناصر حكيم، يبقى الإجماع في تلك الفترة على الغزالي. 

مع التحول من الملكية إلى الجمهورية، تحول الذوق الفني في العراق، ولم يعد حكراً على ثنائية الغناء البغدادي- الريفي، وجاء المد اليساري بأغانيه التي تشكل حاضنة كبيرة للخمارة، فقد ازدهرت منذ نهاية الستينيات أغاني حسين نعمة وفؤاد سالم، وسعدون جابر وغيرهم، فتكاد لا تتوقف الحانات عن تشغيل أغنياتهم، وهذا يرتبط أيضاً في نظرة اليسار تجاه الخمرة، وهو ما عزز بافتتاح العديد من الأندية والصالات والحانات ذات المزاج اليساري.  

ابتداء من الثمانينات لا شك أن أكثر مطرب ارتبط إرثه الفني بالخمر هو سعدي الحلي، الذي يجمع عليه أبناء جنوب ووسط العراق ولا يختلف معهم كثيراً أبناء الشمال والغرب، يقول ضياء (62 عاماً) وهو أحد مدمني صوت سعدي الحلي، أن “ماكو واحد يشرب ما يسمع سعدي، جان عندي أصدقاء يجون من الموصل وصلاح الدين هم يحبون سعدي، سعدي الوحيد يعدل المزاج”. خلاف ضياء، كانت حانات بغداد في الستينات تشأغانٍ عربية منها اغاني ام كلثوم وفريد الأطرش وأسمهان. لم تختفِ الاصوات العربية في الاندية والبارات ولكنها أخذت تخفت قليلاً، مع ظهور الجيل الغنائي الأبرز في العراق وهي الجيل السبعيني، الذي كان محملاً بالثورة ومفاهيم الحرية والتحرر والصخب، وقرب خطابه من الطبقات الاجتماعية المتوسطة وما دونها.  

غيرت الحرب العراقية الإيرانية مزاج العراقيين في الخمر، فصارت جلسات الخمر ليست للسمر والسعادة والبهجة، بل أصبحت جلسات عتاب على الحياة، جلسات بكائية حزينة، ذلك ما جعل أغاني تلك الجلسات تمر عبر هذا الحزن الذي طبع النفس العراقية، فصارت أغاني سلمان المنكوب وياس خضر وقحطان العطار من علامات تلك الفترة، مع نهاية الثمانينيات، ضجت القاعات والحانات بصوت رياض أحمد الذي سيكون أحد أكبر مطربي جلسات الخمر لوقت طويل، فيما بعد سيفتح الخمر مزاجه لصوت شجي يكاد يغالي بعض سامعيه في وضعه بمرتبة عليا حين تدور الخمر في الكأس، وهو صوت كريم منصور.  

لم يحدث الكثير من التغيير، في التسعينيات، تلك الفترة التي شهدت ظهور عبد فلك وحسن بريسم وهما بنفس مزاج منصور تقريباً، في أثناء ذلك لم تنل أصوات مثل كاظم الساهر ومهند محسن حصتها من مزاج السكارى، حتى باتت تعرف بالأصوات النهارية، التي لا تنسجم مع مزاج الليل، قد تبدو هذه تقسيمة ليست نقدية ولا علمية لكن فعالة في المدى الاجتماعي، كما تقول دعابة رائجة: “منو يسمع عبرت الشط علمودك وهو يشرب عرك!”، رغم أن الاغنية موضع التهكم توظف الخمر بشكل غير مباشر. 

كبيرة هي قائمة الأغاني العراقية وظفت الخمر، منها: 

 اي شيء في العيد، لا تدر ايها الساقي، يا نديم الخمرة، عبادي العماري، سكر كاس الخمر، ابد لا تنفعل، نصحة سكارى، شرب الخمر مو عادة، أكثر من مطرب عراقي غنى، البيت الشهير للمتصوف محمد بن سكران بن أبي السعادات، منهم فهد النوري، مع ذلك يتجنب المطرب التوظيف المباشر للخمر في الأغنية، ذلك لأسباب اجتماعية، هذا لا يمنع التوظيف غير المباشر، كما في: حن واني احن، عرفت روحي

يمثل ارتباط الغناء بالخمر في بغداد لوحة ثقافية غنية بالتنوع والتداخلات الحضارية التي تركت بصمتها على الهوية الموسيقية والأدبية لتلك الحقبة. فقد كان الثراء الاقتصادي، والانفتاح الفكري، والتسامح الفقهي عوامل أسهمت في ازدهار الموسيقى والغناء، وجعلتهما جزءاً أساسياً من حياة النخبة والشعب على حد سواء. ومن خلال المزج بين التراث الشعري والفني وتطور الآلات الموسيقية، أصبحت بغداد مركزاً عالمياً للإبداع الفني. 

ومع ذلك، كانت تلك الفنون تعكس كذلك تقلبات الأحوال السياسية والاجتماعية، حيث تأثرت بازدهار الدولة وواجهت تراجعاً مع انحلالها. ومع امتداد تأثير الخمر والغناء إلى الأدب والشعر، استمر هذا الإرث ليصبح جزءاً لا يتجزأ من الوجدان الثقافي العربي، شاهداً على قدرة الفنون على تجاوز المادي إلى ما هو إنساني ورمزي، مما يربط الماضي بالحاضر ويؤكد استمرارية تلك الروح الإبداعية حتى يومنا هذا. 

رغم الانقطاع التاريخي بين بغداد العباسية، وبغداد اليوم، إلا أن ذلك لا ينفي وجود خيوط رفيعة وعوالم ما تزال مشتبكة تحدث بالطريقة نفسها في الزمنين، الانقطاع الذي يعود للاستعمار الذي سيطر على بغداد نحو ستة قرون لم يعلن انتهاء الحانات ومغنين ومغنيات الحانات، ولم يوقف المجالس والدور التي ما تزال تخلط الخمرة بالموسيقى، ففي بداية القرن العشرين ومع اتضاح ملامح الدولة الحديثة افتتحت العديد من المجالس والتي تعود لأعيان ووجهاء وأدباء وشعراء، مجالس كانت تستمد طاقتها من الأصوات والعازفين والكحول خصوصاً تلك التي تقيمها العوائل التي تبنت خطاب التقدم والتحرر، هذا خلاف المجالس التي كانت ذات سياق تعليمية وثقافية والتي كان يقام بعضها في الجوامع.  

  • أنجز هذا النص ضمن برنامج “الصحافة الثقافية النقدية” (2023-2024)، الذي تديره مؤسسة الصندوق العربي للثقافة والفنون-آفاق بالشراكة مع الأكاديمية البديلة ممثلةً بشبكة فبراير، وأشرف مَعَن أبو طالب على تحرير النص بشكل كامل.