"جيل مرتاح من الحرب": كم مرة توقف قلبي في الألفينات؟ 

ضيّ أحمد

25 آذار 2025

أضحك اليوم كلما سمعت شخصاً يقول "هم ذول جيل الألفينات جيل مرتاح عمي!". تُحاصرني الرغبة في إخباره عن كل المرات التي ردّدت فيها الشهادة.. عن قلب توقّف خلال الألفينات..

“ضيّ، اقري الشهادة، اقريها بسرعة حنموت” سمعت صوت أمي يخترق أحلامي. لم تكن أحلامي ناعمة، كنت أحلم بالبريطانيين الذين اقتحموا حديقة منزلنا قبل عدة أعوام، وأمسكوا ألعابي وسألوني إن كنت أحتفل بالـ “كرسمس”.  

لا أتذكّر أحلاماً برّاقة من طفولتي، لِذا لم أتفاجأ حين أيقظتني أمي فزعة. كانت خائفة، كنا نحن الثلاثة، أنا في السابعة من عمري، وأخي في الخامسة من عمره، وأخونا الأصغر، في الثانية من عمره. طلبت أمي منّا أن ننطق الشهادة بسرعة، سنموت، سيدخل الرصاص علينا من كل مكان، فالطابق العلوي الذي نسكنه لا يحتوي مكاناً منعزلاً عن الشارع. الشبابيك أحاطت بنا، وكذلك رصاص رجال نور المالكي ومقتدى الصدر.  

رددت الشهادة. كنت أعرف لِماذا أقولها. كانت السبيل الوحيد، أو هذا ما ظننته، لإيقاف دموع أمي وارتجافها. سألتها “ماما، وين نروح؟”، لعلّه سؤال راودها أيضاً، أتساءل إن راود شقيقاي كذلك. رفعت أمي أخويّ على ذراعيها، وطلبت مني الاحتباء على الأرض وصولاً إلى الحمام مثل طفلةٍ في شهورها الأولى. لا ملجأ لنا سوى البانيو الذي تملؤه ألعابي.  

حبوت أمامها، انتظرت وصولي لأستقبل أخي، حابياً هو الآخر، كان نعسِاً وخائفاً، لكنه زحف، مثلي، ينتظر أن أستقبله في مدخل الحمام، الملاذ الآمن. نظرت إلى أمي في مشهد سينمائي من الضفة الأخرى. لم يفصل بيننا سوى ثلاثة أو أربعة أمتار، لكنني لحظتها، شعرت أن الأرض تعلو بيني وبينها، شعرت أنها بعيدة عني جداً.. 

أخبرتني ألا أخاف، وأنها ستصل، ستتجاوز الأمتار الأربعة، لن تتركني. حاولت هي أيضاً أن تحبو، برِفقة الصغير الخائف. كان خائفاً للحدّ الذي دفعه للصمت، لم يبكِ، لم يهمس، لكنّ صوت تنفسّه كان سريعاً، فالبيت لطالما اتّسم بصوت أغاني قناتي “كراميش” و “طيور الجنة”. كان الصوت الأعلى في المنزل يقول “وين راحوا؟ سناناتك الحلوة وين؟” إذ تتساءل المغنية أين ذهبت أسنان أخيها الأصغر.  

كان صوت الرصاص جديداً على الصغير، أما أنا وأخي الأوسط، فاعتدناه. 

عام 2008، يوم 25 آذار، قرر المالكي أنه لن يحتمل قسمة البصرة مع مقتدى الصدر وجيش المهدي خاصته. لِذا، كان الحل الأفضل، بالطبع، مُحاربة جيش المهدي في الأحياء السكنية. الحق، أن أهل البصرة أيضاً لم يحتملوا اقتسامها مع مقتدى وأتباعه. لكن هل فكر أحدنا أن هذا الرفض يعني أياماً من العزل داخل المنازل بين الرصاص بانتظار الموت أو التحرير؟ 

اقرأ أيضاً

“الجدال بالحرب”.. المعركة المؤجلة بين الصدر وخصومه 

لا. 

احتضنتنا أمي في الحمام، أغلقنا الباب، وجلسنا نحن الثلاثة في حضنها، كل دقيقتين، تطلب منا ترديد الشهادة بصوت منخفض. أما هي، فانخرطت تتلو الآية الأحبّ إلى قلبها، (وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُون). 

كانت تبكي، ما زالت صغيرة، لم تتجاوز السادسة والثلاثين، معها ثلاثة أطفال، وزوجها في محافظة أخرى، وهي في شقة إيجار، بعيدة عن أهلها الموجودين في جزء آخر من البصرة، مُحاصرة داخل حمام ضيق، وجيش المهدي يصارعون عدوهم اللدود؛ الجيش العراقي، خارج نافذتها. 

أشفق علينا أصحاب المنزل الذي نسكن طابقه العلوي، جاءت لنا صاحبة البيت -وهي تزحف أرضاً كذلك- وأخبرتنا أن نتبعها، سنسكن مخزنهم حتى يستسلم الصدر أو المالكي، أو نستسلم نحن للموت. 

لأيام، بقيت داخل المخزن الذي أُعِدّ على عجل لأسكنه مع أمي وأخوَاني. بقينا هناك نستمع للرصاص نهاراً وليلاً بلا توقف. لم تكن الشمس عائقاً، ولا الظلمة. في إحدى المرات، اشتدّ صوت الرصاص، أخبرتُ أمي “ما أريد أموت، ليش رح يكتلونا؟” 

حاولت أمي تهدئة خوفي، لكنني بكيت، وذُعرت، أتذكر حتى الآن -وأنا في الثالثة والعشرين من عمري- صوت تنفسي، كنتُ أشهق لأتنفس، لم أستطع التنفس، نسيت رئتاي كيف تأخذ الهواء وتُعالجه. في لحظةٍ ما، توقّف الرصاص، لم يتوقف خارج المنزل، لكنني لم أعد أسمع شيئاً، ولم يعد التنفس مشكلة. توقف قلبي، مُت.  

تتحدث أمي عن ذعرها في تلك اللحظة دائماً، تخبرني أنها في مخزن غريب وحيدة تحاول أن تعيد طفلتها الأولى للحياة، تضرب على صدري بلا حيلة، تقرأ القرآن على قلبي، تتوسّل الله أن يُعيدني. لم أزُر الجانب الآخر لوقتِ طويل، دقيقة، ربما دقيقة ونصف، هذا كلّ ما نلته من الموت حينها.  

عندما فتحت عينيّ مرة أخرى، كانت أمي على وشك إنزال قبضتها على صدري من جديد، بينما دموعها تتساقط على وجهي، مثل الغيث في يومٍ بارد. 

مر 16 عاماً على موتي الأخير، لكن شعور الهواء وهو يعود لصدري من جديد ما يزال حاضراً في ذاكرتي. عاد الهواء وعادت أصوات الرصاص إلى أذنيّ، ورافقهما نحيب أمي بينما تحتضن جسدي، لم تكن متأكدة إن كانت تحتضن جسداً أم جثةً، لكن الاثنين كانا طفلتها.  

بعد أيام من الاحتجاز، طرق بابنا جندي من الجيش العراقي، أخبرنا أن نحزم أمتعتنا ونذهب. “وين نروح؟” سألناه، فأجاب “أي مكان، هدنة لباجر الصبح، شردوا، تركوا بس الزلم..”، كان علينا أن نترك الـ “زلم” (الرجال) في المنازل حتى لا تُحتلّ من قِبل أحد الطرفين. 

كانت المرة الأولى خلال تلك المدّة التي نصعد فيها لشقتنا لنأخذ أغراضنا. اخترق الرصاص المطبخ وغرفة الاستقبال، ثقوب الحرب ملأت أبواب الغرفة والأعمدة. دخلت غرفتي بحثاً عن لعبتي المفضلة -تماماً مثل أفلام هوليوود- تعثرت بشيء ما، نظرت نحو الأرض، كانت رصاصة فارغة تقف تحت قدمي. وقتها تساءلت، رصاصة من هذه؟ أيّ من العراقيين المتقاتلين؟ 

الموت الثاني  

هل كان هذا المشهد غريباً؟  

لا.  

في الرابعة من عمري (عام 2005 ربما)، جلستُ في غرفتي، مع أمي وأبي وشقيقي، وجدتي وجدي، وبعض أبناء عمومتي، وزوجات أعمامي. جلسنا في غرفة واحدة ضيقة، نقرأ الشهادة. قرأت الشهادة لوقتٍ طويل من حياتي حتى اعتدت الروتين. كان جند السماء في الخارج، وكذلك البريطانيين. كِلاهما في حديقة منزلنا.  

الحديقة التي أحبها، احتوت أربع نخلات مُحمّلات بألذ التمر وأفخر أنواعه، البرحي. وحول النخلات، كان هناك شجرة اللالنكي، وشجرة التُكي، وشجرة البمبر، وشجرة للنبك. في الغرفة، فكرت، هل يتصارعون على الثمار؟ هل أرادوا، مثلما أحببت أن أفعل، تسلّق النخيل؟ هل أعجبتهم الأرجوحة التي أحب الجلوس عليها مع جدي كل يوم في الرابعة عصراً؟ لعلهم أرادوا أن يشاركونني حياتي، لعلهم أرادوا حياتي. 

توقف قلبي هنا للمرة الثانية. لم تستطع أمي أن تصرخ، أو تقرأ القرآن بصوت عالٍ. دلّك أبي صدري، واحتضنني لأهدأ، لأهدأ في موتي الصامت أساساً. 

حين استيقظت، قرر الجميع الرحيل. خاف البقية على أطفالهم من مصيري، خافوا ألّا يعود الأطفال مثلما عدت.  

 بعد فترة قصيرة، وجدت نفسي في حضن أمي، داخل سيارة تحملني أنا وكل من جلسوا معي في تلك الغرفة، تركنا المنزل، تركنا النخل والفواكه، تركنا الرجال، تركنا كل شيء لهم، وغادرنا. توجهنا لبيت عمتي، كان قريباً، فهربنا إليه من الحرب، من الرصاص.  

لكن أحداً ما ينقصنا.. بابا، أين بابا؟  

“ماما، بابا وين؟ كتلوه؟” همست لأمي، خفت أن يسمعنا أحد، لعل موت أبي كان سراً يجب ألا يُفصح عنه. هزّت أمي رأسها، كان تعبيرها جامداً، كانت مذعورة مثلي، ربما كانت تفكر بأبي أيضاً.  

“لا ماما، بابا بقى يم ألعابج، حتى ما ينامون وحدهم بالليل” طمأنتني. لكنني لا أريد ألعابي، فليأخذ البريطانيون وكلّ من له عينان زرقاوان ألعابي، أريد بابا! هل سيظلّ تحت نار السلاح؟   

“أريد بابا!” انهمرت الدموع، نشجت بصوت منخفض، كان أخي نائماً، راعيت ذلك حتى في خوفي. حاولت أمي إسكاتي، أخبرتني أنه سيلحقنا فيما بعد، لكن البعدَ لم يأتِ.  

لم يمت بابا، لكن الفراق تكرر. أخبرت أمي ذات يوم “أحسّ الدولة تنتظر بابا يروح للشغل حتى تكتلنا”، ضحكت أمي حينها، كانت مفارقة غريبة أن أبي نادراً ما تواجد في مثل هذه الحوادث، ففي كل مرة يُهاجمنا جيش جديد، يكون في العمل، ولا يستطيع الوصول إلينا إلا بعد أيام. 

بعد عدة أعوام، سيراودني الحلم ذاته، أنا في سيارة مُغلقة، تسير ببطء، وأبي ينظر إليّ من خلف باب المنزل مبتسماً. ثم يأتي أحدهم حاملاً بندقية تفرغ ما في مخزنها من رصاص في صدر أبي. أستيقظ كل يوم، خائفة.  
أفكر بأبي، الذي يسكن الغرفة المجاورة، وأخاف أن يأخذه البريطانيون، أو جند السماء، أو الجيش العراقي، أو جيش المهدي، مني مرة أخرى. 

 استمرت هذه العزلة عدة أيام. انتظرنا، ست عائلات داخل منزل واحد، تسعة أطفال، أن ينتصر أبناء السماء، أو أبناء الأرض؛ أردنا العودة. ساورني الحنين للنخل الذي قضيت أياماً أتسلقه، للأرجوحة، ولجدي، ولأبي، ولعمي.   

كم مرة شعرتُ بالراحة؟ كم مرة غفوتُ دون خوف؟ لا أدري. ربما كان رحم أمي هو المكان الآمن الوحيد لي. بعد ولادتي بعدة أشهر، اصطحبني أبي إلى نادٍ ثقافي جانب منزلنا، وجلس فيه. كنت أبلغ من العمر ثمانية أشهر ربما، وكان سعيداً بي.  

دمّر سعادته صاروخ قصف النادي الذي جلسنا على عتبة بابه مع أصدقاء أبي. غطى جسدي بجسده. انهار النادي من خلفنا، تساقط علينا الحجر والزجاج. اقتحم التراب رئتيّ، لم أتنفس.  

وللمرة الأولى، حاول أحمد أن يعيد ضيّ للحياة.  

هل كان يعلم أنه سيمضي أعواماً لاحقة ينافس فيها عزرائيل عليّ، يشدّ كلٌّ منهما يدي كي أذهب معه؟ 

اليوم، أضحك كلما سمعت شخصاً يقول “هم ذول جيل الألفينات جيل مرتاح عمي!”.  

تُحاصرني الرغبة في إخباره عن كل المرات التي رددت فيها الشهادة، والمرات التي ضربت فيها أمي صدري لكي أعود، والمرات التي ودعت فيها أبي، لأن الرجل يجب عليه حراسة المنزل، ولأن الرصاص دمّر الجدار الذي أحبّ، ولأن الحديقة ليست آمنة بعد الآن، ولأن أمي تحتضنني وتبكي خوفاً، ولأنني أملك أكثر من ميلاد، فأنا أُولد كلّما ضربت أمي صدري بقوة أكبر. 

كلّ عام، كلّ عطلة ربيع، أغفو، خائفة من المالكي وتملّكه.  

وكل عطلة شتوية، أغفو، خائفة من البريطانيين.  

كل عام، كل يوم، كل ساعة، أغفو، خائفة، من كل شيء. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

“ضيّ، اقري الشهادة، اقريها بسرعة حنموت” سمعت صوت أمي يخترق أحلامي. لم تكن أحلامي ناعمة، كنت أحلم بالبريطانيين الذين اقتحموا حديقة منزلنا قبل عدة أعوام، وأمسكوا ألعابي وسألوني إن كنت أحتفل بالـ “كرسمس”.  

لا أتذكّر أحلاماً برّاقة من طفولتي، لِذا لم أتفاجأ حين أيقظتني أمي فزعة. كانت خائفة، كنا نحن الثلاثة، أنا في السابعة من عمري، وأخي في الخامسة من عمره، وأخونا الأصغر، في الثانية من عمره. طلبت أمي منّا أن ننطق الشهادة بسرعة، سنموت، سيدخل الرصاص علينا من كل مكان، فالطابق العلوي الذي نسكنه لا يحتوي مكاناً منعزلاً عن الشارع. الشبابيك أحاطت بنا، وكذلك رصاص رجال نور المالكي ومقتدى الصدر.  

رددت الشهادة. كنت أعرف لِماذا أقولها. كانت السبيل الوحيد، أو هذا ما ظننته، لإيقاف دموع أمي وارتجافها. سألتها “ماما، وين نروح؟”، لعلّه سؤال راودها أيضاً، أتساءل إن راود شقيقاي كذلك. رفعت أمي أخويّ على ذراعيها، وطلبت مني الاحتباء على الأرض وصولاً إلى الحمام مثل طفلةٍ في شهورها الأولى. لا ملجأ لنا سوى البانيو الذي تملؤه ألعابي.  

حبوت أمامها، انتظرت وصولي لأستقبل أخي، حابياً هو الآخر، كان نعسِاً وخائفاً، لكنه زحف، مثلي، ينتظر أن أستقبله في مدخل الحمام، الملاذ الآمن. نظرت إلى أمي في مشهد سينمائي من الضفة الأخرى. لم يفصل بيننا سوى ثلاثة أو أربعة أمتار، لكنني لحظتها، شعرت أن الأرض تعلو بيني وبينها، شعرت أنها بعيدة عني جداً.. 

أخبرتني ألا أخاف، وأنها ستصل، ستتجاوز الأمتار الأربعة، لن تتركني. حاولت هي أيضاً أن تحبو، برِفقة الصغير الخائف. كان خائفاً للحدّ الذي دفعه للصمت، لم يبكِ، لم يهمس، لكنّ صوت تنفسّه كان سريعاً، فالبيت لطالما اتّسم بصوت أغاني قناتي “كراميش” و “طيور الجنة”. كان الصوت الأعلى في المنزل يقول “وين راحوا؟ سناناتك الحلوة وين؟” إذ تتساءل المغنية أين ذهبت أسنان أخيها الأصغر.  

كان صوت الرصاص جديداً على الصغير، أما أنا وأخي الأوسط، فاعتدناه. 

عام 2008، يوم 25 آذار، قرر المالكي أنه لن يحتمل قسمة البصرة مع مقتدى الصدر وجيش المهدي خاصته. لِذا، كان الحل الأفضل، بالطبع، مُحاربة جيش المهدي في الأحياء السكنية. الحق، أن أهل البصرة أيضاً لم يحتملوا اقتسامها مع مقتدى وأتباعه. لكن هل فكر أحدنا أن هذا الرفض يعني أياماً من العزل داخل المنازل بين الرصاص بانتظار الموت أو التحرير؟ 

اقرأ أيضاً

“الجدال بالحرب”.. المعركة المؤجلة بين الصدر وخصومه 

لا. 

احتضنتنا أمي في الحمام، أغلقنا الباب، وجلسنا نحن الثلاثة في حضنها، كل دقيقتين، تطلب منا ترديد الشهادة بصوت منخفض. أما هي، فانخرطت تتلو الآية الأحبّ إلى قلبها، (وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُون). 

كانت تبكي، ما زالت صغيرة، لم تتجاوز السادسة والثلاثين، معها ثلاثة أطفال، وزوجها في محافظة أخرى، وهي في شقة إيجار، بعيدة عن أهلها الموجودين في جزء آخر من البصرة، مُحاصرة داخل حمام ضيق، وجيش المهدي يصارعون عدوهم اللدود؛ الجيش العراقي، خارج نافذتها. 

أشفق علينا أصحاب المنزل الذي نسكن طابقه العلوي، جاءت لنا صاحبة البيت -وهي تزحف أرضاً كذلك- وأخبرتنا أن نتبعها، سنسكن مخزنهم حتى يستسلم الصدر أو المالكي، أو نستسلم نحن للموت. 

لأيام، بقيت داخل المخزن الذي أُعِدّ على عجل لأسكنه مع أمي وأخوَاني. بقينا هناك نستمع للرصاص نهاراً وليلاً بلا توقف. لم تكن الشمس عائقاً، ولا الظلمة. في إحدى المرات، اشتدّ صوت الرصاص، أخبرتُ أمي “ما أريد أموت، ليش رح يكتلونا؟” 

حاولت أمي تهدئة خوفي، لكنني بكيت، وذُعرت، أتذكر حتى الآن -وأنا في الثالثة والعشرين من عمري- صوت تنفسي، كنتُ أشهق لأتنفس، لم أستطع التنفس، نسيت رئتاي كيف تأخذ الهواء وتُعالجه. في لحظةٍ ما، توقّف الرصاص، لم يتوقف خارج المنزل، لكنني لم أعد أسمع شيئاً، ولم يعد التنفس مشكلة. توقف قلبي، مُت.  

تتحدث أمي عن ذعرها في تلك اللحظة دائماً، تخبرني أنها في مخزن غريب وحيدة تحاول أن تعيد طفلتها الأولى للحياة، تضرب على صدري بلا حيلة، تقرأ القرآن على قلبي، تتوسّل الله أن يُعيدني. لم أزُر الجانب الآخر لوقتِ طويل، دقيقة، ربما دقيقة ونصف، هذا كلّ ما نلته من الموت حينها.  

عندما فتحت عينيّ مرة أخرى، كانت أمي على وشك إنزال قبضتها على صدري من جديد، بينما دموعها تتساقط على وجهي، مثل الغيث في يومٍ بارد. 

مر 16 عاماً على موتي الأخير، لكن شعور الهواء وهو يعود لصدري من جديد ما يزال حاضراً في ذاكرتي. عاد الهواء وعادت أصوات الرصاص إلى أذنيّ، ورافقهما نحيب أمي بينما تحتضن جسدي، لم تكن متأكدة إن كانت تحتضن جسداً أم جثةً، لكن الاثنين كانا طفلتها.  

بعد أيام من الاحتجاز، طرق بابنا جندي من الجيش العراقي، أخبرنا أن نحزم أمتعتنا ونذهب. “وين نروح؟” سألناه، فأجاب “أي مكان، هدنة لباجر الصبح، شردوا، تركوا بس الزلم..”، كان علينا أن نترك الـ “زلم” (الرجال) في المنازل حتى لا تُحتلّ من قِبل أحد الطرفين. 

كانت المرة الأولى خلال تلك المدّة التي نصعد فيها لشقتنا لنأخذ أغراضنا. اخترق الرصاص المطبخ وغرفة الاستقبال، ثقوب الحرب ملأت أبواب الغرفة والأعمدة. دخلت غرفتي بحثاً عن لعبتي المفضلة -تماماً مثل أفلام هوليوود- تعثرت بشيء ما، نظرت نحو الأرض، كانت رصاصة فارغة تقف تحت قدمي. وقتها تساءلت، رصاصة من هذه؟ أيّ من العراقيين المتقاتلين؟ 

الموت الثاني  

هل كان هذا المشهد غريباً؟  

لا.  

في الرابعة من عمري (عام 2005 ربما)، جلستُ في غرفتي، مع أمي وأبي وشقيقي، وجدتي وجدي، وبعض أبناء عمومتي، وزوجات أعمامي. جلسنا في غرفة واحدة ضيقة، نقرأ الشهادة. قرأت الشهادة لوقتٍ طويل من حياتي حتى اعتدت الروتين. كان جند السماء في الخارج، وكذلك البريطانيين. كِلاهما في حديقة منزلنا.  

الحديقة التي أحبها، احتوت أربع نخلات مُحمّلات بألذ التمر وأفخر أنواعه، البرحي. وحول النخلات، كان هناك شجرة اللالنكي، وشجرة التُكي، وشجرة البمبر، وشجرة للنبك. في الغرفة، فكرت، هل يتصارعون على الثمار؟ هل أرادوا، مثلما أحببت أن أفعل، تسلّق النخيل؟ هل أعجبتهم الأرجوحة التي أحب الجلوس عليها مع جدي كل يوم في الرابعة عصراً؟ لعلهم أرادوا أن يشاركونني حياتي، لعلهم أرادوا حياتي. 

توقف قلبي هنا للمرة الثانية. لم تستطع أمي أن تصرخ، أو تقرأ القرآن بصوت عالٍ. دلّك أبي صدري، واحتضنني لأهدأ، لأهدأ في موتي الصامت أساساً. 

حين استيقظت، قرر الجميع الرحيل. خاف البقية على أطفالهم من مصيري، خافوا ألّا يعود الأطفال مثلما عدت.  

 بعد فترة قصيرة، وجدت نفسي في حضن أمي، داخل سيارة تحملني أنا وكل من جلسوا معي في تلك الغرفة، تركنا المنزل، تركنا النخل والفواكه، تركنا الرجال، تركنا كل شيء لهم، وغادرنا. توجهنا لبيت عمتي، كان قريباً، فهربنا إليه من الحرب، من الرصاص.  

لكن أحداً ما ينقصنا.. بابا، أين بابا؟  

“ماما، بابا وين؟ كتلوه؟” همست لأمي، خفت أن يسمعنا أحد، لعل موت أبي كان سراً يجب ألا يُفصح عنه. هزّت أمي رأسها، كان تعبيرها جامداً، كانت مذعورة مثلي، ربما كانت تفكر بأبي أيضاً.  

“لا ماما، بابا بقى يم ألعابج، حتى ما ينامون وحدهم بالليل” طمأنتني. لكنني لا أريد ألعابي، فليأخذ البريطانيون وكلّ من له عينان زرقاوان ألعابي، أريد بابا! هل سيظلّ تحت نار السلاح؟   

“أريد بابا!” انهمرت الدموع، نشجت بصوت منخفض، كان أخي نائماً، راعيت ذلك حتى في خوفي. حاولت أمي إسكاتي، أخبرتني أنه سيلحقنا فيما بعد، لكن البعدَ لم يأتِ.  

لم يمت بابا، لكن الفراق تكرر. أخبرت أمي ذات يوم “أحسّ الدولة تنتظر بابا يروح للشغل حتى تكتلنا”، ضحكت أمي حينها، كانت مفارقة غريبة أن أبي نادراً ما تواجد في مثل هذه الحوادث، ففي كل مرة يُهاجمنا جيش جديد، يكون في العمل، ولا يستطيع الوصول إلينا إلا بعد أيام. 

بعد عدة أعوام، سيراودني الحلم ذاته، أنا في سيارة مُغلقة، تسير ببطء، وأبي ينظر إليّ من خلف باب المنزل مبتسماً. ثم يأتي أحدهم حاملاً بندقية تفرغ ما في مخزنها من رصاص في صدر أبي. أستيقظ كل يوم، خائفة.  
أفكر بأبي، الذي يسكن الغرفة المجاورة، وأخاف أن يأخذه البريطانيون، أو جند السماء، أو الجيش العراقي، أو جيش المهدي، مني مرة أخرى. 

 استمرت هذه العزلة عدة أيام. انتظرنا، ست عائلات داخل منزل واحد، تسعة أطفال، أن ينتصر أبناء السماء، أو أبناء الأرض؛ أردنا العودة. ساورني الحنين للنخل الذي قضيت أياماً أتسلقه، للأرجوحة، ولجدي، ولأبي، ولعمي.   

كم مرة شعرتُ بالراحة؟ كم مرة غفوتُ دون خوف؟ لا أدري. ربما كان رحم أمي هو المكان الآمن الوحيد لي. بعد ولادتي بعدة أشهر، اصطحبني أبي إلى نادٍ ثقافي جانب منزلنا، وجلس فيه. كنت أبلغ من العمر ثمانية أشهر ربما، وكان سعيداً بي.  

دمّر سعادته صاروخ قصف النادي الذي جلسنا على عتبة بابه مع أصدقاء أبي. غطى جسدي بجسده. انهار النادي من خلفنا، تساقط علينا الحجر والزجاج. اقتحم التراب رئتيّ، لم أتنفس.  

وللمرة الأولى، حاول أحمد أن يعيد ضيّ للحياة.  

هل كان يعلم أنه سيمضي أعواماً لاحقة ينافس فيها عزرائيل عليّ، يشدّ كلٌّ منهما يدي كي أذهب معه؟ 

اليوم، أضحك كلما سمعت شخصاً يقول “هم ذول جيل الألفينات جيل مرتاح عمي!”.  

تُحاصرني الرغبة في إخباره عن كل المرات التي رددت فيها الشهادة، والمرات التي ضربت فيها أمي صدري لكي أعود، والمرات التي ودعت فيها أبي، لأن الرجل يجب عليه حراسة المنزل، ولأن الرصاص دمّر الجدار الذي أحبّ، ولأن الحديقة ليست آمنة بعد الآن، ولأن أمي تحتضنني وتبكي خوفاً، ولأنني أملك أكثر من ميلاد، فأنا أُولد كلّما ضربت أمي صدري بقوة أكبر. 

كلّ عام، كلّ عطلة ربيع، أغفو، خائفة من المالكي وتملّكه.  

وكل عطلة شتوية، أغفو، خائفة من البريطانيين.  

كل عام، كل يوم، كل ساعة، أغفو، خائفة، من كل شيء.