إيفا.. شاحنة محملة بذكريات الحروب والعمل
09 آذار 2025
بينما يتذكر علي المحمداوي شاحنة "إيفا" بفخر واعتزاز، تصاب شادية إسماعيل بالذعر كلما مرّ ذكرها، فلكل منهما قصته معها.. عن شاحنة محمّلة بذكريات الحروب والعمل
كانت “إيفا” أكثر الشاحنات العسكرية التي جابت أرض العراق من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه خلال ثلاثة عقود من الزمن.
صعدت بقوة على قمم الجبال الوعرة المغطاة بالثلوج، وانحدرت بثقة نحو الوديان السحيقة عبر منعطفات حادة مرعبة وطرق صخرية ضيقة، وعبرت الأنهار والجداول المتدفقة بالمياه بجرأة، وقطعت باقتدار مسافات طويلة بين رمال صحراء الجنوب وتحت حرارة الشمس الحارقة من دون توقف.
ولم تخشَ إيفا من التحرك في ساحات الحرب وتحت قصف المدافع ونيران الرشاشات، حملت على متنها جنوداً وضباطاً وخبراء وأطباء ومهندسين، كما حملت القتلى والجرحى والأسرى وضحايا مدنيين وأطفالاً ونساء ثكالى، ونقلتهم إما إلى ساحات القتال ومصانع التسلیح العسكري، أو إلى المستشفيات لتلقي العلاج وتسليم الجثث، ونقلت آخرين كانت حيواتهم مهددة إلى أماكن آمنة، بينما نقلت أناساً إلى معسكرات الاعتقال وميادين الإعدام الجماعي.
كما حملت على ظهرها السلاح والعتاد والأرزاق والمحروقات، والماء والماشية، وأغطية النوم والملابس، ونقلتها إلى عمق الصحراء وقمم الجبال.
ولم تتوقف إيفا عن الحركة لأكثر من ثلاثة عقود من الزمن، حتى تغيير نظام الحكم عام 2003، فأحيلت إلى مواقع الخردة وبيعت في المزادات العلنية بأسعار زهيدة جداً.
شاحنة إيفا حاضرة في ذاكرة العراقيات والعراقيين، عسكريين ومدنيين، كونها كانت شاهدة على كثير من الأحداث، وما زال البعض يشيد بدورها الفعّال في مساندة الجيش والقوات الأمنية في المهمات الدفاعية، فيما يراها البعض الآخر رمزاً للعنف والألم والترحيل والإبادة الجماعية.
11 ساعة يومياً
يتفاخر علي المحمداوي، وهو من أهالي بغداد، بسياقته شاحنة إيفا العسكرية لمدة سبعة أعوام، تذكّره بأيام شبابه أثناء أداء الخدمة العسكرية في ثمانينيات القرن الماضي بمنطقة حاج عمران على الحدود العراقية الإيرانية شمالي محافظة أربيل.
ويتذكّر كيف كانت هذه الشاحنة تصعد يومياً إلى أعلى قمم الجبال من دون توقف وفي أقسى الظروف الجوية، لنقل المؤن والأرزاق، والمدافع والأسلحة الخفيفة، والعتاد للقوات العراقية المرابطة على جبال حصاروست وكرمند وكردكو وغيرها.
وفي أيام كثيرة كان يقود شاحنته نحو 11 ساعة يومياً لنقل المستلزمات للقوات العسكرية العراقية خلال أيام الحرب بين العراق وإيران.
وساهم مع آخرين، عام 1986، في نقل عوائل كردية كثيرة من قضاء جومان القريب من الحدود الإيرانية إلى منطقة (هيزانوك) في قضاء حرير القريب من أربيل، لضمان أمنهم وسلامتهم من الهجمات المدفعية الإيرانية التي كانت تستهدف المنطقة حينها.
كانت السيارة، كما يروي المحمداوي، قليلة العطب وتقاوم الظروف الجوية كلها، حتى أنه عبر بها أنهاراً، وفي إحدى المرات اجتاز جدولاً يصل ارتفاع مياهه إلى مترين في منطقة حاج عمران، فغمرت المياه محركها، ومع ذلك بقيت تعمل ولم تتوقف.
وقد جرّب المحمداوي قيادة سيارات حمل عديدة طيلة سنوات، لكنه يؤكد أن قوة الإيفا لا تضاهيها قوة.
“ما زلت حتى الآن أعشقها” يقول لـ”جمّار”.

ولادة في “إيفا”
علی عكس المحمداوي، تشعر شادية إسماعيل بالذعر عندما تذكر على مسامعها مفردة “إيفا”، ذلك أنها بدأت حياتها داخل هذه الشاحنة.
في عام 1988، اضطرت عائلة شادية إلى ركوب الشاحنة أيام “عمليات الأنفال”، حيث جرى تهجيرها من قريتها “علي آوا” في قضاء جمجمال غربي السليمانية إلى معسكر ليلان في كركوك قبل نقل المهجّرين إلى معسكر نقرة السلمان ضمن محافظة المثنى الجنوبية.
وفي الطريق بين جمجمال وكركوك، جاء المخاض لوالدة شادية، فوضعتها داخل الشاحنة بمساعدة امرأة اسمها باجيكول.
وتروي جدة شادية لحفيدتها قصة ولادتها؛ بدأت النسوة بالصراخ وطلب التوقف من السائق لوجود امرأة في حالة ولادة، وبالفعل توقف السائق على جانب الطريق ونزلت باجيكول وجلبت حجرين حادّين، ووضعت أحدهما تحت الحبل السري الذي ضربته بالحجر الآخر لينفصل عن المشيمة.
بهذه الطريقة الصعبة ولدت شادية، ولأنها عرفت قصة ولادتها عندما كبرت، باتت تشعر بالفزع كلما رأت شاحنة إيفا أو سمعت باسمها، بينما صارت تشتهر هي نفسها بين أقربائها باسم إيفا.
والسبب الآخر لفزع شادية من الإيفا يتمثّل بالنهاية المأساوية لعائلتها في نقرة السلمان، حيث أعدم أبوها وأعمامها بعد ستة أشهر من الاحتجاز ودفنوا في مقبرة جماعية، بينما أفرج عن النساء ومنهن والدتها.
وعمليات الأنفال هي حملة عسكرية نفذها النظام السابق عام 1988 ضد عراقيين كرد اتهمهم بالتمرد والتعاون مع إيران، في مناطق وقرى متفرقة من إقليم كردستان.

البداية والنهاية
بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، استؤنفت صناعة السيارات الألمانية، في كل من الشرق والغرب.
وعقب الانقسام، قامت ألمانيا الشرقية بتأميم إنتاج السيارات وجمعها تحت إشراف Industrieverband Fahrzeugbau، والتي تعني بالألمانية “الرابطة الصناعية لبناء المركبات”، ومن هاتين المفردتين اشتق اسم “IFA” بأخذ أول حرف من المفردة الأولى وأول حرفين من المفردة الثانية.
أنتجت إيفا دراجات هوائية ونارية ومركبات صغيرة وكبيرة، وكان من بين إنتاجاتها شاحنة إيفا بطرازي L60 وW50.
بدأ إنتاج W50 عام 1965، ثم أنتجت L60 عام 1987، إلى أن توقف إنتاج هذه الشاحنات نهائياً في 17 كانون الأول 1990 لتراجع الطلب عليها بشكل حاد، وذلك بعد شهرين وأسبوعين من إعادة توحيد ألمانيا.
دخلت سيارة إيفا إلى العراق في السبعينيات، وهناك إعلان نشر في جريدة التآخي العراقية يعود لسنة 1971 يروّج لبيعها من قبل الشركة العامة لتجارة السيارات في العراق.
ومع بداية الحرب العراقية الإيرانية عام 1980، استخدمت هذه السيارة بشكل كبير، واستمر استخدامها في حرب 1991 وحتى الحرب في حرب 2003.
ويظهر جدول منشور على الإنترنت باللغة الألمانية، أن إجمالي عدد شاحنات إيفا التي استوردها العراق بلغ 72209.
دخلت المركبة، للمرة الأولى، إلى إقليم كردستان عندما كانت تستخدم في القطاع العسكري بشكل واسع في منتصف السبعينيات، واستمر الجيش العراقي باستخدامها في عملياته الأمنية والعسكرية جميعها، وخصوصاً عمليات الأنفال.
أما قوات البيشمركة الكردية فقد كان استخدامها لهذه المركبة قليل جداً، إذ كانت تخوض حرب عصابات ونادراً ما تستخدم المركبات.
لكنها مع ذلك، كانت تمتلك عدداً قليلاً جداً منها استولت عليه خلال هجماتها على مواقع الجيش العراقي في المناطق الكردية، وكان استخدامها مقتصراً على نقل المؤن والمستلزمات الأخرى.

استعراض بالشاحنة
يتذكر شوان كلاري، عضو البرلمان العراقي، مشاهدته سيارة إيفا لأول مرة في حياته عام 1987، عندما استولت قوات البيشمركة على واحدة خلال هجوم على مواقع للجيش العراقي.
ونظمت البيشمركة لاحقاً جولات بتلك السيارة لعرضها على سكان القرى الواقعة تحت سيطرة الكرد، لرفع المعنويات.
ورأى كلاري على متن الإيفا أفراد البيشمركة، بينما كان يقودها مقاتل اسمه مام هيرش، إذ استُقبلت الشاحنة في قرية كولجو التابعة لمنطقة كرميان حيث كان يسكن، وسط أجواء احتفالية.
“كنت أشعر بالفخر عندما أرى هذه السيارة تحت سيطرة البيشمركة” يقول لجمّار.
لكنه صار يكرهها عندما دخل رتل منها إلى قريته محمّلاً بجنود مدججين بالسلاح، حيث طوّقوا القرية واعتقلوا سكانها من رجال ونساء وأطفال ونقلوهم إلى جنوب العراق ليُعدم بعضهم.
منذ ذلك الحين، بات كلاري ينظر إلى الإيفا على أنها رمز للدمار والإبادة الجماعية.
نقل بضائع ومواد
جعفر رحمن، ميكانيكي وتاجر قطع غيار سيارات إيفا في محافظة السليمانية، يقول إن هناك ثلاثة أنواع من سيارات إيفا موجودة حالياً في إقليم كردستان، وهي الشاحنة العسكرية، والقلاب، والصهريج.
ويعمل أغلبها في المناطق الجبلية والمنافذ الحدودية مع إيران مثل سيرانبند وباشماخ وكون وشاربازير وجومان.
وتؤدي هذه المركبات حالياً مهمة نقل البضائع ومختلف المواد إلى المناطق الجبلية الوعرة المحاذية للحدود الإيرانية، لإدخالها إلى إيران بواسطة حمّالين.
كما يستخدمها البعض لأغراض نقل المياه إلى المزارع والبساتين ونقل المواد الإنشائية.
ويقول رحمن لجمّار إن “إيفا تتمتع بالقوة والمتانة، وهي ذات دفع رباعي مدعومة بمحرك ديزل بقوة 125 حصاناً وتبلغ طاقة حمولتها ستة أطنان، كما أن سرعتها القصوى تبلغ 90 كم في الساعة”.
وبعد 2003، تم بيع الآليات العسكرية التابعة للنظام السابق، ومنها سيارة الإيفا، عبر مزادات علنية واشتراها مواطنون.
ويتراوح سعرها حالياً بين 1500 و3000 دولار، بحسب رحمن.

مصدر للعيش
على الرغم من الذكريات المؤلمة للعديد من الكرد مع شاحنة إيفا العسكرية، إلا أن هذه المركبة تحوّلت إلى مصدر رئيس للعيش بالنسبة لكثير من العوائل في إقليم كردستان.
ويملك سكان كثيرون في المناطق الحدودية بالسليمانية مركبات إيفا، يستخدمونها في نقل البضائع والسلع بين كردستان وإيران، لقدرتها على السير في المناطق الجبلية وتمتعها بالقوة والمتانة.
كما أنها تستخدم في قطاع الإنشائيات، إذ يستعمل أمانج شورش، أحد سكنة منطقة رابرين شرقي السليمانية، سيارة إيفا منذ أكثر من سبعة أعوام لنقل المواد الإنشائية.
وقد اشتراها شورش بمبلغ 3400 دولار، وهي ما زالت، على قدمها، تقاوم كل الظروف.
“أعمل بها يومياً نحو 8 ساعات. أعشق سيارتي التي أصبحت جزءاً من حياتي ولا أرغب ببيعها أو استبدالها” يقول شورش لـ”جمّار”.

وخارج كردستان، قاد علي الأنصاري (55 عاماً) شاحنة إيفا طيلة عشر سنوات داخل محافظة ديالى حيث يسكن، وعمل على نقل المواد الإنشائية بواسطتها.
ويصفها بأنها “محترمة وجبارة، محركها من أربع أسطوانات وذات دفع رباعي، وحديد هيكلها ضد الصدأ وتتحمل أجواء العراق”.
ويشير الأنصاري إلى أن أكثر أعطال الإيفا تكمن في الكوابح، لكن تصليحها سهل.
وبعد أن تعرض لمشكلات صحية عام 2015، ترك العمل بهذه الشاحنة وبقيت مهملة، لكنه عرضها مؤخراً للبيع بمبلغ ثلاثة ملايين دينار (نحو ألفي دولار).
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
كانت “إيفا” أكثر الشاحنات العسكرية التي جابت أرض العراق من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه خلال ثلاثة عقود من الزمن.
صعدت بقوة على قمم الجبال الوعرة المغطاة بالثلوج، وانحدرت بثقة نحو الوديان السحيقة عبر منعطفات حادة مرعبة وطرق صخرية ضيقة، وعبرت الأنهار والجداول المتدفقة بالمياه بجرأة، وقطعت باقتدار مسافات طويلة بين رمال صحراء الجنوب وتحت حرارة الشمس الحارقة من دون توقف.
ولم تخشَ إيفا من التحرك في ساحات الحرب وتحت قصف المدافع ونيران الرشاشات، حملت على متنها جنوداً وضباطاً وخبراء وأطباء ومهندسين، كما حملت القتلى والجرحى والأسرى وضحايا مدنيين وأطفالاً ونساء ثكالى، ونقلتهم إما إلى ساحات القتال ومصانع التسلیح العسكري، أو إلى المستشفيات لتلقي العلاج وتسليم الجثث، ونقلت آخرين كانت حيواتهم مهددة إلى أماكن آمنة، بينما نقلت أناساً إلى معسكرات الاعتقال وميادين الإعدام الجماعي.
كما حملت على ظهرها السلاح والعتاد والأرزاق والمحروقات، والماء والماشية، وأغطية النوم والملابس، ونقلتها إلى عمق الصحراء وقمم الجبال.
ولم تتوقف إيفا عن الحركة لأكثر من ثلاثة عقود من الزمن، حتى تغيير نظام الحكم عام 2003، فأحيلت إلى مواقع الخردة وبيعت في المزادات العلنية بأسعار زهيدة جداً.
شاحنة إيفا حاضرة في ذاكرة العراقيات والعراقيين، عسكريين ومدنيين، كونها كانت شاهدة على كثير من الأحداث، وما زال البعض يشيد بدورها الفعّال في مساندة الجيش والقوات الأمنية في المهمات الدفاعية، فيما يراها البعض الآخر رمزاً للعنف والألم والترحيل والإبادة الجماعية.
11 ساعة يومياً
يتفاخر علي المحمداوي، وهو من أهالي بغداد، بسياقته شاحنة إيفا العسكرية لمدة سبعة أعوام، تذكّره بأيام شبابه أثناء أداء الخدمة العسكرية في ثمانينيات القرن الماضي بمنطقة حاج عمران على الحدود العراقية الإيرانية شمالي محافظة أربيل.
ويتذكّر كيف كانت هذه الشاحنة تصعد يومياً إلى أعلى قمم الجبال من دون توقف وفي أقسى الظروف الجوية، لنقل المؤن والأرزاق، والمدافع والأسلحة الخفيفة، والعتاد للقوات العراقية المرابطة على جبال حصاروست وكرمند وكردكو وغيرها.
وفي أيام كثيرة كان يقود شاحنته نحو 11 ساعة يومياً لنقل المستلزمات للقوات العسكرية العراقية خلال أيام الحرب بين العراق وإيران.
وساهم مع آخرين، عام 1986، في نقل عوائل كردية كثيرة من قضاء جومان القريب من الحدود الإيرانية إلى منطقة (هيزانوك) في قضاء حرير القريب من أربيل، لضمان أمنهم وسلامتهم من الهجمات المدفعية الإيرانية التي كانت تستهدف المنطقة حينها.
كانت السيارة، كما يروي المحمداوي، قليلة العطب وتقاوم الظروف الجوية كلها، حتى أنه عبر بها أنهاراً، وفي إحدى المرات اجتاز جدولاً يصل ارتفاع مياهه إلى مترين في منطقة حاج عمران، فغمرت المياه محركها، ومع ذلك بقيت تعمل ولم تتوقف.
وقد جرّب المحمداوي قيادة سيارات حمل عديدة طيلة سنوات، لكنه يؤكد أن قوة الإيفا لا تضاهيها قوة.
“ما زلت حتى الآن أعشقها” يقول لـ”جمّار”.

ولادة في “إيفا”
علی عكس المحمداوي، تشعر شادية إسماعيل بالذعر عندما تذكر على مسامعها مفردة “إيفا”، ذلك أنها بدأت حياتها داخل هذه الشاحنة.
في عام 1988، اضطرت عائلة شادية إلى ركوب الشاحنة أيام “عمليات الأنفال”، حيث جرى تهجيرها من قريتها “علي آوا” في قضاء جمجمال غربي السليمانية إلى معسكر ليلان في كركوك قبل نقل المهجّرين إلى معسكر نقرة السلمان ضمن محافظة المثنى الجنوبية.
وفي الطريق بين جمجمال وكركوك، جاء المخاض لوالدة شادية، فوضعتها داخل الشاحنة بمساعدة امرأة اسمها باجيكول.
وتروي جدة شادية لحفيدتها قصة ولادتها؛ بدأت النسوة بالصراخ وطلب التوقف من السائق لوجود امرأة في حالة ولادة، وبالفعل توقف السائق على جانب الطريق ونزلت باجيكول وجلبت حجرين حادّين، ووضعت أحدهما تحت الحبل السري الذي ضربته بالحجر الآخر لينفصل عن المشيمة.
بهذه الطريقة الصعبة ولدت شادية، ولأنها عرفت قصة ولادتها عندما كبرت، باتت تشعر بالفزع كلما رأت شاحنة إيفا أو سمعت باسمها، بينما صارت تشتهر هي نفسها بين أقربائها باسم إيفا.
والسبب الآخر لفزع شادية من الإيفا يتمثّل بالنهاية المأساوية لعائلتها في نقرة السلمان، حيث أعدم أبوها وأعمامها بعد ستة أشهر من الاحتجاز ودفنوا في مقبرة جماعية، بينما أفرج عن النساء ومنهن والدتها.
وعمليات الأنفال هي حملة عسكرية نفذها النظام السابق عام 1988 ضد عراقيين كرد اتهمهم بالتمرد والتعاون مع إيران، في مناطق وقرى متفرقة من إقليم كردستان.

البداية والنهاية
بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، استؤنفت صناعة السيارات الألمانية، في كل من الشرق والغرب.
وعقب الانقسام، قامت ألمانيا الشرقية بتأميم إنتاج السيارات وجمعها تحت إشراف Industrieverband Fahrzeugbau، والتي تعني بالألمانية “الرابطة الصناعية لبناء المركبات”، ومن هاتين المفردتين اشتق اسم “IFA” بأخذ أول حرف من المفردة الأولى وأول حرفين من المفردة الثانية.
أنتجت إيفا دراجات هوائية ونارية ومركبات صغيرة وكبيرة، وكان من بين إنتاجاتها شاحنة إيفا بطرازي L60 وW50.
بدأ إنتاج W50 عام 1965، ثم أنتجت L60 عام 1987، إلى أن توقف إنتاج هذه الشاحنات نهائياً في 17 كانون الأول 1990 لتراجع الطلب عليها بشكل حاد، وذلك بعد شهرين وأسبوعين من إعادة توحيد ألمانيا.
دخلت سيارة إيفا إلى العراق في السبعينيات، وهناك إعلان نشر في جريدة التآخي العراقية يعود لسنة 1971 يروّج لبيعها من قبل الشركة العامة لتجارة السيارات في العراق.
ومع بداية الحرب العراقية الإيرانية عام 1980، استخدمت هذه السيارة بشكل كبير، واستمر استخدامها في حرب 1991 وحتى الحرب في حرب 2003.
ويظهر جدول منشور على الإنترنت باللغة الألمانية، أن إجمالي عدد شاحنات إيفا التي استوردها العراق بلغ 72209.
دخلت المركبة، للمرة الأولى، إلى إقليم كردستان عندما كانت تستخدم في القطاع العسكري بشكل واسع في منتصف السبعينيات، واستمر الجيش العراقي باستخدامها في عملياته الأمنية والعسكرية جميعها، وخصوصاً عمليات الأنفال.
أما قوات البيشمركة الكردية فقد كان استخدامها لهذه المركبة قليل جداً، إذ كانت تخوض حرب عصابات ونادراً ما تستخدم المركبات.
لكنها مع ذلك، كانت تمتلك عدداً قليلاً جداً منها استولت عليه خلال هجماتها على مواقع الجيش العراقي في المناطق الكردية، وكان استخدامها مقتصراً على نقل المؤن والمستلزمات الأخرى.

استعراض بالشاحنة
يتذكر شوان كلاري، عضو البرلمان العراقي، مشاهدته سيارة إيفا لأول مرة في حياته عام 1987، عندما استولت قوات البيشمركة على واحدة خلال هجوم على مواقع للجيش العراقي.
ونظمت البيشمركة لاحقاً جولات بتلك السيارة لعرضها على سكان القرى الواقعة تحت سيطرة الكرد، لرفع المعنويات.
ورأى كلاري على متن الإيفا أفراد البيشمركة، بينما كان يقودها مقاتل اسمه مام هيرش، إذ استُقبلت الشاحنة في قرية كولجو التابعة لمنطقة كرميان حيث كان يسكن، وسط أجواء احتفالية.
“كنت أشعر بالفخر عندما أرى هذه السيارة تحت سيطرة البيشمركة” يقول لجمّار.
لكنه صار يكرهها عندما دخل رتل منها إلى قريته محمّلاً بجنود مدججين بالسلاح، حيث طوّقوا القرية واعتقلوا سكانها من رجال ونساء وأطفال ونقلوهم إلى جنوب العراق ليُعدم بعضهم.
منذ ذلك الحين، بات كلاري ينظر إلى الإيفا على أنها رمز للدمار والإبادة الجماعية.
نقل بضائع ومواد
جعفر رحمن، ميكانيكي وتاجر قطع غيار سيارات إيفا في محافظة السليمانية، يقول إن هناك ثلاثة أنواع من سيارات إيفا موجودة حالياً في إقليم كردستان، وهي الشاحنة العسكرية، والقلاب، والصهريج.
ويعمل أغلبها في المناطق الجبلية والمنافذ الحدودية مع إيران مثل سيرانبند وباشماخ وكون وشاربازير وجومان.
وتؤدي هذه المركبات حالياً مهمة نقل البضائع ومختلف المواد إلى المناطق الجبلية الوعرة المحاذية للحدود الإيرانية، لإدخالها إلى إيران بواسطة حمّالين.
كما يستخدمها البعض لأغراض نقل المياه إلى المزارع والبساتين ونقل المواد الإنشائية.
ويقول رحمن لجمّار إن “إيفا تتمتع بالقوة والمتانة، وهي ذات دفع رباعي مدعومة بمحرك ديزل بقوة 125 حصاناً وتبلغ طاقة حمولتها ستة أطنان، كما أن سرعتها القصوى تبلغ 90 كم في الساعة”.
وبعد 2003، تم بيع الآليات العسكرية التابعة للنظام السابق، ومنها سيارة الإيفا، عبر مزادات علنية واشتراها مواطنون.
ويتراوح سعرها حالياً بين 1500 و3000 دولار، بحسب رحمن.

مصدر للعيش
على الرغم من الذكريات المؤلمة للعديد من الكرد مع شاحنة إيفا العسكرية، إلا أن هذه المركبة تحوّلت إلى مصدر رئيس للعيش بالنسبة لكثير من العوائل في إقليم كردستان.
ويملك سكان كثيرون في المناطق الحدودية بالسليمانية مركبات إيفا، يستخدمونها في نقل البضائع والسلع بين كردستان وإيران، لقدرتها على السير في المناطق الجبلية وتمتعها بالقوة والمتانة.
كما أنها تستخدم في قطاع الإنشائيات، إذ يستعمل أمانج شورش، أحد سكنة منطقة رابرين شرقي السليمانية، سيارة إيفا منذ أكثر من سبعة أعوام لنقل المواد الإنشائية.
وقد اشتراها شورش بمبلغ 3400 دولار، وهي ما زالت، على قدمها، تقاوم كل الظروف.
“أعمل بها يومياً نحو 8 ساعات. أعشق سيارتي التي أصبحت جزءاً من حياتي ولا أرغب ببيعها أو استبدالها” يقول شورش لـ”جمّار”.

وخارج كردستان، قاد علي الأنصاري (55 عاماً) شاحنة إيفا طيلة عشر سنوات داخل محافظة ديالى حيث يسكن، وعمل على نقل المواد الإنشائية بواسطتها.
ويصفها بأنها “محترمة وجبارة، محركها من أربع أسطوانات وذات دفع رباعي، وحديد هيكلها ضد الصدأ وتتحمل أجواء العراق”.
ويشير الأنصاري إلى أن أكثر أعطال الإيفا تكمن في الكوابح، لكن تصليحها سهل.
وبعد أن تعرض لمشكلات صحية عام 2015، ترك العمل بهذه الشاحنة وبقيت مهملة، لكنه عرضها مؤخراً للبيع بمبلغ ثلاثة ملايين دينار (نحو ألفي دولار).